فضاء ياسر حمود

رفد و رفض

فضاء ياسر حمود

دمشق، 12 شباط 2009

تبدأ قصة الخلق في الأديان من كلمة أو من فعل مبدع للإله الخالق أو من تقارب تلقائي لأثيرية السماء بهيولة الماء أو غيرها من الأساطير المؤسسة التي ترجمتها طلاسم العرّافين أو الكتب السماوية أو الطواطم أو رسوم المعابد إلى مفردات تدخل المخيال الجماعي لمجتمعاتها.


ثنائية لـياسر حمود

ومازالت نقطة الخلق الأولى موضع تحيّر حتى في زمان اكتشاف المركِّبات الجزيئية للذرة.

الانفجار الكبير من أين جاء؟ الثواني الأولى لخلق الكون؟ ما هو شكل الكون وإلى أين يتوسع؟

هل هناك فراغ في العدم أم أن العدم يعني انعدام الفراغ أيضاً؟

الأسئلة تزداد تعقيداً كلما دخلنا إلى عالم الجزئيات.

ما الذي يحفِّز جزيئات الذرة لتقفز من مدار إلى أخر؟

قبِلْنا أن الطاقة والمادة هما وجهان لعملة واحدة، ولكننا عجزنا عن فهم الطفرات التي تحدث أحياناً والتي لا تتساوى فيها المادة والطاقة قبل القفزة وبعدها.

هذه الطفرات الصغيرة التي تشكل كلّ منها عملية خلق صغيرة من العدم رفد مستمر لعملية الخلق الكبرى.

هل بدأ الخلق من طفرة تلقائية من العدم؟

وماذا يحدث حين تكون الطفرة عكسية وينتهي الوجود إلى العدم؟

هل رفض الوجود حالة يمكن وصفها؟

هل للعدم شكل أو لون؟



«رفد أو رفض» جدال بين حالتين وليس بين لوحتين: حالة الوجود وحالة العدم.

وبين الحالتين طاقة خفية تكاد أن تتماهى وتنبض بوجود مادي، تختبئ بلون نريده أن يكون أسوداً ويرفض هو التعريف.

لا يمكن أن نسبغ على العدم لوناً، لأنه بمجرد تعريفه لا يعود عدماً.

إنهما ليستا لوحتين تجريديتين بل هما تمثيل حرفي لأسطورة الخلق حسب نظريات الفيزياء النووية.

ولكن مهلاً ماذا يريد ياسر من التمثيل الحرفي لأسطورة حديثة؟

وهو الذي صمد وحيداً لسنوات محاولاً أن يخلِّصنا من عقدة أن اللوحة يجب أن ترسم شيئاً، أن تماهى حدثاً أو أن تمثل سرداً.

هل تراجع ياسر عن قفزته في الفراغ المجرد في محاولته الجريئة المجنونة كجذبة الدرويش للتوحد مع الله؟

حيث تختفي الكلمات وينتهي الزمان ويتحول الوجود إلى إشراقات لون.

هل نهاية التجريد هي أن نعود إلى فعل إنسان الكهف الأول الذي جسد برسومه تمثيلاً حرفياً لمشاكله الوجودية؟

لقد انتهت الصوفية الأولى إلى طرق ومدارس وكرامات.

وانتهى الوجد إلى حالات من الطقوسية، وصار الصوفيون يدَّعون أن الوصول إلى الله لا بد له من تدريب ولا بد له من إتقان وتحكم.

في البوذية يُعتبر هذا التحكم بالعقل هدفاً بذاته، تصبح تقنية التأمل هي الغاية لا هم إن أوصلت بعد ذلك إلى الله أو العدم.

هل عمل ياسر هو نوع من التدريب التقني للنظر؟ هل تتحول جذبته الروحية إلى طقس هدفه الأول والأخير السيطرة على الوعي واللا وعي في نسق من التحكم الذاتي؟



من طرف آخر، فضلَتْ قلة من الصوفية الهربَ من الدنيا عبرها، واعتبروا أن اعتراف الناس بهم وتقديرهم لمسعاهم ليس إلا نوع من الشرك.

وكيف يهرب المرء من أهل الدنيا وهم يلاحقونه في كل مكان، فاختاروا أن ينفروا الناس من حولهم بالتواجد في أماكن الملامة، فيتفرق الناس من حولهم ويتفرغوا هم لعبادتهم.

هرب الملامتية من الدنيا بالغوص في انحطاطها، بالتماشي مع مادية الحياة بالتماثل الشكلي مع الدنيوية، رفض للمادية الدنيوية بالانغماس في روافدها.



إن عودة ياسر لعالم البشر المادي هي نوع من الملامتية.

تختبئ وراء ماديته المفرطة محاولة للالتفاف علينا لكي يصل من ورائنا إلى عالم يستطيع أن يتعرف فيه على آلية الخلق بينما نقف نحن محاولين فك رمزية التمثيل المباشر لأسطورة الخلق.

في الحالة القصوى تتحول التمثيلية إلى تجريد، وتكتمل دورة التجربة في عالمه.

بينما نحتار بين ماديته وتجريده، بين الوجود والعدم، يقترب الدرويش خطوة أخرى إلى هدفه، جذبة أخرى.