دمشق منبر عالمي: خطاب غليوم الثاني في دمشق

22 أيار 2008

الثلاثاء 8-11-1898

أتحدث أساساً عن خطاب الإمبراطورغليوم الثاني في دمشق، يوم الثلاثاء في الثامن من الشهر الحادي عشر عام 1898. هذا الخطاب يشير إليه كل كتاب جاد عن تاريخ المنطقة، وبه أهم صياغة للتحالف الألماني العثماني المسلم. والخطاب، بالطبع يأتي بعد نحوٍ من مئة عام من منشور نابليون في مصر. وهو بالتأكيد أكثر جدية، من منشور نابليون المعروف.

1 ـ ألمانيا: اهتماماتها بالدولة العثمانية:
الاهتمامات الفكرية والسياسية قديمة. من الاهتمامات الفكرية إسهام (غوته) عميد الأدب الألماني وديوانه الشرقي وبالطبع كان هذا في أوائل اهتمامه بالشرقيات في أوائل القرن 19. ثم منذ الربع الأخير من القرن 19 بدأ اهتمام ألمانيا بالدولة العثمانية. عام (1881) سُمي الجنرال فسوندرغولز رئيساً للبعثة العسكرية الألمانية المكلفة بإعادة تنظيم الجيش العثماني، وفي عام (1889) زار الإمبراطور الألماني وزوجته استنبول للمرة الأولى، وتزامن الصعود الألماني مع تناقص شعبية بريطانيا لدى الخلافة العثمانية، بسبب مشاكل قبرص واليونان واحتلال بريطانيا لمصر.

كما أن (غلادستون) كانت له تصريحات كثيرة مناهضة للأتراك (حيث كان رئيس وزراء بريطانيا). ولاسيما بصدد استنكار مذابح الأرمن وقاد في هذا عدداً من الدول الأوروبية إلاَّ أن ألمانيا بقيت صامتة إزاء مذابح الأرمن المعروفة. ثم في عام 1818 قام الإمبراطور غليوم الثاني بزيارته للبلاد العثمانية وألقى خطابه الشهير.

أهم كسب اقتصادي ألماني في هذه الفترة هو عقد تمديد خط حديد (برلين- بغداد). ومن بغداد إلى البصرة عام 1902. وبالطبع أيضاً قاومت بريطانيا مشروع تمديد خط حديد (برلين-بغداد). وفي عام 1910 اجتمع غليوم الثاني مع القيصر نيقولا الثاني في (بوتسترام). وأوقفت روسيا ـ الإمبراطورية الروسية معارضتها للمشروع مقابل أن تصمت ألمانيا إزاء تصرفات روسيا في شمال إيران.

تلكم سياسات تاريخية ولها ما يشبه أن يكون إسقاطات معاصرة.

2 ـ الزيارة:
نأتي للزيارة. الزيارة قام بها الإمبراطور غليوم الثاني وزوجته (أوغوستا فيكتوريا.

ولد الإمبراطور غليوم الثاني عام (1859) وابتدأ حكمه عام (1888) واستمر حكمه حتى عام (1918) نهاية الحرب العالمية الأولى وتوفي في عام (1941). ولعل من أهم إنجازاته في السياسة الداخلية. أو من أهم أعماله في السياسة الداخلية هو أنه استطاع الإطاحة بـبسمارك في آذار 1890 وأما إنجازاته الدولية فكثيرة. حاول أن ينافس الدول الأوروبية فزار بلاد الخلافة العثمانية، كما زار طنجة في آذار 1905 وكانت زيارته لها هامة جداً. ثم عقد معاهدة مع روسيا في تموز عام 1905 وكان رجلاً متعدد المواهب فقد وصف بأنه «جنرال وأميرال ورسام وموسيقار وراصد فلكي ومتنبئ فلكي». وكان يهتم بأزيائه العسكرية المختلفة وقيل أنه كان يبدِّل ثيابه بضع مرات في النهار. والمصادر الفرنسية تؤكد أنه كان يسعى كي يعطي كل مناسبة زيَّاً. فإذا زار ثكنة لبس ثوب الجنرال أو سفينة حربية لبس ثوب الأميرال. أما إذا أحب أن يزور متحفاً رومانياً قديماً من المحتمل أن يرتدي زيَّاً رومانياً قديماً. وتحفل المصادر الفرنسية وهي التي بين يدي أكثر من غيرها، تحفل بالحديث عن أموره الشخصية وما بها من طرافات. على كل حال الرجل بدأ زيارته إلى استنبول في 15-10-1898، مبتدئاً رحلة انتهت في بيروت في 12-11-1898. وأهم ما في رحلته سياسياً هو خطابه في بلدية دمشق يوم 8-11-1898.


الاستقبال الرسمي والشعبي
لإمبراطور ألمانيا غليوم الثاني

وصل الإمبراطور غليوم الثاني إلى دمشق مساء يوم الاثنين في السابع من تشرين الثاني 1898، بعد أن كان زار استنبول وفلسطين. «وكان في استقباله في محطة البرامكة، صاحبا الدولة ناظم باشا وشاكر باشا في جمهور غفير من الوزراء والأمراء والرؤساء الروحيين بملابسهم الرسمية وتلامذة المدارس ومئات ألوف من خاصة الناس وعامتها، غصت بهم الطرق والرحاب الفسيحة.وهم يرقبون قدوم الزائرين العظيمين. وقد سُرَّ الرجل المحتفى به بالاستقبال سروراً عظيماً. فقد كانت زينة دمشق ليلة إذن وصاحبا الجلالة داخلاها، مما يقصر عنه وصف الواصفين». «وأعظم من ذلك كله زينة البلدية والقبتان الكبيرتان اللتان نصبتا على ممر جلالتهما على الطريق. وقد قدرت المصابيح المتقدة التي استخدمت تلك الليلة بمليون مصباح وعدد الشموع التي ابتاعتها البلدية بلغ (50) ألف شمعة حتى أن ثمن القماش الأحمر الذي تُصنع منه الرايات أصبح عشرة أضعاف ما كان من قبل. وقد سرّ الإمبراطور سروراً كبيراً بهذا الاستقبال الحافل حتى أنه أبرق إلى دوق (ديبار) يقول له إن استقبالي في دمشق كان باهراً مدهشاً وتمنيتُ لو أُخذ عن دمشق كيف تستقبل الملوك».

غليوم الثاني
في زيارته للجامع الأموي الكبير

صباح الثلاثاء 8-11-1898 زار الجامع الأموي الكبير ثم زار بعد ضريح صلاح الدين الأيوبي، ويصف إبراهيم الأسود المؤرخ الرسمي للرحلة هذه الزيارة كما يلي:
«بعد خروجهما من الجامع الأموي الشريف. دخلا مقام المغفور له السلطان صلاح الدين الأيوبي مع نساء الشرف فزار ضريحه ثم خرج الإمبراطور والإمبراطورة ووراءهما نساء الشرف وقد أمر ذو الجلالة بعد عودته إلى مقره العالي بوضع طاقة من الأزهار على ضريح المشار إليه بما يليق من التكريم والإكرام، بعد أن كُتب عليها بالألمانية (غليوم الثاني قيصر ألمانيا وملك بروسيا تذكاراً للبطل السلطان صلاح الدين الأيوبي) وإرسالها كان بواسطة الإمبراطورة مع لجنة مخصوصة برئاسة (عزتلو صادق بك العظم). وبالطبع بنيت له في دمشق المصطبة الشهيرة ـ مصطبة غليوم ـ.
ثم في يوم الثلاثاء بعد الظهر كان هناك استعراض عسكري. ثم الثلاثاء مساءً 8-11-1898 «أقيمت له المأدبة الكبيرة في البلدية وبها 64 كرسي وقد وقف على المائدة موقف الخطابة بين يدي جلالته حضرة العالم الفاضل (فضيلتلو محمد أفندي الكزبري) نجل حضرة العلامة الطائر الشهرة سليم أفندي الكزبري فخطب مُرحباً في جلالته خطاباً كان له وقع حسن ترجم إلى الألمانية بلسان (عزتلو صادق بك العظم) وهذه صورته:

(لا عجب إذا اضطرب جناني وتلعثم لساني لأنني واقف في أعتاب إمبراطور عظيم وقائد كبير شهير تهتز الأرض لهيبته وتخر الجبابرة لشوكته وصولته، أجل هو ذلك الإمبراطور الذي طبقت فضائله البلاد وأدهشت مآثره عقول العباد هو ذلك الإمبراطور الذي بلغ بسياسته وحكمته الأمة الألمانية العظيمة أقصى درجات الكمال وارتقت هذا الارتقاء العجيب الذي جعلنا نعتقد أن الطفرة غير المحال بارتقائها لم يسبق له مثيل في تاريخ الأمم والأجيال، ارتقاءً حيَّر العالم الأوروبي والأمريكي بالنظر لاتساع نطاقه ووجيز مدته. فيا جلالة الإمبراطور إن مدينة دمشق الشهيرة ترحب ترحيباً عظيماً بتشريفكم أيَّها من خلال زيارتكم للممالك المحروسة العثمانية إظهاراً لما بين جلالتكم وسيدنا الخليفة الأعظم من آثار الود والمصافاة وتأكيداً لما بين الأمتين العظيمتين من روابط الألفة وحسن الصلات التي امتلكتم بها محبة العثمانيين عموماً واستملتم قلوب (300) مليون من المسلمين القاطنين بين مغارب الأرض ومشارقها المرتبطين رباطاً دينياً روحياً بمقام الخلافة العظمى. فهم يذكرون على الدوام هذه الزيارة مقرونة بالشكر والدعاء وترتيل آيات الحمد والسلام على ما لجلالتكم من الأيادي البيضاء والمساعدات الأدبية للأمة المعظمة العثمانية مما سيكون له شأن كبير في تاريخ الأمتين الألمانية والعثمانية المرتبطتين برباط الحب رباطاً ودياً وإن مدينة دمشق تفتخر بوجود جلالتكم في أرجائها وإن ذلك سيكون أعظم ما يُدون في تاريخها وأنبائها بين يدي عظمتكم. هذا وأني بالإضافة عن نفسي وبالنيابة عن مواطني الدمشقيين أقدم كمال التعظيم والإجلال سائلاً المولى جل وعلا أن يديم بركاته عليكم وعلى شعبكم العظيم بمنّه وكرمه آمين).
ثم خطب جلالته خطاباً أنيقاً في اللغة الألمانية عرَّبه حضرة صادق بك المشار إليه. وهذا تعريب الكلمة:
[إن ما لقينا من الاحترامات والتعظيمات سواء في صورة استقبالنا هنا وأثناء تجوالنا في المدن العثمانية التي مررنا بها وجرت لنا فيها المراسم الاحترامية خصوصاً مدينة دمشق الشهيرة التي كنا شهدنا فيها مظهر الاستقبال الشائق والقبول اللائق يحملني على أن أرى من الواجبات إبداء الشكر باسمي وباسم حضرة الإمبراطورة. فكما أنني متمتع بهذا السرور العميق والامتنان لهذه المراسم الاحتفالية الشائقة الفائقة كذلك أراني مبتهجاً من صميم فؤادي عندما أفتكر بأنني في مدينة عاش بها من كان أعظم أبطال الملوك الغابرة بأسرها الشهم الذي تعالى قدره بتعليم أعدائه كيف تكون الشهامة ألا وهو المجاهد الباسل السلطان الكبير صلاح الدين الأيوبي. منتهزاً هذه الفرصة لأن أبين قبل كل شيء بسرور لا مزيد عليه تشكراتي لذي الشوكة لحضرة السلطان عبد الحميد خان. الذي أفتخر بخالص محبته وجميل مجاملته، وليوقن صاحب الشوكة ـ (هذه هي الفقرة الشهيرة في خطابه هذا والمرتبطة بالتحالف الألماني مع العثمانيين) ـ وليوقن صاحب الشوكة السلطان عبد الحميد خان الثاني و(300) مليون من المسلمين المرتبطين بمقام خلافتكم العظمى ارتباطاً قوياً والمنتشرين في جميع أنحاء الكرة الأرضية، أن إمبراطور ألمانيا سيبقى مُحباً لهم إلى الأبد. وها أنا أشرب نخب حضرة صاحب السلطان عبد الحميد خان الثاني].

استقبال دمشق
للامبراطور غليوم الثاني

هذه هي الجملة التي قالها غليوم الثاني كما وردت بكتاب خصص للزيارة وفي محمد كرد علي كلمات أخرى لكن المعنى واحد. وتجدونها في الجزء (3) من كتاب محمد كرد علي الموسوم باسم (خطط الشام). هذه الجملة الشهيرة التي ذهبت عنواناً للتعاون الألماني العثماني. لماذا قيلت في دمشق؟ سؤال هام. لعل من المناسب أن نعرف أن غليوم الثاني قالها في دمشق يوم 8-11-1898 وكان قبل 6 أيام من هذا التاريخ قد رفض أن يرى هرتزل مرة ثانية في القدس وأجاب جواباً سلبياً على من رغب إليه في أن يرى هرتزل. بالطبع كان غليوم الثاني قد رأى هرتزل. قابل هرتزل في 12-10-1898 في استنبول أثناء بدء زيارته وعرض عليه هرتزل مشروعه فاستمهله بإعطائه الجواب. استمهله لمدة أسبوعين ووعده بأن يعطيه جوابه حين يزور بيت المقدس. حين زار بيت المقدس أعطاه جواباً سلبياً بعد 6 أيام أتى إلى دمشق ونطق هذا الخطاب الذي اعتبر عنواناً لتحالف ألماني عثماني. بعض ميزاته أنه غير مهادن مع الصهيونية، وكانت آنذاك في بدايتها. ومن الطريف أن إلقاء هذا الخطاب جاء في دمشق لا في استنبول ولا في القدس. ربما لأنه أراد منه أن يخاطب الشعوب الإسلامية وليس الحكام المسلمين. ربما لأن دمشق آخر محطة هامة بعد أن قال لا للمشاريع الصهيونية. على كل حال هذا الخطاب يظهر قيمة دمشق كمنبر عالمي وكانت دمشق آنذاك تتململ وتبحث عن هوية وجدتها في الهوية العربية. آنذاك كان عصر الكواكبي وعصر انتخاب أول بطريرك عربي على رأس الكنيسة الأنطاكية للروم الأرثوذكس في 31-10-1899.
ونعلم طبعاً أن هرتزل لم يستطع أن يقابل السلطان العثماني إلا في 18 أيار 1901، أي بعد نحوٍ من ثلاث سنوات من زيارة غليوم لدمشق. ومن الطريف أن العلامة فرح أنطون وهو من طليعة السوريين العلمانيين الذين كانوا يناهضون التعصب الديني. علَّق على خطاب غليوم الثاني بما يدعم وجهة نظره العلمانية فقال في مجلته الجامعة بعد عام ونصف من الزيارة. قال ما يلي:
[يتهم السادة المسلمون أوروبا بالتعصب عليهم، أي ضدهم. وقد أظهرت هذه الجامعة نوع هذا التعصب وأقامت البرهان على أن هذا التعصب سياسي لا ديني]. وكان من أدلتها، أدلة مجلة الجامعة التي يصدرها فرح أنطون، كان من أدلتها على ذلك أن التعصب هو تعصب سياسي وليس تعصباً دينياً. أي تعصب دوافعه سياسية وليست دوافعه دينية. ومن أدلتنا على ذلك أدلة فرح أنطون على ذلك. انحياز غليوم الثاني ملك ألمانيا المسيحي إلى الجامعة الإسلامية في مأدبة دمشق الشام. الخطاب مشهور أنه خطاب المأدبة، مأدبة دمشق الشام. يقول فرح أنطون: [إذن التعصب سياسي] ويتابع فرح أنطون: «إلا أن أكثر قواد أفكار المسلمين في الصحف الإسلامية في الشرق لا يزالون يعتقدون أن هذا التعصب ديني فيغرسون هذا الاعتقاد في نفوس قرائهم. ولا نلومهم على هذا الاعتقاد لأنهم لم يصلهم من أصوات الأوروبيين في الجرائد الأوروبية غير الأصوات السياسية. والسياسة مصنوعة من الأثرة والتعصب والطمع كما نعلم. أما أصوات العلم والأدب ولفلسفة الأوروبية فقلما يصل صداها إلى الصحف».
ذلكم كان تعليق فرح أنطون على خطاب غليوم الثاني في دمشق. أحب أن يعطيه أيضاً طابعاً يخدم فكرته العلمانية، رغم أنه كان من الواضح أن الخطاب موجَّه لإقامة تحالف بين قسم من أوروبا وبين العالم الإسلامي.
أحببت بكلمة فرح أنطون أن أختم مداخلتي هذه البسيطة عن زيارة غليوم لدمشق وعن اعتباره دمشق منبراً عالمياً يخاطب من خلاله المسلمون في العالم قاطبة.


جورج جبور

دمشق أقدم مدينة في التاريخ|ندوة آذار الفكرية في مكتبة الأسد|دمشق-سوريا-1991

Share/Bookmark

صور الخبر

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق

:

اريد التعريف بغليوم الثاني

وليد:

جميل جدا ما قراته و ما شاهدته

سوريه