من عطر الدمشقة

22 05

بدأ الحوار ككل حوار بين مسافرين متجاورين، عن الأسماء والإنتماءات والمدن التي منها وإليها يسافران. قلت إنني من دمشق. قالت: عجباً، وأنا من دمشق أيضاً. كان في لكنتها شيء غير دمشقي، أو هذا ما خيل إلي. مع ذلك سلَّمتُ أنها «بلدياتي» كما يقول المصريون، وراح كل يختبر انتماء الآخر، في لعبة معلنة، ماكرة؛ ومن جانبي قلت لنفسي إن الفرصة سانحة لاختبار نظريتي في الدمْشَقَة.
كان أولَ وشم دمْشَقَةٍ طبعوه على جبيني قولهم إنني «شأ التوم» حَبّةْ فول وانقسمت. نصفها كنت، وكان أخي التوأم محمد نصفها الثاني. التعبير نفسه، قلت للفتاة، تعبير متدمشقين، أيضاً، كان من عادة أهل دمشق ربط الإنسان بتراثه، منذ ترى عيناه النور، فهل رُبِطتِ أنت مثلما أنا رُبطت؟
ابتسمت الفتاة ولم تجب، فمضيت في الحديث، وأنا أنظر إليها بشيءٍ من الحذر، خشية أن تضيق بي وبكلامي.
هل يرضع الطفل انتماءه إلى المكان مع لبن أمه أم أنه يكتسبه اكتساباً؟
يطنُّ في أذنيّ، سيدتي، نتف من أهزوجات مسجوعة، متوارثة بلحونها، لا يعرف من وضعها، تغنيها الدمشقيات لأبنائهن عند الإرضاع أو الأندأة أو قبل النوم:

متلك ما جابو        ولو انحنوا وشابو

ولو برْطلو الدايات.. ما جابو

متلك ما جبنا              يا آلب الجبنَه

يا خبز بيتِ السلطان        أبيض ما بيعجبنا

 أنتِ سعدي ومسعدي      وانتِ أضيب زمردي

   وانت بالعين مَنْظَرَه        وانت بالقلب سكره

    يجمع شملي وشملك      على ناموسيه مَسكّره

الدمشقياتُ يغنين لبناتهن الرضّعِ أيضاً:
انتي ستي وستْ الكل
من نأدِكْ بربطْ ومن نأدكِ بحلْ
من نأدك بطعمي الجوعان
من نأدك بكسي العريان
ومن نأدك بنادي عيش يا جوعان
انت ستي وست بيتي
وكبرتي وانتشيتي
كان طولك طول الأمحة
صار صوتك ملاة بيتي

انت الحبيبةْ        ما بزوزك غريبِة
بزوزك عندي        لتكوني قريبه
هي بنتي يادلي        وبدها عريس منلي؟
بزوزها لابن السلطان        وبيلاعبها يا دلي

كم كنت أتمنى، قلت، لو كان في صوتي حلاوة لكنت أديتها لك غناء. أما سمعتِها من أمك من قبل سيدتي؟
ابتسمت وقالت: تحدثني عن ماضٍ بعيد. أنا الآن في الثانية والعشرين. نسيت أغنيات أمي. حتى أغنيات اليوم لا أعرفها. لكنني معجبة بما أسمع منك، فهل من مزيد، حتى أتعرف على بعض تراثي؟
قلت: كانت الدمشقية تضع طفلها في الأرجوحة المنصوبة على عجل، وتهزها وتغني:
أوللا يا أوللاني        راح الحج وخلاني
راح الحج عبْلادو      يا ربي لا تنساني
    حطيتو بالمرجوحة        خفت عليه من الشوحة
وهزيلو يا شرشوحه        بركي على صوتك بنام
هزيلو يا سعدية          ستي زينب ورئية
لابسه جبّة خضره        بركي على صوتك بنام

وكانت تغني:
اوللا حته بته      اوللا زرعو الإته
اوللا حَدَبو نَدَبو      اوللا اطشو دَنَبو
اوللا أطّ زْغيرْ

اوللا يسْلَم ابني      اوللا نام يا ابني

قالت الدمشقية الحسناء التي كانت إلى جانبي في مقعد الطائرة: تذكرتُ، كانت أمي تغني لي:
نامي يا بنتي نامي      لادبحلِكْ طير الحمامِ

وأكملتُ لها الأهزوجة:
عينَ الله ما نامتْ
شوهالألوب اللي إلهن يا بنتي؟
إسيتْ وما لانت
وراح عليّ يا بنتي

ذكرتُ الفتاة بمرحلة المكاغاة، وكيف تضع الدمشقيات سباباتهم على أفواه أولادهن ويغنين:
نكغ نكغ نكغولك
لجيب لابني سرّيتين (أي جاريتين)
سرّية بيضا وسرّية شقرا
وجاريه بضفيرتين
نكغ نكغ نكغولك
تعا يا بابا تعالو
وهات جيابْ تلانه
وهات الفستقْ والبندءْ
وهات كعب الغزاله
صباح الخير يا بكَّرْ
يا ايمَعْ على سكَّرْ
ويللي ما بيتصبح بوشك
ييصبح نهارو معكر
صباح الخير طيوره
يخلي لي بنتي هالزغيوره

وصباح الخير كان وكان      وما يَخْلى منكْ المكانْ
وان خلي منك المكانْ      تكوني عامله سيرانْ

يرضع الطفل الدمشقي منذ نعومة أظفاره مفردات لهجته وطرائق معينة في سبك الجمل وصياغتها. هذه الأهازيج والأغاني والهدهدات حليب الدمشقيين، ومن العجب ألاَّ أجد أثراً لها في لكنتكِ سيدتي، كأن هذا الجيل الدمشقي الجديد قد سلك سبلاً واستخدم طرائق أخرى في النُطْق. وقالت: أظنُّ أن جيلي قد تخلى عن مطّةِ اللسان، لا أكثر. لعل طبيعة حياتنا المعاصرة والنبض المتسارع للأحداث، والعقبات التي تعترض الناس، قد ألجأتنا إلى هذا النَزَقِ في الكلام. قلت: أخشى أن يكون المفقود أكثر من مجرد مطة لسان. ما أسمعتُكِ سيدتي من مفردات وجمل ينطوي على عواطف ومشاعر رقيقة وصورة موّارةٍ بالحياة وعلى نماذج من العلاقات في الأسرة الشامية، هي نفسها بعض الدمشقة التي أعرف.
الدمشقة في نظريتي رهافة حس، ورقة، وظرف وملاحة وحسن تخلص وقدرة نامية على التملص، وحرص على الوئام وابتعاد عن الشر والخصام، لكنة سمها أنت مطة لسان، ساعة لك وساعة لربك وساعة ثالثة لعملك وربحك ومكسبك. عشرات بل مئات الصفات، وفيها السلبي، يكتسبها الدمشقي من أهله في بيته ومن لِداته في حارته ومن معلميه في مدرسته ومن شيخه في كاره، ومما يقرأُ ويسمع من أمثال وحِكمٍ وحكايات سائرة وقرادياتٍ وأغنيات وزلاغيط وأقوال قوالين ينتمون إلى شرائح اجتماعية متباينة، ومما يمارس ويفعل اقتداءً بمن يكبره. كل قول أو كل فعل يلتقطه الدمشقي الأصغر سناً من دمشقي أكبر سناً في نظريتي دَمْشَقَة. الدَمْشَقَةُ عندي لا تعترف بانقطاع التواصل بين الأجيال.
نشأت في بيت عربي دمشقي، للباب دأرٌ وسآطه، والسائطْ، أي المفتاح، مصنوعٌ من الحديد وطوله شبر. لعبت في أرض الديار المكشوفة وفي الليوان، ودخلت الآعة وتدحكلت على الطواطي وتشركلت بالسكملات المصدفة، ونوّصت الكاز وتخبأت باليوك وتدفأت بالمنقل، واشتريت للمنقل الفحم والدء، وتمرجحت بالكبك، ثلاجة تلك الأيام، واستمتعتُ بمرأى الختمية والهوى والكولونيا والمكحلة والريحان وتم السمكة والخبيزة والسجادة والبكونيا والارطاسيا والجميل وآه يا أنا والفل والشقيق والورد الجوري والياسمين العراتلي، ونمت في النصاصي وتحت الناموسيات، وأحياناً في الطيارة، أعلى غرف البيت، أو على الأسطوح، يَفصلُه عن أسطوح الجيران جدار كنا نسميه «الطبلة» وكثيراً ما كانت النسوة الدمشقيات في بيتين متجاورين يتحدثن عبرها. خلعت قبقابي في عتبات الغرفة حرصاً على النظافة والطهارة، رأيت الرجال يلبسون الصَبَّ، والنساءَ الألاشين الصوف شُغْلَ اليد. شربتُ الماء من «الشربة» الفخار التي تحفظ برودة الماء، ومن «طاسة الرعبة» المزنرة بآيات كريمة محفورة على معدنها. انهمكت مع المنهمكات في تحريك رائق الكلس لتحلية الزيتون، شاهدتهن يصنعن المكدوس، يحشينه بالجوز والتوم والفليفلة الحمرا ويُغَطّسْنه في قطرميزات الزيت، ويعصرن مية البندورة والمشمش الكلابي للمعقود الممروت، ويفلقن المشمش البلدي للمعقود المفلوق. سمعت الرجال في البيت المشترك يقولون: «يا الله.. دستور.. تستروا يا حريم» في الدخول والخروج. كان العُرْفُ ألا ينكشف النساء على الرجال، فكان الرجل ينبه الجارات اللواتي في صحن الدار. نظامٌ اجتماعي اقتضته ظروف المشاركة في البيت الدمشقي الواحد، وطرائق السلوك التي كانت جارية، ومكارم الأخلاق».
التقطتُ أنفاسي ورنوتُ إلى الصبية الجميلة. كانت تتابعني بفضولٍ، كأنني قادمٌ من زمان ومكان آخرينْ، وحضَّني اهتمامها على المضي في هذا لحوار الذي استأثرتُ به وحدي.
لم تكن أسرتي، سيدتي، بالأسرة التي تنفق نسوتها على «الغندرة». سألَتْ: الغندرة؟ ابتسمتُ ولم أجب. كان عليها من السياق أن تعرف ما هي. قلت: كانت أسرٌ دمشقية أخرى تسخى في شراء مستحضرات التجميل الشعبية التي كانت مألوفة، وموروثة من قديم. كانت الدمشقيات يتحدثن عن «السليماني» وبقيت لا أعرف من أية مواد يحضر حتى كبرت فعرفت أن ذاك المسحوق يصنع من الكلس والزيبق، وكان يستعمل لتنعيم البشرة وتبييضها، بل ولإزالة التغضنات. كان الوجه يطلى بكامله برايق الميه منه، بالتعبير المحلي، وكانت المرأة الدمشقية في حارتنا القيمرية، على سبيل المثال تخضِّب وجنتيها ببودرة حمراء، كيماوية على ما أظن، كانت تشتريها من دكان برو العطار، وكانت تسمي هذه البودرة «الدرور الأحمر» كانت تغمس قطنة أو شاشية بيضاء في هذا الدرور، وتمر بها على وجنتيها، وكانت تتقصد رسم قرصين أحمرين، بل شديدي الحمرة عليهما، مثل القرصين الحمراوين على خديك سيدتي. ومن أعجب ما شاهدته، قلتُ، امرأة من نساء حارتنا كانت تفرك شفتيها بورق الورد الجوري الأحمر، حتى تصبحا حمراوين، وتعلق بهما رائحة ذكية. ولع الدمشقية بتجميل نفسها دمشقة، أعلى مراتب الدمشقة.
كان الكحل من الغندرة الدمشقية، وما كان بيت يخلو من المكاحل الخشبية أو النحاسية. وكانت كل امرأة دمشقية تستعمل ميل المكحلة في تجميل عينيها وتوسيعهما، وربما في تزيين حاجبيها، وكان استخدام الحِنَّة في صبغ الشعر معروفاً ومألوفاً، وكان كيُّ الشعر بالأوكسجين متداولاً، وكان الشعر المكزبر موضة مثلما هو الشعر النافش اليوم، وكانت المرأة تتزين بتثبيت وردة على جانب رأسها، وكان ذلك يسمى «الشكول». الجمال والتجميل والتجمل خصائص حضارية، والدمشقيات حضاريات من هذا الجانب أيضاً، من قبل أن تكون لهذه الخصائص في بلاد بره بيوت ومؤسسات، وحتى اللباس الدمشقي للنساء والرجال، القديم بخاصة، الملاية والشروال والقنباز والأثواب المعرّفة وبالأكمام وبلا أكمام، المخصوَرَة والعريضة تَفَنُّنٌ معروف عن دمشق. فكيف إذا ما تحدثنا عن أقمشتها وأنسجتها: الدامسكو والأغباني والمطرزات والصرمة؟ ذهبنا إلى حمام السوق في زماننا الأول. هل عرفت ما هو حمام السوق سيدتي؟ قالت: سمعتُ عنه وما عرفته. قلت: الحمامات أماكن معدة للاستحمام الجماعي، يدخلها الناس الدمشقيون ويخلعون في البراني ثيابهم، ويلفون حول أجسادهم المناشف، ويدخلون إلى الوسطاني الأكثر حرارة ثم إلى الجواني حيث الماء الساخن يدفق من صنابير إلى أجران، وحيث مصطبة بيت النار التي يلوذ بها طلاب الدفء والمستشفون بالحرارة والتعرق، والنساء النفساوات. ما أظن أن الوصف سيدتي يفي حمام السوق حقه. سألت: هل يدخل الرجال والنساء الحمامات في وقت واحد، كما هي الحال في مسابحنا اليوم؟ ضحكت بل قهقهت. قلت: هذا مما تأباه الأعراف. كان للرجال في الحمامات أوقاتهم، وللنساء أوقاتهن. وكانت الدمشقيات يحملن بقج الثياب الدالة على منازل صاحباتها الاجتماعية بل والطبقية.. البقج المطرزة بخيوط الذهب أحياناً كانت تدل على غنى ويسار حاملاتها، والعادية على فقرهن وإدقاعهن. بعض الأسر كان يحمل طعاماً إلى الحمام: مجدرة ومخلل اللفت (طواحين المخلل كما كانوا يسمونها). صور شعبية عالقة في الذاكرة، أوردتها لخصوصيتها ودلالاتها. النظافة، بل الغلوُّ فيها، دمشقة. وكم من فتى فتَنَهُ مشهد النسوة الدمشقيات وهن يخرجن في الأماسي من الحمامات ببشرات مُوَرَّدَةٍ نظيفة ووجوه محمرة ما كانت المناديل المسدلة تخفيها. كانت البقج تحمل مرات في الأسبوع الواحد، طلباً للنظافة وكان الشبان يتحركشون بالمستحمات الفاتنات في ذهابهن وإيابهن:
يا رايحة عالحمام خديني معاك
لاحمل البقجة وإمشي وراك
وان كان أبوك ما عطاني ياكي
لاعمل عمايل ما عملها عنتر...

كانت الوجوه تحمر على احمرار، وكانت الدمشقيات يسرعن الخطى مترنحات لصدى ذاك الغزل الجميل، وعلى وجوههن ملامح ذاك الخفر الآسر، أليس هذا من بعض الدمشقة؟ أليس صورة لفعل اجتماعي معبر عن طبيعة وخلق وحيوية إنسانية؟
ذهبتُ، قلتُ إلى الخجا والكتّاب، وتعلمتُ منها مبادئ القراءة بطريقة إنشادية جميلة:
[ألف لا شن عليها. يا وحده من تحتها. تاتنتين من فوقها. ثا ثلاثة من فوقها..] ردَّدت وراء شيخ الكُتّاب إنشاديته التي كان لابد منها كل صباح فرسختْ. أسلوب ناجح في التعليم. المتقاعس كان يتلقى ضربة على رأسه من مصطيجة طويلة من القصب. حفظت آيات من القرآن الكريم عن ظهر قلب. كان المصحف الشريف مقسماً إلى عدة أجزاء مطبوعة منفصلة عن بعضها، وكان واحدها يسمى بالعامية الدارجة وقتئذ جزو. هذا جزو عمَّ، وهذا جزو تباركَ. قرأت بعض الأجزاء تجويداً. ارتديت الثوب الأبيض يوم الختمة، أي يوم حفظت القرآن الكريم كاملاً، وطاف أهلي بي في أزقة الحارة ومصلبتها، وكان رفاقي يرددون الأناشيد. قرؤوا المولد النبوي الشريف ودعوا شيخ الكتاب والمدعوين إلى مأدبة عامرة. كان حفل الختمة تكريساً للطفل الدمشقي المجتهد، بما يسبه منح الشهادة للطفل الناجح اليوم، وكان النجاح في أيامنا بطبل وزمر واحتفال وقراءة مولد وتوزيع صرر الملبس. طَلَبُ العلم من بعض ما يضعه الدماشقة نصب أعينهم. الأب يعرى ويجوع ليعلم أولاده. معظم الكارات اندثر لا بسبب بواره وانتشار المكننة فقط، بل لأن الدماشقة آثروا المدرسة على الكار، وأرسلوا أولادهم إليها لا إليه، إيماناً منهم بأن التطور لا يتم إلا بالعلم والتحصيل.
لا تقولي، سيدتي إن الزمن طوى ما طوى. لكل زمان ما يناسبه طبعاً، لكن دمشقياً عاش زمانه لا يستطيع إلا أن يصف لك كيف كانت دِمَشْقُهُ، تقاليدها، عاداتها، أعرافها، أفراحها أتراحها، ناسها، وكيف كانوا يعيشون أيامهم، أستغفر الله، كيف كان يحيون أيامهم.
الدمشقيون شُطّارٌ، وأنت منهم سيدتي تقدَحُ الشطارة في عينيك كالبرق. أهل تجارة وصناعات وكارات. كان لكل كار شيخه. وكانت الأسَرُ الدمشقية، في معظمها تنتمي إلى كارات. كان أهل أمي نشواتية، يصنعون النشاء في قاعات واسعة، ما زلت أذكرها إلى اليوم. البغجاتي كنيةٌ جاءت من الصنعة، أي من كار البغاجة. السمان واللحام والنجار والحفار والبيطار والألجاتي، صانع النسيج، والرتا والكوا والرواس والقزاز والقمرجي، أي مركب البلور باللهجة المحلية القديمة، هَرمٌ صناعي ممتد على كل ما يتصل بالحياة. أخذوا من الآباء والأجداد ووَرَّثوا الأبناء والأحفاد. من الكارات ما طواه التطور والحداثة. ومنها ما بقي شاهداً على عراقة، دالاً عل قدرة أهل المدينة على التلاؤم مع المناسب لكل زمان، يطوون صفحة في تجارة أو صناعة أو زراعة ويفتحون أخرى، كلما رأوا ذلك مناسباً، الدمشقيون طلاب بسط وانشراح وسيارين وصبحيات وأراكيل وعطيس ومضغة وسجائر لف، وعبارات مجاملة لا نظير لها في أية مدينة أو أي شعب في العالم. تقدمين لفافة تبغ وتشعلينها لضيفك، مثلما فعلتِ قبل دقيقة، فيقول لك: «يكفيكِ شرها» أي شرَّ السيجارة، وعليكِ أن تردي: «ما تدوق حرها» أي حرَّ النار.
ضحكت الفتاة وقالت: أكملْ. حدثني عن متدمشقي زمانك، قلتُ بلسان متدمشقي زماني: حاضرْ على راسي وطرة طربوشي.
استعملنا عبارات مجاملةٍ وطرائق في السلوك اندثرت أو أنها في طريقها إلى الاندثار. كان المتدمشق يدعو للغائب: «الله يرد غيبته»، ويقول للمتوضئ: «من زمزم» فيرد هذا: والآيل. أو يقول: «تقبل الله» للمصلي فيجيب: حَرَماً أو جمعاً. وبحجّك وبعرسك، ولمشتهي الانجاب: «الله يطعمك ياهم» ولرب الأسرة: يربوا بدلالك. والله يخليلك هالشمعات.
كان الرجال الدمشقيون لا يسيرون مع زوجاتهم في الطريق، وفي حاراتهم بخاصة، كان الزوج الزكرتي، أي الأبضاي يتقدم زوجه، يمشي مشي الزكرتية «دأة ونأره»، وكانت المرأة لا ترفع صوتها من وراء الباب، وإن رَفَعَتْهُ أُنّبت، وإن كشفت عن وجهها في الطريق زجرها حتى الغريب: «تستري يا حرمه». وكان الصغار لا يمرون بمصلبة الحارة تهيباً من كبارهم، ولا يدخنون، ويبوسون الأيدي، ويطيعون آباءَهم وأمهاتهم. كانت الأم، أي الحماة، ست البيت، لا كنتُها، في بيوت تَسَعُ الأسرة كلها. وكان رأيُها الفيصل. ولو طلبت من ابنها لبنَ العصفور لجلبه. علاقاتٌ هرميةٌ كانت راسخةً في الأسرة الدمشقية، بسبب من عدم استقلال الفرد عن أسرته، لكن الحياة الحديثة بدلت هذه العلاقات، وسرعان ما كيَّفَ الدماشقةُ أنفسهم مع هذا التغيير. وهذا من خصائص الدمشقة.
كانت الدمَشقَةُ تشتطّ بأهلها أحياناً. وكان الشططُ يأتي من خرافات لطيفة، لابد أن لها مبرراتها عند متدمشقي زماننا الأول. كنا لا نعود مريضاً يوم الأربعاء، والدمشقياتُ لا يكنسن بيوتهن إذا سمعن بوفاة حدثت في الحارة، اعتقاداً بأن الكنْسَ يعني التعجيل بموت عزيز مقيم في البيت، وكن لا يغسلن يوم الاثنين، ولا يسفحن ماء ساخناً، إلا إذا قلن: «دستور من خاطركم يا أسياد». والأسياد هم الجان. وكن يتطيرن من المقصات المفتوحة. كل مقص يترك مفتوحاً يتسبب في شجار، ومن الآنية المشعورة والعيون الزرء والسنان الفرء، ومن صوت البومة ونعيب الغراب: «خير يا طير» وكانت الأمهات الدمشقيات يعلقن الشبة والخرزة الزرقا على ثياب أبنائهن خوفً من العين الصيابة. خرافاتٌ اندثر بعضها والآخر في طريقه إلى الاندثار، لكنه كان يدل على نمط من أنماط التفكير عند الأجداد، وكان يدل على حركة في الفكر الشعبي الدمشقي، ذات جذور ضاربة في القدم، وكان يدل، وهذا هو الأهم، على مجتمع يخلق خصوصيته دائماً.
بدا أنَّ من واجبي أن أضع الدمشقية الحسناء في صورة الدمْشَقَةِ التي تتلبسني، حتى تتلبسها، أي تنتقل مني إليها. وأشهد أن الانتقاء كان عسيراً، ماذا أُبدي وماذا أحجب، وكلٌّ يقفز إلى شفتي يريد أن يصل إلى أذنيها.
الدمشقيون قلت، يترجمون فرحهم إلى زلاغيط. عند عودة الغائب من غياب طويل كانوا يفرحون ويزغردون، وأذكر أنه لما أطل خالي بوجهه بعد غياب طويل كيف هتف نساء الأسرة بصوت واحد: أوها، وانفردت أمي فرددت زلغوطة بما يشبه الغناء الابتهالي:
شأشأ العصفور لانفلأ      بين الدوالي والورأ
يا محلا فوتة الغايب      وشو مكلل بالعرأ

وهتفت المزلغطات وراءها: لولوليش، ممطوطة، مغناة، محركة الأفئدة بفرح حقيقي.
كان لكل مناسبة زلاغيطها سيدتي:
اوها
يا حجي حج البيت يلبألك             يللي مسكت شباك النبي تنقل على مهلك
يللي ملايكة السما قامت ونادتلك                      لرش والله ورد الحبأ على دربك

لولولولوليش
وفي يوم ختاننا، أنا وأخي محمد، شأ التوم، أركبونا على حصانين، وكنا نلبس سراكس بيضاء، وكان على رأسينا تاجان من الألماس وطافت بنا العراضة في أزقة الحارة، وكان الهتّاف، كما رأيتِ في التلفزيون، سيدتي، يصيح في سياق أقواله:
زمزم عليها السلام
يا سلام اضرب سلام      على اللي مزنر بالغمام
والغمامة عمته         غمته ما لمته
غمته خوفاً عليه      وعلينا وعليه..

إلى آخره.
ولما وصلنا إلى البيت، وكان المطهر ينتظرنا، زلغطت أمي وخالاتي ونساء الأسرة والمدعوات:
اوها
يا مطهر الزين خفف ايدك شويه      يا مشتل الريحان لا تقسى على بنيّ
كل شبر بندر ربيتو يا عيني            ورشرش ندى الورد حتى تخلص النية

لولولولوليش
اوها
يا مطهر الصبيان ريت العز بدارك      يربو بدلالك ويحمو من العدا جارك
ويتمختروا كل يوم بسيوفهن                  ومن قلبي يهنالك ويهنالك

لولولولوليش
وفي أحد الأعراس أبكتني دمشقيةٌ زلغطت:
اوها
قلت عروس وشدوا لي مخداتي        وطلعت من البيت وما ودعت اخواتي
وطلعت من البيت وما ودعت امي           وأنا الحزينة وسيلوا يا دموعاتي

لولولولوليش
إرث من الأدب الشعبي الشفاهي الدمشقي، يتناقل فيثري الحياة ويلونها ويشدها إلى جذور ، وإلى أصالة. أليست هذه هي الدمشقة؟
كان الفونوغراف، صندوق السمع كما سماه الدمشقيون واحداً من الاختراعات البهيجة التي وصلت إلى دمشق. وضعه طلاب البسط والانشراح في صدور بيوتهم معززاً مكرماً، وصاروا يسعون إلى الكوانات، أي الاسطوانات، كما لو أنهم كانوا يصغون إلى مطرب مجلوب، كالعادة، مع الآلاتية ليغني يا ليل يا عين حتى الصباح. فَتَح الدماشقة بيوتهم، بل حيواتهم، للجديد دائماً، بتحفظ أحياناً لكن التكنولوجيا كانت تجد مكاناً لائقاً لها في دمشق، ولو متأخرة بعض الشيء.
في القهاوي (المقاهي) المنتشرة في شارع بغداد كالمنشية والأزبكية وقهوة ديب الشيخ في القزازين كانت تجذبنا الأصوات المنبعثة من صناديق السمع. كان الغناء وقتئذ باللهجة الدمشقية الخالصة، لا باللهجات الأخرى كما هي حال الغناء اليوم، وكم من مرة استوقفتنا الآلة الحديثة على درابزين القهوة، نصغي إلى كوانة وراء كوانة، تقدم محاورات غنائية دمشقية رائعة من نوع:
عطيني ألبك
مومجبور اعطيكي ألبي ونام مأهور
أو المحاورة الموهوبة التي ما تزال عالقة في أذهننا، بين المنجم والدمشقية الباحثة عن حب الحبيب المبتعد:
ـ أنا منجم العال العال      ويللي بيريد بنجملو
أنا شاطر بضرب الفال        يللي بيريد بحسبلو
ـ ان كنت شاطر يارمال      وبتقدر تطلع هالفال
بعطيك اللي بتريدو         وبقدملك روحي والمال
ـ خلي ضميرك في ألبك      وسلمي امرك لربك..
وانوي علّي بتريديه        وبيضي الفال لاحسبلك

وكان المنجم في الاسطوانة يستحضر الجان من أجل زبونته الدمشقية المحترقة بنار الفراق:
ـ يا شمهورش با ملكان      اجيبوا يا ملوك الجان
وانت يا ملك الأحمر          احضر لهذا المكان
جيبوا فلان ابن فلانة          لعند فلانة بنت فلان
إن كان نايم صحوه          وان كان قاعد جيبوه..

إلى آخره.
جو مدهش من دَمْشًقَةٍ لطيفة في هذا المجال. كان من الدمشقة حب الطرب والفرفشة والمغاني والآلاتية والعراس المطنطنة والسيارين والسيلمات (دور السينما) والراديو والفونوغراف، وجميع هذه «الخيلات» الجديدة الوافدة. الشيء يطرد الشيء ليحل محله. السينما والمسرح طردوا كركوز والحكواتية، الدمشقة حركة موارة بالحياة، فيها ساعة لربك وساعة إلك. ومن الساعات التي للدماشقة كانت ساعات المتل. قالتْ: المثل؟ أي الأمثال: مين أخد امي صار عمي. وطب الجرة على تما البنت بتطلع لاما. قلت: لا.. المْثَلْ غير المَثَل. تشبيهات كان يراد منها الاضحاك والسخرية، وكانت جزءاً من أُلهيات الدمشقيين، وربما الدمشقيات، في سهراتهم. كان كل من المتباريين يستحضر في ذهنه صورة كاريكاتورية للآخر، واستُخدم المثل فيما بعد في كلامنا الدارج وربما إلى اليوم، ولكن على قلة.
فلان مثل الآء علجوزة، مثل الخنفسة بالطاسة، مثل خزوء البحره، مثل الليل عامل عمله. متل حية التبن بتقرص وبتخبي راسها، مثل الحرباية ورجيني بختي.. إلى آخره.
قلت: العبقرية الشعبية في دمشق، وهذا من الدمشقة الراسخة. بلا شك، ابتكرت كليشيهات جاهزة للاستخدام في الكلام اليومي الدارج، مازالت رائجة إلى اليوم.
عليه وش ما بيضحك للرغيف السخن
حاطط ببطنه بطيخه صيفي
حارء الاخضرين
راح بشربة ميه
دافنين الشيخ زنكي سوا
صفاها بالا طنه
نارو ولا جنة غيرو
وشو بيقطع الرزق
ماشي الحيط بالحيط.. الى اخره.

قلت: أليس من الدمشقة أن يرث الدمشقي تلك التعليقات المختزلة التي ابتُكرت لتختصر موقفاً أو مشهداً أو حادثة:
ـ ما في نصيب      للعدول عن خطوبة أو زواج أو عمل
 
ـ انطأطقت مياتو      لمن كان يعمل أو يقيم في مكان وتركه مكرهاً
ـ ألبي مشروح      أي منشرح لما سأقدم عليه
ـ البي عاصص
ـ كعبور مدور      لحامل النحس وناقله
ـ الدنيي مووسعانتو... إلى آخره.
هل علموك الكلام الجاهز سيدتي؟ سألتُ. قالت: قُل. قلت: الصباح رباح. صفر عالشمال. من نفخة بيطير. طالع لخالو. عينو حمره. شمّع الخيط. عايف حالي. ماشي الحال. سايئها عونطة. عم يرجف اصب. يا ايدكم. ما بحب الزاحلة. واصله معو لتسعا وتسعين. سبحانو الخالئ الناطئ. خالط شعبان برمضان، رافع أو شائل مناخيرو. رجلو بالركاب. حلس ملس نجس. بسبع رواح. طء حنك. إلى آخره.
قالت الفتاة: اللغات، وخاصة المحلية، ترتدي أثواب الأزمان التي تكون فيها. زمان دمشقي اليوم غير زمان دمشقي الأمس. الدماشقة، قالت، كانوا يقولون ليكو وليكوكه وشحو وشلونك. ضحكتُ وقلت: كلام دمشقي مشتق من الفصحى. لك الحق، من الدمشقة أن تنسخ ألفاظ جديدة ألفاظاً قديمة. ثوب اللهجات هنا يجدد نفسه كل يوم، دمشق تجدد نفسها كل يوم، سيدتي، وهذه خصيصة رائعة من خصائص الدمشقة.
أليس من الظُرْف أنهم فصلوا اسماً لكل حالة من حالات الطقس؟ الفصل مقسّم إلى مربعانية وخمسينية، ومربعانية الشتاء أربعة سعود: «سعد الدابح ما بيبقى ولا كلب نابح» من شدة البرد. وفي سعد بلع «المطر بتنزل والأرض بتبلع» من شدة تهطال الأمطار، وفي سعد سعود «بتدب الميه أو الماوية بالعود، وبيدفا كل مبرود» ووفي «سعد الخبايا بيفتلوا الصبايا». وشباط بيشبط وبيلبط وروايح الصيف فيه. وخبي فحماتك الكبار لعمك آذار، ومي نيسان بتحيي قلب الإنسان، وبتموز صيف تاني وبرد كوانين والمستأرضات التي غنى الدماشقة لها:
يا ابن عمي يا ابن عمي
ثلاثة منك وأربعة مني      بتخلي العجوز تغني

أوغنوا لشدة بردها:
حوحو يا بردي      أشؤوشة حطب ما عندي
عندي بنت صغيورة      بتدقلي عالطنبورة..

قلت: هل استهوتك نداءات الباعة في دمشق؟ هؤلاء أول المتدمشقين. ظرفهم في نعت بضاعتهم، والظرف جزء من الدمشقة، سيدتي كما اتفقنا.
أكلو شفا هاليقطين
أكلو شفا يا شامي      للتوت الشامي
وأول فواكي الشام يا عوجا للوز، العآبية الخضرا
الله الدايم للخس
ومن هذا النداء بزغ نجم حدّاء دمشقي من حارة قصر حجاج في فني المنولوج والتلحين اسمه عبدالغني الشيخ، كان واحداً من الدماشقة الذين برعوا في هذا الكار:
عمي يا بياع الخس الله الدايم
بياع الخس لمن شافن      وشاف الحمرا على شفافن
ترك الخسات وعافن                  وعمي يا بياع الخس

ـ أسود متل الليل.. للباذنجان
حمرا يا بندوره
مزاوية يا حلوة.. للصبارة
أصابيع البوبو يا خيار
يبرودية يا بطاطا
البزربن.. للزعبوب ومن هذا النداء غنى رفيق السبيعي أو صياح مونولوجه البزربن يا زعبوب.
ـ بلا نسر يا فاصوليه
خاين يا.. للطرخون
والنداء المدهش لليخنا
يخنا واطبخ والجارية بتنفخ      والولد عالباب عميقلع الكلاب

وفي رمضان، الشهر الفضيل، ألم تري وتسمعي إلى باعة الحلقات السكرية الملونة التي تشبه الأساور العريضة: ليلة الله يا ليلة الله. وإلى الباعة الطائفين بالأقفاص القصب المملوءة بالجرادئ: ناعم يا ناعم. وإلى حرامية النهار، كما كانت أمي تسميهم: يللي عندو طقومة اللي عندو تخوته يللي عندو خزانات. مصلحو بوابير الكاز كانوا ينادون ويمطون نداءاتهم. المبيضون، منفضو السجاد. المنجمات.. إلى آخره. ارث من الكلام الدمشقي الجاهز، الدمشقيون ما زالوا يحفظونه خوفاً عليه من الاندثار سيدتي.
من الدمشقة أن نحب دمشقنا. أكان من العصبية أن نحب حاراتنا؟ كنت أفاخر بانتسابي إلى حي القيمرية: أنا ايمراني. وكان لِداتُنا يتفاخرون بانتماءاتهم إل حاراتهم. الشاغوري كان يحب القدم.. وكان أهل كل حارة يساندون ابن الحارة على الغريب. وكم من مرة لبينا نداء النخوة ومضينا مع الايمرانية إلى حارة أخرى أهين فيها ايمراني لنثأر له. كانت تقوم خناقات ومحاجرات بسبب هذه العصبية. لكن الكبار من الدمشقيين ما كانوا على مثل هذا الطبع الحاد. كانوا أهل عقل وروية، وكانوا يعلموننا أن نحب المدينة كلها، البلد كلها، بحاراتها وناسها وأسواقها وأحلامها وكوابيسها وأفراحها وأتراحها، وما لها وما عليها. على هذا نشأنا ودمشق دمْشَقَتْنا عليه.
كانت الأمور تجري في حارتنا وفي الحارات الأخرى كأنها قوانين متوارثة، معروفة ولكن غير مكتوبة. كان الدمشقي يقرع باب البيت ويقول للمرأة الثكلى بموت معيل الأسرة: «خدي طريق يا اختي.. جايبلكن عدل طحين» أو تنكة سمنة أو زيت أو كيس أرز. دون أن يذكر من مرسلها، وكان الرجل في الحارة يحمل كفة ميزان فيها قطعة صابون ويطوف بها على الناس لجمع مال يُدْفَنُ به ميت ليس له من يدفنه، وكان المحسنون يشترون قبوراً لمن يعجز عن شراء قبر. ما كانت تعد أو تحصى أوجه الإحسان في دمشقك سيدتي.
كان فن الدمشقة رفيعة البايه أي الشأن ألا يَخُصَّ الشيء مالكه وحده، وأن يكون للأهل والمعارف والجيران جميعاً. كانت الإعارة تشمل كل ما كان الدماشقة يملكونه. كم من مرة أُرسِلْتُ لأستعير قِدراً أو سُلَّماً أو طست غسيل، كم من امرأة مدعوة إلى عرس استعارت ثياباً أو مصاغاً. فمع أن المثل الدمشقي «العيرة ما بتدفي وان دفّت ما بتدوم» كان رائجاً، إلا أن مصاغَ الجميع كان مشاعاً للجميع في الحارة أو في الأسرة الواحدة.
كم من مرة حملت السكبة إلى الجيران. كانت العادة ألا يعيد أحد طبقاً فارغاً إلى أصحابه، وكانت السكبة جزءاً من طريقة التعامل السائدة. كانت تعبيراً عن عناق البيوت المتعانقة في دمشق. كان كلٌ يشتهي الآخر في أكلة يأكلها، كان يغص إن لم يذقها جاره، وكانت النسوة يتفنن في الطبخ والنفخ. أكلات انقرضت كانت تطبخ لتسكب أيضاً، وكانت الصواني تحمل بأطباقها الشهية، وخاصة في رمضان، من بيت إلى بيت، في السحور والإفطار، وكان فاعل الخير يعيش أسراً بكاملها ولا تعرف يسراه ماذا أعطت يمناه.
رحت أبحث في أعماق ذاكرتي عما يربطني بمدينتي ويربطها هي أيضاً، أعرفه وتجهله على انتمائنا الواحد إلى المكان. حشد من سلوكيات وممارسات وأقوال وأفعال وتراثيات مدينة عظيمة كدمشق أقدم مدينة مأهولة ما تزال في العالم، تَزاحَمَ على شفتي نطَّ السلبي ليجدَ له مكاناً عليهما، لكنني أخمدته. لا يضير مدينة كدمشق أن يكون فيها قلة شعارهم «ربي أسألك نفسي». الكثرة من الدماشقة شعارُها التعاطف واللمة، كما في العراضة الدمشقية، يبدؤون هتّافها بـ: ضبوا عليَّ ضبوا عليَّ.
قلت: هذه ملامح من دمشقتي، سيدتي لكنني لن أنهي حديثي إلا بما يشبه الطرفة.
كنت أحب حكايات ستي وأمي وخالاتي. وما كنت أقبلها إلا مسبوقة بدهليز. دهاليز الحكايا كانت مداخل للحكايات، وكان فيها المختصر:
[بره كان وجوه كان وتختروان وشادروان لحتى كان..]
وكان فيها الطويل المقفى الذي يشبه المقامة، أو لعله الوجه الشعبي للمقامة:
[كنت اعزب، مالي احدب، كان لي آمه شبه الوردة بالبستان، بيعيش الاعزب سلطان. قالت لي امي: لاخطبلك صبية لبية تلبقلك. قلت لها: يا أمي عيفيني بخاف لتجي بنت الناس تأذيني. قالت لي بسلامة دقن أبوك الحاوي عالسبع بساتيني. راحت امي واختي فرحانين. خطبوا من المدة سبع سنين. صار النصيب وكتبنا الكتاب عطيناهم مهلة يتجهزوا سبع سنين. صار النصيب وجبناها ليلة عرسي، طولها طول الكرسي. منّا أذّت نفسي، كنها اجرات الرواسين. قلت لها ناوليني الزبدية عمشئت عالكتبية. طولها طول الكوفية. يا ربي تدقها رزيه يا سامعين قولوا آمين. جايبه معها ستة سبعة، بياكلو متل الضبعة بيقوموا طول الليل جوعانين. اللي خطبوها عميانين ما شافوها؟ يا حوينة النص بيشلي وأبو الستين فيها، من يوم من ذات الأيام لحتى كان...]
قلت: اعتبري حديثنا الطائر هذا دهليزاً للحكاية عن دمشق، التي ما بقي وقتٌ لأقصها عليك سيدتي.
قالت، وكأنها تًشَمَّرت للقول: تحدثتَ عن دمشقَ انطوتْ صفحتُها، ودَمْشقَةٍ بدَّلت أثوابها. دعنا نتفق سيدي. فَرَادةُ مدينتنا دمشق في المدن معروفة، وتأتي من كونها واحة خضراء على تخوم الصحراء، ومن طيب مائها وتنوع طقسها واعتدال مناخها وبساتين الفاكهة والخضار التي تُزنرها، ومن رقة شمائل أهلها ولطفهم ودماثتهم وعدم تعصبهم، ومن آثارها، ومن تاريخها الحافل. صحيح أنها اليوم لم تعد واحة، وماءها قل بل شح، وغزاها التصحر وصارت تستورد القوت، وقست ملامح أهلها، وصاروا طلاب عيش بعد أن كانوا طلاب حياة كما ذكرتَ وأطنبت. لا الدنيا بقيت الدنيا ولا الناس ظلوا هم أنفسهم، ولا العادات ولا السلوكيات، لكن المدن العظيمة هي المدن التي تتغير كما قلت أنت أيها الدمشقي المتدمشق، هي المدن التي تشيخ ولكن لا تموت. المدن الباهتة جثث تعشش في الذاكرة. دمشق باقية لأنها قادرة على تغيير أثوابها بما يلائم روح كل عصر. وروعتها أنها لا تدير ظهرها للعصور الماضيات التي مرت بها، ولا لمكتسباتها منها، بل أنها تحفظها في المتاحف والذاكرات والصدور وعلى صفحة الحياة الدمشقية نفسها.
ولو لم يكن الأمر كذلك لما تعرفت دمشقية شابة مثلي من دمشقي كبير السن مثلك على سلوكيات وأفعال وأقوال وعادات وتقاليد هي الدمشقة بعينها، كما يخيل إلي. هذه خاصيات مدن قليلة في هذا العالم الواسع المملوء بالمدن الميتة. أنت قلت، سيدي، إن من الدمشقة الأخذ أيضاً في الدمشقة. نحن متفقان تماماً. صحيح أنك لم تقلها صراحة، بل سقتها تلميحاً، لكن اللبيبة الدمشقية، لا اللبيب الدمشقي وحده، من الإشارة تفهم.


عادل أبو شنب

دمشق أقدم مدينة في التاريخ|ندوة آذار الفكرية في مكتبة الأسد|دمشق-سوريا-1991

Share/Bookmark

صور الخبر

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق

سحر فريتخ:

اجمل ما قرات عن اهل سوريه

فلسطين