فضاء ياسر حمود

استدراك: الهبوط إلى المدينة

فضاء ياسر حمود

دمشق، 14 كانون الثاني 2009

الضوء، الضوء .. مملكتي لأجل قليلٍ من الضوء.

كانت تلك كلماتٍ أخيرة لعظيم عَمي وأراد أن يُبصر من الدنيا قليلاً قبل ذهابه إلى عالم السكون والعتمة الأزلية، مع الاعتذار من شكسبير الذي يقول بطله ريتشارد الثالث في تقريرية فجة أتت متأخرة: «حصان، حصان، مملكتي من أجل حصان».

وربما كانت تلك أيضاً الكلمات الأولى لملاكٍ أبصر فأراد أن يستزيد من الإبصار بعد أبدٍ من الإشراق الذي يُبصر من حيث لا يُبصر. ولكن في الإبصار نفسه تحول من النور الذي يتسرب إلى قلب البصيرة إلى الضوء المُبصر بالعين: هبوط من الملكوت إلى مملكة البشر.


ثلاثية لـياسر حمود

ومع ذلك فللضوء الإنساني إغراءاتُه، خاصة البراقة والخلابة منها: أضواء المدينة الحديثة التي خلبت آلاف النفوس المبدعة التي هجرت بيوتها ودساكرها لتجرب حظها في دفئه الخداع وتفتش عن مستقبلها في بريقه المنعش. بعضها وصل، وبعضها ما زال يكافح لأجل الوصول، وبعضها تعب من الكفاح فاستسلم لطغيان المدينة ولأضوائها البراقة.

لأضواء المدينة إغراءاتها الحّسية المميتة أيضاً، حيث ينجذب إليها البشر كالفراش حول النار، ينوسون وهم يقتربون من مصدر الضوء الذي يستحيل ناراً تحرقهم أحياناً وتطهرهم أحياناً أخرى. ولأضواء المدينة معمارها المراوغ، فلا هو بالثابت ثبات الحجر والحديد والزجاج المتطاول يشق أعناق السماء، ولا هو بالسهل الرقراق ترقرق حدائق المدينة وساحاتها وفراغاتها العامة ونوافيرها ومسطحاتها المائية، التي تمنح الكل بعضاً من مقياس إنساني أليف وبعضاً من ملجأ آمن من صخب المدينة وسرعة حركتها الطاحنة.

هذه هي الخواص السائدة، على ما يبدو لي، في الباقة الأخيرة من لوحات ياسر حمود الضوئية المدهشة باقة نهاية عام 2008 بتكويناتها الخطية اللامعة وتضاريسها الغامقة ولوالب الضوء الفلوريسنت المتلاعبة على التي تسكن قلبها وتتمايل بدلال سريع النبض على سطوحها: هي أضواء المدينة إياها بعهرها وطهرها، بترفعها وتواضعها، بالحياة الناشبة الأنياب فيها والموت الذي يتلصص وراء زواياها المعتمة. فناسك الضوء النوراني الذي أتحفنا بإشراقاته على مدى أربع سنين من التجريدات اللونية قد عاد إلى واقعه الأرضي كما يخيل لي، عاد عودة ظامئ لدفقة من الضوء الذي نعرف ونرى وبه نتلذذ بعد أن هام طويلاً مع الضوء الذي تهفو إليه أنفسنا وتتصعد إليه أرواحنا من غير أن نعرف مصدره أو مخبره.

عاد ابنُ المدينة المتطهر إلى مدينته وإلى أضوائها المتلألئة بروح طافحة بالفرح والحبور وبنفس تأئقة إلى المجالدة والتحدي والاستمرار. عاد وهو محمل بالرغبة في المشاركة في عرس المدينة التي تبدو في لوحاته الجديدة ككتل من العتمة تتخللها أضواء مغرية خلابة، أضواء من صنع البشر تمثّل آمالَهم وأحلامهم وتستجيب لرغباتهم ولذاتهم وتحيطها بألق جذاب. ولكنه عاد أيضاً وفي قلبه مشاعرٌ فوق-إنسانية، مشاعر اكتسبها من هيامه مع العشق النوراني الذي شغله طويلاً، وما زال، ودورانه في مداره السرمدي. عاد كما نزل ملاك فيم فيندر في فيلمه الرائع «أجنحة الرغبة Wings of Desire» من سمائه، لرغبته بتذوق حياة البشر ومشاركتهم عبثهم ولذاتهم ومخاوفهم وأمالهم. وهو في عودته تلك، رأى المدينة من منظور هو بين الواقع والخيال، بين الرؤية المجردة والإبصار الإشراقي، بين نظرة المشارك المنفعل والمراقب المتباعد؛ وأعطانا منها مناظرَ لم تتعود عيون الناس على رؤيتها به، ولكنها قَطْعاً من لب لبّها.