فضاء ياسر حمود

جرم صغير وعوالم أكبر تتفتق
نظرة في فن ياسر حمود

فضاء ياسر حمود

في نظرته و تحديقه يتمكن في النهاية أن يرى الأسرار الإلهية (دانتي، الكوميديا الإلهية).

إذا بحثت عن أصل فن ياسر حمود فلن تجده في تاريخ الفن بل في تاريخ الوجود. فهو منغمس ومستغرق في هذه العوالم حتى لتظن أنها انتخبته ليتحدث باسمها وينبئ عن جمالها الذي لم تره عين بشر- بعد!

لوحاته ترصد الانبثاقات الأولى إلى عالم الوجود، ويتيح لك فنه نظرة إلى مشاهد للحظات مفقودة وأماكن مجهولة، من كوزمولوجيا عجز عن أسئلتها العلم، وميثولوجيا عجز عن رصدها الأدب، ليجب عن كلتيهما الفن.


الكون

نظرة إلى «الخارج»، إلى الحدود، حدود الفن والوجود، عتبات الإدراك، والتعين، حيث تنتظرنا أسئلة الما بعد. ونظرة إلى «الداخل»، إلى اللب والبذرة حيث أسئلة الأصل والمنشأ والمركز، أو الما قبل.

فمن جهة «الخارج»، تجد لوحاته ترصد مشاهد عوالم تتفتق إلى حيز الوجود. هل هي أولى لحظات الانفجار الكوني أم هي بقايا جرم منفجر ومجرّةٌ آفلة، «كواكب انتثرت»، أم هي السماء انفطرت، بل انشقت فكانت «وردةٌ كالدهان» (سورة الرحمن، آية 36)؟

إذا اقتربت أكثر، تكتشف عوالم في لوحات ذات ألوان مشبعة. إذا دققت أكثر تحسبها بحاراً، سماوات، صحارى، تضاريس وبراكين. لكنها ليست تضاريس بل كنه التضاريس، وجوهر الأجواء، ليس بتجسدها الحالي بل بنموذجها الأصلي وأعيانها الثابتة.

هنا اللون ليس اللون بل روحه، فهو مقام موسيقي، استنطقه الفنان حتى استنفذ كل إمكاناته، فختم (وقفل) بالمقام الذي يقابله، وجعلنا «نشتاق» إليه.

أما من جهة «الداخل»، فقد أدخلنا عبر نفس عوالمه اللونية لنلقي نظرة على عالم (جوّاني) هو جوهر العوالم: جمال مكنون، كمقاطع في الرخام والأحجار الكريمة. بنظرة أخرى نجد أن ما نرى ليس مجرد شكل، ولون، وإيقاعات، بل ملمس وتضاريس من عالم قد لا ينتمي إلى الأرض، بل إلى كواكب وأجرام قد رآها في خياله، فانطبعت في خيالنا.

ياسر ليس كالفنانين الآخرين يعبر عن «نفسه» و هواجسها، بل يترفع عن ذلك ليعبر عن حالة أعلى وهمٍ وجودي أزلي. لا تجد في فنه مأساة أو ملهاة، أو أيديولوجيا، أزمة هوية، أو جنس، أو عنف، بل جمال فطري صرف لحالات تم تنقيتها عبر مصافي الموهبة والنفس الرائقة والذائقة الحاذقة. إنه فن يدخل عليك السعادة ويغمسك في عالم من الجماليات نسيته عبثية الفن الحديث. لذلك قد لا ترى أصولاً مدرسية معاصرةً لفنه، فهو مرتبط عبر حبل سري أثيري بأصل أقدم.

ثم تأتي تصاميمه لعالم الجواهر بعد تمثيله لجوهر العوالم. هنا تتراجع قيمة المادة، مهما غلا ثمنها، ذهباً كانت أم حجراً كريماً، أمام قيمة التصميم الذي يجعل من الجوهرة جوهرة أخرى. لكن هذه التصاميم «مأسورة» في مقياسها الصغير. ليت هذا المقياس يتحرر ليغدو جوهرة وحلية، ليس على جيد جميلة أو معصمها، بل على نطاق مدينة أو صدر أحد ميادينها، فتتحول هذه العوالم إلى عوالم أكبر من فرط كثافة الجمال والأفكار المكنونة فيها.

لوحاته المفردة صوت وحيد يدوي بمعنًى آسر وخطب جلل. أما ثنائياته، فثنائيات تآلفية تتركك محتاراً، بين قرار وجواب، لتأتي ثلاثياته مكونة لتآلف (كورد) مشبع، يحسم الحيرة ويحيلك إلى منظر أشبه بثلاثة نوافذ بعدية، لا ترى عبرها مناظر من «الواقع» بل تطل منها على مشاهد من «الحقيقة»، لا يمكنك استقصاؤها إلا عبر نوافذ الفن. أما إذا أردت غير ذلك فعليك العبور إلى تلك العوالم وترك جسدك خارج تلك النوافذ، وهيهات أن تعود.

في إشراقات نوافذه أصداء للكون الكبير ترددت في فلك الجرم الصغير الذي فيه «انطوى العالم الأكبر».

دمشق، نيسان 2009
بعد زيارة مرسم ياسر حمود