فضاء وليد الآغا

هواجس الارتباط التشكيلي بالأزمنة المتعاقبة

فضاء وليد الآغا

الفنان التشكيلي وليد الآغا يظهر في لوحاته أكثر ارتباطاً بالموروث التشكيلي العربي كمدخل لبناء لوحة شرقية مستمدة من نسيج ومعطيات الفنون القديمة والحديثة في آن واحد.

والاستيحاء التراثي كان يتولد في لوحاته منذ اللحظات الأولى، ويكفي أن نتأمل لوحاته التي قدمها في مراحله المختلفة، حتى نكتشف المعنى الجديد لولادة التشكيلات الفنية الآتية من رموز وتكاوين قديمة. فالإشارات الحضارية هي المنطلق لتحسس نشوة النور وحركة اللون وجسد الإبقاء، أي أن الفنان وليد الآغا يعمل في لوحاته على حفظ خصوصيات التراث الشرقي كرؤية مترسخة في الذاكرة والقلب معاً.

إشارات حضارية
فالرؤية هنا في تنويعاتها المتعددة، كمجموعة رؤى، هي دعوة صريحة للحفاظ على تراث قديم (عمارة قباب، زخارف، حروف، كتابات مسمارية ورموز بدائية..الخ).

فالهدف من الرسم والتلوين والتخطيط والبحث التقني الحديث، هو الاسترسال مع مشاعر التعاطف المتين مع الأشكال التراثية، التي هي في النهاية تداعيات لفضاء شاعري ولتنوع حضاري اكتسبته أرضنا العربية خلال قرون عديدة.

من هذا المنطلق أطل وليد الآغا كصاحب دور إيجابي يساهم في إنماء الإحساس بأهمية الفنون التي تصغي إلى التراث في تطلعات الحداثة في لوحاته الجديدة، يستعيد وليد الآغا، أجواء لوحاته السابقة، التي كشفت في الماضي عن وجهها الجديد (أو الوجه الذي وضعه بين الفنانين الحروفيين البارزين في حركتنا التشكيلية السورية)، حيث ساهم مع رفاقه الفنانين في إعادة الاعتبار لهواجس الارتباط التشكيلي بالينابيع الشرقية، والبحث عن استقلالية وهوية عربية.

ولقد وجد وليد الآغا في الإشارات التاريخية والمخطوطات القديمة، وفي العودة إلى الرموز البدائية مادة خصبة للتأمل والاستلهام وتحقيق الاندفاع التشكيلي الذي يجمع ما بين معطيات التلقائية والعفوية في صياغة اللوحة الكاملة بهواجس الارتباط بالشرق من منطلقات الحداثة التي أطلقتها اللوحة الغربية الحديثة.

هكذا وجد وليد الآغا، حلم الفنون الشرقية، عبر التركيز على استخدام رموز الكتابة البدائية الأولى (المسمارية) لتجسيد الأداء التشكيلي الجديد المتداول في الفنون الحديثة كنوع من التمرد على القوالب السلفية السابقة، هذا الإدراك بأهمية العودة إلى الرموز البدائية والمخطوطات العربية بدأ يطل في لوحاته كموقف جمالي في طروحاته وأحاديثه عن الفن التشكيلي السوري والعربي.

تجليات جديدة
هكذا ظهرت لوحاته لتضع نقاط ارتكاز لتواصل تجربته التراثية في مظاهرها الشرقية، وبالتالي الإمساك بالتجليات التشكيلية الجدية والخاصة فهو يعمل منذ سنوات على إظهار هذا الدمج بين تداعيات التراث الحضاري والبحث عن صياغة تشكيلية خاصة، ومن أجل ذلك يتابع التجربة ويسعى لإكمالها ملتمساً المفاصل الأساسية التي تغذي التجربة وتدفعها دائماً باتجاه التألق والابتكار.

مفاصل وتحولات
يأخذنا الفنان إلى اكتشاف هذه المفاصل في تحولات تجربته على الصعيدين التشكيلي والتقني، الشيء الذي يجعلنا نشعر بأن النقلة بين المرحلة والأخرى هي نقلة تسلسلية تنطلق من رغبة واضحة في التجديد. فهو ينزع منذ بداياته إلى تقديم نسيج تقني خاص، تجعل سطح اللوحة يميل إلى الخشونة أو لنقل إلى الكثافة اللونية. فالإيقاعات الحروفية والزخرفية والبدائية والمعمارية (والأخيرة وجدناها في لوحاته الجديدة) لا تحافظ على هيئة نسقية هندسية حادة، وهذا يجعله يؤكد على الخطوط الحركية الانفعالية (خطوط مباشرة تحفر طبقات اللون الطري) بحثاً عن إيقاعات بصرية عفوية بعيدة عن الحس الهندسي والتزييني، في محاولة للوصول إلى جوهر الشكل الهندسي والزخرفي والحروفي أو جوهر الأشكال وخلاصاتها.

والغالب في لونية وليد الآغا هو منحى التعتيق، واستخدام التقنيات التي تساعده في ذلك، إن لجهة اختيار الألوان الخافتة أو لجهة استخدام مواد تدخل فيها تقنيات خاصة، والتعتيق الذي ينطلق منه ويصل إليه، باستخدام مواد لونية مختلطة في اللوحة الواحدة، تتخلله لعبة الظل والنور وتداخل درجات لونية محددة، وهذا يساعد في حضور أجواء لونية متعاقبة تعاقب الزمن نفسه، ويجعل النظر يتقلب من مستوى إلى آخر، كأننا أمام إيقاعات بصرية متعاقبة داخل فضاء اللوحة.

وعلى الرغم من تفاوت إيقاعات اللوحة بين ما هو خافت وما هو مضيء، فإنه في لوحاته يبقى بعيداً عن الصخب وقريباً من أجواء التأمل الداخلي المسكون بالهواجس الروحانية التي تحول اللوحة إلى سكونية هادئة بعيدة عن الصخب اللوني والإيقاعات المفاجئة والحادة، ويبذل وليد الآغا جهداً بارزاً فينوع في التقنيات دون أن يتخلى عن نسيجه البصري الذي توصل إليه في مراحل سابقة، بل إنه يبدي لنا إصراراً على تقديم لوحة خاصة أو شخصية محددة.

ووليد الآغا يوازن في لوحاته ما بين انفعالاته المكثفة (التي نجدها في الضربات المباشرة التي تحفر طبقة اللون وتترك حروفاً وإشارات وتشكيلات تتحرك بعيداً عن الرزانة التقليدية) وبين انحياز اللوحة نحو الذهنية (من خلال الموازنة والمواءمة بين الرموز والإشارات والأشكال) للوصول إلى لوحة تشكيلية حديثة مدروسة وبعيدة عن أجواء الصخب والتباساته الفنية، ولهذا تأتي العناصر والرموز والأشكال في لوحاته على قدر من الإتقان والتوازن، رغم بروز الانفعالات المكثفة داخل حركات الحروف والأشكال المحفورة والناتئة التي تجسد انسياب الحرف وحركته التلقائية وإيقاعاته في مساحة اللوحة، إما لحركات العفوية تتحول هنا إلى إيقاعات تتزايد عفويتها في المساحة اللونية أو تقل، حسب أحاسيس الفنان ودرجة الانفعال لديه، ولابد من الإشارة إلى أن اللمسات الأخيرة التي تعمل على إعادة التوازن إلى عناصر اللوحة، لابد أن تحد في أحيان كثيرة من ذلك الطفح الانفعالي والعاطفي الذي يترك أثره على قماش اللوحة.

هكذا يمكن القول أن اللوحة هنا تنفعل وتهدأ لتقيم نوعاً من التوازن التشكيلي المطلوب، واللطخات اللونية السميكة التي تبرز في أماكن متفرقة من اللوحة، والتي يمكن أن تغطي مساحة اللوحة بكاملها (في بعض الأحيان) تشعرنا دائماً بتلك الرغبة الدائمة في إبراز الفسوخ والتشققات داخل المساحة التي تشبه الجدران الطينية القديمة وما يظهر عليها من تشققات تضعنا أمام الشعور بحضور الأزمنة المتعاقبة.


أديب مخزوم