فضاء ريما سلمون

ريما سلمون في آرت هاوس: تراب.. من نور وذهب

فضاء ريما سلمون

إذ تخرج إليك من كهف لوحتها، من جدارها الموشى بطعم الرقص الأول، لا تكون إلا تلك الشجرة البرية القادرة على التسامق المضمَّخ بطعوم الأرض، ذاك الصلصال المقدس الذي يُغيِّب أو يُظهِّر قامة الشكل المتكامل بالحب! أو ذاك المعفر بتراب التلاشي على بيدر العطاء قمحاً اصفراً ينمو ويخبو في مد وجذر الضوء؛ إذ تخرج إليك من إطار لوحتها تكون متشحة بتلاوينها البنية، وبخطوط شعرها الغرافيكي الممتد إلى اللوحة متصلاً ومنفصلاً وتكاد تقع في حيرة الشك فهل تحادث الآتي من اللوحة أم الباقي فيها؟! الفارق ليس بشكل الكلام، فكلاهما (ريما واللوحة) تتكلمان ذات رائحة التراب عند أول مطر! عندما التقيتُ ريما، في اللحظة الأولى شعرتُ أنني اعرفها، بل وأكثر من هذا فلوحاتها وهي تنتميان لذات الطين السوري الجميل، الدافىء والدافىء.

«اكتشف سورية» يلتقي الفنانة التشكيلية ريما سلمون ويجري هذا الحوار الخاص.

يُعتبر اللون البني اللون الحدّي الوحيد بين اللون وعدم اللون وهو يتخذ صفة الحيادية أيضاً، إلا أنه رغم ذلك، هو مفردتك اللونية الوحيدة! منذ بداية تجربتك تقريباً وحتى الآن وإن كان مؤخراً، يقترب كثيراً من الأسود. هل نعرف من ريما سبب هذا الاختيار والإصرار على هذا اللون الصعب؟

بعض الأشياء لا تختارها ولا يعود القرار كلياً إليك. بالنسبة لي، لم يكن اختياري للّون البني خالصاً، ويمكنني القول إن هذا الاختيار كان متبادلاً بيني وبين هذا اللون لما يحتويه من طاقة الصدق التي لا تقبل المساومة، وبالتالي فهو حامل عالي الموثوقية لشكل التعبير ومداه، إنه يختزنه ويعكسه وكأنه حدثَ للتَو، ولا يشتته كما تفعل الألوان أحياناًً. ما يهمني هو أن يبقى التعبير في لوحتي متوهجاً إلى أقصاه وبكل ما يحتويه من مشاعر.

نعم هذا اللون من أصعب الألوان وهو حدي وحيادي ولا يقبل المواربة، وهو ما يناسب طريقتي في التعبير مما يمنح هذا اللون جديةً وحرارةَ الحضور وفاعليةَ الخروج من الحياد. كل الألوان تغدو حيادية إن لم تُفعل بطاقة مناسبة، ومن هنا تنطلق فلسفتي عبر حاملها «اللون» ومحمولها «الموضوع» في مشتركيهما الذاتي والجمعي.

ويمكنني أن أضيف أني لم أصل أبداً إلى اللون الأسود في أعمالي كونه يمثل بدرجاته وتقابلاته تبايناً حاداً، والأمر ليس كذلك في مواضيعي الإنسانية، إذ لا تحتوي هذا التباين أو التضاد في التعبير إذ هناك مشتركٌ بين الحب وشكلٌ مقابلٌ له قد يكون متمِّماً ولكن ليس ضداً، وهو ما لا يستطيع الأسود إيصاله، إنما يستطيع اللون البني من أفتح درجاته وحتى اقترابه من السواد فعلَ ذلك، فهو أقل تضاداً وأكثر ليونة وهو ما يتفق تماماً مع شكل محتوى همي الإنساني وتوجهي التعبيري. أعمالي متقشفة ولا أتقصد البهرجة والتزيين لمشاغلة عين المتلقي، بل ما أطمح إليه أن أُبقي عينه في بؤرة محتوى الانفعال والفكر في لوحتي الذي يكون هو جزءاً أكيداً منه.

هذا يحرِّضني لأسأل: هل أفهم أنك تنوين الإقامة الدائمة بين درجات هذا اللون؟ أم إن لديك تطلعات للخروج إلى ألوان أخرى تبرز فيها مقدراتك على التصوير؟

كل الألوان حاضرة في ذهني ولكني أتحرك وفق إيقاعي النفسي على مساحة اللوحة بشكلها وتشكيلها. إن كانت هناك أطيافٌ من الأزرق والأصفر بدأت تتسلل إلى لوحتي مؤخراً، فالمسألة ليست قرار بالخروج من هذا اللون إلى ذاك؛ إنها مسألة تلقائية في التعبير وفق حمولاتي وحاجاتي النفسية. أحبُّ أن أخبرَك أن لدي الكثير من الأعمال الملونة «بمعنى التصوير»، لا بل بدايتي الفنية تعود إلى التصوير إضافة إلى الغرافيك بمعنى من المعاني، إلا أن طبيعة الحالة أو المرحلة -والتي أعود لأؤكدَها- هي من تفرض عليّ شكل اللون أو الألوان.

يقوم المحتوى التشكيلي في لوحتك على جدلية العلاقة بين ثنائيات الحياة، ويعود هذا الطرح إلى بدايات تجربتك، ولا تزالين في إطار هذا البحث الجميل والمُشكَّل. إلى أين وصلتِ في محتوى هذا الطرح حتى اليوم؟

للفنان أكثر من طريقه في شكل البداية وموضوعها، فمنهم من يبدأ من العام كقضايا وطنية أو جمالية ومنهم من يبدأ بالخاص والذاتي. بالنسبة لي، فقد بدأتُ بأكثر الأشياء حضوراً وحميمية من تلك العلاقة الحبية بين طرفيها الإنساني، وصورتُ عبر تلك المرحلة العديد من الحالات الجمالية والروحية التي تختزنها وتصعدها تلك العلاقة. وفي النتيجة خلصتُ إلى اتحاد هذا الثنائي «الرجل والمرأة» في بوتقة الروحي والجميل. إلا أن هذا الثنائي -المتفرد باللوحة- لم يبقَ كما كان عليه. ومن هنا بدأتْ تنضج فلسفةُ أن يكون هذا المفرد الموجود في اللوحة محفِّزاً للمُتلقي ليُوَلِّد شرارة الثنائي الخاص به. وهذا ما يمنح الثنائي الخاص بي «المفرد» شكلَ الحضور الفكري والروحي والاستمرار في الزمان. أما جديد ثنائياتي، بعد الظل والنور، والشكل والفراغ، وإلى غيرها من المفردات التشكيلية، فيقوم على جدلية الحياة والموت المفتوحة على المدى كخيارات معرفية، وهي وإن تضمنت هذا البعد إلا أن هذه الجدلية تتخذ عبر لوحتي بعداً إضافياً وهو التخلص من ترسُّبات بقايا الموت المختزن في ذاكرتي، لتبقى لي إشراقة الحياة وهو ما يمنحه الفن بتقديري.

من يمعنْ النظر إلى وجوه النسوة في لوحتك يحَرْ في تنوع أشكال هذه العذابات. إلا أنه بالمقابل ثمة هالة من القداسة تمنحينها للمرأة. كيف تستطيع الفنانة ريما سلمون الجمع بين هذا وذاك؟

كوني امرأة أعرف بالضبط معاني الأمومة، وتلك العلاقة التي تتشكل بعد ذلك لتُصبح كلية ومصيرية في تركيبها بما يتضمنها من سيل العطاء، والتضحية الممزوجة بأسمى أشكال الحب؛ إلا أن القداسة التي أقصدها تأتي من شكل التضحية التي تتجاوز حتى تقديم الحياة أو نذرها لصالح الأسرة والوطن. إن المرأة عندما تقدِّم الشهيد على مذبح القيمة -والتي يكون الوطن أعلى درجاتها- فهي تقدم المقدَّس لديها من أجل الأكثر قداسة. إن المرأة وباعتبارها الأم فهي تختزن هذا المعنى، وهي بالمقابل ليست بمعزل عن هذا الفقد الذي يولد بالضرورة أشكال عذاباتها. ورغم هذا فهي دائماً على استعداد لتقديم المزيد. برأيك، ألا يمنحها هذا تلك الصفة!؟

وإن كان الرحيل قدراً، إلاّ أن شخوص لوحتك عندما يغادرون فإن مكانهم يبقى فارغاً على مقاعد اللوحة. هل ما زلت ترفضين التصديق أنهم رحلوا؟

للرحيل معانٍ عدة، منها المادي ومنها المعنوي. هؤلاء الأشخاص المحبوبين رحلوا بالنسبة إليّ ببعدهم المادي وحسب، إلا أن أمكنتهم في الذاكرة تبقى مشغولة أبداً بالحب، وإن لم يغادروا اللوحة فلأن اللوحة ذاكرتي، وحاضري، ومستقبلي.

لا أبتعد عن الموضوع كثيراً إذا تحدثتُ عن شكل آخر من الحزن في لوحتك، وهو ما يمكن توصيفه بالقلَق، هذا الأخير الذي يبقى متوهجاً في دائرة التعبير في لوحتك. فهل يتطلب بقاء لوحتك مزيداً من هذا القلق؟

نحن كشعوب ننتمي لتاريخ مشبع بالقلق، حتى إننا نتوارثه ويمتد إلى ذاكرتنا الجمعية. ويمكن القول إن لحياتنا طعماً خاصاً بهذا القلق وينسحب إلى تفاصيل يومياتنا. إنه من الطبيعي أن تعكس أعمالي هذا القلق الذي نعيشه، وأعيشه؛ إنه جزء من طاقة لوحتي التعبيرية.

إذا ما أردنا تجاوز سطوح اللوحة بمحتوياتها التعبيرية والدخول إلى أعماقها فماذا سنكتشف؟

في لوحتي محاولة لاكتشاف ذاتي، وهي بالتالي كشفٌ ومكاشفة. وبهذا لا أتقصَّد شكل ومحتوى التعبير؛ فمن خلال عملية التشكيل، أُصبحُ جزءاً أو انعكاساً كلياً لمحتوى شعوري ولاشعوري، وما يُشغلني ويعتمل في داخلي بالمعنى الذاتي العميق والإنساني المجتمعي العام. لوحتي ليست مجرد سطح وعمق فقط إنهما معاً وهذا يعني أنا.

يُشكِّل بياض اللوحة هاجساً ورهبةً للفنان عند بداية الفعل الفني. ريما سلمون كيف يبدأ فعلها الفني على هذا البياض؟

يعبق البياض في لوحتي بأرواح الأشكال الغائبة، أراهم في هذا البياض قادمين لزمان ليس لهم. إن أنفاسهم تتردد في صدى هذا البياض، أنا أراهم وما أفعله فقط هو أن أرسمَهم.

للشكل في أعمالك حضور وملمس الصخر، وكذلك إيقاع النحت، فاللوحة هنا مركبة التكنيك. هل هذا لصالح التعبير أم التشكيل؟

لشخوص أعمالي قوة الحضور الفعال على مسرح الحياة وعلى مسرح شعوري بالتأكيد، قوة حضورهم وطغيانه يمثل ثقلاً وثباتاً متعدد الأبعاد من الحب والوثوقية إلى العطاء. وحتى أصوِّر كل هذا عبر الخط «الرسم» ومهما كان قوياً، فإنه لا يحيط بتلك القوة وذاك الثبات. ومن هنا يأتي إيقاعي النحتي ليؤكد هذا التماسك والانسجام، وبهذا يكون لصالح التعبير والتشكيل.

ما بين شكل الأقدام في أعمال بيكاسو وكيالي، يخلط البعض في تقدير التشابه والاختلاف، مما يفرِّغ هذا الشكل أو ذاك من مضمونه التعبيري في سياقات التجربة الشخصية والمنفصلة لكل فنان. إن هذا يقود إلى سياق وبعد آخر لهذا التشكيل في تجربتك. كيف تتحدث الفنانة ريما عن خصوصية الأقدام في لوحتها؟

الأقدام لديَّ عنصر أساسي في التكوين والتشكيل، وكذلك كموضوع؛ فأكثر ما أرغب به أن تبقى أقدام شخوص أعمالي ملتصقة بالأرض «وهي كذلك»؛ فنحن لا نتحدث عن الأرض بصفتها الوطن وحسب بل هذا التراب الذي يمثل ذروة التواضع. إني أحرص على ألاّ يكون عائقاً بين هذه الأقدام وهذا التراب، وأحرص على ذلك بشدة، فالقدمان هما بمثابة الجذور، ممتدتان في الأرض وثابتتان عليها. إضافة لهذا، فانا أؤكد على خطوط الأقدام والأصابع وأُعيد عليها لأُطلقَ هذا الحوار المكْني بين هذه الأقدام في توترها وانفعالاتها، وكذلك على حبها. أحاول عبر حركة خطوطي اللينة والسريعة أن أستخرج طاقات أقدام شخوصي من حيز اللاشعور إلى حالة الفعل الحركي التعبيري، ومن خلال هذا أقول الكثير، وكذلك لأؤكدَ على بعد آخر وهو حوارية العلاقة كتواصل وتناغم ما بين التراب والأقدام كبعد مادي حيوي، والرأس كطرف مقابل للسماء بوصفه البعد الآخر لروحانية التواصل. أعتقد أنني لا أبلغ هذا الصفاء إلا وقدماي مغموستان بهذا التراب، وبهذا التراب تحديداً.


عمار حسن