فضاء أحمد معلا

مَسرَحة الذاكرة

فضاء أحمد معلا

لا شيء يشبه مشاهدة أعمال أحمد معلا الجديدة سوى تأمل سطح البحر آخر الخريف. يحاول المرء التركيز في نقطة منه، لكن حركة الأمواج المتسارعة تقود بصره من موضع إلى موضع على السطح الرجراج. وكذلك لوحة معلا الجديدة، تحاول أن تثبت نظرك في عنصر من عناصر اللوحة ذات المساحة الواسعة لكن حركة داخلية تقود بصرك من عنصر إلى آخر محوّلة فعل الرؤية إلى فعل مشاهدة بكل ما تعنيه هذه النقلة من ارتقاء من الوصفية إلى الدرامية، ومن التصوير إلى التصوّر في صياغة العمل الفني.

الذاكرة هي هيولى المشاهدة في لوحات معلا الجديدة، مادتها الأولى. وتتميز هذه الذاكرة بكونها:

- ذاكرة بصرية صرف. كل ما تختزنه يتشكل (يأخذ شكلاً) حسب أبجدية الصور، أيّاً كانت الطبيعة البدئية لمادة التذكّر: شعور، ذوق، عطر، قراءات، أفكار، رؤى... وطبعاً صور.

- وذاكرة غنيّة بإفراط، تشي بغنى التجربة الحياتية لصاحبها. ذاكرة عفاريت لا تتقمقم في ثقافة بعينها، ولا تتقوقع في جغرافية مسيّجة، ولا تنحصر في زمان. ذاكرة منفتحة على رياح الأكوان، تتراكم فيها الصور على الصور: ذئاب، ضباع، خيول، نسور، جمال، ديناصورات، قوافل، جنازات، مظاهرات، أعراس، حفلات طرب، عازفو عود وطبول وقيثارات وباندونيون (أكورديون من أمريكا اللاتينية)، مغنيّات ومغنّون، راقصات وراقصون، رياضيات ورياضيون، أباطرة وجنرالات، أطفال، كائنات خرافية، تماثيل من باريس والقاهرة ومن لا مكان.

- وذاكرة خلاّقة، لأن عناصرها المنتقاة، أو التي سمح لها الفنان بالعبور إلى عالم اللوحة تصبح هي بدورها، وبما اكتسبته من حضورها الجديد، مادة للتذكّر، وتتحوّل إلى صورة جديدة في مخزون الذاكرة قبل أن تُُبعث في لوحة أخرى، فصورة في الذاكرة من جديد، فلوحة، فـ...الخ. وهكذا تتعاقب وضعيات العناصر بين سكون مخزون الذاكرة وحركية عملية الإبداع. وكأن الفنان يعالج أبجديته فيحسنها ويطوّرها بشكل دائم سعياً لبلوغ مثال يقترب منه أكثر فأكثر لكنه يعرف أنه أبداً لن يصل إليه.

هذه الذاكرة، البصرية والغنيّة والخلاّقة، هي ما يقدمه لنا أحمد معلا في لوحاته الجديدة، لكنه لا يقدمّه كمصور يتقن إسقاط مخزونات الذاكرة على سطوح اللوحات فحسب، بل أيضاً كمُخرج مسرحي، أو كقائد أوركسترا يدير مكوّنات عمله ليبني عالمه الفني الفريد. وتكمن مقدرة الفنان وأصالته تحديداً في كيمياء عملية البناء هذه، وفي ما يجترحه لها من حلول وتقنيات.

أولى هذه التقنيات نقراها فيما يمكن تسميته «اصطناع الحركة». فمَشاهد الذاكرة تفقد حركتها الكامنة لحظة توضّعها على سطح اللوحة ثنائية الأبعاد وتصبح لقطات ساكنة تعوزها الحياة. وما كان «مقطعاً» من حدث جرى في الزمن وله ديمومة نسبية تسترجعها الذاكرة بزمن أقصر (زمن تذكر حفلة موسيقية أقصر من مدة هذه الحفلة)، يتحول إلى «وضع» ملتقط بما يشبه المصورة اللحظية أو الخطفية. حيث تبدو الحركة وكأنها تسمرّت في لحظة التقاط الصورة وتبدو الحياة وكأنها توقفت تحت رماد بركان مفاجئ. وتمتلئ لوحة معلا بهذه الأوضاع المفارقة والمستقلة والتي يشكل كل واحد منها وحدة ثانوية في مجمل اللوحة. وتتباين موضوعات هذه الوحدات الثانوية تبايناً يجعل من الصعب جداً على المشاهد أن يجمع بينها كما قد يفعل حين يشاهد شريطاً سينمائياً مُقطّعاً تسمح له وحدة الموضوع بدمج صوره وربطها في حركة منطقية. لكن، ورغم ذلك، ثمة حركة داخلية في لوحة معلا، حركة خفية وقوية، تجذب المُشاهد كما تجذب الدوامة السبّاح. هذه الحركة لا تبنيها وحدة الدلالة وإنما تبنيها وحدة الدّال، ولا تنبثق الحركة من وحدة الموضوع، الحكاية، السرد، وإنما من وحدة التقنية، الصنعة، أدوات السرد. وهذا أمر بديهي ما دام الفنان يعمل في الاتصال البصري وليس حكواتياً. كل عناصر اللوحة عند معلا، سواء أكانت هذه العناصر حيّة أم جامدة، حقيقية أم خرافية، تتكون من طينة واحدة هي بقعة سوداء تتلوى، تتكاثف، تتمدد، تتعمق، تتراقص، تشفّ، تتعملق، تتصارع مع الأبيض وتعانقه، تنفيه بعيداً وتخلي له المكان، تميته وتموت فيه، تقول كل الأسماء لكنها الفعل الوحيد. وبها، وعبرها يصطنع الفنان الحركة التي تنقل الصورة الساكنة إلى مشهد متحرك، بل ومتأرجح.

ويلجأ أحمد معلا في لوحته الجديدة أيضاً إلى تقنية ثانية تقرّب عمله من عمل مخرج السينما والمسرح، هي تقنية التوليف أو المونتاج. وهو يستثمر كل عمليات هذه التقنية بدءاً من التشذيب.

فقراءة مجمل مشاهد الذاكرة المنقولة على اللوحات تظهر أن ثمة صوراً كثيرة تجنّب الفنان إسقاطها أو ربما لم يسمح لها بالخروج من دفء الذاكرة. وطبعاً لا يعود لأيّ كان الحق في مساءلة الفنان على اختياراته فذاكرته ملك له وخاصة أنه لا يكتب لنا ذكرياته صوراً بقدر ما يظهر لنا مقدرته على اللعب بهذه الذكريات.

وهناك عملية قطع المشاهد وتركيبها فالأوضاع أو الوحدات الثانوية التي تتكون منها اللوحة وتنتمي إلى عوالم متباينة تماماً، تتشابك في اللوحة الواحدة بواسطة المساحات البيضاء التي ترسم من جهة فضاء وحدة ثانوية ومن جهة أخرى أساس الوحدة الثانوية التالية. فنجد أحياناً عدداً كبيراً الوحدات يسمح لها الفضاء الأبيض بالتحايث والتزامن رغم استحالة ذلك منطقياً. لكننا نعرف أن الفن، كالحب، له منطقه الخاص الذي لا يعرفه المنطق. هذا الاستعمال الأبيض يساعد سيالة الحركة على العبور من حيّز إلى آخر، تماماً مثل الانتقال من مشهد إلى آخر في المسرح وفي سواه من الفنون البصرية.

وأخيراً لا بد من الإشارة إلى البناء الدرامي كتقنية أخرى يلجأ إليها معلا ولا تظهر بشكل خاص في عمليتي المركزة والتوازن. فعالم اللوحة بشكل عام، بما فيه اللوحات الثلاثية الواسعة، وكذلك العالم المجزّأ الخاص بالوحدات الثانوية يتكثف دائماً باتجاه نقطة مركزية ما: مصدر الضوء، كرة سوداء، ثقب أسود تنتهي إليه الأجسام، عنصر تصويري مستهدف (امرأة تغني، عرش وصاحبه، آلاتي...الخ) وتتوضع الكتل التصويرية في بنية متوازنة بالنسبة إلى نقطة المركز. لكن هذا التوازن ليس ستاتيكياً ثابتاً، بل هو توازن ديناميكي أساسه الحركة التي ما أن تندفع قليلاً أكثر مما يجب، حتى ترتد لتعادل الوضع وهكذا دواليك. توازن هدفه إدامة الحركة وليس إفناءها.

قد تظهر هذه القراءة عمل معلا مفارقاً. إذ ما الذي يجعل الفنان يبحث عن موازنة اللوحة وتبئيرها وهو الذي لا يتردد في خلط الموضوعات والأزمنة والأمكنة، وفي بعث الحركة في ما قَدَرُه الثبات؟

سؤال قد تكون الإجابة عليه في التحدي الأولي الذي نراه التحدي المؤسس لكل الفعل الفني، ونقصد بذلك تحدي الزمن. فالفعل الفني يهدف إلى صنع بقاء يقاوم الهرم والموت والنسيان. ومعلا يبالغ في هذا التحدي، إذ لا يجعل الماضي، الذكريات، الذاكرة موضوعاً للفعل فقط بل يفعّل هذا الموضوع، يبعث فيه الحياة، وهذا ما يمكننا أن نصطلح لتسمية تعبير «مسرحة الذاكرة».


د. حسان عباس