فضاء أحمد معلا

معرض أحمد معلا حركية تكسر اليأس

فضاء أحمد معلا

هذا ليس معرضاً!

هذا ما قاله بعض العائدين من معرض أحمد معلا في غاليري أتاسي. وتأكيد النفي ما تناهى إلي من قول عائد إلى خروج الشكل المصاغ للمشاهدة عن مألوف العين المعتادة على ارتياد المعارض. فالسائد والمعروف أن المعرض كحيز للتلقي (وأحياناً التواصل) البصري فضاء منقطع. لا تستقيم فيه رابطة الإرسال والتلقي إلا في خطوط طولانية، مشعة، طرفها الثابت (مركزها) زائر المعرض المتجوّل في أرجائه، أما أطرافها المتبدلة فتحددها الأعمال المعروضة سواء أكانت لوحات جدارية أم منحوتات ونصب. في الشكل السائد من المعارض يدخل الزائر عنتراً، سيداً، وربما إلهاً. يعامل الأعمال بمزاجيته ونزقه ويمارس عليها ما شاء من عنف أو تكبر فلا شيء يمنعه من إقصاء ذاك العمل أو محاباة ذاك الآخر. أما في معرض معلا فإن الزائر يسقط من علياء الجبروت والتسلط إلى موقع النديّة والتكافؤ. وهذا السقوط صادم ومفاجئ نشعر به لحظة الإمساك بقبضة باب المعرض المغلق. في هذه الحركة البدئية تتلقى سلطة السيّد الزائر أولى صفعاتها، فهي ما اعتادت قبل الآن أن تتجشم عناءً أو تواجه معارضة في توجهها نحو مأموريها (الأعمال المعروضة). فالمأمور في الشكل المعتاد من المعارض يكشف عن عرضه، يبيح سره، يمنح نفسه. الغواية المتدرجة سياسة المعرض المألوف أما معرض أحمد معلا فسياسته القنص. حتى لحظة الإمساك بقبضة الباب المغلق لا يستطيع الزائر التعرف على ملامح المكان المقصود، ولا يعرف ما ينتظره حقاً، إنه المجهول. المجهول المحجوب بستارٍ أسود يقتل شفافية زجاج الباب ويقتل كل حظ باكتشاف الفخ.

بعد الباب ينزلق – ودرجات النزول إلى الصالة تفيد في حركية الصورة – الزائر إلى المصيدة مباشرة إذ تفلت كل فوقية من يده أين يهرب من الفن؟ الفضاء المنقطع الذي ألفه واعتاد الصول والجول فيه غائب تماماً. فالعمل الفني هنا، كل متكامل ينال أو يغمر كل أرجاء المعرض حتى الهواء الذي تلمع ذرات غباره تحت ضوء الكاشفات. الزائر يغرق تماماً في العمل الفني كما قد يغرق في رمال متحركة أو في الجو الصوفي لمعبد هجره السائحون أو في الجو الموسيقي لقبو من أقبية الجاز. هنا لا تكفي المتلقي حاسة البصر التي اعتاد شحذها لدى زياراته للمألوف من المعارض بل عليه أن يتسلح بحواسه كلها إذا أراد أن يستوعب كل ما في هذا العمل من جمال. لقد انتقد بعض الأصدقاء المعرض لأنه يشتت عين المشاهد فلا يستطيع التركيز على اللوحات والاستمتاع بها لكنهم لم ينتبهوا أنهم أمام جنس فني مختلف يقول لهم حرروا أعينكم بل وكل اتساع الأعين لا يكفي. وما الموسيقى المؤلفة خصيصاً للمعرض – والتي خضعت لمراقبة الفنان- إلا دليلاً إضافياً على هذه الكلانية الفنية.


من معرض ميرو بثلاثة أبعاد

عندما يسبح الزائر في معرض أحمد معلا يكتشف بسهولة ذيول تجربته السابقة مع طلابه – إن كان أستاذاً في الجامعة- في معرض «ميرو بثلاثة أبعاد». ففي تلك التجربة أراد الفنان إقحام المشاهدين في قلب العمل فألبسهم برانس ملونة فضفاضة تحولهم إلى أشكال بين الأشكال وتجعلهم يغرقون ويذوبون في فضاء الفن. واليوم يعيد نفس العمل، لكن الأشكال هناك غدت لوحات هنا. وهي لوحات عن أشخاص فليست إذن ثمة حاجة لتغيير هيئة الزوار فإن هم إلا بين ظهرانيهم الموزعين في عوالم ثنائية الأبعاد، لكن ما كان لا بد من تغييره هو الفضاء الذي يتحرك فيه هؤلاء الزوار ليتقرب ويتشابه ويتكامل مع فضاء الآخرين. وهذا الأخير فضاء ينوس بين غياب اللون (أسود) وكليته (أبيض)، بين الواقعية (أشكال قابلة للتمييز: سرير، غزال...الخ) والغرابة (قرد يحاكم البشر، مهرج يغيب في مكعب...الخ)، بين القساوة (كرة صلبة عجيبة، رؤوس مقطوعة محمولة على لا نعرف ماذا...الخ) والطراوة ( حمائم وأقواس). وهكذا استل الفنان مبضع الجراح وأعاد تكوين عالم الصالة فصار السقف الأبيض أسود وخرجت من قلب اللوحات أشكال عجائبية (كرة صلدة، أشباح مقيدة من بطنها....الخ) فتساوى العالمان. عالم الداخل – إن صح التعبير- وعالم الخارج. وهنا كانت الضربة القاصمة للمشاهد المتسلط فهو الذي اعتاد أن يزور المعارض ليرى، ليراقب، ليعاين وينتقد، يتحول هنا إلى عنصر في عمل وتنعكس الآية ليصبح هو من يُرى ويُراقب ويُعاين ويُنتقد، أما السيّد الآخر الذي يقوم بهذا الفعل فهو نفسه الماثل في اللوحة والذي نظنه بلا حراك. أذكر جملة قرأتها أو سمعتها عندما كنت صغيراً تقول: «لا فرق بين مقيم في مشفى الأمراض العقلية ومقيم خارجها فكلاهما يقول عن الآخر: مسكين». لقد تذكرت هذه الجملة في معرض معلا فنحن المشاهدون نكاد، حين نمعن النظر في عالم اللوحة، نهزأ ونسخر ونصفه بالعبث والخرافة لكن الفكر ينعكس تماماً علينا حتى نظن أن شخصيات اللوحات هي التي تهزأ وتسخر وتصف عالمنا بالعبث والخرافة بل والجنون.

تحية إلى سعد الله ونوس
لأحمد معلا

لقد ذكر المعلقون على معرض معلا أسماء كثيرة تتواصل عوالمها مع عالم المعرض كهوميروس ودانتي وشكسبير وغيرهم لكني أجد أوثق صلة مع دوستويفسكي وهي صلة تخص البناء الفني وليس الأشخاص والعوالم فدوستويفسكي كان - حسب باختين - أول من استطاع أن يحرر شخصيات أعماله من أسر الكاتب/الإله كلي القدرة (في الأدب) وكلي الوجود، وأحمد معلا استطاع وإن عبر تقنية مغايرة، تقنية فاعلة في عالم المتلقي وليس في عالم المرسل، أن يعطي لعالم مخلوقاته امتداداً خارج حدودها حررها من جمودها وحركها - كما في حكايات الأطفال - وجعلها نداً لمشاهديها وعنصراً مكافئاً لهم.

لقد كان معرض أحمد معلا تحية لسعد الله ونوس والتحية لا تلزم التشابه كما يقول الفنان في كتيب المعرض: «ليس المعرض قراءة لأعمال مسرحينا الكبير، ولا رسوماً توضيحية، ولا استحياء من شخصياته، ولا مقاربة لأفكاره». لكن وإن كان هذا صحيحاً، ثمة أواصر قربى بين العالمين تجعل التحية أقوى وأعمق فأعمال معلا كما أعمال ونوس تأخذ قيمة إضافية وأهمية زائدة من شكل وجودها وليس فقط من مضمونها، إنها معالم في حركة تجدد وتطور الثقافة في سورية لأنها تخلق بذاتها واقعاً مستقلاً عن الواقع الذي تعكسه، لأنها تكسر بحركتيها وتحررها شرنقة الموت الذي قد تتحدث عنه، ولأنها تقدم بفعلها وليس بقولها فقط، بقوتها وليس بحكايتها أملاً يكسر اليأس ويؤسس لعالم جديد.

إن شعباً يضم بين ظهرانيه سعد الله ونوس وأحمد معلا ومحمد ملص ويوسف عبدلكي وغيرهم وغيرهم هو شعب لن تغيب ولا يمكن أن تغيب الحضارة عن أفقه.


د. حسان عباس