عادل العوا
30 04
المحتويات
.
مقدمة
ما أحلاكِ يا بلادي، بينابيعكِ، بغاباتكِ، بأشجاركِ، وسروِكِ.
ما أحلاكِ يا بلادي، بأرضكِ، بسمائكِ، بجبالكِ، وسهولِكِ، ووديانِكِ.
غنّاكِ أبناؤكِ في أفراحِكِ، وبكَوْكِ في أحزانِكِ.
لقد ارتوينا من ينابيعِكِ العذبة،
واستنشقنا هواءكِ النقي،
وتفيّأنا في ظلالِ سروِكِ.
كم أُحِبُّ بلادي بنجومها الغامزة، وليلها الحالم، وتباشير ربيعها المقبِل.
في بلادي، تصير الينابيع بشراً، والسَّروُ بشراً، والأنهار بشراً، والجبال بشراً، والوديان بشراً، والبحر بشراً.
بشراً، بشراً، بشرْ.
ومن هؤلاء تحيا بلادي ونحيا نحن أبناءَها.
يطلّ علينا من هؤلاء الينابيع–البشر، والسروُ–البشر، وجه وديع تدفق بعطاء منقطع النظير، وأعطانا ظلاً نرتع في حماه من قيظ شمس حارَّة.
هذا الوجه الذي أطلّ علينا كان «عادل العوا» ينبوعاً لا يتوقف عن العطاء، فكان فيلسوفاً سياسياً في كمون، في وداعة التسامح والانفتاح، فيلسوفاً أخلاقياً كما أسماه البعض، فيلسوف الوجدان، فيلسوفاً عقلانياً ميّالاً للاّهوت العقلي والفكر الحر، وأخيراً مربياً للأجيال من خلال مهنته في التعليم والإرشاد التربوي والجامعي، حيث أطلّ علينا بأحد كتبه ليدلوَ بدلوِه في عصرنا الحديث، ويساهم في مسألة «تحديث الأسرة والزواج»، ناهيك عن عطاءاته في ميادين الترجمة والتأليف الأخرى.
سيرة حياته
- وُلِدَ عادل العوا بدمشق عام 1921 ودرس في المدارس الحكومية وحصل على شهادة البكالوريا السورية (فلسفة) عام 1938.
- سافر في خريف 1938 إلى فرنسا ودرس في كلية الآداب بجامعة باريس (السوربون)، وحصل على درجة الليسانس والدكتوراه من جامعة باريس (آداب–فلسفة) في حزيران 1945.
- عاد إلى سورية في شهر آب 1945 وبدأ حياته العملية بالتدريس في المدارس الثانوية وفي دار المعلمين بدمشق حتى افتتحت كلية الآداب والمعهد العالي للمعلمين في جامعة دمشق سنة 1946، فسُمي فيهما أستاذاً وكُلّف إدارة المعهد العالي للمعلمين في الجامعة حتى عام 1949، إذ سُمي أستاذاً في كلية الآداب ورأس قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية منذ ذلك الحين إلى عام 1990.
- رأس إلى جانب عمله الجامعي لجنة التربية والتعليم في وزارة التربية بدمشق حتى 26/12/1955.
- أصبح وكيلاً لكلية الآداب خلال سنتين ثم عميداً لهذه الكلية منذ عام 1965 حتى 1973.
- شارك في مؤتمرات ودورات علمية عدة منها: اليونسكو (بيروت، 1949)، وباريس (1951)، ولدراسة فلسفة تربوية متجددة لعالم عربي متجدد (الجامعة الأميركية، بيروت، 1956)، وللمستشرقين (ميونيخ، 1957)، وللفلسفة (كراتشي، 1961) ولتطوير التعليم العالي والجامعي (دمشق، 1971)، وللعلوم الاجتماعية (الجزائر، 1971)، وغيرها من الحلقات الدراسية الفلسفية والاجتماعية.
- أسهم في أعمال اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية، وهو عضو المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، ومقرِّر لجنة الترجمة والتبادل الثقافي عن القطر السوري.
- حاضر ودرّس في الجامعات الأردنية واللبنانية والجزائرية، وفي جامعة هلسنكي بوصفه أستاذاً زائراً، كما حاضر في جامعتي الكويت واليرموك.
- أستاذ بعقد في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وعضو مجمع اللغة العربية بدمشق منذ 1991.
- مُنح وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة تقديراً لإنجازاته في مجالي الفكر والثقافة وذلك بتاريخ 13/2/2002.
- سُمي عضواً في مجلس أمناء الجامعة الافتراضية السورية بتاريخ 31/8/2002.
- توفي بتاريخ 27/12/2002.
زوجته وأبناؤه
زوجته تدعى «ملك وردة» وتحمل إجازة في التاريخ، وأبناؤهما حسب التسلسل هم: الدكتور نبوغ وهو أخصائي في الأذن والأنف والحنجرة، وشروق وتحمل درجة ماجستير في الأدب الإنكليزي، وفتون وتحمل إجازة في علم الاجتماع، وأخيراً الدكتور نوار وهو عميد كلية الهندسة المعلوماتية.
من الآثار التي نشرها باستثناء المقالات و المحاضرات
أولاً – التأليف
1- الفكر الانتقادي لجماعة إخوان الصفاء (باللغة الفرنسية)، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1948.
2- منتخبات اسماعيلية تُنشر لأول مرة (تحقيق و مقدمة)، جامعة دمشق، 1958.
3- المذاهب الأخلاقية (جزءان)، جامعة دمشق، 1958-1959.
4- القيمة الأخلاقية، جامعة دمشق، 1960.
5- الوجدان، جامعة دمشق، 1961.
6- التجربة الفلسفية (جزءان)، جامعة دمشق، 1962.
7- معالم الكرامة في الفكر العربي، مطبعة الأمل، دمشق، 1969.
8- من الشرف إلى الكرامة، مطبعة الأمل، دمشق، 1973.
9- الأخلاق، جامعة دمشق، 1975.
10- الإنسان ذلك المعلوم، دار عويدات، بيروت-باريس، 1977.
11- علم الأديان وبنية الفكر الإسلامي (بالاشتراك)، دار عويدات، بيروت-باريس، 1977.
12- أسس الأخلاق الاقتصادية، جامعة دمشق، 1981.
13- المدخل إلى الفلسفة (بالاشتراك)، جامعة دمشق، 1982.
14- دراسات أخلاقية، جامعة دمشق، 1983.
15- العمدة في فلسفة القيم، دار طلاس، دمشق، 1986.
16- المعتزلة والفكر الحر، دار الأهالي، دمشق، 1987.
17- المذاهب الفلسفية، جامعة دمشق، 1987.
18- مقدمات الفلسفة، جامعة دمشق، 1987.
19- بحوث أخلاقية، جامعة دمشق، 1988.
20- الفلسفة الأخلاقية، جامعة دمشق، 1988.
21- الأخلاق والحضارة، جامعة دمشق، 1989.
22- أخلاق التهكم، دار الحصاد، دمشق، 1989.
23- مذاهب السعادة، دار الفاضل، دمشق، 1991.
24- تحديث الأسرة و الزواج، دار الفاضل، دمشق، 1991.
25- المزاج الحضاري في الفكر العربي، دار شمأل، دمشق، 1992.
26- دروب الهموم و الخلاص عربياً و عالمياً، دار طلاس، دمشق، 1993.
27- حقيقة إخوان الصفاء، دار الأهالي، دمشق، 1993.
28- لقاء القيم في الفكر العربي، دار شمأل، دمشق، 1993.
29- أخلاقنا الاقتصادية، دار الحصاد، دمشق، 1994.
30- العلوم الإنسانية وإشكالية التاريخ، دار طلاس، دمشق، 1995.
31- آفاق الحضارة، وزارة الثقافة، دمشق، 2001.
32- الفضائل العربية، دار الفاضل، دمشق، 2002.
33- التسامح، دار الفاضل، دمشق، 2002.
ثانياً – الترجمات
1- المدنية : سرابها ويقينها، المؤلف جورج باستيد، جامعة دمشق، 1957.
2- بنية الفكر الديني في الإسلام (مع مقدمة)، المؤلف المستشرق جيب، جامعة دمشق، 1959.
3- فلسفة القيم، المؤلف ريمون رويه، جامعة دمشق، 1960.
4- الفكر والتاريخ، المؤلف بيير-هنري سيمون، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، دمشق، 1963.
5-مدرسة الإلهات (مع مقدمة)، المؤلف اتين جيلسون، الشركة العربية للصحافة والطباعة والنشر، دمشق، 1965.
6- الفن والأخلاق، المؤلف شارل لالو، الشركة العربية للصحافة والطباعة والنشر، دمشق، 1965.
7- الفن والحياة الاجتماعية، ، المؤلف شارل لالو، دار الأنوار، بيروت-دمشق، 1966.
8- العقل و المعايير (مع مقدمة)، المؤلف أندره لالاند، جامعة دمشق، 1966.
9- عالم القيم، المؤلف ريمون رويه، جامعة دمشق، 1969.
10- الفكر العلمي الجديد، المؤلف غاستون باشلار، وزارة الثقافة، دمشق، 1969.
11- جورج لوكاتش، المؤلف هنري ارفون، وزارة الثقافة، دمشق، 1970.
12- السيبرنتيك و أصل الإعلام، المؤلف ريمون رويه، وزارة الثقافة، دمشق، 1971.
13- السعادة و الحضارة، المؤلف جان كزنوف، جامعة دمشق، 1973.
14- نهج الفلسفة ، المؤلف كارل يسبرز، دار الفكر، دمشق، 1975.
15 –القيمة و الحرية، المؤلف يوسف كومبيز، دار الفكر، دمشق، 1975.
16- عظمة الفلاسفة، المؤلف كارل يسبرز، دار عويدات، بيروت، 1975.
17- فلاسفة إنسانيون، المؤلف كارل يسبرز، دار عويدات، بيروت، 1975.
18- الفلسفة و التقنيات، المؤلف جان ماري أوزياس، دار عويدات، بيروت، 1975.
19- عسر الحضارة، المؤلف سيغموند فرويد، وزارة الثقافة، دمشق، 1975.
20- الاتجاهات الرئيسية للبحث في العلوم الاجتماعية (بالاشتراك ج2)، اليونيسكو، وزارة التعليم العالي بدمشق، 1976.
21- فلسفة العمل، المؤلف هنري ارفون، دار عويدات، بيروت، 1977.
22- حوار الحضارات، المؤلف روجيه غارودي، دار عويدات، بيروت-باريس، 1978.
23- معنى المدينة، ف. شواي و زملاؤها، وزارة الثقافة، دمشق، 1978.
24- الفكر الفرنسي المعاصر، المؤلف ادوار مورو سير، دار عويدات، بيروت-باريس، 1978.
25- نقد المجتمع المعاصر، المؤلف ريمون رويه، دار عويدات، بيروت-باريس، 1978.
26- نقد الإيديولوجيات المعاصرة، المؤلف ريمون رويه، دار عويدات، بيروت-باريس، 1978.
27- الممارسة الإيديولوجية، المؤلف ريمون رويه، دار عويدات، بيروت-باريس، 1978.
28- الأخلاق و الحياة الاقتصادية، المؤلف فرانسوا سليه، ، دار عويدات، بيروت-باريس، 1980.
29- المعقولية في العلم الحديث، المؤلف روبرت بلانشه، وزارة الثقافة، دمشق، 1981.
30- الفكر العربي، المؤلف محمد أركون، ط2، دار عويدات، الجزائر، 1982.
31- الثقافة الفردية و ثقافة الجمهور، المؤلف لويس دوللو، ط2، دار عويدات، بيروت، 1982.
32- كيركغارد، المؤلف بيار منار، دار عويدات، بيروت، 1983.
33- القيمة، المؤلف بول سيزاري، دار عويدات، بيروت، 1983.
34- أضواء عربية على أوروبا في القرون الوسطى، نخبة من الأساتذة، دار عويدات، بيروت، 1983.
35 – المواقف الأخلاقية، المؤلف روجيه ميل، دار عويدات، بيروت، 1987.
36- الانتحار و الأخلاق، المؤلف ليون مينار، دار دمشق، دمشق، 1987.
37- الأخلاق و السياسة، المؤلف ريمون بولان، دار طلاس، دمشق، 1988.
38- دعائم علم الاجتماع، المؤلف جان كزنوف، دار طلاس، دمشق، 1989.
39- الحرية، المؤلفة روز ماري باستيد، دار طلاس، دمشق، 1990.
40- الاختراع، المؤلف رينه بواريل، دار شمأل، دمشق، 1992.
41- العدالة للجميع، المؤلف كازا مايور، دار الفاضل، دمشق، 1993.
42- الحرية في عصرنا، المؤلف ريمون بولان، دار طلاس، دمشق، 1993.
43- أخلاق الإنجيل، المؤلف البير بايه، دار الحصاد، دمشق، 1997.
44- الثورات العقلانية، المؤلف البير بايه، دار شمأل، دمشق، 1998.
45- العقلانية العملية/حول الأسباب العملية ونظريتها، المؤلف بيير بورديو، دار كنعان، دمشق، 2000.
46- فلسفة القيم، المؤلف جان-بول رزفبر، دار عويدات، بيروت، 2001.
فكره الفلسفي:
يشير الدكتور عزت السيد أحمد في دراسته عن فلسفة الدكتور العوا إلى ما يلي: «إن أول ما تجدر الإشارة إليه في تآليف الأستاذ الدكتور عادل العوا هو تلك الروح الموضوعية الحقيقية التي تبدو جلية في كتاباته، والأمانة في نقل أفكار وآراء المدارس والاتجاهات الفلسفية المختلفة، دون ما تعصب لرأي أو اتجاه، وهذه صفة قل أن نجدها لدى كثير من الباحثين الذين يجنحون بدوافع شعورية أو لاشعورية إلى قراءة أفكار الآخرين بما يتفق وميولهم وأهواءهم، وقلّ وندر ما تكون مثل هذه القراءة صحيحة، وبقدر تعصب الباحث لاتجاهه الفلسفي يكون فهمه للآخرين أبعد عن الحق والصواب.
ثانياً: لم يُعنَ الأستاذ الدكتور العوا بمختلف قضايا الفكر تأليفاً، وفي معظم ترجماته –وإن كانت تشغل حيزاً واسعاً من ثقافته– لأنه صرف كامل جهده وعنايته للمسألة الأخلاقية، وكل ما يتصل بها أو يتشعب عنها، آملاً في إرساء دعائم فلسفة أخلاقية كاملة متكاملة، أو في إقامة علم أخلاقي مستقل، ولكن غير منفصل عن الفلسفة، إذ يرى أستاذنا أن الأخلاق من المباحث الفلسفية الأصيلة، ومهما تطورت وتعاظمت فإنها ستظل في حضن الفلسفة الرؤوم، ولذلك فهو ينتقد أولئك الذين يدعون إلى إقامة علم للأخلاق مستقل عن الفلسفة على غرار علم النفس وعلم الاجتماع، مثل ليفي بريل الذي دعا إلى تأسيس علم جديد هو علم العادات الأخلاقية.
إن ما يريده أستاذنا ليس علماً مستقلاً للأخلاق على غرار العلوم التي نالت استقلالها عن الفلسفة، وإنما علم، أو لنقل نظرية متكاملة للأخلاق، تتناولها جملة وتفصيلاً، بكل صلاتها وتفرعاتها وأساليب تناولها ومعالجتها.
ثالثاً: إن ما قدمه الأستاذ العوا على هذا الصعيد جهد يستحق عليه جزيل الشكر، ولاسيما أن أحداً في الوطن العربي على الأقل، لم يقدم مثله أو أقل منه قليلاً، ومن تقليب صفحات هذه المؤلفات نستطيع القول بصورة أولية إنه قدم لنا نظرية كاملة في الأخلاق، عالجت مختلف المعاني الأخلاقية ومتباينات النشاط الأخلاقي، مسبغاً عليها من روحه وفكره لبوساً مؤنقاً ومؤتلقاً، غير مكتف بعرض آراء الفلسفة وأفكارهم على اختلاف انتماءاتهم الزمنية والمكانية والفكرية.
رابعاً: لقد حاول أستاذنا من خلال ما قدمه أن يقارب بين النظر والعمل، ويمحو الفارق الزائف المصطنع بينهما، وليزيل بالتالي التقاطب الماثل بين الأخلاق النظرية والأخلاق العملية، لأن الأخلاق هي السلوك أو الفاعلية الواقعية للأفراد، والفلسفة الأخلاقية تهدف إلى دراسة هذا السلوك أو الفاعلية البشرية كشفاً عن العلل والمبادئ، ولذلك نستطيع أن نسمي النظرية الأخلاقية التي قدمها الأستاذ العوا بنظرية التجربة الأخلاقية، أو الأخلاق المشخصة كما يحلو له أن يسميها في كتابه القيمة الأخلاقية، هذه النظرية التي تشرئب إلى تنظيم التجربة البشرية تنظيماً متآلفاً ومنسجماً مع غائية شاملة.
ولذلك انتقد أستاذنا الآراء التي تعمق الشرخ بين الأخلاق النظرية والأخلاق العملية، وتعمق الهوة بين الأخلاق والواقع المعاش للإنسان، فيقول مثلاًًً: رامت المذاهب الأخلاقية المدرسية الكبرى، كمذاهب أفلاطون وأرسطو وكانط، أن تمثل الأخلاق السرمدية الخالدة، أكثر من تمثيلها أخلاق زمان معين، أو بيئة معينة. وإن هذا التطلع إلى الكلية ليتجلى على أكمل وجه في صيغ الأمر القطعي لدى كانط. فيظهر الإنسان في هذا المذهب وقد سُلخ عن الظروف والملابسات، وانتزع من الوسط والزمان، حتى بات بمثابة ضرب من التجريد المختزل يمكنه من الخضوع بيسر إلى قاسم مشترك (القيمة الأخلاقية/15-16)».
سوف نقوم الآن بدراسة ثلاثة جوانب من فكره الفلسفي، أولاً الجانب السياسي المتمثل في الانفتاح والتسامح ورؤياه لحقيقة القومية العربية، ثانياً الجانب الأخلاقي من خلال كتابه «الوجدان» نموذجاً، ثالثاً الجانب التربوي من خلال كتابه «تحديث الأسرة والزواج» نموذجاً.
أولاً) الجانب السياسي
ويتمثل في فلسفة الانفتاح والتسامح التي اتسم بها فيلسوفنا سواء في أعماله أو في ترجماته، وسوف نركز هنا حول رؤياه للقومية العربية، فهي أولاً ليست عنصرية، وثانياً ليست أممية.
أ) القومية العربية ليست عنصرية
يقول: «إن قوميتنا ليست قومية عنصرية ولا دعوة أممية، بل هي واقع إنساني يمثل شخصية الأمة العربية في أجلى صورها، وأكمل مراحلها، وهذه القومية حقيقة أخلاقية إنسانية، تحترم سائر القوميات وتعاونها ولا تعتدي على أية قومية منها أو تكيد لها، ذلك أن رسالتها رسالة الحق، وهدفها هدف الحياة الفاضلة المثلى للبشر كافة، لا تفضل عرقاً من الناس على الآخر، ولا لوناً على سواه، بل تدعو إلى الإسهام الشريف البنّاء في إقامة صرح المدنية الإنسانية في ظل العدل والأخوة وتبادل المعونة والاحترام.
وبناءً على هذا، فإن التماثل القومي في أية أمة من الأمم لا ينحل إلى رابطة العرق والدم بالمعنى البيولوجي أو العضوي والحيوي. وإنما يرجع إلى قرابة وطنية هي قرابة الألفة الاجتماعية والروحية. إذ ليس بالمهم أن يكون الدم واحداً، وإن تنافرت القلوب، وتشتتت المذاهب والأفكار، بل المهم أن يؤمن الناس بهذه القرابة الوطنية التي تجعل المواطن أخ المواطن، وتشد الأفراد في الأمة شداً متيناً محكماً، وكم أخ لك لم تلده أمك».
النظرة العربية:
1) من الناحية التاريخية:
لما جاء الإسلام ازدادت نظرة العرب إلى المسألة العرقية تسامحاً ويسراً. وكثر امتزاج العرب بالشعوب الأخرى، المسلم منها وغير المسلم، وظلت عرى هذا الاتصال وثيقة موصولة عبر التاريخ العربي.
2) الناحية الثقافية أو المذهبية:
حارب الإسلام العصبية القبلية وآخى بين المهاجرين والأنصار، وأعلن القرآن أن محمداًً (ص) رسول الله للناس كافة، وجاء في الآية الكريمة «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله أتقاكم». وفي حديث حجة الوداع: «أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بالإباء. ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى كلكم لآدم وآدم من تراب».
ب) القومية العربية ليست أممية
1) الدعوة العالمية:
يقول فيلسوفنا: «إن أصحاب هذه الدعوة يعتبرون أن القومية مرحلة عفا عليها الزمن، ووجب تجاوزها إلى ما يفوقها، أي إلى "وطنية عالمية" يكون الإنسان فيها "مواطن العالم بأسره" لا مواطن أمة معينة بالذات. وقد قال بهذه النظرية بعض الفلاسفة القدامى حينما لمسوا اتساع الإمبراطورية الرومانية، وأدركوا تفاوت القوميات في داخلها، فوجدوا أن الإنسان أخ الإنسان بالحرية والكرامة، وجاهدوا في سبيل محاربة الرق والاستعباد الفردي، وبذروا بذرة الأممية القديمة التي تحولت منذ القرن الثامن عشر للميلاد، إلى دعوة عالمية (كوزموبوليتية) تدعو الناس إلى الترفع عن الأثرة الوطنية الخاصة، والانصراف إلى محبة العالم بأسره، حتى يغدو الناس جميعاً مواطنين في أرض الناس كلها، والأرض ملك البشر أجمعين، وإذ ذاك تصبح "الإنسانية" وكأنها قومية مشتركة، وتزول العاطفة القومية المحدودة، ويتحقق الأمن والرخاء.
وليس من ريب في أن هذه الدعوة لا تخلو من قوة جاذبة تغري عقول الحالمين المولعين بالجانب البديعي من الوجود، ولذا نجد من أعظم أنصارها كتّاباً وأدباء ومفكرين وفنانين، آثروا جميعاً التحليق في جو الفلسفة الخيالية المطمئنة، وكأن العالم الواقعي يستجيب استجابة راضية ثابتة لأحلامهم العِذاب. كان غوته يترفع عن النزعة الوطنية ويقول: "وقانا الله منها"، وكان هردر يعتبر الوطنية من النزعات التي لا تليق بالمفكرين والمثقفين المتنورين. غير أن هذه الدعوة الحالمة تنطوي على الخطأ والانهزامية معاً. فمن الخطأ أن نظن أن في وسع الإنسان الحقيقي أن يعيش وينتج من غير ارتباطه الوثيق، وتفاعله العميق، بالبيئة القومية، والوسط الاجتماعي الذي يكتنفه ويعيش فيه. وإن الدعامة التي تستند إليها هذه الدعوة العالمية دعامة خاطئة مجردة لأنها تتصور الإنسانية بدون الإنسان، وتؤمن بفكرة خيالية تجتث جذور الكائن البشري من حقيقة وجوده في الزمان والمكان. وهذه "العالمية" الحالمة تستر في الواقع انهزامية رهيبة، لأن "العالميين" يزعمون أنهم يخلصون من الأثرة القومية، الأثرة الجمعية كما يقولون، في حين أنهم يخضعون لأثرة أخرى غير أخلاقية، هي الأثرة الفردية، والأنانية الشخصية، والفرار من تأدية الواجبات التي يمليها الشرف القومي على المواطنين.
يقول روسو مندداً بهذه الدعوة: إن بعض الناس يحبون أبناء الصين، لكي يتخلصوا من الواجبات الفعلية التي تترتب عليهم من جراء حب أبناء وطنهم الأقربين.
وقد رد روزفلت الكبير على تولستوي الداعي إلى "العالمية" بالقول: نعم قد يأتي عهد في أغوار عصور المستقبل البعيد، تفقد فيه الوطنية قيمتها وفائدتها. كما أنه قد يأتي عهد يندثر فيه نظام الأسرة والزواج. غير أنه يجب أن نعرف جيداً أن الرجل الذي لا يفرق بين وطنه وسائر الأوطان في المجتمع الذي نعيش فيه الآن يكون عنصراً ضاراً كالرجل الذي لا يفرق بين زوجته وسائر النساء».
2) الدعوة الأممية أو الدولية:
«على نقيض العالمية نجد دعوة أخرى تسرف في الاتجاه المعاكس تماماً، وترى أن الفرد لا شأن له أبداً بالنسبة إلى المجموع ولا شأن له بالنسبة إلى بعض طبقات هذا المجموع.
وقد أُطْلِقَت كلمة "الأممية" أو "الدولية" اصطلاحاً على حركات عمالية اشتراكية مختلفة ومتعاقبة كالأممية الأولى التي خلقها ماركس وأنجلز وتُعْرَف باسم جمعية الكادحين العالمية. وقد كان لها أثر كبير في تشكيل حزب بروليتاري غايته إعداد العمال من أجل هجوم ثوري على الرأسمالية. وقد عاشت هذه الأممية بين سنتي 1864–1872 ومهدت للحركة الشيوعية العالمية.
ثم أتت الأممية الثانية بتوجيه من أنجلز وانتهت بانبثاق أممية ثالثة على يد لينين. وهي ما تُعْرَف بالأممية الشيوعية، وقد تم حلها في 15 أيار 1943.
ويرى الفيلسوف العوا أن الدعوة الأممية الماركسية أو الأممية الشيوعية وما تفرع عنهما أو انبثق عن تيارهما، كل ذلك ينفي خصائص القومية العربية في حاضرها وماضيها ومستقبلها على السواء.
وينتج من الزعم الأممي أن الإنسان ليس ابن بلده وقومه، بل ابن طبقته الاجتماعية وحسب، وأن العامل والكادح لا ينتمي إلى لغة ولا إلى أرض ولا إلى تراث أو إرادة قومية مشتركة، وإنما انتماؤه الحقيقي إلى طبقته بتنظيمها الأممي الذي يجعل العدو الأصلي للعامل الفرنسي مثلاً هو الرأسمالي من بني جلدته، وليس بالجندي الأميركي أو الإنكليزي أو الروسي. من هنا كان مغزى النداء الشهير "يا عمال العالم اتحدوا" الذي أمسى شعار الدولة في اتحاد الجمهوريات السوفييتية.
بأغاليط كثيرة تنهض الأممية الشيوعية فتخاصم القومية وتدعو إلى أثَرَة جمعية هي أثَرَة طبقة واحدة من طبقات المجتمع، وتخولها الحق في الاستيلاء على الحكم وإخضاع سائر الطبقات لمشيئتها بالقوة والعنف، وهذا كله يبرر تبريراً (مكيافيلياً) بدعوى الاضطرار إلى إقامة الدكتاتورية الطبقية كسلم يوصل إلى العدالة الاجتماعية حقاً. فأين هي العدالة التي سبيلها الاضطهاد، وطريقها الطغيان والعدوان.
والتجربة التاريخية في مختلف أصقاع العالم، وفي بلادنا العربية ذاتها، تدل بوضوح على أن الفوارق بين الطبقات الاجتماعية يمكن أن تُعَالَج بأسلوب قومي بحت، لا بأسلوب "شيوعي" أو "ماركسي" أو "اشتراكي متطرّف". هذا الأسلوب الذي تدعو إليه القومية العربية، والذي تؤيده تجربة الاشتراكية العربية الأصيلة في جمهوريتنا المتحدة، هو أسلوب الديمقراطية الاشتراكية التعاونية، لا أسلوب الاشتراكية المتطرفة الديكتاتورية».
3) قوميتنا إنسانية ومدنية:
«القومية العربية، قوميتنا، ليست دعوة أممية ولا عالمية لأنها في الحق دعوة إنسانية هدفها هو أسمى هدف يطمح إليه البشر كافة، ألا وهو إقامة صرح الحضارة والمدنية على أساس تعاون القوميات وتآزرها. لا العدوان بينها والاعتداء.
إن رسالة قوميتنا رسالة ثقافة وتنوير، لا رسالة عنف وقهر وإكراه. إنها ليست مِعْوَل تفرقة بين الأبيض والأسود، والأصفر والأحمر، وهي ليست ذريعة عدوان وهدم واستعباد. فلا عبودية إلا لله، والناس جميعاً يولدون أحراراً، ويظلون أحراراً كرماء، ويتحررون بالعلم والمعرفة وتكافؤ الفرص والمساواة.
وهذا اللقاء العميق بين القومية العربية والأصالة الإنسانية دليل ساطع على خلو فكرنا القومي، وسلوكنا القومي من الملق والتناقض والفساد، إننا نؤمن باشتراكية عربية تعاونية ديمقراطية إنسانية معاً، ونرى أن الحق أولى بأن يُتْبَع، فهو رائدنا في القول والعمل، أفراداً وجماعات، شعباً ودولة وحكومة».
ثانياً) الجانب الأخلاقي
كتاب «الوجدان» نموذجاً
يبدأ الفيلسوف العوا كتابه هذا بتقديم مفاده: «بالوجدان المعطاء يتحقق السلام الباطني، والتكيف الاجتماعي، والتآزر القومي والإنساني».
الفصل الأول: «تمايز الوجدان»: وفيه يتضمن تعريف الوجدان قديماً، كالمروءة عند العرب ثم الوجدان أو الضمير في الفكر العربي، وأخيراً تمايز واستقلال مفهومه عن الاعتبارات المختلفة التي تتصل بالأخلاق من غير أن تنبثق من صميمها، ولاسيما الاعتبارات الدينية.
الفصل الثاني: «تحديد الوجدان»: وهنا يشير الفيلسوف إلى تجليات الوجدان عند الإنسان من حيث علاقتها بالوجدان الأخلاقي في الشعور النفسي أولاً، والشعور البديعي ثانياً، والشعور الديني ثالثاً.
وهنا سوف نتوقف قليلاً عند كل تصنيف من هذه التصانيف:
1) الشعور النفسي:
«يعرف العلماء الشعور النفسي بقولهم: "هو معرفة الذهن الحدسية بأحواله وبأعماله"، وقوام هذه المعرفة اقتصار الشاهد الحاضر في الذهن، أي العارف، على أداء وظيفة الناظر الملاحِظ الذي يرى ما يجري أمامه، ويكتفي بتسجيل ما يشاهِد. وبالتالي، فمن هذا المنطلق يشير الفيلسوف إلى أنه ثمة ازدواجية فمن ناحية هناك الـ"أنا"، ومن ناحية أخرى هناك الـ"ذات"، ولكن ما يُطْلَق عليه اسم الوجدان أو الشعور النفسي من حيث أن الـ"ذات" تنظر إلى الـ"أنا" وتحيط علماً بها وبأحوالها، فالشعور إذن معرفة نظرية بالنفس، وهو التأمل الباطني، ومفتاح معرفتنا بأحوالنا النفسية، ووقائعنا الذهنية.
ولا يخفي أن للشعور النفسي درجات كثيرة، ووجوهاً مختلفة. وقد ألف العلماء أن يميزوا الشعور العفوي عن الشعور التأملي، وبحثوا في أحوال نفسية ضعيفة أطلقوا عليها اسم "حوادث ما تحت الشعور" كما اعترفوا بوجود "حوادث نفسية لاشعورية"، أي حوادث أخرى تذهب إلى اللاشعور حيناً، وتعود منه حيناً آخر، وتعمل عملاً سرياً بين الحالين.
هل نستطيع الوثوق بمعطيات الشعور النفسي؟ وما هو مدى هذا الوثوق؟ إن الجواب جوابان: أولهما أن الشعور العفوي صادق، بل معصوم، من حيث معطياته الايجابية، والآخر أن الشعور التأملي غير معصوم بالضرورة حتى في معطياته الإيجابية.
وتفسير ذلك أن الشعور العفوي لا يمكن أن يكون كاذباً لأنني لا أستطيع مثلاً أن أشعر بأنني أتألم، أو بأنني حزين، إلا إذا كنت أتألم، أو كنت أشعر بالحزن فعلاً، غير أن عكس هذا القول ليس بالضرورة صحيحاً، فلا أستطيع البتة تأكيد القول بأن انقطاع شعوري بالحزن يدل دلالة دامغة على فقدان الحزن من نفسي. فقد يوجد الحزن في النفس وجوداً لاشعورياً، أو كامناً. ولئن كان كل حادث شعوري نفسياً، فليس كل حادث نفسي شعورياً.
ولهذه الناحية أهمية خالصة في المجال الأخلاقي. مثال ذلك: قد يجهل إنسان، أي يفقد شعوره، بالغيرة أو بروح الثأر والانتقام الكامنة في نفسه والتي توجه سلوكه. ولكنه في الواقع يخضع لدافع الغيرة، أو الانتقام من غير وعي منه ولا يفطن له.
أما الشعور التأملي فقد ذكرنا أنه غير صادق بالضرورة حتى في معطياته الإيجابية. وإيضاح ذلك أن تصوراتنا الذهنية تنزع دائماً إلى أن تنقلب أعمالاً وأفعالاً. وقد يتفق في بعض الأحيان أن تبحث في نفسك عن حال ذهنية، وبحثك هذا يقوم على تصور هذه الحال أولاً، ولكن تصورها ذاته ينزع إلى خلقها في النفس وإثارتها. إن الإنسان الوديع الذي يبحث بانتباه زائد عن وجود، أو عدم وجود، نزعات وحشية خفية في نفسه إنما يثير في ذاته استعداداً للقسوة النابية. وهذا الاستعداد يخالف ما عُرِف عنه في خلقه السوي. فيباين الشعور التأملي، بالمعطى الإيجابي، حقيقة هذا الشعور في واقعه العفوي. وأما المعطيات السلبية التي يقدمها التأمل النفسي فقد تقود –هي أيضاً– إلى الخطأ والضلال. هب أنني لم أكتشف في نفسي الشعور بالكبرياء أو بالحقد. فإن ذلك لا يدل على أن هذه العواطف غريبة عني، وغير موجودة لدي بوجه من الوجوه. إننا حين ننظر في ذواتنا نفقد عفوية شعورنا، ونخسر صدق خاطرنا، ونضيّع انسياق مشيئتنا على السجية والطبع. وشبيه بذلك ما يصيبنا عندما نشعر بأن غيرنا من الناس يسلقوننا بعيونهم، ويرمقوننا بنظراتهم، فنغدو عندئذ ما نود أن نظهر به أمامهم، ومن أجلهم.
وعلى هذا فلابد من إخضاع معطيات الشعور النفسي إلى جهد انتقادي شديد ومراقبة صحة أحكامه بقياسها إلى أحكام الآخرين، ولاسيما الأشخاص النزهاء الذين يتمتعون بالكفاءة والحياد، ووزن النتاج النفسي بميزان قيم الحقيقة والعلم».
2) الشعور البديعي:
«حين يقف انطواء الإنسان على نفسه عند عتبة التأمل الباطني، يستطيع المرء أن يشعر بأصداء الانطباعات النفسية في حساسيته، فيعي طائفة من الهيجانات والانفعالات يطلق على مجموعها اسم الشعور البديعي، أو الحس الفني، أو الوجدان الجمالي، وهو يشترك مع الشعور النفسي في نقطة هي أن الانطواء على الذات لا يستهدِف تحقيق أغراض غريبة عن موضوع الشعور الماثل في الذهن.
وكما أن تعمق الشعور النفسي منطلق معرفة النفس، وبدء ينتهي إلى منزلة علم وضعي هو علم النفس، كذلك فإن المتعة البديعية منطلق الإبداع الفني، وبدء معرفة قد تنتهي بعلم حقيقي هو علم الجمال، أو بمنظومة، ففلسفته هي فلسفة الفن.
وقد أثبت علم النفس الحديث أن الإنسان يسهِم في كل لحظة من لحظات شعوره النفسي والفني إسهامه في سائر وجوه فاعلياته الذهنية. فنحن نصطفي مثلاً في أحوال الإحساس والإدراك والمحاكمة والتذكر. وإن اصطفاءنا الذي ينمّ عن مشاغلنا واهتمامنا لا يخضع دائماً لمعايير اخترناها فعلاً اختياراً شعورياً واعياً، بل إن بنية الإنسان وحاجاته النوعية تؤلف ضرباً من فاعلية تنظيم تشمل مجال الشعور وما تحت الشعور.
ومن هذا المنطلق ثمة تفاعل يختلف من شخص إلى آخر مع الوجود فواحد عملي وآخر رومانطيقي، كل ينظر للوجود من خلال بنيته، وهكذا يظهر الجيولوجي والعالِم والشاعر والفيلسوف..الخ.
ثم ينتقل الفيلسوف العوا إلى تصنيف الباحثين للشعور المعياري في نطاق حقول ثلاثة هي حقل المنطق والفن والأخلاق، أي في ثلاثة مجالات هي مجال الحق والجمال والخير. وهو يقول أن هذه النظرة الذائعة أمست نظرة ضيقة لأنها تحدد وجود الإنسان في أطر ثابتة تنفي تطور الإنسان بالروح، وتنكر إمكان الإبداع اللامحدد الذي يتميز به الإنسان، ويتطلع إليه في هذه المجالات "القيمية" وفي سائر حقول القيمة وميادينها.
إن الشعور البديعي، أو العاطفة الجمالية، إحساس حافل بالقيم، قيم الفن والجمال والروعة واللطف والنكتة وما شابه، والفنان يتميز عن سواه بمتعة تنمّ عن ذكائه وإحساسه معاً. وهذه الخاصة تُعْرَف عادة باسم "الذوق" الفني، وبه يرتبط شعور الفنان بشعور زملائه ممن يشاركونه إبداعه وإحساسه وعبقريته بمحاولة "تذوق" هذا الإبداع والسعي إلى إعادة تجربة شعوره الفني الأصيل.
غير أن العاطفة البديعية تلتزم جانب السلوك والعمل ولا تقتصر على موقف تأمل سلبي يتناول موضوع الفن، فالشعور الفني يماثل، في تطلعه إلى قيمة الإبداع، ومعيار الاتساق، الشعور النفسي حين يتطلع إلى أن ينقلب الفضول برهاناً يولِّد معرفة منطقية حقيقية، ويماثل كذلك الشعور الأخلاقي الذي يتطلع إلى تحقيق قيمة الخير بالعمل والتصرف والسلوك.
وهذه الصلات القوية بين الفن والأخلاق توضح السبب في تمازج مفهوم الوجدان الفني بالوجدان المنطقي والأخلاقي، ولكن "الجمال" لا يخضع لبرهان منطقي استدلالي، ولكنه يقاس بمعايير تحدد قيمته، وتبين اتساقه، أو عدم اتساقه، وتنزله بمنزلته الصحيحة في سلّم قطباه القبيح والجميل.
لقد كان الإغريق يصفون الرجل المثالي بكلمة تعني بآن واحد أنه "صالح وجميل". وكان المعتزلة والمتكلمون يتحدثون عن الخير والشر باسم الحسن والقبح. ونحن ما زلنا نصف عاطفة من العواطف بأنها جميلة أو نبيلة، ونصف عملاً بأنه قبيح أو خسيس، وننعت صورة أو لوحة بأنها زائفة أو مضحكة، تافهة أو سامية، شريفة أو بذيئة».
3) الشعور الديني:
«يختلف الشعور الديني عن الشعور النفسي والشعور البديعي لأن المعرفة النفسية تبتغي الحقيقة، والمتعة الفنية تتحرى الجمال، ولكن الشعور الديني أكثر تعقيداً منهما لأنه يشترك مع الشعور الأخلاقي في أن المعرفة فيهما تخضع للاهتمام بمشاغل التأثير على الذات، واتخاذ تفحص النفس وسيلة لتنقية المقاصد، وتصفية النوايا، وإعداد الغد بما يجاوز نطاق معرفة الطبيعة والحوادث لاستثمارها "التقني" أو "المادي".
وبعبارة أخرى، إن العاطفة الدينية تتفق والوجدان الأخلاقي في أن غايتهما تحرّي الصدق وطلب الخلاص والنجاة. وقد أشرنا إلى صلات الأخلاق بالدين في كلامنا على تمايز الوجدان.
ومن شأن هذا الشعور أن يتجلى إما في هيجان خوف ورهبة، أو هيجان ثقة وحب. والرجل المتدين يحب الله ويثق به ويؤمن بأنه كله عطف ومحبة وإحسان، وهذه العواطف جميعاً تتآزر في العمل على مراقبة الطاقة العقلية وتجنيد قواها وتوجيهها شطر التسامي والإعلاء، ومن هنا يترجم الشعور الديني عن أعماقه بلغة الجوارح، فترمز الطقوس والعبادات والشعائر إلى الأفكار والعقائد والتصورات، ويعرب سلوك المرء عن نظرته العميقة إلى قيمة عليا، قيمة الدين، بالتطابق الصادق بين شعوره الباطن العميق وتفاصيل حياته الملتزمة بعلاقات تشده إلى الله والكون والناس».
الوجدان هو الحكم الأخير:
«نذكر أخيراً أن الوجدان هو الحاكم الذي بيده القول الفصل، وهو آخر مرجع يلجأ الفرد إليه، وكأن ليس في التخلق سوى واجب واحد هو إطاعة الوجدان، والخضوع لأوامره، والتقيد بأحكامه. استَفْتِ قلبك ولو أفتاك الناس طراً، وأفتوك. وليس في وسع أية سلطة اجتماعية أو غيبية أن تحمل الوجدان على الخضوع دون رضوخ إلا إذا اعتنق الإنسان بضميره ما ينبع من هذا الضمير ويتفق مع تعاليم تلك السلطة إلى حد كبير أو صغير. نعم إن الوجدان يستنير ويستهدي ويستشير السلطات ذات الاختصاص ليدرك السبيل القويم، والصراط المستقيم. ولكن كلمة البت ترجع إلى الوجدان ذاته، وهو أيضاً الحكم الصادق الأخير في صلاحية هذه السلطات أو عدم صلاحيتها. وفوق ذلك، يترتب على الوجدان أن يرد هذه السلطات أو ينكر مزاعمها ويفضح خفاياها ويهتك أسرارها إذا وجد أن أحكامها أو تعاليمها تنقض تماماً أحكام الوجدان وتعاليم الضمير. ولذا فإن الوجدان، بآن واحد، وازن وموزون. ومن المحتوم على الإنسان أن يحذر نفسه التي بين جنبيه، ويحتاط ضد الانحياز والأحكام المسبقة والتقليد الأعمى. فأين تقع القيمة، قيمة الخير والشر من الوجدان، إن كان الوجدان حائراً أو ضالاً أو مبطلاً طالحاً، ولم يكن نيراً واعياً مستقيماً معصوماً ألا يطيع امرؤ وجدانه فيحسن صنعاً من ناحية، ويقترف من الناحية الموضوعية شراً ومأثماً؟
الفصل الثالث: «أصالة الوجدان»: يبدأ بالكلام على أصالة الوجدان بممارسة فاعليته الخاصة النوعية وهي برمتها تقع في منزلة بين منزلتي الغريزة أو العفوية الساذجة من الطرف الأدنى، ومنزلة السمو والقداسة من الطرف الأعلى. وألحف على تبيان العناصر الفردية والاجتماعية والقيمية في هذه الفاعلية.
الفصل الرابع: «تجلي الوجدان»: في تقربه الحر الدائب من المثل الأعلى، وابتكاره الحلول العملية التي توصل إلى هذا الغرض الرفيع باتخاذ قرارات إرادية تنبع من الضمير.
الفصل الخامس: «أساليب الوجدان»: وفيه يتطرق إلى تجربة الوجدان مثل أ- الوجدان الجدي ب – الوجدان المغامر د – الوجدان الروحي. وهكذا يقول العوا أنه حصر نماذج السلوك في أساليب رئيسية ثلاثة يمثلها سلوك الإنسان الجاد المتزمت الوقور، وسلوك الإنسان المغامر اللعوب، ووجد أن هذين الأسلوبين المتعارضين يضلان في حذف الزمان عن طريق الاستسلام لسلطة قانون كلي وكأنه يخرج عن أصالة الحياة، أو عن طريق الخروج عن هذه الأصالة بتفتيت الزمان إلى لحظات وهنيهات، وتشتيت العمر في آنات لا يربطها رباط، ولا تصل بين حلقاتها ديمومة ولا مسؤولية ولا تنظيم ما. ثم وقفنا وقفة وجيزة عند الأسلوب الثالث الذي يمثل نظرة الوجدان إلى معطيات الحياة وشروط الوجود يتخذها متكأ في مؤالفته معها بالتطلع إلى ابتكار الحل الأخلاقي المرموق.
الفصل السادس: «صحة الوجدان»: فهو يدرسه من حيث الصحة الأخلاقية، ويقوم بتصنيف الميول والعواطف وصِفَات السجية.
الفصل السابع: «خلل الوجدان»: والعوا يقول أنه تطرق إلى صلة السجية بالشخصية الأصيلة في عمل الوجدان السليم، وأظهر أن مرض الوجدان أو خلله نتيجة قصور في السيطرة الإرادية الواعية المسؤولة على توجيه السلوك وعجز عن التوفيق بين العواطف والأهداف والمعطيات، وأن هذا المرض قد ينتهي بصاحبه إلى الإجرام واقتراف الجنح والآثام.
الفصل الثامن: «تعثر الوجدان»: وهنا يقول العوا أنه وقف عند تعثر الوجدان وبيَّن أن جمهرة الفاعلين الأخلاقيين يسلكون في الواقع الراهن سلوكاً متنوع الصفات، كثير الألوان، متفاوت السمات ولكن سلوك جمهرة الناس يقع في المنطقة الرحبة العريضة التي يحددها طرفان قصويان هما طرف الوجدان الصحيح وطرف الوجدان المريض. فتكلم على أ - الوجدان الضال وب- الوجدان الشاك وجـ- الوجدان الحائر.
وهنا يجدر بنا أن نقف قليلاً عما يقصده بالوجدان الحائر: «نقول عن الوجدان أنه حائر عندما تتجاذبه واجبات لا يستطيع التوفيق بينها، حتى إذا أخذ بجانب بعضها دون بعض شعر بانطباع الانحراف أو الخطأ. فحيرة الوجدان ضرب من ضروب الشك الأخلاقي. ولكنها ليست بالشك في وجود الواجب أو عدم وجوده وحسب، وإنما تتضمن –على العكس– شعوراً عنيفاً ملحاً بكثرة هذه الواجبات وتعددها».
ويرى الفيلسوف العوا أن حل المشكلات الراهنة التي تبعث حيرة الوجدان أمام تعارض الواجبات إنما يعتمد بالدرجة الأولى على الحس السليم. فعلى المرء أن يتأكد أولاً من وجود واجبين فعليين متعارضين، إذ ربما كان أحد الواجبين واجباً ظاهرياً فحسب. فإذا كانا واجبين فعليين حقاً التزم جانب أحدهما ورجحه على الواجب الآخر. مثال ذلك ترجيح واجب الإحسان إلى الأقربين، وهم أولى بالمعروف عن واجب الإحسان إلى الغرباء. ولكن الواجب ذا الشمول الأوسع يتغلب على الواجب الأقل سعة وشمولاً مثال ذلك واجب الوطن الذي يعلو واجب الأسرة.
«وإذا ما انتهى المرء إلى ترجيح أحد الواجبين المتعارضين اطمأن وجدانه وأمسى حيال واجب وحيد، أو كالوحيد، وعليه أن يلتزم به. فإذا قيل أن هذا الموقف ينطوي على اقتراف خطأ مادي بالنسبة إلى الحل المثالي المرموق لأنه يطوي أحد الواجبين ويكبته ويحقق الواجب الآخر، كان الجواب ماثلاً في أن الوجدان يلبي نداء الواجب الأفضل الأسمى».
بعد الوجدان الحائر يتعرض الفيلسوف العوا إلى د – مآزق الوجدان، حيث يتعرض الفيلسوف إلى قضية هامة، وهي الإفتاء، ومن ثم هـ - عذاب الوجدان.
ومن الممكن تلخيص ما سبق من حيث ضروب تعثر الوجدان المذكورة، على تفاوتها واختلافها، تميّزها بصفة مشتركة جامعة هي أنها تعرب عن محاولة المرء الخلاص من مأزق الضمير والنجاة من العذاب الباطني الذي يعانيه الوجدان الضال أو الشاك أو الحائر أو المتخبط حيال معضلة عسيرة لا يجد لها حلاً شخصياً فيستعين على هذا الحل باستفتاء المفتين واتباع هدى إرشادهم ومعرفتهم وعلمهم وخبرتهم. ولكن حياة الوجدان الباطنية قد تصاب بضروب أخرى من التعثر والضيق تتاخم حال الخلل والمرض بأكثر من تطلعها إلى التحلي بخصائص الوجدان الصحيح المستقيم. فنجد اضطراب الوجدان متجلياً في صور كثيرة متباعدة أو متنافية في الظاهر، ولكنها جميعاً تنم عن مصير الوجدان الذي لا يُرضى إرضاء صحيحاًَ، وعن تأثيره السيئ في التوازن النفسي والعضوي والروحي.
«إن هيجاناً ما سرعان ما يزول، ولكن عذاب الوجدان فإنه يبدو –أول ما يبدو– وكأنه أخرس طفيف يمسك الحياة بتلابيب صاحبه فيكاد لا يعرف عنه بلغة الجوارح. وربما صحبه انحطاط عضوي يشتد ويقوى حتى يفسد الجسم ويتلف أعضاءه وينذر بأمراض خطرة قد تؤدي إلى الموت.
وقد ينشأ عن الخطأ البسيط، والإهمال الطفيف، عذاب يمزق الوجدان تمزيقاً، حين يمضي الضمير الأخلاقي في اتهام صاحبه، فينقلب من وجدان مرشد هاد إلى وجدان ينبع منه العذاب الرهيب».
و – حذر الوجدان:
«وعلى نقيض الوجدان المعذب بإسراف، نلقى الوجدان الحذِر يتيح لصاحبه الانسياب الآلي أو شبه الآلي مع ظروف الحياة وملابسات الوجود غير آبه إلا في القليل النادر لقيمة فعاله وحقيقة سلوكه من الناحية الأخلاقية».
ز – وسواس الوجدان:
«لئن رجعنا إلى الأصل اللغوي للكلمة الدالة في اللغة الأجنبية على معنى الوسواس ألفينا أن أصل هذه الكلمة باللغة اللاتينية هو «Scrupulus» وهو تصغير كلمة «Scrupus»، ومعناها حَجَرٌ حاد ذو نهاية دقيقة. وبالمعنى المجازي تدل على الهم أو القلق بمعنى أن الوسواس إزعاج صغير يدمي وجدان صاحبه كما يدمي الحجر الصغير الحاد القدم التي تطؤه.
أما أسباب الوسواس فقد يجوز تلخيصها –على العموم– بشدة التطلع إلى الكمال الأخلاقي وصدق الحرص عليه من جهة، وبوجود ضعف عقلي ناتج عن نقص جسماني من جهة أخرى. وربما أسهمت الوراثة في ظهور الوسواس المزمن إسهام التعب والإنهاك والهزّات الأخلاقية العنيفة في حدوث الوسواس الطارئ أو العارض.
إن الوجدان الموسوس ليسرف في التنقيب عن بذور الشر في النفس، ويتحرى بصدق أصول النزعات الخبيثة كلها، وربما نشأ الوسواس من هذا البحث عينه إذ يُبرِز خطر البذور الطالحة، ويضخّم جرثومة الفساد ولاسيما حين تكون النفس مريضة، ويكون المرء ضعيف العقل، قاصر الذكاء، عاجزاً عن وضع الأمور في مواضعها الصحيحة، وقياسها بمقاييس الاعتدال والاتزان. وتتميز هذه النفوس المعتلة بعشق الوحدة والسكون، ويتصف أصحابها بضآلة صلاتهم بالعالم الخارجي وأهله، ولذا يصعب عليهم الإفادة من مقارنة أحكامهم بأحكام الآخرين، والانتباه إلى مدى بعدها عن المألوف، وركوبهم مركب الشطط والشذوذ، من قبل أن يستفحل الخطب، ويعظم البلاء.
إن الوجدان الموسوس وجدان ذوي الأمزجة السلبية، والسجية الهزيلة، والإرادة الخائرة الذين لا يقاومون التلقين والإيحاء، ولا يتمتعون بروح انتقادية سليمة، ويعجزون عن النهوض بتراكيب ذهنية لابد منها في عملية الحكم السليم. نعم إن الموسوس يحلل نفسه بدقة كبيرة، ولكنه يرى التفاصيل ويصطدم بها فتدميه وتعشي ناظريه عن رؤية الـ"كل" والـ"مجموع". إن انتباهه يقظ دائماًَ، ولكن يقظته تنصب على الدوام في موضوع واحد متكرر، هو فكرته الثابتة ثبوت الوسواس اشتداداً أخلاقياً صحيحاً، ولكنه اشتداد يعجز صاحبه عن امتلاك زمامه ولابد من أن يتم علاج هذا المرض الأخلاقي بعلاج عضوي ونفسي وخلقي معاًً. فيحمل الموسوس على الراحة والاستجمام، ويدرب على الإقلاع عن الشعور بالتقصير وبانطباع التمركز الذاتي المستثنى من شروط سائر الفاعلين.
الفصل التاسع: «تربية الوجدان»:
وهي تبدأ من فرض قواعد وتعاليم مستمدة من المجتمع على وجدان الطفل فرضاً، وأخذه بها بالعقاب والثواب في بادئ الأمر، ثم تربية الوجدان بالمَثَل والأنموذج ومحاكاة الشخصيات المتفوقة من أبطال وعظماء الأخلاق، وصولاً إلى استهداف تربية الوجدان بصدق وإخلاص إلى هدم ذاتها من حيث أنها تبدأ بفرض مشيئة خارجية على مشيئة الإنسان، وتنتهي كما يجب بإفساح المجال للوجدان الشخصي أن ينمو نمواً حراً وأن يبدع الحل الأخلاقي الذي يراه، ويبتكره ابتكاراً.
تهدف تربية الوجدان إلى تحرير المرء من أسر غرائزه وأهوائه الدنيا ورغباته الجامحة، وتحسين الكيان الإنساني فيه وفي الآخرين، وحثه على الخلاص من مساوئ الأثرة والحقد.
إن تربية الوجدان هي تربية الإنسان بأسره، تربية الشخص بتوجيه ميوله لتلتقي وتتفاعل حيثما تلتقي القيم في الذروة وتتحد. إنها تربية السجية والعادات لأن الوجدان –كما رأينا من قبل– ارتكاس شامل في ميدان الخير والشر.
إن الهوى الضال يهدم الشعور الأخلاقي، ويعمي الوجدان، ويسخر الإرادة، ويفقر النفس. واللذة، ولاسيما اللذة الشهوية، تلجم طماح الضمير، وتحبس جهده في إطار الإحساس، وتقيده بمطلب اللحظة الراهنة، وتجعل المثل الأعلى كأنه حلم بعيد المنال، وتحرمه من جاذبية الطعم واللون، فيمسي وكأنه غير موجود. وينجم عن ذلك أن يضل الوجدان فيحسب صاحبه أن الخطيئة أمر طبيعي أو كالطبيعي حتماً. وإذا تكرر اقتراف الخطيئة تضاءل عذاب الوجدان، وتناقص تأنيب الضمير، وغدا المجرم بالعادة والتكرار، المجرم المثابر، لا يقترف الشر وحسب، بل يصبح هو عينه شريراً.
إن حياتنا الأخلاقية حوار موصول بين الضمير والعقل، بين الوجدان والذكاء. وإرادتنا الأخلاقية محصلة هذا الحوار، ومسؤوليتنا في الأخلاق هي مسؤولية هذا الحوار والإرادة، مسؤولية الاختيار. وعلى تربية الوجدان أن تحقق الوعي بهذه المسؤولية ليضطلع بها المرء وحده بعد أن حمل أمانتها من قبل المجتمع وممثليه من المربين.
الفصل العاشر: «تفسير الوجدان»:
وهنا يعرض الخطوط الرئيسية لأشهر النظريات الفلسفية التي تطمح إلى تفسير الوجدان وأهم هذه النظريات (سوف نستعرضها واحدة فواحدة في الخاتمة):
1- النظرية التجريبية 2- نظرية التداعيين 3- النظرية العقلية 4- النظرية الانتقادية 5- النظرية التطورية 6- النظرية الحيوية 7- النظرية الاجتماعية.
الخاتمة
وفيها يستشهد الفيلسوف العوا بروسو حين يتساءل عن القواعد التي ينبغي أن يأخذ نفسه بها ليحقق المصير الذي أراده الله له في الأرض، وأجاب بقوله: «يجب علي المثابرة في اتباع طريقتي الدائمة، وقوامها ألا أستقي هذه القواعد أبداً من مبادئ فلسفية عليا، وإنما أجدها في أعماق قلبي وقد نقشتها الطبيعة بحروف لا تبلى. وليس لي إلا أن أستشيرني في شأن ما أنا فاعل: إن كل ما أشعر بأنه جيد فهو جيد، وكل ما أشعر بأنه سيئ فهو سيئ، وإن خير فتوى لهي فتوى الضمير، ولا يصطنع الإنسان براعة المحاكمة إلا عندما يساوم ضميره. أجل إن أول ما يترتب على الإنسان أن يعنى به ويراعيه هو ذاته. ولكن ما أكثر ما قال لنا صوتنا الباطني عندما نسعى لبلوغ مصلحتنا على حساب الآخرين بأننا نسيء صنعاً، نحسب أننا نتبع دافع الطبيعة، ونحن في الواقع نقاومها. إننا إذا سمعنا قول حواسنا أهملنا الإصغاء إلى صوت قلوبنا. الكائن الفاعل يطيع، والمغفل يأمر. والحق أن الضمير صوت الروح، والأهواء صوت الجسد. وليس بمستغرب أن تتعارض هاتان اللغتان في أكثر الأحيان، فإلى أيهما نستمع إذن؟ إن العقل يضلنا في الغالب، ولنا ملء الحق في اتهامه ودفعه، بيد أن الضمير لا يغشنا أبداً. إنه هو الدليل الحقيقي الذي يهدي الإنسان ويرشده، الضمير بالنسبة إلى الروح كالغريزة للجسد. ومن اتبعه أطاع "الطبيعة" ولم يخش أن يضل أبداً».
على هذا النحو يستعرِض الفيلسوف العوا رأي روسو ورأي كانط، وهو يقول: «لعل من الجائز ألا نقبل، من زاوية الفكر المحض هذه النظريات كلها أيضاً، بل نسعى إلى تحديد جانب الصحة في كل نظرية منها على انفراد، فنرى أنها جميعاً أشبه بحوافز تسهم في تثقيف الفكر، وإنارة سبيل الوجدان، ودفع هذا الفكر والوجدان إلى المضي غير المحدود قدماً في معارج الأصالة والإبداع.
فلو فرضنا أن الفاعل الأخلاقي يتغافل عن ضرورة تكييف العمل الأخلاقي مع شروط التجربة الحسية ومعطيات الواقع الراهن، ذكّرَتْه النظرية التجريبية بأهمية ذلك، ونبهته نظرية التداعيين إلى ضرورة العناية بالارتباط المألوف الذي يشد هذه المعطيات بعضها إلى بعض، وأوضحت له أن الجمل الناتجة عن التداعي قد تكون –كما ينبغي أن تكون– شرطاً رئيسياً من شروط النجاح. ولو فرضنا –على العكس– أن الفاعل الأخلاقي يتردى في مستوى الواقع الراهن، ويجنح إلى الاكتفاء بسلوك يخضع خضوعاً أعمى لمعطيات هذا الواقع طالعته النظرية العقلية (الميتافيزيائية) والانتقادية بضرورة الالتفات شطر المثل الأعلى، ومراعاة معطيات متعالية هي المبادئ القبلية السابقة للتجربة. أما النظرية الحيوية فقد تنفعه بتذكيره أن لجسده عليه حقاً، وتنفعه النظرية الاجتماعية في إيضاح أثر الظروف الثقافية والتاريخية التي تشده إلى مثله الاجتماعية، وتربطه بالقيم السائدة المقررة بين الناس. غير أن السلوك الأخلاقي الفذ السليم، لا يمْثُل في الخضوع المنفرد لأية نظرية من هذه النظريات وأضرابها، بل إنه ليس يمْثُل كذلك في التقيد بجملة هذه النظريات والسعي إلى انتقاء موقف يؤلف بين جوانب من كل واحدة منها. وسواء أخذ المرء بأسلوب التحيز لنظرية من هذه النظريات وما يماثلها، أو أخذه بأسلوب التحيز لجميع هذه النظريات والتوفيق بينها، فإن الأسلوبين كليهما لا يفيدان الفاعل الأخلاقي إلا في حدود معينة هي حدود تثقيف الوجدان وحسب، لا توجيه الوجدان من خارج، ولا تسخيره لآراء وأحكام ومشيئات وإن كانت آراء وأحكام ومشيئات فلاسفة الأخلاق. وقد بان لنا غير مرة أن الوجدان بنية شخصية، وأن السلوك الأخلاقي الذي ينم عن الوجدان حقاً إنما هو سلوك يعرِب عن الشخصية، شخصية الفاعل ذاته، ولا يعرِب إلا عن هذه الشخصية بالذات. وإن دراسة الوجدان، كل دراسة، لا تقدر على أكثر من أن تعين الفاعل الأخلاقي على تفهم نفسه ومعرفته بأسباب سلوكه وغايات عمله وتصرفه. وفي وسع هذه الدراسة أن تمكّن الناس من أن يعوا شروط وجودهم، ويدركوا بعض ثوابت التجربة الأخلاقية، ويلموا بمعرفة بعض أساليب الحياة، حتى يتضح لهم فهم الأوضاع الرئيسية التي تكتنف السلوك وتحدد التزاماته في الآفاق الاجتماعية المختلفة، وتعرِب عن مدى طماحه ودرجة نجاحه في التطلع إلى القيم العليا وتحقيق أعظم ما يقدر على تحقيقه من أهدافها. ولكن دراسة الوجدان، أية دراسة، لا يمكن أن تعني سوى أن الفاعل الأخلاقي –كفاعل– يختار ما يشاء بوعيه وإرادته، وأن هذا الاختيار ينبغي أن يكون بالفعل اختياراً حراً يحمل المرء ذاته مسؤوليته الكاملة. ولا تقدم هذه الدراسة خاصة، ولا تقدم الفلسفة الأخلاقية بوجه عام، إلى الفاعل الأخلاقي إلا مواد وعي فكري يجعل حريته حرية نيرة، فيصنع كل إنسان حكمته، ويعتنق في سلوكه الحل الذي يرضاه، وهو حل شخصي لا يمكن أن يستعاض عنه بأي حل يقره فاعل آخر، ولو كان هذا الفاعل فيلسوف الأخلاق: ذلك أنه حل ينبع من الوجدان!
قراءة في كتاب «الوجدان» للدكتور عادل العوا
دراسة الدكتور بكري علاء الدين
«تعود جذور مصطلح الوجدان في اللغة العربية إلى شيوع استخدام مصطلح الوجود في الفلسفة مع الفارابي وابن سينا[1]. كما ترتبط بفكرة الوجد لدى الصوفية. ولكن الاستخدام الأوضح والمستمر لهذه الكلمة في التجربة الصوفية هو الذي أدى إلى تطوير فكرة "الوجدانيات"؛ وهي المشاعر التي لا تتم البرهنة على أحوالها بالعقل. فالحب والعواطف وتذوق الشعر والحدس الفني تنتمي إلى هذا الطراز من المعرفة الباطنة. وقد تطور معنى الوجدان لدى الصوفية حتى غدا في تدرجه أقوى من الوجد وأعلى مرتبة، ضمن نطاق التجربة الصوفية. وغدا الوجدان بعد استقرار معناه مرادفاً لمصطلح "الذوق" عند الفيلسوف الصوفي ابن عربي في القرن السابع للهجرة/الثالث عشر للميلاد[2].
ولسنا ندري متى شاع المعنى الأخلاقي لهذه الكلمة في الأوساط الشعبية في بلاد الشام، وصارت دلالته اللغوية تحيل إلى ملكة الفعل الأخلاقي ومستقره. وهنا يكمن السر في الانتقاء الموفق لهذه الكلمة التي تتفوق لغوياً على كلمة "الضمير" في الإشارة إلى هذه الملكة في سياق ترجمة كلمة «conscience» الفرنسية.
وقد حاول الدكتور عادل العوا في مقدمة كتابه أن يجد بديلاً عن هذه الكلمة في التراث، وكان خياره هو الأجدى والأجدر باستيعاب المعاني التي تنطوي عليها فكرة استعراض دلالات ومعاني مصطلح "المروءة" الذي كان سائداً في العصر الجاهلي والذي تطور بعد ظهور الإسلام لينطق بمعاني العفة والنزاهة والصيانة، تبين لأستاذنا الكبير بأن هذا المفهوم لا يفي بالغرض المطلوب. فالمروءة عند قدماء العرب كانت تعني كمال الرجولة ومكارم الأخلاق وصارت تفيد معنى الفضيلة والامتناع عن الحرام عند المسلمين ولكنها لا تحتمل استيعاب هذا المفهوم الأخلاقي الجديد[3]. كذلك فإن فكرة "الخُلُق" التي أشار إليها التهانوي في كشاف اصطلاحات الفنون والتي تفيد معنى السجية والطبع والمروءة والدين، فإنها لا تكفي لتوضيح الجانب الذي نتوخاه من معنى الملكة.
هذا من الناحية اللغوية لمعنى المصطلح الذي كان عنواناً للكتاب الذي نعرضه اليوم، بعد مرور ستة وثلاثين عاماً على صدوره. أما على صعيد "تنهيج" هذا المفهوم الأخلاقي فقد نجح الدكتور عادل العوا في إقامة جسور بين التراث الأخلاقي العربي–الإسلامي وبين الفلسفة الأخلاقية المعاصرة في الغرب. فالقطيعة الأبستمولوجية مع الجذور الدينية لكلمة الوجدان بالمعنى الغربي لكلمة «conscience»، والتي نحتاج إليها في الفكر العربي الفلسفي لإضفاء طابع عالمي على الأخلاق الإنسانية، قد جرى نقلها مع كل ما تتضمنه من إيحاءات الحداثة والجدة، وذلك من غير المساس بتلك الصلة العميقة لأصل الكلمة المرتبط بالأنطولوجيا (مبحث الوجود) في الفلسفة أو المعنى الصوفي: كالذوق والحدس.
أما المعنى الشعبي النبيل لكلمة الوجدان فإننا نراه يرتقي ليعانق أرقى وأسمى التحليلات الفلسفية والنفسية في الفكر الغربي الحديث. فصاحب الوجدان، أصبح هو نفسه الفاعل الأخلاقي حسب المفهوم الأخلاقي عند كانط، كما أن معنى القول المعاكس (أي عديم الوجدان)، يشعر بالحالة المرضية التي يتعرض لها الإنسان ككائن أخلاقي، والتي تستدعي معالجة واهتماماً بمن فقد أغلى ما يملكه البشر.
وإذا كان من العبث أن نطلب من مفكري الأمس، كما يقول الدكتور عادل العوا، فلسفة أخلاقية معاصرة. فإن هذه المهمة في إبداع مثل هذه الفلسفة قد حملها أستاذنا على عاتقه بكل جدارة؟ ورأى بأن الوجدان في هذا المجال "مفهوم معقد جداً" ولكنه غني بالتعبير عن حالة الإنسان الأخلاقي في العصور الحديثة والمعاصرة. كما أكد الدكتور عادل العوا على أن "نزعة الوجدان الأخلاقي نحو العلمانية ظاهرة لا تنكر" (الوجدان، ص16). ويحيلنا إلى تحليل دوركهايم عالم الاجتماع الفرنسي الذي يرى بأن الإنسان غير المؤمن قد يتمتع بضمير أخلاقي مرهف، كما أن بعض رجال الدين قد ينحرفون أحياناً عن جوهر الأخلاق. ومن هنا ظهرت الحاجة إلى أخلاق وضعية، أخلاق إنسانية مستقلة عن أي مرجعية دينية. دون أن ننكر بأن الفاعل الأخلاقي مضطر إلى تسويغ نسقه الأخلاقي بنوع من المطلق أو الاستعانة بالله.
وينبهنا الدكتور عادل العوا إلى أن المبادئ العملية التي تستند إلى العقل المحض عند المفكر والفيلسوف الألماني كانط تشكل مرجعية مستقلة للأخلاق، ويغدو الدين لديه "استطالة للعقل العملي"، وقد أدخله كانط في مشروع أوسع للإنسانية.
فالوجدان حسب تعريف قاموس لالاند الفلسفي: " الشعور الغريزي بالخير والشر قبل أية دراسة أخلاقية"، يؤكد هذه النزعة الاستقلالية للوجدان في عالم الفلسفة.
وإذا أمعنا خطوة أخرى في محاولة إيجاد تعريف حديث لمصطلح الوجدان لدخلنا مباشرة في صراع التيارات الحديثة سواء في علم النفس والتحليل النفسي أم في الفلسفة والفن والأدب. ذلك أن الوجدان يقيم في منطقة تتقاطع فيها كل المذاهب والأفكار. بدءاً من أصحاب الحدس والشعور واللاشعور وانتهاء بالتيارات الواقعية والنقدية والماركسية. فالشعور النفسي بالمعنى الوجودي لمفهوم الأنا والقائم على ثنائية الذات والموضوع والشعور الجمالي المرتبط بالذوق الفني وكذلك الشعور الديني القائم على الرهبة والمحبة، كل هذه الدرجات والتنوعات للشعور تأخذ معناها الإنساني النبيل من الشعور الأخلاقي. وملكة الشعور الأخلاقي هذه هي الوجدان. فحين نتحدث عن قيم حديثة ومبتكرة وخالدة يؤمن بها الضمير إيمانه بالإلهي أو المقدس، فلن نجد أمامنا سوى كلمة الوجدان لاستيعاب التجليات الحديثة للأخلاق الإنسانية. فكما أن العقل يبحث عن اليقين الموضوعي من خلال اتصاله بالواقع وتجريده له، كذلك فإن الوجدان هو الذي يضع ذاتية الإنسان في موقعها على مسافة محددة مع نفسها ومع الآخرين. وهو الوحيد القادر على تجاوز التناقضات بين الحرية والإلزام بين المطلق والنسبي، بين الثابت والمتحول، وهو الذي ينتصر بالفرح وييأس بالندم، ويؤسس استقلالية الفرد "لأن أوامره لا تصدر من الخارج بل تنبع من صميم كياننا الذاتي"، ولأن الوجدان هو المرجع الأخير والحكم الفصل: "اِسْتَفْتِ قلبك ولو أفتاك المفتون".
الوجدان يلزم ولا يرغم لأنه مشروط بالحرية وهو آمر مطلق لأن الإرادة تتوخى الحزم والحسم، وبالتالي فهو ارتكاس الكائن بأسره، فهو لا يكتفي بالنظر والتجريد لأنه لا يتحقق إلا بالفعل الأخلاقي. وكل فعل هو خيار مزدوج للأنا والعالم. حين أختار أُعْلِنُ هويتي، وحين أفعل أترك آثار بصمات ماهيتي على درب الوجود.
وكأنما نعني أخيراً بالوجدان ذلك المركز الذي نتخذه لأنفسنا وسط القوى الجاذبة والجابذة للعقل والعاطفة للإرادة والغريزة للشعور واللاشعور للواقع والمطلق. وإذا كان المجتمع هو الذي يوقظ الحس الأخلاقي في الفرد ويقدم له نماذج البطولة والشهادة والعظمة، فإن الفرد الأخلاقي يستجيب لهذه النداءات بأن يحقق هو نفسه رموزاً جديدة لأجيال قادمة. وهنا تبرز قيمة الحرية والإبداع في شق طريق المستقبل.
والشيء الثابت على طريق المستقبل هو العدالة. ولا يمكن فهم أي إنجاز أخلاقي إلا بالرجوع إلى تشخصاته على مدارج العدالة. وأول ما تطلبه العدالة هو "احترام شخص الآخر في حريته وما له كاحترام شخصنا بالذات" (الوجدان، ص83). وهي التي تتيح للناس ممارسة مبادراتهم والاضطلاع بمسؤولياتهم.
فأي نموذج للوجدان يصلح لتحقيق الحرية والعدالة. الوجدان الجدي المتزمت، المعتمد على الطاعة والتكرار والآلية، والذي تغدو القيم عنده أشياء أو أصنام تعلو على الأشخاص، أم الوجدان المغامر اللعوب الذي يحمل قانونه النفعي ويجنح إلى تعديل قواعد اللعبة كما يحلو له.
كلاهما وجدان طفولي، يصدر الأول من عدمية وسواس القاعدة بينما يرزح الثاني تحت غواية الجموح والمجانية.
إننا بحاجة إلى وجدان حي فعال يتجاوز النقيضين إلى تركيب نوعي أعلى. إنه وجدان الإنسان الذي يضطلع بمصيره مستفيداً من خصال الوجدان الجاد ومن حيوية الوجدان المقدام ليحقق وحدة الكرامة والمعرفة ويقوم بإنجاز الحياة الشخصية وذلك ضمن شروط الوجود المادية والظروف التاريخية جميعاً. هذا الوجدان هو الوجدان الروحي، أو الوجدان المتعالي.
ولدرء كافة الأخطار الممكنة التي تتهدد الوجدان السوي فإن الإنسان مدعو لنقل خبرته للأجيال القادمة، وهذا أهم ما تشتمل عليه تربية الوجدان: تحرير المرء من أسر غرائزه وأهوائه وارتكازه على العقل في أحكامه وقيمه.
وعلى الرغم من النقاش الطويل على الصعيد الفلسفي حول فطرية الوجدان وحول اكتسابه الأخلاق من المجتمع فإن جوهر التخلق يظل مرتبطاً بعدد صغير من المبادئ التي يتفق عليها كل البشر، كالحرية والعدالة والجدارة التي يجب الاعتراف بها للجميع، دون أية تفرقة أو تمييز.
لذا فإن رسالة التربية الصحيحة هي تلك التي توفر نقل الطفل من جو المنع والأخلاق السلبية إلى جو الحرية والإبداع. بحيث تغدو الإرادة الأخلاقية عند الطفل حواراً موصولاً بين الضمير والعقل بين الوجدان والذكاء، والاختبار الحقيقي الذي تخضع له كافة المذاهب الأخلاقية هو هذا النجاح في نقل أخلاق الإبداع والحرية إلى الأجيال القادمة، واستخدام الوسائل التطبيقية اللازمة في هذا المجال.
ويغدو "الوجدان" ذلك العالم الفسيح الأرقى الذي لا يمكننا التقدم إلى الأمام دون المرور به والتزود بما يحويه من علم وتقدم وحضارة.
وفي الختام، لست أدري إن كنت أتحدث عن كتاب الوجدان أم عن الأستاذ المربي الدكتور عادل العوا من خلال ألفاظه وتعابيره. ذلك أنني من الجيل الذي أطلق على الدكتور عادل لقب "الوجدان"».
ثالثاً) الجانب التربوي
كتاب «تحديث الأسرة والزواج» نموذجاً
تمهيد:
يرى سبنسر «Spencer» أن الحب الوالدي حب للضعفاء والقاصرين، ومن المشاهد أن الآباء يشاركون الأمهات في هذا الحب.
ومن هذا الأصل الذي تصدر عن العاطفة الوالدية تصدر الأسرة ويصدر تعلق الأفراد من الجنسين المختلفين بعضهم ببعض، فيحرص الذكر والأنثى على البقاء معاً فيما يجاوز فعل التناسل حتى نضج الثمرة ومولد الصغار، وهما يستمران في هذا العيش الأسري المشترك لصالحهما، ولصالح الصغار بوجه خاص.
الباب الأول: «صيرورة الأسرة»:
وينقسِم هذا الباب إلى تسعة فصول:
الفصل الأول: «تعريف الأسرة وأصلها»:
وفيه يدرس المؤلف تعريف الأسرة، أصل الأسرة من وجهة النظرية التطورية والنظرية الاجتماعية.
الفصل الثاني: «الأسرة الابتدائية»:
وفيه يستعرِض خمسة نماذج من الأسر الابتدائية تظهر بوضوح تداخل عوامل الجنس والقرابة والاقتصاد وتفاعلها في إضفاء صفة نمطية خاصة على كل أسرة.
الفصل الثالث: «التحوّل الأسري»:
وفيه يتحدث المؤلف عن ما أتت به بعض النظريات الأنتروبولوجية الحديثة المدَعّمَة بالاكتشافات الأثرية حول ما يُسَمّى العصر الأمومي وهو عصر سابق من تاريخ الأسرة كانت المرأة فيه تحتل مركز الصدارة. ومنها أتت ما يسمى بالأمازونات، وفي النظام الأمومي يلعب الرجل دوراً ثانوياً والدور الرئيس هو للأم الذي يأتي بعدها أخوها أو ما نسميه بالخال الذي يهتم بمصير الأطفال. ويقول المؤلف أنه مما لاشك فيه أنه توجد حتى الآن بعض القبائل البدائية تعمل بموجب هذا النظام، بما في ذلك القبائل الجرمانية القديمة التي كانت تربط أفرادها صلة الرحم بالأم، حيث تشير الدراسات إلى أن هذا النظام عُرِف لدى الشعوب التي اعتمدت الإنتاج الزراعي البدائي قبل أن يعرف الناس المحراث، ثم شيئاً فشيئاً بدأ يحل نظام جديد هو النظام البطريركي الذي يلعب فيه الرجل الدور الرئيس في الأسرة، وربما بدأ هذا النظام باختطاف المرأة من قبيلة مجاورة، ثم أسلوب مبادلتها، ومما لاشك فيه أن المرأة خسرت في هذا النظام الكثير من حقوقها وامتيازاتها فيما يُعْتَرَف به بالأسرة الأبوية.
الفصل الرابع: «الأسرة اليونانية – الرومانية»:
الفصل الخامس: «الأسرة العبرية»:
الفصل السادس: «الأسرة المسيحية»:
الفصل السابع: «الأسرة البورجوازية»:
الفصل الثامن: «الأسرة الاشتراكية»:
وكلها نماذج من الأسرة الأبوية، حيث يظهَر مثلاً أثر الأسرة العبرية في الأسرة المسيحية خليفتها، ومن ثم مع التطور العام في كيان الأسرة الحديثة انبثقت الأسرة البورجوازية التي استلهَمَت أخلاقيات الطبقة البورجوازية آنذاك، ومع ظهور الاشتراكيين الماركسيين، وتطبيق عقائديتهم العلمية الثورية كما في الصين على يد ماوتسي تونغ، وما جرى في الاتحاد السوفياتي سابقاً منذ ظهوره دولة اشتراكية أولى في التاريخ، وعلى هذا النحو عَرَفْنا الأسرة الاشتراكية وهي نمط أسري جديد أساسه بالدرجة الأولى المشاركة الروحية والعاطفية بين الزوجين والتعاون والتوزيع العادل للعمل المنزلي ووحدة الأغراض التي تهدف إليها الأسرة والمجتمع.
وعند هذا الحد الذي وصل إليه تطور الأسرة، فإن الأسرة لم تفقد أهميتها. وقد اتضح أن من بين ضروراتها الحاجة إلى الاتصال البشري والأمومة وتربية الأطفال وإلى جملة من العوامل النفسية المسماة سعادة أسرية ...الخ.
ويؤكد علماء النفس أن العلاقات الأسرية الناجمة عن حاجة الإنسان للأسرة تجد في هذه الحاجة ذاتها أرضاً ثابتة لتجاوز جميع الصعاب. وإن زواج الأشخاص ذوي الحاجة القوية لتأسيس أسرة هو أكثر استقراراً ومتانة. وقد لاحظ ف. بورسكي «V. Borski» أن هذه الحاجة إذا فقدت أحد عواملها المقوِّمَة نشأت عن ذلك علاقات متوترة وهي تنشأ بالفعل غالباً في الأسرة. وفوق ذلك، فإن الحاجة للأسرة هي حاجة لمّا يكتمل نضجها لدى العزاب بإلحاح ولذا يبدو أن تشكيل هذه الحاجة من أهم الأسباب التي تهيئ الشاب لحياته القادمة.
الفصل التاسع: «الأسرة العصرية»:
وهنا يذكر المؤلف ما بشّر به برتراند راسل «B. Russel» بضرب آخر من تطور الأسرة العصرية الذي يشكل الغرب نموذجاً له، منطلِقاً من أن الدولة في كثير من المجتمعات الصناعية المتقدمة تنهض بأعباء تمويل الأسر الفقيرة، أو أن الدولة هي التي تسهر على تربية الأطفال منذ دور الحضانة والمدرسة إلى التعليم المهني والجامعي، وأن دور الأب في الأسرة دور آخذ بالتلاشي والاضمحلال، ويمكن الاستغناء عنه بوصفه مموّلاً ومعيلاً من جهة، وبوصفه مشاركاً في تربية الأطفال من جهة أخرى، وهو لا يكاد يشارك في هذه الناحية إلا لماماً، أي في أيام العطل والأعياد، حيث يلتقي بأطفاله وينهض باللعب معهم أكثر ما ينهض، أو بمرافقتهم إلى أماكن التسلية واللهو.
وهنا يذكر المؤلف التحديات التي تواجهها الأسرة العصرية مع التكنولوجيا الحديثة التي اخترقت جدران الأسرة الحميمة مثل طفل الأنبوب، والقدرة على التحكم بجنس الأجنة، بل حتى على تصميم درجة ذكائه وملامحه وخطوط شخصيته، وزرع الأجنة، وبلع حبة ما لضمان إنجاب توأمين أو أكثر، والقدرة على دخول سوق الأجنة وشراء ما ترغب منها بالفعل..الخ.
وبالتالي فهذا التعديل الجذري لن يتناول مفهوم الأمومة فحسب بل مفهوم الأبوة أيضاً.
وعلى هذا فالأزواج الشباب ومتوسطو العمر حريصون على عدم الإنجاب، ويكون الأزواج الذين جاوزوا الستين هم أكثر الأزواج إنجاباً، أو تنشئة للأطفال.
كما يذكر المؤلف ناحية هامة تتناول مصير الأسرة العصرية وتجربتها في الغرب، وهو ما بات يُعْتَرَف به في سن الشباب ويتمثل في "زواج التجربة" أو "تجربة الزواج"، وهو يدوم في الغالب ثلاثة أشهر إلى ثمانية عشر شهراً، وقد أصبحت الجامعات المحافظة الأميركية تغض الطرف هي ذاتها عن مساكنة الطلاب والطالبات. وبعد انتهاء زواج التجربة، بل تجربة الزواج، يترتب على الطرفين إضفاء الشرعية على علاقتهما أو أن ينفصلا ويبحث كل طرف عن شريك جديد.
كما يشير المؤلف إلى أن الزواج الذي يبدأ في سن الأربعين زواج يجري بين الناضجين وهو كثيراً ما يستمر حتى موت أحد الزوجين، وهو زواج حقيقي يستند إلى قاعدة الاستمرار مدى الحياة.
الباب الثاني: «صيرورة الزواج»:
الفصل الأول: «تطور الزواج»:
وهنا يشير المؤلف إلى أن للزواج أنصار وخصوم، وما يقوله أنصاره أن من حسنات الزواج "أن اقتصار الرجل على امرأة واحدة يحميه من سائر النساء".
في حين أن خصومه يقولون فيه مثلاً "ما أشد ندرة الزواج الناجح".
ويشير المؤلف إلى أن الباحثين قد فطنوا إلى أن الزواج في العصر الحاضر ينشئ أسرة جديدة بينما كانت الأسرة في الماضي هي التي تسبق الزواج وتبقى بعد انصرامه.
كما يذكر المؤلف أن الزواج يتضمن حق الاتصال الجنسي، ويسمح المجتمع بهذا الاتصال في حال الزوج والزوجة، بل ويعتبره بصفة عامة واجباً على كليهما لإشباع رغبة شريكه.
ولكن الزواج في الوقت ذاته أكثر من علاقة جنسية منظمة، بل هو وضع اقتصادي يمكن أن يؤثر بطرق عديدة في حقوق الملكية للطرفين. فمن واجب الزوج –مادام الأمر ممكناً وضرورياً– أن يعول زوجته وأولاده.
أما تطور الزواج فنرى بادئ ذي بدء أن الزواج يُسْتَرْذَل عامة بين الإخوة والأخوات من أم واحدة وأب واحد. وقد يُسْتَثْنَى زواج أبناء الملوك من هذا الحظر.
وهكذا نشأ اصطلاح "الزواج الخارجي" ويُسْتَخْدَم عادة للتعبير عن منع الزواج داخل جماعة أكبر من تلك التي تتألف من أعضاء نفس الأسرة وخاصة العائلة.
ويرى بعض الباحثين أن سبب ذلك هو أن الزواج بين الأقارب بالدم ضار بالنوع عامة، وقد حذف الاصطفاء الطبيعي المشاعر الجنسية بين الأشخاص الذين يعيشون منذ طفولتهم في مكان واحد بحكم رابطة الدم، وأبقى الاصطفاء الطبيعي على المشاعر النافعة للبقاء.
وكما ذكرنا، فإن التحول الأسري إلى النظام الأبوي قد بدأ بعدة مظاهر منها عادة اختطاف المرأة في طرق عقد الزواج، ثم ظهر أيضاً الزواج بالعوض أو بالشراء، وازدادت هذه الطريقة لدى الشعوب في مرحلة الرعي عنها في المراحل الزراعية. وهذا ما سُمّيَ "مهراً"، وقد تحول المهر لدى بعض الشعوب الهندية الأوربية إلى "بائنة" والبائنة هنا هي عكس المهر ذلك أن الخطيبة هي التي تزوِّد الزوج بها، ففي وسع الزوج أن يفيد من ريع البائنة ما استمر الزواج.
ولكن المؤلف يشير إلى أن إقحام المصالح المادية في الزواج يجرح المشاعر المرهفة ويشوّه الاعتبارات العاطفية.
وعلى هذا، فمن الملاحَظ في سياق تطور الزواج، ظاهرة تعدد الأزواج في الأزمنة الغابرة. ومن الملاحَظ أن مختلف الأزواج يكونون إخوة في الغالب، وإن الأخ الأكبر يُعْتَبَر بوجه عام الزوج الأساسي. وعندما تبلغ ندرة النساء حداً تجعل الرجل لا يأمل في الحصول على زوجة خاصة، فإن مشاعر الأخوة قد تقود الزوج إلى قبول اقتسام زوجته مع إخوته الصغار.
ثم إن تعدد الزوجات يتبع أيضاً، إلى حد كبير، النسبة العددية بين الجنسين في المجتمع. وقد يجوز القول بأنه يصبح مباحاً كلما زاد عدد النساء زيادة محسوسة على عدد الرجال لدى القبائل الابتدائية.
وعلى الرغم من أن تعدد الزوجات كان مرغوباً به في نظر الرجال، فإن كثيراً من الشعوب الابتدائية كانت تمنعه منعاً باتاً. ولعل لذلك سبباً نفسياً متصلاً بالحب، وهو أن الحب الذي لا يتعلق إلا بالجاذبية الخارجية حب غير ثابت بالضرورة ولا مستقر، أما الرباط الزوجي الذي يعتمد استلطافاً ناجماً عن خصال معنوية فإنه يستمر إلى ما بعد سن الشباب والجمال.
الفصل الثاني: «العزوبة»:
يشير المؤلف هنا إلى استهجان العزوبة عند الأقدمين، فنجد أن قبائل سنتال تحتقر الأعزب وترى أنه ليس برجل، في حين أن قبائل توبي البرازيلية تمنع الأعزب من المشاركة في الطقوس، أما قبائل تلاسكالا فإنها تجزّ شعر الأعزب تحقيراً له وامتهاناً.
وينتقل المؤلف إلى موقف الشعوب قاطبة من العزوبة وتفضيل الزواج على نحو لا يُقاس بدءاً من العبريين وصولاً للمسلمين، ومروراً بالهنود والزرادشتيين، والإغريق القدامى، والرومان، ولكن انحطاط الأخلاق الجنسية في روما ما لبث أن جعل العزوبة تزداد في الطبقات الرفيعة بعد أن كانت مرذولة فيما سلف. وصار الزواج أشبه بعبء وإن كان لابد منه، وهو يُمارَس إذ يُمَارَس نظراً للمصلحة العامة.
ويصل المؤلف إلى نتيجة مفادها أن الرأي الأخلاقي العام استهجن في الماضي العزوبة لأنها تبدو مخالفة للطبيعة، وأنها إمارة عادات إباحية.
أما الثورة الفرنسية، فقد أبقت على الضريبة الإضافية المفروضة على العزّاب. وذهبت بعض الأنظمة السلطوية إلى أن تأسيس الأسرة للإنجاب واجب قومي تفرضه الدولة على القادرين من أبنائها وبناتها، ولاسيما إذا كانت الدولة تعتمد الحرب دفاعاً أو غزواً.
بيد أن الحضارة الحديثة ترى أن الزواج قد فَقَدَ مزيته على العزوبة، فثمة مجال استمتاع يترقب المرء خاصة إذا كان وحيداً أعزب، حراً طليقاً. وقد أسهم ذيوع ثقافة متقدمة في المجتمع في جعل الرجال والنساء يجدون صعوبة أكبر في إيجاد الشخص الذي يريدون اتخاذه شريكاً طوال العمر، وقد تغيرت المواصفات وازدادت دقة وإلحاحاً، وأصبح من العسير توافرها، وأمسى الناس ينفرون من عقد زواج لا يلبي طموحهم بالفعل.
ومن جهة أخرى، فقد منع كثير من البلدان الأوروبية زواج الأشخاص الذين يعيشون عالة على صندوق الإسعاف العام منعاً قانونياً. وحظرت بعض التشريعات الزواج على من لا يبرهن على قدرته في أن يعول أسرة.
وكثيراً ما استنكر الباحثون إتاحة الفرصة أمام النزوات الفردية، لتُمَارَس بحرية تامة أشد الوظائف الحيوية أهمية، وهي وظيفة الإنجاب بالزواج.
الفصل الثالث: «المنزل»:
الزواج، إذ يفصم العزوبة، يقيم حياة أسرية جديدة هي الحياة المنزلية التي قوامها الحب وهدفها في الوقت الحاضر السعادة والإنجاب.
وبالتالي يرى المؤلف أن الزواج اليوم هو أمر أساسي أكثر منه في الماضي، وله أهمية عظيمة. وما على الإنسان إلا أن يقرر إذا أراد أن يظل إنساناً.
ويتناول المؤلف الدراسة العلمية الصحيحة للحياة المنزلية التي تنطلق من تفاعل سلوك الزوجين وتناوب نشاطهما بدءاً من العلاقات الجنسية في ظل الزواج حتى الاندماج بين شخصيتين متكاملتين، بحيث يُتاح للفردية (أنا) وللفردية (أنت) أن تصبحا وحدة اجتماعية نفسية جديدة هي الـ(نحن).
وعلى هذا، فقد يجد كل من الزوجين نفسه وكأنه مع شريكه منوَّم تنويماً مغناطيسياً وكأن شيئاً يرغمهما على الاختصام من أجل لا شيء سواء أرادا أم أبيا. وعندما ينتهي النزاع يرتكسان.
وقد ذهب كنكل «Kunkel» وهو أحد تلاميذ آدلر «Adler» إلى تمييز ثلاثة أنماط منحرفة من الحياة الزوجية على الصعيد النفسي–الأخلاقي. وهذه الأنماط هي: زواج "اللاتصدي"، وزواج "التصدي"، والزواج "الفارغ".
لننظر أولاً إلى رأيه فيما يسميه "زواج اللاتصدي". إن كل علاقة زوجية لابد وأن تمر في بادئ الأمر بأزمة حاسمة لأنها ستحوِّر شكل مستقبل الحياة المنزلية. وقد يشعر الزوجان بهذه الأزمة بوعي، أو أنها تظل محجوبة عنهما في اللاشعور. فما أن تنقضي فترة الخطوبة وينتهي شهر العسل. وفيهما يحيا العروسان نوعاً من السعادة الغامرة، تقترب اللحظة الحاسمة التي يفقد فيها أحد الطرفين خلال حياته اليومية المتكررة ذاك النحو من الاعتزاز الصنعي الذي كان يتوجّه على ما يبدو فيظهر عندئذ على حقيقته بحسناته وسيئاته. وفي هذه الأزمة تتفتح الـ"نحن" الزوجية وتصبح ذات شكل معين. وقد يتفق ألا يكون من الممكن إذ ذاك أن يستطيع الطرفان تحمل النقائص والعيوب التي تجلت للعيان. وربما تظاهرا بصورة لاشعورية بعدم رؤية عيوب الطرف الآخر، أو أرادا المحافظة على ظاهر السعادة على الأقل، وأصبحا لا يريان إلا ما يريدان رؤيته حقاً. بيد أن الواقع لا يجري على هذا المنوال لأن هذا الموقف المحدّد، واللاشعوري، وهو موقف تصحبه رغبة إنقاذ الوهم والإبقاء عليه، يميز في الغالب "نحن" دائمة وهي تستند إلى ما يمكن أن ندعوه "وهم الاستقرار تجاه الذات".
وهكذا نجد أن رغبة الفهم والتعاطف والاتصال رغبة قوية لدى كل منهما. وهذه الرغبة تدفعهما إلى أن يعملا ويرتكسا كما لو كان الزوج في الواقع الشخصية التي أراد أن يظهر بمُسوحها وكما لو أن الزوجة الشابة لمّا تفهم ما لا تريد رؤيته. الرجل يبقى إذن فوق قاعدة التمثال، والمرأة تستمر على عبادته كما في الماضي، والاثنان سعيدان، وسيبقيان سعيدين.
وبالتالي، فإن زواج "اللاتصدي" يستخدم الوهم أساساً مستقراً ودائماً للوجود.
ومما لا ريب فيه أن مثل هذا الزواج عرضة دوماً للخطر: إن ظواهر الزيف تولّد عواطف اللارضى والفراغ.
إن زواج "اللاتصدي" يقوم على تجاوز العروسين جو الأزمة و"الفترة الحرجة" التي تلي شهر العسل من جراء أنهما يبنيان علاقاتهما المتبادلة على أساس "الظواهر" التي تقابل تصورات كل منهما عن نفسه وعن قرينه.
أما زواج "التصدي" فإنه على العكس من ذلك تماماً. إن السلبية هي هنا أساس جميع التقديرات والعلاقات. فالزوجان لا يتثبّتان حصراً عند الخصائص المنفِّرة لدى كل طرف منهما وإنما يعرف كل منهما الخصال الحقيقية المغرية أي الإيجابية للطرف الآخر، ولكنه لا يكترث بها لأن علاقاتهما المتبادلة قد تطورت بالاتجاه السلبي. وإن الـ"نحن" في هذا الزواج مزودة باستقرار ينجم عن اشتداد ثابت، ولكنه اشتداد حافل بالمنازعات.
وتجد من ثم أن أحدهما لا يستطيع أن يعيش بدون الآخر، وأنهما يحتاجان إلى المنازعة والتفجر تفجر البركان، وكل منهما يتذمر ويزعم أنه مستعد لفصم العلاقات الزوجية التي أمست لا تطاق. ولكن الثابت أن شيئاً لن يتغير: إما بسبب الأطفال، وإما لاجتناب الفضيحة، ولكن الـ"نحن" الزوجية في الواقع قد تطورت بالرغم من الخصومة والقسوة المعلَنَة نحو استقرار دائم. إن السمات الشخصية في الزواج "المتهافت" والأماني التي يمكن أن تصطدم وأن تفرِّق الزوجين تظل في الغالب لاشعورية، ولا يظهر إلا التضاد المدروس بعناية. أما في "الزواج الصامد"، فإن فقدان الوهم فقداناً تاماً يؤلف على العكس، مزية وترى الزوجين يمضيان في عيشهما معاً في الواقع. ذلك أن الأمر هنا أمر أفراد مقاوِمين ومتصلِّبين قادرين على تحمل علاقات عاصفة وعلى الإبقاء عليها.
إن زواج "التصدي" يجهل المودة والأنس. وحتى لو كان أحد الزوجين (أو كلاهما) لا يخلو من عطف وحساسية، فإنهما في علاقاتهما معاً يرفضان الجو الحنون، وكلاهما يجتنب أي تعبير عفوي صادر عن القلب. وكلاهما يعنى بتنمية أفكاره وعواطفه وأحلامه، ولكنه لا يستطيع الإفصاح عما يجول في نفسه حتى لا يُعْتَبَر رومانسياً أو خليعاً. وأغلب ما تتركز عليه الأحاديث الليلية هو تبادل اللوم، وهي تُستأنف في الصباح. إن الزوجين يحتاجان إلى الخصومة اليومية ولا يسعدان بدونها. وهذا الزواج "الصامد" ذائع في الريف، وإن كان موجوداً في صفوف البرجوازية الصغيرة عادة.
ثم إن زواج "التصدي" زواج غير سعيد في الظاهر، ولكن الزوجين فيه يتكيفان تكيفاً جيداً مع العالم الخارجي. ويبدو أن توازن الاتحاد الزوجي لا ينشأ عن العلاقات المتبادلة بين الزوجين، بل عن علاقات الزوجين بالعالم الخارجي. ولذا يعنى الزوجان بكل تجديد يطرأ، ولاسيما بولادة الأطفال. وهذا الزواج "الصامد" أكثر إنسالاً من الزواج "المتهافت" بوجه عام. وهو أيضاً أكثر إرضاء وأكثر اتصافاً بالصفة الأولية والطبيعية من الناحية الجنسية. والحياة في جوِّه أقرب إلى السمة البهيمية العفوية الخالية من الإرهاف، والمرأة فيه بعيدة في الغالب عن البرودة الجنسية، وذات استجابات جنسية عنيفة.
وثمة، أخيراً، الزواج "الفارغ" وهو يتميز بفقدان تطور "نحن" الزوجية لأنها لا تنتهي إلى النضج. وهذا الزواج لا يستمر بنتيجة وجوده الداخلي، بل يستمر من جراء وجوده الخارجي. ويحدث ذلك على أنحاء مختلفة: إما أن يستند إلى المصالح المشتركة، أو إلى المال، أو الاسم أو الجنسية القومية. ومثل هذه العوامل لا تضيف شيئاً أساسياً، ولا عميقاً، إلى العلاقات الزوجية. أما إذا غدا زواج استناد إلى "العقل"، فإنه يصبح اتحاداً حقيقياً ولا يظل "فارغاً". وقد يبدأ "فراغ" الزواج ببدء أول أزمة زوجية تعقب شهر العسل مباشرة. وإذ ذاك تزول حقبة الحب السعيد بدون أن تترك أثراً. ولئن ظل الزوجان متزوّجين بالرغم من عدم بقاء أي شيء مشترك بينهما، فإن مرد ذلك بوجه عام يرجع إلى الظروف الخارجية من طراز المواصفات الإلزامية أو من السبب المادي أو بسبب الطفل أحياناً. وتسهِم العادة أيضاً في استقرار الزواج: فالزوجان ليسا في الواقع سوى شخصين اعتادا أن يعيشا معاً، ويستمر الزواج بقوة اللامبالاة، وكسل التراخي.
أما الحياة الجنسية في مثل هذا الزواج "الفارغ" -على افتراض استمرارها- فإنها ليست سوى وظيفة جسدية لا علاقة لها بالحب. ومن البيٍّن أن الزواج المبني على الحياة الجنسية وحدها إنما ينتمي، على اختلاف أشكاله، إلى هذا الزواج "الفارغ". وليس لهذه العلاقات سوى حظ ضئيل في الاستقرار. وإذا وُجِد ثمة جاذب جسدي قوي وجدّي، فإنه سرعان ما يُستنزَف ولن يبقى بعده أي شيء. أما إذا وجدنا مثل هذه العلاقة مستمرة، فلابد لنا من أن نفترض، آجلاً أو عاجلاً، ولادة صلات نفسية، ذلك أنه لا اتحاداً مستقراً دائماً على أساس الجنس وحده. وإن ديمومة العلاقة الزوجية هي دائماً دليل على وجود اختيار إيجابي لشخص معين.
وعلى هذا فإن حالات الزواج المبنية على سلوك منحرِف هي أقل ندرة مما يخطر في البال. فثمة حالات يكون الزوجان فيها ينزعان إلى التوازن ويبلغانه إذا كان أحدهما سادياً والآخر مازوخياً. وهناك حالات زواج تعويذية، وأخرى طفولية حيث يستطيع كل طرف فيها الرضوخ لميوله الطفولية في الحياة الصميمية. وثمة حالات زواج بين أفراد من أتباع الجنسية المثلية ....الخ.
أخيراً، فإن السوي في الحياة المنزلية الزوجية هو توازن الزوجين ضمن تطور الـ"نحن" الزوجية. ولابد من الانتباه إلى أن انحراف النماذج المشار إليها هو انحراف يؤثر على علاقة الزوجين، ولا يعني بالضرورة انحرافاً في الشخصية أو سجية كل منهما على انفراد. إنه انحراف الـ"نحن" فإذا وجدنا أن زواج "التصدي" مثلاً يشاد على أساس الحقد، فذلك لا يعني البتة أن كلاً من الزوجين على انفراد ذو طبع حقود، وإنما قد يصير سلوك المرء موصوماً بالحقد من خلال ظروف تطور علاقته بالطرف الآخر. وإنما يصح القول بوجه عام أن الاتحاد الزوجي السوي مزيج هذه النماذج الثلاثة: ونحن نشاهد في الزواج السوي رجحان القوة الغاشمة تارة، ورجحان العطف والحنان تارة أخرى، كما نشاهد بعض "الفراغ" في جوانب هذا الزواج تارة ثالثة.
الفصل الرابع: «ما قبل الزواج»:
لنبدأ في هذا الفصل نظرتنا إلى شؤون ما يسبق الزواج مما يتصل به ويسهم في نجاحه أو إخفاقه. إن لنشأة فردية الطفل وتطورها في الوسط العائلي الذي صدر عنه تأثيراً كبيراً في إمكانات تكيفه مع الوسط الاجتماعي عامة، ومع قرينه في الزواج بوجه خاص. وقد عالج ريند بين «Rend Bain» الأستاذ في جامعة ميامي هذا الموضوع ضمن نقاط سبع أساسية هي: 1-اكتساب عادة السعادة 2-التوازن النفسي والاستعدادات المسبَقَة للقلق 3-الموقف تجاه الجنس 4-تثبيتات الوالدين–الطفل، والطفل–الوالدين 5-الحلقة المفرَغَة 6-مبدأ التشابه 7-تعديل السلوك.
إن الباحثين يتفقون في القول بأن الاستعداد للزواج يتأثر، أكثر ما يتأثر، بخاصَّةِ المستوى العقلي التي ينشأ فيها قرين المستقبل. وبالرغم من الاستثناءات الممكنة عن القاعدة، يمكن الجزم بأن مستقبل الاتحاد الزوجي سيكون ذات يوم أسعد وأكثر استقراراً إذا نشأ القرينان في منزلين يكون فيهما الوالدان سَعيدين ومتفقَين، وإذا أتاحا لأبنائهما أن يترعرعوا في شروط سليمة سوية. وقد درس لويس م. ترمان «Lewis M. Terman» الشروط النفسية للسعادة الزوجية، ووجد أن طائفة من صفات السجايا تعمل على إخفاق الحياة الزوجية وتفككها وهدمها. ومن هذه الصفات نذكر: فرط الحساسية، السجايا الكئيبة، الأمزجة الغضبية، المستأثِر، الشك في الذات، زيف الموقف الديني، الاندفاع المضطرِب إلى الكحول أو الجنس. ونذكر من أفضل الشروط لتحقق اتحاد زوجي سعيد بحسب ترتيب أهميتها: سعادة الوالدين، طفولة سعيدة، الثقة بالوالدين في الشؤون الجنسية.
وبالتالي فالنقطة الأولى التي أشار إليها ريند بين التي تتعلق باكتساب عادة السعادة نراها تتمثل في الفرق بين الطفل البائس والطفل السعيد، حيث أن هذا الأخير قد "اعتاد" السعادة. وهذه العادة مكسب سيحمله إلى بيته القادم، أو إلى زواجه المقبِل، مثلما يحمِل سائر أشكال السلوك الاجتماعي.
أما العناصر التي تتيح للكائن الصغير أن يتطور بالاتجاه نحو هذا النمط من الفردية "السعيدة"، إنما هي بالدرجة الأولى المحيط الأُسَري، فهو وإن يشعر بيد حازمة من فوقه، ولكن بدون قسوة مسرِفة، والوالدان يوفران له حياة رخاء وسرور، يصحبانه في رحلات، ويسمحان له بدعوة رفاقه وبقبول دعوتهم وزيارتهم. ومثل هذين الوالدين لا يزعمان أن من الواجب "رؤية الأطفال دون سماعهم" وإنما يهتمان بما يهتم به طفلهما ويعاملانه ويحدّثانه كما لو كان شخصاً مسؤولاً.
ومن الأهمية بمكان إدراك أن البشر الأسوياء المتزنين الجيدي التكيف على الصعيد الاجتماعي يتميزون بالأنس والبشاشة والضحك في أغلب الأحيان. ومن المعلوم أن الضحك أبسط وسيلة، وأقربها، وأكثرها سروراً، للقضاء على التوتر. وأن روح الدعابة وتقدير الفكاهة نتيجتا عادة مكتسبة مثل عادات السلوك وسهولة التعبير وما شابه ذلك.
وهنا نرى النقطة الثانية التي تتعلق بالتوازن النفسي والاستعدادات المسبقة للقلق فنراها تتمثل في خوف الطفل الذي قد يتطور لدى الراشد إلى حال خوف مَرَضيّ، أي أنه قد يستمر في شكل قلق موصول، واشتداد عصبي، وسلوك عصابي.
ولا مناص من أن يَظْهَر، إلى جانب الرهبة المعقولة السوية، سلوك يصبح مألوفاً تجاه الأوضاع التي تبعث الخوف. إن على الطفل أن يعرِف عندئذ السبيل للتغلب على الوضع والسيطرة عليه.
من المعقول أن يخاف المرء من المرض الوبائي أو من اجتياز تقاطع طُرُق خطِر. ولكننا إذا أوحينا للطفل بخطر جد كبير، ومن ثم بالخوف، إما من الجراثيم أو من خطر السيارات، أحدثنا شللاً يجعله يعجز عن المبادرة بأي عمل، والأمر عندئذ يصبح اضطراباً نفسياً. وهكذا ينشأ خوف الطفل من أن رغبته في اجتياز تقاطع الطرق قد "جمّدتها" معرفته أن سيارة قد تسحقه. فهو إذن يرتكس ارتكاساً "انفعالياً". أما إذا كانت حياته النفسية متزنة فإنه سيجتاز تقاطع الطرق بحذر وبدون أن يسيطر عليه وسواس فكرة ثابتة بأنه قد يموت أو يُشَوّه.
ومن الأشكال الذائعة لفقدان التوازن الانفعالي ما يُسَمّى "ما فوق التعويض"، وهو يدفع المرء إلى محاولة إقناع نفسه أو إقناع الآخرين بأنه في الواقع على خلاف ما يبدو.
ومن المألوف أن "ما فوق التعويض" سلوك ينجم عن عُقَد النقص المتصلة بخوف لا يضبطه العقل من أن يكون المرء غير سوي أو أن يكون أدنى من الآخرين.
والفرد الذي لا يسلك سلوك "ما فوق التعويض" فإنه أحياناً قد يتعرض إلى سلوك "ما دون التعويض"، أي سلوك الفرار من الواقع ومن الحياة الاجتماعية واللجوء إلى الاعتصام بالحُلْم والتخيل أو إلى الارتياب بالذات أو الرأفة بالنفس أو سائر أشكال التواري والانطواء.
أما النقطة الرابعة التي تتمثل بالموقف تجاه الجنس فنراها تتمثل فيما إذا وجب على الطفل أن يطوّر سجيته الأساسية حتى يصبح في المستقبل عاشقاً وزوجاً وأباً، فلا بد له من أن يلقى في المنطلق التكوين الضروري ليستطيع حل المشكلات المطروحة على الصعيد العاطفي الانفعالي حلاً متزناً وأقرب إلى الواقع.
ولابد من تربية الطفل على ملاحظة المودة الماثلة بين الوالدين وفهمها والمشاركة فيها، وعلى الوالدين أن يعلِّمَا الحب بالقدوة.
وأما النقطة الخامسة التي تتعلق في تثبيتات الوالدين–الطفل، وتثبيتات الطفل–الوالدين. فإن مفهوم التثبيت يدل بوجه عام على تركيز الانتباه والعواطف على موضوع، أو على فعل، أو على شخص: تركيز يجري طوال فترة نمو لا يخضع للعقل وإنما يجري بنوع من حركة تؤثر تأثير قوة قاهرة غير مفهومة في أغلب الأحيان. فإذا استسلم المرء لذلك أصبح وكأنه أسير هذه القوة الخارجية التي قد تتحول إلى وسواس.
إن علاقة تثبيت الوالدين بالطفل، والطفل بالوالدين قد تكون من النوع الايجابي، أو النوع السلبي، أو النوع المبهَم. وعلينا ألا ننسى أن أي تثبيت يتصل دائماً بالشخصية غير السوية، ففي تثبيت الوالدين–الطفل، قد تكون حياتهما الانفعالية سيئة التوازن وهما يقومان بأعمال إرغامية غير مفهومة، ويسلكان سلوكاً غير سوي. وإن الطفل المنكوب بمثل هذين الوالدين سيرتكس بنمو تثبيت قد يكون إيجابياً (حب مسرف، نقل، تعلق) أو سلبياً (حقد، انخلاع، مقاومة، احتقار) أو مبهماً (حب–حقد).
ومن الظاهر أن تثبيت الوالدين–الطفل يحدث عندما يسود جو من الخصام وعدم الفهم المتبادَل بين الوالدين. ولذا فإن التثبيت نحو الطفل أكثر ذيوعاً لدى الأم منه لدى الأب.
إن تثبيت الوالدين–الطفل يدل على اضطراب في تطور شخصية الآباء، وهذا الاضطراب يرجع في العادة إلى فترة طفولتهم.
إن الأم بفكرها المضطرب وغير السوي، تخشى على الدوام أن يتعرض الابن لحادث، ولا تطيق غيابه، وترى أن من الواجب أن يكون على مقربة منها: وهي التي تقرر بكل شأن يتصل به، وعندما يكبر نجدها تتألم من رؤيته يذهب إلى المدرسة. وفيما بعد، تشعر ببؤس عميق عندما يحبّ ويريد أن يتزوج، فتسعى بجميع الوسائل لهدم هذه المشاريع الغرامية. فإذا قاومها وتزوج أصبحت حماة تتدخل في كل شيء، وتكره كنتها، ولو بدون شعور في الغالب. ومثل هذه المرأة قد تحضّ ابنها على كره أبيه، وعلى أن يخشى النساء ويفر منهن استثنائها هي. إنها تقيد ابنها، وقد تجيز له أن يعقد بعض الصداقات مع الرجال، ولكنها تغار منها الواقع. وعندما تنجح في إبعاد ابنها عن النساء من حوله تساعد بذلك على خلق جنسية مثلية قادمة لديه، وهذه هي العلاقة العاطفية الوحيدة الممكنة، ومن اليسير تصور النتائج التي تترتب على تثبيت الأم–البنت، أو الأب–البنت، أو الأم–الابن، سواء كانت النتائج ايجابية أم سلبية.
إن الأطفال الصغار لا يملكون وسائل دفاع كثيرة ضد هذا الشكل من الحب الوالدي الحصري. إن الصبي الصغير الملمح إلى حالته يتعرض لخطر أن يظل طفلاً طوال حياته كلها. وقد يعجز عن التحلي بفردية مستقلة حرة قادرة على تصور المشكلات والأوضاع التي تقابله في الحياة وربما أصبح رجلاً مخنثاً يتعلق تفكيره بتفكير أمه، وهو عاجز عن تركها فلا يكاد يدرس ولا يختار مهنة ولا يتزوج.
وهنالك أيضاً الوالدان اللذان لم يستطيعا تحقيق المثَل الأعلى الذي كانا يصبوان إليه في حياتهما، فيسعيان إلى تحقيقه من خلال أبنائهما ويُطْلَق على هذا المسعى اسم "الإضفاء".
أما فيما يتعلق بالنقطة الخامسة وهي ما ندعوه بالحلقة المفرَغَة. فهذه العبارة تدل هنا على سلوك سيئ التكيف يزداد سوءاً على مر الأيام أو أنه يظهر في أجيال متعاقبة. فمثلاً كلما أساء الطفل لأمه زاد شعوره بالإثم، وزاد في معاقبة ذاته بذاته ومعاقبة الأم من خلال معاقبته نفسه بصورة أقسى.
إذن الحلقة المفرغة هي عادة سلوك مؤسفة. وهي تولد وتنمو لأن فرداً يسعى لإرضاء رغبة جامحة، وتخطي اشتداد، وحل مشكلة حيوية. وهذه الحلقة غير مجدية ولا مفيدة مادامت لا تسمح البتة ببلوغ الهدف المرموق. وكلما اتجه الفرد نحو هذه الوسيلة أحدثت لديه مزيداً من الضغط الذي سيمسي آلياً. وإنما تولد الحلقة المفرغة من سبب خارجي دوماً، وهذا السبب اجتماعي في الغالب أكثر منه بيولوجي.
فمثلاً من الممكن أن يكون إسراف الطفل في الاستمناء نتيجة فضول جنسي غير راض. وربما يكون الطفل قد لاحظ لدى والديه، أو لدى أصدقائه، موقفاً غير سليم في مجال الحياة الجنسية. وقد يكون صادف عوائق في محاولاته الأولى الرامية لإرضاء ميول المغامرة والتهيج والاستحسان والعطف. وعندما لا يقدر على تفريغ حاجته إلى النشاط وموازنتها قد تتركز هذه الحاجة حول شخصه ذاته وعندئذ سيفضل أن يلعب بذاته أكثر من اللعب بأشياء أخرى أو بأشخاص آخرين وسيعوّض بذلك تخليه عن الواقع.
أما الحلقة المفرغة التي تقع على صعيد الأجيال المتعاقبة فإنها قد تتجلى في صورة تناوب أو تكرار.
أما الخلاص من أسر الحلقة المفرغة وكسر سداها فإنه يوجب على الفرد المعني أن يكون قادراً على تنمية شخصيته على نحو لا تحاكي فيه أنموذج الوالدين ولا تمضي إلى اعتناق ارتكاس عنيف عليه. والأمر ممكن مادام الفرد يستطيع أن يتعلم إعادة التكيف بفضل تجاربه وثقافته والأساتذة الأكفاء والأصدقاء الأوفياء والدراسات العلمية، ..الخ. وجميع هذه العوامل قد تسهم في كسر الحلقة المفرغة كلما استطاعت شد أزر التكيف الاجتماعي.
أما النقطة السادسة والتي ندعوها مبدأ التشابه، وهو الزعم القائل بأن الضدين يتجاذبان: فالرجال الطوال القامة يتزوجون نسوة قصيرات، والأذكياء المتفوقون يفضلون الزواج من المرأة الأبسط بل الحمقاء. ولكن هذا في الواقع لا يستند إلى أي أساس، بل العكس أقرب إلى الحقيقة، فالزواج السعيد يتطلب حداً أدنى من التشابه الفردي والثقافي.
وبوجه عام، يبدو مبدأ التشابه صحيحاً بالنسبة للأفراد الأسوياء، وبالرغم من ذلك فإنه ليس بمبدأ مطلق. وإن اختيار القرين الزوجي يتحدد عامة بالوسط، وبالعلاقات بهذا القرين.
وأخيراً، نصل إلى النقطة السابعة وتدعى تعديل السلوك، يقول المؤلف أن في وسع المرء أن يتصرف بإمكانات تفوق ما يتصرف به جيل بأسره، ولكن قلة من الأفراد هم الذين يدنون في الواقع من حدود الممكن.
أخيراً تبقى بعض الإشارات التي يلمح إليها المؤلف في شأن اختيار الأزواج لبعضهم بعضاً، فمثلاً سرعة المواصلات ويسرها في الوقت الحاضر لا تؤثران تأثيراً مباشراً على اختيار الشريك الزوجي الذي يقتصر بالدرجة الأولى على الوسط الاجتماعي في المحلة أو الجوار حيث يعرف السكان بعضهم بعضاً، وحيث يلتقون ويتبادلون المعرفة والعواطف. وقد دلّت بعض الإحصاءات على أن أكثر من ثلثي حالات الزواج قد تم اختيار الشريك فيها من المجمعات السكنية المجاورة.
كما أن أسعد الزوجين هما اللذان حظيا بطفولة سعيدة وأن احتمالات المجازفة التي تلازم كل اتحاد زوجي تتضاءل عندما يتعلم المرء الانتباه عند اختيار القرين إلى معرفة هل عاش هذا القرين القادم طفولة سعيدة وهَبَته من ثم شخصية متوازنة؟ إن تشابه القاع الأسري لزوجي المستقبل ييسر سعادتهما الزوجية القادمة، كما دلت الدراسات على أن القاع الأسري للزوج أكثر أهمية من القاع الأسري للزوجة، وأن الأفراد الذين قضوا طفولتهم ومراهقتهم في الريف يتكيفون في الزواج تكيفاً أفضل من تكيف أبناء المدن.
كما تعظم فرص السعادة الزوجية إذا كان الزوجان من سن واحدة، أو كان الزوج يكبر زوجته بسنتين أو ثلاث سنوات. ولكن من الحق القول أن للتأثيرات الثقافية والاجتماعية دوراً كبيراً. وقد درج الناس على اعتبار أن على الزوج أن يكبر زوجته بعدد من السنين حده الأقصى عشر سنوات. وكذلك فإن المستوى الثقافي عامل من عوامل التكيف الزوجي.
وصفوة القول، إن الإقدام على الزواج قد يمضي على نحوين: نحو التشاكل أو التماثل، ونحو الاختيار المتكيف.
الفصل الخامس: «اللازواج»:
إن فصل الحب عن الزواج لا يقضي على المشاعر والدوافع الجنسية بل لعله يضرمها، أو هو على الأقل يحمل على تلبيتها خارج الزواج فيما يسمى اليوم الزواج الحر، أو الحب الحر، أو الاتحاد الحر، وهو بوجه من أوجه الاعتبار، نوع من زواج مضاد، أو لا زواج، قوامه صلات الجنس والمعاشرة اللاشرعية في شكل مساكنة موقوتة أو في شكل بغاء.
إن تحليل العلاقات في الزواج وفي الاتحاد الحر يكشف النقاب عن بعض شبه أو بعض سمات مشتركة بينهما، ولاسيما الثقة المتبادلة والاعتياد. إن الثقة في شخص تعني أن المرء يشعر عند حضوره بطمأنينة تجعله يستسلم له بكل أمان. وهذه الثقة تتضمن في الوقت ذاته ثباتاً واعتياداً. وإذ يتبادل الطرفان الثقة ويمارسان حياة مشتركة يخلقان سلوكاً جمعياً هو سلوك "نحن" الزوجية بدون أن تكون زوجية شرعية.
إن الاتحاد الحر قد يكون سرياً أو علنياً. الاتحاد الحر السري يعتمد لعبة التواري عن المجتمع، وهذه الممارسة تصبح عادة قد تقود بيسر أعظم إلى خيانة الطرف الآخر.
إن الاتحاد الحر، أو الحب الحر، قد يكون ارتكاساً عابراً أو عميقاً على أوضاع الزواج الشرعي أو الرسمي الراهنة في بعض المجتمعات، ولكنه بلا ريب نتيجة تطور تاريخي مديد كان يواكب نمو مؤسسة الزواج وتكاملها عبر العصور.
أما فيما يتعلق بالبغاء ففي أوائل العهود التاريخية كان مرتبطاً بالعبادة وقد كان الشغل الشاغل لزوجة الآلهة في نظر بعض شعوب إفريقية الغربية.
وعندما نقترب من العصور الحديثة نجد إباحية الأعراف الأخلاقية قبل الثورة الفرنسية وبعدها تسهم في انتشار البغاء، وقد تحدَّث عنه أدباء كثيرون ومنهم بلزاك. وأيدت الروح الرأسمالية ذلك الانتشار وهي تنزع إلى تحديد ثمن لكل شيء، واعتبرت مفاتن المرأة سلعة. ولا يندر اليوم أن تختفي مومسات كثيرات وراء مسوح عاملات أو موظفات في شكل سكرتيرة، أو فنانة، أو مربية، أو عارضة أزياء، أو خادمة مقهى، أو غانية ملهى.
والحق أنه من الممكن أن نلاحظ ظاهرة جلية في البلدان المتمدّنة اليوم: فإما أن يزداد البغاء عند ازدهار الاقتصاد –لأن رجال الأعمال يشجعون ممارسته عندئذ– وإما أن تعصف الأزمات الاقتصادية فيدفع العَوَز عدداً من النساء إلى البغاء، فيزداد أيضاً.
ولكن مهنة البغاء تبدو في زعم أنصارها المعاصرين "عملاً" أو "خدمة" مثل خدمات صبغ الأظافر أو الحلاقة أو خدمة الوصيفة في البيت. وهذه "الخدمة" تُعلّم الشاب وتطلعه على ما يود تعلمه، وتزيل التوتر عن الجندي أو البحار أو المسافر، وتعزي عند الاقتضاء من أخفق في الزواج أو الأعزب الذي لم يتزوج.
وصفوة القول، إن اللازواج الماثل في ممارسة البغاء داء اجتماعي أخلاقي وبيل يُجمع الناس الأسوياء خُلُقياً على نبذه في مختلف الحضارات.
الفصل السادس: «ما بعد الزواج»:
يشير المؤلف إلى أن الأصل في الزواج رجاء دوامه العمر كله، عمر الزوجين الوفيين. ولكن هذا الرجاء قد يخيب إذا ما انحل الزواج بخيانة أحدهما أو كليهما، أو انحل بالفراق والطلاق، بسائق الخيانة الزوجية أو بعض من الأسباب الأخرى.
ومن هذه الأسباب الأخرى التي تلعب دوراً أساسياً في الطلاق يذكر أنه مما يُعتَرَف به لدى الشعوب أنه أحياناً للزوجة أن تطلب الطلاق في حال عجز الزوج، كما أن للزوجة في بعض الشعوب حق في الطلاق من الزواج غير المخلِص. كما أن المؤلف يشير إلى أسباب أخرى للطلاق معتَرَف بها في الحضارات القديمة ما قبل المدنية من أهمها أن للزوجة حق في الطلاق إذا كان زوجها مهمِلاً أو كسولاً أو مريضاً أو طال غيابه عن البيت أو كانت تشمئز منه أو إذا أدمن الخمر أو أساء السلوك، فتطرده من البيت وتستولي على جميع أمواله ومتاعه.
ثم يستعرِض المؤلف تاريخ الطلاق في المجتمعات القديمة التي تدور معظمها حول الخيانة الزوجية. ثم ينتقل إلى المجتمعات المعاصرة فيجِد أن جدل الأمانة–الخيانة يوضّح كيف يكون سلوك أحد الزوجين سبباً، أو من أسباب، خيانة الآخر. فقد تحدث الخيانة لدوافع نفسية واجتماعية، لا دوافع جسدية خالصة. ومن ذلك مثلاً ما تخلفه ذكريات الطفولة وأنماط التربية ومعطيات الثقافة الذائعة في الأوساط الاجتماعية في نفس الزوجين بعد تجاوزهما سن الطفولة والمراهقة، حيثما كانت الحياة الجنسية "محظورة"، وكان "الحب" لغزاً وسراً. ومن الجلي أن الممنوع مرغوب، وأن المرء ذكراً أو أنثى، يتوق لتذوق الثمرة الممنوعة من الناحية النفسية بسائق جاذبية الممنوع.
وهكذا يجد المؤلِّف أن الخيانة الزوجية تنم في الحالين -أي من ناحية الزوج أو الزوجة– عن وجود أزمة خطرة في الجماعة الزوجية. وإن فهم الأسباب والدوافع يُسهِم في مزيد من احتمالات العفو عن الزلّة والصفح، وكذلك اعتراف كل من الزوجين بأن له ضلعاً مقصوداً أو غير مقصود في الدفع إلى الخيانة، على نحو مباشر أو غير مباشر.
كما يذكر المؤلِّف أن لاختلاف أفكار الذكور عن الإناث في مجالي الجنس والحب تأثيراً قوياً على العلاقة الزوجية، ومن ثم، على استمرارها أو انفصامها. ذلك أن الفتاة، على عكس الفتى، ترفض بادئ ذي بدء العمل الجنسي بسائق أنها لا تعنى بأكثر مما يتصل بالغزل، كما أنها لا تزال تخشى، بالرغم من التقنية الحديثة، حصول حمل غير مرغوب به. وإن مقاومتها التماس الجسدي أكبر من مقاومة الشريك، وأفكارها تتركز أول ما تتركز على الزواج والأسرة وهي تغذي في نفسها حلم الحب العظيم الدائم.
الباب الثالث: «إشكالية الأخلاق الأسرية»:
الفصل الأول: «أخلاق الأسرة»:
يجد الكاتب أن الأسرة «ارتباط موقوت يحلّه الموت على حين غرة»، وأنه «لا سعادة إلا في الأسرة». و«إذا وُجِدَ على الأرض فرحٌ حقيقي، فإنه فرح الأسرة المنتظَمَة يشدّ الواجب أعضاءها بعضهم إلى بعض».
الأسرة، أولاً، تنظّم الغريزة الجنسية. ذلك أن البشر شأنهم شأن سائر الأحياء يميلون غريزياً إلى ما يكفل استمرار نوعهم، ولكن البشر يتميزون عن سائر الأحياء بشعور تأملي تصطبغ بصبغته غريزتهم الجنسية التناسلية، وهذا الشعور وليد إضفاء الصبغة الاجتماعية على تلك الغريزة في صورة الحب، وهذه الصورة تجعل البشر يميلون إلى الجنس الآخر من نوعهم بأكثر مما تفعل العجماوات. وقد أوغلت وسائل الإعلام الجماهيري في العصر الحاضر بإيلاء الغريزة الجنسية أهمية مسرِفَة. ولذا غدت هذه الغريزة ينبوع طائفة كبرى من الانحرافات والشذوذ والاضطرابات الأخلاقية بل ومن الجرائم. ويبقى السلوك السوي المشروع لإرضاء الغريزة الجنسية هو السلوك النظامي الماثل في الزواج، فالزواج هو تنظيم الحب. ومن شأنه أن يحقق هدف الغريزة الطبيعي ويكفل استمرار النوع البشري على نحو جدير بكرامة الإنسان ذكراً أو أنثى على قدر سواء.
وبفضل الزواج ترقى علاقة الزوجين أخلاقياً بما يشبه روحانية يضفيانها على صلات المودة الحميمة التي تربط أحدهما بالآخر وتشدّه إلى صاحبه وتكون في الحال السوية ينبوع مشاركة فكرية ومشاركة عاطفية ومشاركة اجتماعية تبدأ بإنجاب الأطفال كثمرة لهذا الاتصال. أما هدف الاستمتاع البهيمي المحض، وفصل الجنس عن الإنسال فإنما يغدوان لدى الفجرة بديلين ناقصين عن الأسرة السوية.
إن الأسرة ينبوع واجبات محبوبة. بها يرقى الإنسان فوق أثرته ويمضي بحياته شطر هدف آخر أوسع من ذاتيته، وفي الأسرة تتمثل غاية من غايات الحياة الأخلاقية إذ يسهم المرء بتنمية وجوده حين يتصدى للاضطلاع بمسؤولياتها الجسام.
ليس للابن الأكبر في الأسرة الديمقراطية الراهنة أن يقول: أنا الأكبر، إذن أنا الأفضل. بل الأمر على العكس، إن على الابن الأكبر أن يضع قوته ومعرفته وقدرته في خدمة الأصغر. والأخت الكبيرة تميل في العادة إلى ذلك بسائق غريزة الأمومة.
وبالتالي فإن تنظيم الغريزة الجنسية والتناسلية إنما يتم في المجتمعات المتحضرة في هذا النمط المشروع من الأسرة الزوجية وحسب، وبالزواج تَبْعَ العرف المألوف يجد الشاب والشابة سعادتهما المشتركة وتحمي أسرتهما الفضيلة، وتبقي على مطلب الخير.
وقلَّ من ينجو من الأثَرَة والحقد أولئك الذين يمتنعون بإرادتهم عن الزواج بدون عائق قاهر سواء أكان العائق مادياً أم بدنياً أم اجتماعياً، كما يُعْرَف عن العوانس من النسوة بل ومن الرجال إن صح إطلاق القول.
إن الأسرة الزوجية ينبوع المُتَع، بل وأقواها، فيها يتيقظ أول تعاطف نحو من يحبّ المرء أن يربط به حياته ومصيره، وهي شعلة تبعث الدفء والنور. وتبدأ الحياة الزوجية بتخيُّل صورة مشرقة عن مستقبل مشرِق بل مبهِر. وهذا المستقبل يتجلّى شيئاً بعد شيء كلما استطاعت "نحن" أن تحلّ محل "الأنا" لدى كل من الزوجين. وقد تتعرض حياة الزوجين الشابين إلى صدمة الرتابة أو الجمود في أَثَرة ثنائية ما لم يسارع الأطفال إلى عمران البيت الزوجي وإضفاء البهجة على المنزل ببكائهما السعيد.
كما تنشأ في الحياة الزوجية على مر الأيام عاطفة عميقة من التقدير المتبادل والعطف الرؤوم، أي الاستعداد اللازب لإرادة خير القرين، وهذا هو الإحسان في الزواج. وهذا الإحسان العطوف الودود يمثل في الحرص على سرور الآخر بنسيان الذات في سبيله.
الفصل الثاني: «بنية الأسرة المعاصرة»:
في دراسة الكاتب لبنية الأسرة المعاصرة يجد أن لها وظيفة طبيعية، بما يتصل بالوظائف البيولوجية كحماية الوالدين صغارهما وتربيتهما لهم مع مراعاة تقسيم عمل جنسي جلي إلى حد كبير أو صغير. ولكن هذا الإطار البيولوجي يتحقق في إطار اجتماعية الإنسان. وفي إطاره الاجتماعي ينتج أن للأسرة وظيفة اقتصادية بمعنى أن الأسرة هي على الدوام، وإلى حد كبير أو صغير، مركز إنتاج واستهلاك ودوران ثروة. ثم إن للأسرة وظيفة أخلاقية أو روحية.
أما في المعنى "الفلسفي" للأسرة، فيستعرِض الكاتب أولاً، تيار النظريات الميتافيزيائية البنيوية، والتيار الثاني الذي يضم نظريات فلسفية قوامها اعتبار الأسرة حادثاً فرضياً طارئاً، وهي بجملتها أساس المذاهب الفوضوية على اختلاف مشاربها. والتيار الثالث الذي يتجلى في مذهب هيجل وفي سلالته الماركسية أكثر ما يتجلى، وهو تيار يضم مذاهب تاريخية جدلية. والحق أن نظرية هيجل عن الأسرة ووظيفتها تستند إلى الثنائي الجدلي الأساسي، ثنائي الطبيعة والروح. وعنده أن الكيان الأسري الذي يتألف بتجاوز التعارض الجدلي للجنسين هو مرحلة أساسية في نشأة "الروح" الموضوعي. وما أن يعطي الزوجان كل منهما نفسه لقرينه حتى يتبادلا الاعتراف بسمو العلاقات الجنسية الطبيعية وتطلعها إلى تحديداتها الروحية.
وأخيراً، التيار الرابع وهو يضم مفكرين مؤمنين بالمسيحية من أمثال غابرييل مارسيل وجان لاكروا ويغلب في اتجاههم اتباع منحى تعايش الطبيعة والروح في حركة الإرادة المريدة. وهم يمضون في الاعتقاد بأن الفكر الديني عندما ينتقل من مفهوم المؤسسة إلى مفهوم السر المقدس إنما يفتح الطبيعة على آفاق النعمة.
الفصل الثالث: «تهافت الأسرة»:
يرى الكاتب تهافت الأسرة الراهن من خلال ما يسميه الأستاذ جورج باستيد جانب الانحلال الوظيفي وجانب تلف العواطف ثم جانب انشطار الأسرة أو تمزقها.
إن تهافت الأسرة الغربية حالياً يرجع أول ما يرجع إلى فقدان توازن الوظائف التي كان ينبغي أن تعمل متآزرة في الجماعة الأسرية. وغير خافٍ أن الأسرة البشرية تنفرد عن سائر الجماعات الاجتماعية بأنها تضم مباشرة العوامل الرئيسية التي تؤلف الشرط الثلاثي لكل حياة اجتماعية بشرية: الطبيعة، والثقافة، والروح. فعلى صعيد الطبيعة، تمتح الأسرة من الاتصال بالحياة الجنسية وباستمرار النوع. وعلى صعيد الثقافة نجد أن السلوك التعاقدي هو السلوك الذي يتمتع بالأهمية الأعظم في نظر المؤسسات الاجتماعية الراهنة وتعاليمها الأخلاقية. وأخيراً الناحية الروحية والتي نجد أن إهمالها في مضمار الأسرة يقود إلى قلب نظامها الأخلاقي المتعالي ويسبّب انحدار الحياة الأخلاقية إلى مستوى يتاخم الطبيعة والثقافة، يتاخم الطبيعة على نحو يجعل الطبيعة تزيف الثقافة، ويتاخم الثقافة على نحو يجعلها لا تنظر إلى الشخص الآخر في الأسرة إلا نظرة أداتية خالصة. ومن الممكن أن تتجلى هذه الأزمة في صورتي طغيان: طغيان الشبقية الذي يحيط بهالة واسعة الحياة الجنسية المنتشرة حول نواة الأسرة، وطغيان المنفعة الذاتية المادية بكل ما ينطوي عليه من أهواء.
الشبقية طغيان جانب اللذة والمتعة، وانفراده من بين سائر الجوانب الثقافية أو الحضارية الأخرى، طغيانه على كل ما يجيش في نفس المرء ويدفعه شطر الحياة الجنسية النوعية، إن الفكر والتنبؤ والتخيل كل ذلك يتدخل في سلوكه الجنسي ويجعله يستبق تصوره ويضفي عليه مظهر الشبقية بما لا تتحلى به الحياة الجنسية في حال الطبيعة، ومن الجدير بالملاحظة أن الحضارة الراهنة، ولاسيما في المدن العملاقة المعاصرة، مثقلة بأريج شبقية وبائية تغذي بقوتها وتعقدها الأشكال الفنية الأقل اتصافاً بالصفة الروحية.
أما طغيان المنفعة فلا يستند إلى الجانب الثقافي أو الحضاري مثلما تستند الشبقية، وإنما يستند أكثر ما يستند إلى النزعة الطبيعية التي تدعو كل كائن حي للحفاظ على وجوده، وهذه النزعة تمضي إلى الينابيع الثقافية، ولاسيما إلى الينابيع الاقتصادية، وينصبّ فيها، وتبدو عندئذٍ في حلة مذهب منفعي قد يصبح هوى طاغياً.
ومن جهة أخرى فإن كثرة الولادات في الأسرة يُحْدِث اضطراباً شاقاً ولاسيما إذا حمل الأولاد وراثات مثقلة وواكبت ولادتهم قدرة إنتاجية ضئيلة أو قاصرة.
وكذلك يشير الكاتب إلى تنبيه مفاده الاحتراس من وهم خطر حافل بالنتائج المشؤومة، هو وهم الاعتقاد بأن الجاذبية الجنسية البيولوجية هي علامة معصومة تدل على الاتفاق النفسي أو الانسجام بين الأمزجة والطباع.
ثم يعرج الكاتب إلى تعريف القسوة ودورها في تفتيت كيان الأسرة الداخلي الحميم، وعلاقتها بالسادية والمازوخية، والقسوة في العلاقة بين الآباء والأبناء.
وإذا نظرنا أخيراً، في إطار تهافت الأسرة، إلى ما يدعوه الأستاذ باستيد انشطار الأسرة أو تمزقها أمكننا أن نميز ثلاثة جوانب مماثلة في انتصار السلبية وفي الطلاق وإهمال الطفل.
ويصرِّح الكاتب أن الطلاق هو الانحلال الشرعي لعقد الزواج، ولكن طبيعة السلوك التعاقدي الذي تجعله وسيطاًً بين الطبيعة والروح تقودنا إلى أن نهتم به ولا نحط من شأنه في ميدان الأسرة، إن الزواج عقد ولكنه عقد يغتذي من الجانب الأدنى بإحدى القوى الأكثر شدة في الطبيعة، والتي تنفتح نحو الأعلى في الآفاق الميتافيزيائية الأكثر سمواً، بل تنفتح إذا شئنا، على سر الروح ذاتها. لذا نجد أنه إذا جاز ألا يرى كتّاب العدل ورجال الأعمال في الطلاق سوى عملية مماثلة لعملية فسخ شركة مغفلة، فإن الباحث الأخلاقي لا يستطيع الاكتفاء بهذا الرأي.
ومع ذلك، ينبغي الاعتراف بأنه يسوّي أحياناً تسوية سعيدة بعض الأوضاع الجهنمية التي لا تطاق.
ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أن معظم الأطفال الجانحين والقاصرين الفاسدين والشبان غير المتكيفين إنما يصدرون عن أُسَر مفككة بالطلاق أو أنها في طريقها إلى الطلاق. بل إن في وسعنا بدون أن نسرِف في المذهبية الحيوية أن نقول أن الطفل يحمل سلفاً في بدنه، ولحظة ولادته، الطابع النفسي–البيولوجي للشروط الزوجية التي رافقت حمله في رحم أمه.
إن الطفل الذي أهمل والده المنزل يتثبّت عبثاً بأمه، في حين تضاعف هذه الأم بإسراف ظواهر حنوها عليه وتدليلها له وامتلاكها إياه. وينتج عن ذلك إبهام مؤسف هو إبهام تعلُّق وتمرُّد يجعل الطفل عدوانياً لا يطاق.
وصفوة القول، إن الأسرة العضوية التامة تقتضي بالضرورة تسلسل الوظائف التي تحدّدها: وظيفة بيولوجية، ووظيفة اقتصادية، ووظيفة تربوية، ووظيفة روحية. وهذه الوظائف هي المواقف المتتالية في بنية شاقولية لها نواتها الماثلة في جملة الزوجين، وقطبها في توجيه الطفل. فبالطفل، وفي الطفل، يتحقق من جهة أولى الرسوخ في البيولوجي (وهذا لا يحققه الطفل بالتبني)، ومن جهة أخرى الانخراط في الروحي (وهذا لا تعرفه الطفولة المهملة).
الفصل الرابع: «تحديث الأسرة»:
يذكر الكاتب أن التفكير المتعمق في الأسرة على صعيد التحديث الأخلاقي ينطوي بالضرورة، كما لاحظ الأستاذ باستيد على غواية فاتنة تفوق كل غواية في أي مجال آخر، ألا وهي غواية الفكر الرجعي.
ويشير الكاتب إلى أن الجانب الأول من تقدم الأسرة أخلاقياً يبدو، أحسن ما يبدو في التقدم الروحي للعنصر البيولوجي، وهو يشتمل على جانب الحب الأسمى. وجانب تهذيب الغريزة، وجانب تنظيم السكان تنظيماً قيمياً.
والحق، أن من الجائز أن يتصور الفكر أن في الفعل الجنسي حالات، بل بعض لحظات متميزة يحدث فيها التقاء الطبيعة بالروح، وهي تمنح الحب البشري صفة استثنائية. وفي هذه اللحظات تلتقي، كما يقال، قيم الحياة الصميمية التي تنهل من الينبوع الروحي بقيم الإخصاب الناجمة عن الينبوع الحيوي.
ولكن من الحق أيضاً أن الرغبات المتشابكة تبلغ أبعد مما يتصل بالإرضاء الاختباري عندما تسهم في هذا الجانب الكوني من الإخصاب الحيوي. ولذا فإن التقاء قيم الإخصاب الحيوي بقيم الحياة الصميمية الروحية يخلق تركيباً فريداً بين الطبيعة والروح، وكأن الإنسان هو الكائن الوحيد في العالم حيث تأتي موجة الحياة، وهي الموجة الغامضة، فتقدم تدفق موجتها في ضوء الشعور والفرح، شعور وفرح بوعي الذات.
لذا فإن ثمة إمكاناً لتحويل الحياة الجنسية إلى حب، ومن هذا الإمكان تصدر تعابير الحب السامي كلها.
وأخيراً يشير الكاتب إلى دور الحب في الأسرة فله المنزلة الأولى بالضرورة: فهو القوة المحركة في جميع المشاريع الكريمة التي تمثل الأسرة واحداً منها. وغير خافٍ أن هذه القوة السخية ليست بالضرورة مما يخلق بنية عقلية. وهي في أسمى أشكالها الروحية تتطلَّع بشغف إلى المطلق، ولكنها تقع تحت رحمة انزلاقات تحرفها عن هذا الهدف وترجع بها إلى الجمال البيولوجي.
ومن هنا نجد جانب تهذيب الغريزة إلى جانب الحب الأسمى. ذلك أن شيئاً لا يستطيع إيضاح هذه المسيرة الصاعدة مثلما توضحها مفاهيم الالتزام والأمانة في إطار المؤسسة الأسرية.
إن تأسيس منزل ليس مجرد تفتح طبيعة، بل هو التزام تعاقدي فعلي على السراء والضراء، ولا يخضع ذلك لقانون المجتمع وحسب، بل يخضع أيضاً لقانون الوجدان الذي يرى اللاهوتيون أنه متصل بشريعة الله.
وكذلك الحرص على تقدم طفل الإنسان أخلاقياً هو الذي يمكن أن يمنح الأسرة سبب وجودها، أي قيمتها، ومبدأ وحدتها.
ومن الجلي، بالمقابل، أن الأسرة هي الجهاز الوحيد الذي يستطيع أن يكفل الوظيفة التربوية بأفضل أشكالها نجوعاً. والأسرة هي التي تستطيع، والتي ينبغي عليها، أن توفر شروط نماء الشخصية.
ويصل الكاتب إلى ملاحظة مفادها أن الأسرة ما برحت تدافع، وينبغي أن تستمر في الدفاع عن ذاتها ضد الذبذبات الكبرى في العصور الحديثة، وهذا هو حالها في جو الحضارة الغربية الراهنة.
ولعل الاقتصاد الصناعي اقتنص الأفراد ذوي النزعة الفردية المجردة وأبقى عليهم في تجمعات الإنتاج الجمعي الكبرى، ونجم عن ذلك تهديد الأسرة بالانحلال بطريق امتصاصها ضمن جمل أوسع منها فأوسع.
ثم يجد الكاتب نفسه أمام تفتح الأسرة على روح العصرنة فيستعرِض سلطة أبوية لا ترضى إلا بوهم النفوذ الناجم عن رجولة زائلة بحسب الجسد، وهي تريد منح هذا النفوذ الجاد المستعار من سلطة لا تُناقَش، فتبني لهذا الغرض المجتمع الذي لا يتظاهر فيه السلطان الأبوي بظاهر الرأفة والحلم إلا من أجل مزيد من إبقاء الأطفال في حال الوصاية فلا يكبرون أبداً. بل إن هناك أمومة لا تتحرك إلا في سدى إرادة العيش العمياء.
وبالمقابل ثمة سلطة أبوية لا تعمد إلى معارضة القوى الشابة بتصلُّب عدم الفهم بل تقدر على اقتراح تراكيب متوازنة بنتيجة خبرة مكتسبة خلال تجربة طويلة مديدة. وهناك أمومة ملأى بالإخلاص، وهي تتحلى بذكاء مرن ينتهز الفرص المناسبة مثلما تتحلى بحدس رهيف يستشف الحاجات. إنها أمومة تعمل بدون تبجُّح، ولكن بنجوع، وهي تساير ببراعة ظروف الحريات لمزيد من مساعدتها من داخل على الانتصار على ذواتها.
وأخيراً، يصل الكاتب إلى ضرورة الاعتراف بأننا محدودون وبأننا ضعفاء. ولكننا نعرف أن هذا الاعتراف هو الذي تنفتح فيه النفوس على طموح الأبدية الذي يعمرها، ويبلغ ذلك شأواً يجعل الأسرة هي المحل الوحيد في العالم حيث ينتصر الحب على الموت.
وبالتالي فالأسرة هي المحل الممتاز للبقاء، كما أنها أيضاً المدرسة التي لا يستعاض عنها للمعايشة، ولهذا السبب المزدوج نجد أن الخلاص لا يتم بصورة حاسمة إلا في قلب حياة الأسرة الصميمية.
إن الفضيلة الاجتماعية قد تكتفي، بيسر، بالحركات وبالأقوال، تكتفي بظاهر الإخلاص. أما في الأسرة، فلا يمكن أن تنجح إلا الفضيلة الحقيقية، لأن الأقنعة تسقط حتماً أمام من نعيش معهم باستمرار.
المراجع
1) هؤلاء أساتذتي، تأليف: عزت السيد أحمد.
2) براءة القومية العربية من العنصرية والأممية، تأليف: عادل العوا.
3) الوجدان، تأليف: عادل العوا.
4) قراءة في كتاب الوجدان، دراسة: د. بكري علاء الدين.
5) تحديث الأسرة والزواج، تأليف: عادل العوا.
نبيل سلامة
اكتشف سورية
سليم خليل:
رحم الله الدكتور العوا، واسكنه فسيح جناته، فهو من العمالقة الذين رحلوا مبتسمين راضين، وتركوا إرثاً رائعاً ينحني المرء بإجلال وتقدير له. شكرا على هذا الموضوع الرائع
إسبانيا - مدريد
محمد الراضي:
الدكتور الكبير عادل العوا هو فخر لكل العالم أجمع وبصراحة علينا ان نفخر أشد الفخر بأنه أبن سورية البار.الله يرحم ترابه وينور الأمة بأمثاله أمين يا رب العالمين
سورية
وسام:
الله يعطيك العافيه على هذه الجهود الجبارة
palestine
palestine
عمر مهيبل:
رحمك الله أستاذي الجليل و أسكنك جناته الغناء. أشكرك على كل ما قدمته لنا في جامعة دمشق، كما أشكر بالقدر ذاته توأمكم الوفي الدكتور محمد بديع الكسم و كل الأساتذة الآخرين. مع كل أمنيات الحب و السلام لسورية في هذه الايام الحزينة.
د.عمر مهيبل
مؤلف و مترجم من قدامى الطلاب الجزائريين
في قسم الدراسات الفلسفية و الاجتماعية
بجامعة دمشق
الجزائر