فضاء أحمد معلا

قراءة تحليلية نفسية
في تحية أحمد معلا إلى سعد الله ونوس

فضاء أحمد معلا

مدخل:
في سياق البحث عن وجود لونين فقط (الأبيض والأسود) داخل لوحة/معرض أحمد معلا، وقبل البدء بقراءتنا التحليلية نرى من المفيد أولاً، أن نقوم بإلقاء الضوء - بشكل جانبي- على هذين اللونين من خلال زاويتي نظر:
1- الفنون التشكيلية.
2- العلوم الفيزيولوجية.

1- حيث يصّنفان في الفنون التشكيلية بوصفهما من الألوان غير الملونة، هذا إذا أضفنا لهما مزيجهما (اللون الرمادي)، في مقابل الألوان الملونة (الأحمر- الأصفر- الأخضر...الخ)(1).

2- من خلال ما تطلعنا عليه العلوم الفيزيولوجية/السيكولوجية من أن عمى الألوان أو فقدان القدرة على التمييز بين الألوان والمسمى مرض دالتون، يتجلى باقتصار العينين على استخدام لونين فقط هما الأبيض والأسود وما بينهما من درجات اللون الرمادي أثناء تعاملهما مع المثيرات الخارجية(2).

إذاً ومن خلال النظر من هاتين الزاويتين، نرى:

إن قيام أحمد معلا بانتزاعه للألوان الأخرى (الألوان الملوَّنة) من اللوحة/المعرض خلق اضطراباً تشكيلياً بصرياً، مضافاً إليه اضطراباً إدراكياً بصرياً أيضاً، تجلى عبر:

1- تعطيل وظيفة الألوان الملونة وفرض الألوان غير الملونة على الصعيد التشكيلي.
2- تعطيل وظيفة الخلايا المخروطية المتخصصة بالرؤية النهارية (الملونة)، وفرض الخلايا العصوية المتخصصة بالرؤية الليلية (غير الملونة)، كنموذج أو كحل وحيد للرؤية، رؤية اللوحة/المعرض وذلك على الصعيد الفيزيولوجي/السيكولوجي.

نقول الآن:
أية فرصة قد تُركتْ للجمهور أن يقوم بالتلوين بعد ذلك؟! وأي تقشف لوني هذا الذي يدعو إليه أحمد معلا، وأي عالم داخلي يخصه فقط، وماذا يشكّل بالنسبة إليه؟! يقول: (3)
«محاولة أن أقدم معرضي بالأسود والأبيض هي محاولة ترك فرصة للجمهور أن يقوم بالتلوين بنفسه...الخ».

وإذا كان معلا ينفي القصدية في اختيار لوني المعرض مضافاً لهما الرمادي، ويعتبر المسألة مجرد تقشف لوني، يتعلق بعالمه الداخلي الذي يخصه فقط، كما ذكرنا آنفاً.

فقد نتفق معه على أن هذه اللاقصدية إنما حدثت في مستوى الشعور، ولكننا لن نتفق معه على أن حدوث هذه اللاقصدية قد تم أيضاً في مستوى اللاشعور. حيث أن الفعل اللاشعوري يتم بإرادة اللاشعور وتوجيهه ودون وعي من جانب الشخص، حتى أن الشخص نفسه يقاوم تفسيرنا لما ينطوي عليه سلوكه من عناصر لا شعورية يُنكرها ولا يحسُّ بها في واقعه أو إدراكه الشعوري.

وبتكامل ما يذكرهُ التحليل النفسي مع علوم الفيزيولوجيا من خلال تأكيدها أن الخلايا العضوية:(5) «تحتوي على صباغ خاص بها، وتتصف بالمقارنة مع الخلايا المخروطية بعتبة تنبيه منخفضة، تختص بالرؤية الليلية (الرؤية في الظلام) لذلك نرى الأجسام في الليل باللونين الأبيض والأسود وما بينهما من درجات اللون الرمادي».

لن يكون ثمة شك بعد كل هذا العرض أن نستنتج النتيجة التالية: إن عملية وجود لونين فقط مضافاً لهما مزيجهما، هي عملية قصدية بشكل صريح على خلاف ما يذهب إليه معلا، وهذه القصدية إنما تتصف بكونها قصدية لا شعورية.

في القراءة:
انطلاقا من النتيجة السابقة نحاول الآن هذه القراءة في ضوء التحليل النفسي، وحرصاً على إغنائها ودفع عملية التفاعل بينها وبين القارئ، ومنعاً لإحساس القارئ بأن ثمة مسافة مفاهيمية أو مصطلحاتية قد تتشكل بينه وبينها، نرى أن نقوم بدايةً بشرح مختصر لمصطلحٍ سيكون له أثره في فهم هذه القراءة، ألا وهو مصطلح «عقدة أوديب»، وهي أهم العقد النفسية جميعها، ويقال لها العقدة الأم أو الأساس أو النواة(6) لأن كل العقد الأخرى تشتق منها بطريقة أو بأخرى، أو أنها تستقي من نفس المصدر الذي تقوم عليه أو تدور حول موضوع فرعي من موضوعاتها، وهي «الجملة المنظمة من رغبات الحب والعداء التي يشعر بها الطفل تجاه والديه»، تظهر هذه العقدة في شكلها المسمى إيجابياً كما في قصة أوديب-الملك، أي رغبة في موت المنافس وهو الشخص من نفس الجنس، ورغبة جنسية في الشخص من الجنس المقابل، أما في شكلها السلبي فتأخذ منحىً مقلوباً.
وينكب علم الأناسة التحليلي الذي يؤكد عالمية عقدة أوديب على العثور على بنيتها الثلاثية في أكثر الثقافات تنوعاً، وليس فقط تلك التي تسود فيها الأسرة الزوجية.(7)

وقصة أوديب كما طرحها سوفوكل عمل أدبي ممتاز، وفي رأي مدرسة التحليل النفسي أن الأعمال الإبداعية العبقرية لها القدرة عن التعبير عن محتويات اللاشعور الشخصي والجماعي، وقصة أوديب تعكس الرغبات المكبوتة في لاشعور سوفوكل وهي في نفس الوقت صدى لوقائع حية عرفها الناس واستوحاها الكاتب بحسه الصافي المبدع. (8)

والقصة باختصار: «يقوم أوديب بقتل أباه (لايوس) ويتزوج من أمه (جوكاستا) دون معرفته بأن ذاك أباه وتلك أمه، وعندما يكتشف الحقيقة يسمل عينيه ويخرج من مملكته أعمى محطماً لا وجهة له تقوده ابنته أنتيجون». وتناول فرويد الأسطورة واستقرأ فيها أبعاداً نفسية ثم أضفى عليها تفسيرات وتأويلات أبدع فيها كإبداع سوفوكل نفسه، وطرحها طرحاً علمياً جعل منها فرضية مقبولة لدى الكثيرين.

حيث يرى أن حزن أوديب ليس إلا مشاعر الذنب تأخذ بخناقه، وليس سمل العينين إلا عقوبة الخصاء يهدد بها الآباء أولادهم الذكور، فأوقعها أوديب بنفسه ومارس بها الخصاء الذاتي، حتى يعاقب نفسه بما كان من الممكن أن يعاقبه به أبوه أو الآلهة تكفيراً عن ذنبه.

فيكون الخصاء هنا دلالة مجازية أو استعارية لواقع نفسي امتنع عليه النشاط الجنسي فيه، إذ أن الموقف المعاش إنما هو موقف داخلي يرتبط بعقدة الخصاء. فما العمى الذي يعاقب به أوديب نفسه غير بديل رمزي للخصاء على حد تعبير فرويد. (9)

وفي عودتنا إلى القراءة وانطلاقاً من النتيجة التي حصلنا عليها سابقاً من أن عملية وجود لونين مضافاً لهما مزيجهما داخل اللوحة/المعرض هي عملية قصدية لا شعورية.
لنطرح الآن السؤال التالي: ترى ما الذي قصد به معلا لا شعورياً من تلك العملية؟!

لنلاحظ أولاًً: إن قيام معلا (المقصود لا شعورياً) بانتزاع الألوان الملونة من اللوحة/المعرض، إنما كان يقوم وبنفس الوقت (بقصدية لا شعورية) بتعطيل الخلايا المخروطية لعيني المشاهد على الصعيد الفيزيولوجي.

هذا ومن خلال العرض السابق لعقدة أوديب، ومن خلال فهمنا لعلاقة الإنابة التي تتجلى في الأحلام (الاستيهامات، الهفوات...الخ) في التحليل النفسي بين العينين وعضو الذكورة.
يمكن أن نفهم القصد الذي أراد معلا (لا شعورياً) أن يوصله إلينا.

- لقد قام بخصاء العينين = أعيننا.
- ليدل مجازياً على خصائنا = واقعنا.
- هذا وفي السياق نفسه ومن جراء الخشية على أعيننا من الخصاء الحقيقي، والتي يعلنها معلا بقيامه بهذا الفعل = اللوحة.

هل سيكون مفهوماً أن تكون الخشية على العينين ذات علاقة بموت الأب، وهل سيكون مفهوماً أن مجرّد قيام معلا بفعل الخشية هو الدلالة المادية والحسية على الرغبة الأكيدة في غيابه، أو بشكل أدق، على الرغبة الأكيدة بقتله.

باختصار، إن أحمد معلا من خلال عمله هذا يقدم لنا الطرح التالي:
1- نحن = واقعنا: بدون عينين

بالمقابل يجب أن نفهم أن حالة بدون عينين هي المكافىء الرمزي للخصاء كما وجدنا، أي :
2- نحن = واقعنا: بدون عضو ذكورة
هذا يؤدي نحن = واقعنا مخصي.

وهذا وعلى مستوى آخر يرى فرويد (10): إن الأنا الأعلى هو بمثابة الرقيب على مجموعة الأوامر والنواهي والقواعد السلطوية والتي تمثل الضمير في مجتمع ما.

إنه تقليدياً يعرف كوريث لعقدة أوديب، إذ يتشكل من استدخال المتطلبات والنواحي الوالدية والخوف من الخصاء والكبت للميول الجنسية أو العدوانية. وينوب الأنا الأعلى عن الأب في تهديده للشخص بالعقاب والإذلال كلما هم أن يأتي إحدى الخطايا. هذا وعلى مستوى نظرية التحليل النفسي نرى أن كل عقاب وراءه عقدة أوديب وهي بالنسبة للعصاب بمثابة النواة.

وقد يُظهر المرضى بالفصام أعراضاً أوديبية كالتي وصفها سوفوكل فيذكر المريض أن له أباً، أو يتحدث عن أمه وكأنها زوجته، أو عن أخوته كأولاده، ويتصرف كالأعمى أو الخصي، وقد يذكر ذلك صراحةً وكأنه يعيش مأساة أوديب بكل تفاصيلها.

في المكان:
فيما نرى ومن جرّاء قراءتنا لهذه التجربة نقول: إن أحمد معلا حاول تقديم المعادلة الصعبة في مغامرة تكاد تكون مستحيلة. لماذا؟! ذلك أنّه لولا قراءة أحمد معلا الذكية للمكان ولولا التوظيف الخلاق لصالة العرض (غاليري أتاسي) لما كان لتجربته هذه الريادة التشكيلية التي نرى أنه يحققها ابتداءً من "ميرو بثلاث أبعاد".

- لأول مرة (في حدود معرفتنا) تتم قراءة أرضية الصالة على هذا النحو حيث تصبح الأرضية (بما فيها من حوض ماء أسود وبيضة سوداء كبيرة وإسفلت مفروش بالإضافة لما توحيه كل هذه الأشياء) هي أرضية اللوحة نفسها ويصبح المشاهد واقف عليها وفيها، بل يصبح نفسه أداة العرض.

- في عمله هذا – كما هو امتداد لتجارب سابقة كذلك - هو إضافة نوعية لها نرى: إن المشاهد يدخل إلى داخل اللوحة كما يدخل إلى كهف (أرضية الصالة هي أرضية اللوحة، سقف الصالة هي سقف اللوحة، جدران الصالة هي جدران اللوحة).

- تتحول اللوحة هنا إلى مكان مغلق، مسرح مغلق.

- اللوحة تحوطه من الجهات الست مما يؤدي إلى ازدياد عدد جهات اتصاله البصري أو بعبارة أخرى مما يفرض على المتلقي/المشاهد استنفار حواسه الاتصالية بل زيادتها إن أمكن - كما هو واقع في المعرض - من خلال الاستفادة من عدة فنون حيث تتنوع طرق الاتصال من أحادية الاتصال البصري إلى الاتصال اللمسي (المشخصات)، وحتى إلى الاتصال السمعي (موسيقى).

ترى إلى أي مدى يمكن أن نقارن هذه التعددية في طرق الاتصال التعبيري التي يقترحها أحمد معلا بالتعددية في طرق الاتصال البشري التي اقترحها سعد الله ونوس من خلال الجوع إلى الحوار في يوم المسرح؟! ترى وهل نكون مخطئين - حينها - إذا ما قمنا بهذه المقارنة ؟!

في الطقس:
يقول أحمد معلا معلقاً على معرضه بالندوة التي أقيمت في مركز الدراسات الفرنسية: «إن المعرض الحالي، أتى بشكله الجديد لأن الناس أحبوا الدخول إلى اللوحة من خلال الطقس الفني، وأنه حريصٌ على تقديم ما يريده الناس لأنهم الأهم في تجربته» (11).

وقبل البدء في محاولتنا لقراءة الطقس، نريد أن نسأل:
1- ما هو الطقس، ما هي ميّزته؟!
2- كيف تقوم ممارسة الطقوس؟!

يقول د. صناوي(12) في دراسة له عن رؤية الكون عند الجماعات البدائية: «الطقس هو فعل أو سلوك فردي أو جماعي يخضع لبعض القواعد ويتكرر وفق مخطط على درجة من الثبات، أو على الأقل من قابلية الثبات. وميزة الطقس أنه لا يجد مسوِّغاً له في حوافز نفعية ملموسة، لذا كان غالباً ذا طابع ديني – سحري -خرافي- تطيّري.

ويمكننا تمييز طقوس إيجابية (كالصلاة والقرابين) وطقوس سلبية (كالمحرمات التي هي المحظورات). ويمكن كذلك إيجاد فرق بين طقوس يدوية أو على الأقل حركية (كالأضحيات والرقصات) وطقوس شفوية (كالصلوات والعزائم والرقى).

وهناك طقوس تسمى (طقوس العبور) تقام في مناسبات العبور من مجال إلى آخر (كالولادة والتكريس – التبني – الزواج – الوفاة).

هذا وتقوم ممارسة الطقوس على نوعين من العلاقات:
1- علاقة المؤمن بالقوة الغيبية.
2- علاقتهم ببعضهم البعض.

والنوعان من العلاقات متداخلان، مترابطان، فالإيمان يقوى مع الجماعة، والجماعة تشتدّ وتقوى بالممارسات الطقسية المشتركة».

«ولا شك في أن الممارسة الجماعية للطقس وما تهيئ له من ظروف الخشوع والرهبة تقويها الموسيقى والتراتيل والأناشيد والنيران والأضواء وما ينتظره المؤمن خلالها من إشارات وإمارات وانفعالات وما يقوم به من حركات ورقصات تغرقه وسائر أفراد الجماعة في حالة من التوتر الشديد، يعللها من يحس بها بأنها أثر لقدوم المقدس اليه»(13).

إن البحث الدقيق في تاريخ بروز موضوع ما واحتلاله مكان الصدارة في أي مجتمع من المجتمعات سيحيلنا إلى البحث في الظرف الزماني والمكاني الذي ظهر فيهما ذلك الموضوع، وعبر التاريخ، فإن كل موضوع حقق حضوراً ما، كان بحاجة إلى مناخ، إلى بيئة، إلى طقس مناسب، كي يحقق ذلك الحضور على الوجه الأمثل.

- وتاريخياً ارتبط الشرق بالمناخ أو الطقس السحري. وارتبط إنسان هذا الشرق بسلوكيات طقوسية تكاد ترافقه في كل فعل يقوم به.

- إذ لا نجد من داع لكي نستعرض الكثير من الأمثلة للتأكيد على ذلك (14).

- فأشكال الفكر الأسطوري والمعرفي المرتبط بطقوس سلوكية عند العرب على سبيل المثال ليست قضية تهم إنسان المجتمعات القديمة فقط وإنما تهمنا نحن في هذا العصر.

- إن كثيراً من الأساطير والطقوس التي كانت سائدة في الجاهلية ظلّت مستمرة في ظل الإسلام مشكلة جزءاً من الوعي ورؤية العالم، ومستمرة في الحضور عبر الوراثة الاجتماعية أو غيرها.

- ذلك أنَّ الإسلام عندما جاء قد انتبه إلى هذه النقطة. ولم يقم بعملية بترها كاملاً أو إغفالها بل تعامل معها وفق مبدأ التحويل، فترك بعضها وقام بتحويل البعض الآخر حتى استطاع أن يصل في مرحلة متقدمة إلى وجود طقوس إسلامية في مقابل طقوس جاهلية - كانت سائدة قبله – أي أنَّه - وبتعبير سيكولوجيا التعليم- شكل ما يمكن أن نقول عنه من أنَّ الطقوس في النهاية ما هي إلا عوامل مساعدة لإتمام عملية التعلم.

ولقد تنبه أحمد معلا لهذه العوامل المساعدة لإتمام عملية التعلم (الفنية) هذه، وهو في تنبهه لهذه النقطة يحاول التعامل معها بشكل ملفت، حتى أنها بدأت تشكل ظاهرة مرافقة لأعماله ابتداء من عام 1993 حيث اكتشف: «أن الجمهور لديه رغبة للطقس وأن يعيش داخله فطبّقه في ميرو».

- مما نرى فإن هذه الظاهرة بحاجة للدراسة بمفردها، بشكل أكثر شمولاً وتوسعاً مما قمنا به سابقاً. (15)

- هنا نرى أنه يحق لنا، أن نسأل: ترى بما أن أحمد معلا راعى ما يريده الناس، ألم يخسر شيئاً مما أراد أن يقوله هو؟ بشكل آخر: إلى أي مدى أثرت الجماهيرية على الإبداعية في طرحه هذا؟!

- قبل الإجابة نريد إن نتوقف قليلاً لنستعرض كلام فرويد إذ يقول: «إن اهتمام الناس الحقيقي بالفن لا ينصب على الفن ذاته بل على الصورة التي يصنعونها لأنفسهم عن الفنان: صورة الرجل العظيم. فالناس يعبدون الفنان في الواقع كما يفعلون مع كل رجل عظيم. ذلك لأن الناس يسلكون سلوكاً طفالياً في علاقتهم بالفنان».

- وما دمنا في معرض كلام فرويد نريد أن نلفت النظر إلى أن فرويد نفسه استخدم العنصر الطقسي في التحليل النفسي (الأرثوذكسي). «فالمتكأ وكنبة المحلل خلفه.

الجلسات الأربع أو الخمس أسبوعياً، صمت المحلل إلا عندما يدلي بتفسير ما، كل ذلك قد تحول من وسائل مفيدة إلى طقس مقدس. لا معنى للتحليل النفسي الأرثوذكسي بدونه». (16)

مثلاً: إن العميل لا يجب أن يلحظ ردة فعل المحلل على ما يقوله، لذا من الأفضل أن يجلس المحلل خلفه أو أن يشعر العميل براحة أكثر عندما لا يحتاج إلى النظر إلى المحلل، ولأن وضع المتكأ يخلق وضعية «طفلية اصطناعية توفر أفضل تطور للنقل»، أي لإتمام العملية التحليلية النفسية. هذا وبالعودة إلى ما ذكره د.ضناوي – آنفاً – ثم قيامنا بعملية ملاحظة دقيقة لتلك الوضعية من الحركات والسلوكات (انفعالات–إمارات– إشارات...الخ) التي تغرق المؤمن في حالة من التوتر الشديد، يعللها من يحس بها بأنها «أثر لقدوم المقدس إليه».

- على صعيد أول، إذا نظرنا إلى تلك الوضعية التي تتجلى عبر أسلوب ديني أو لغة دينية سنلاحظ إنها مشابهة كثيراً على - صعيد ثانٍ – إن لم تكن بنفس الوضعية (الطفلية الاصطناعية) التي يحاول التحليل النفسي خلقها أو الوصول إليها عبر أسلوب نفسي أو لغة نفسية.

- وبالتالي لنلاحظ - وعلى صعيد آخر - أنها مشابهة إن لم تكن نفس وضعية اللوحة/المعرض، التي حاول أحمد معلا تكوينها وتشكيلها عبر أسلوب فني أو لغة فني.
إذاً، في حين اعتمد الدين عبر الممارسة الفردية أو الجماعية الوصول إلى هدفه من خلال إيجاد طقس ديني، ثم اعتمد التحليل النفسي الوصول إلى هدفه من خلال إيجاد طقس نفسي، نرى أن أحمد معلا اعتمد إيجاد طقس فني من أجل الوصول إلى هدفه.

- وهذا ما نراه جلياً في استخدامه العنصر الطقسي بشكل فني مع وضوح استفاداته من الديني – والنفسي.

– ترى هل هذا الشكل الذي توصل إليه معلا والذي تجلى بالمعرض/اللوحة، بكل ما يحتويه من مشخصات (مصوتات–مبصرات) هو ما كان يصده في بداية حديثه بالطقس الفني عندما قال: «إن الناس أحبوا الدخول إلى اللوحة من خلال الطقس الفني».

- هذا ومن خلال تناولنا للموضوع من هذه الزاوية نستطيع أن نفسر إلى حد كبير كثيراً من السلوكات التي رافقت المعرض. ذلك أن ممارسة الطقوس – من زاوية الديني – كما ذكر د. ضناوي تقوم على:
1- علاقة المؤمن بالقوة الغيبية.
2- علاقتهم ببعضهم البعض.

وكمحاولة لمعرفة كيفية الممارسة الفنية نرى أن تلك السلوكات التي رافقت المعرض -على اعتبار أنها في النهاية تشكل بشكل من الأشكال- ممارسة طقسية فنية، إنما تقوم (أو قامت) على نوعين من العلاقات :

1-علاقة المتلقي بالقوة (الفنية): أي علاقة المتلقي باللوحة التي تحوطه من جميع الجهات.
2-علاقة المتلقين بعضهم ببعض – داخل المعرض/اللوحة – على اعتبار أنهم موجودون في زمان ومكان واحد، مع أننا نرجّح النصيب الأكبر للعلاقة الأولى.

- إذ بعد ولوج المتلقي/المشاهد داخل هذه اللوحة/الطقس تصبح اللوحة التي تحوطه هي المصدر الأساسي للعملية التأملية/الحوارية التي يستثيرها وجوده داخلها وخضوعه لشروطها (البصرية – السمعية – اللمسية)، وتصبح المسافة التي تصل حواسه (حاسته) باللوحة بمثابة حبل السرة الذي يربط الجنين بأمه. كيفما نظر، كيفما وجّه سمعه، كيفما مدّ أصابعه، ثمَّة أداة اتصالية موجودة تربطه بالموضوع داخل ذلك الطقس وتمده بالغذاء الفني، كحبل السرة.

- ترى: هل هذا ما أراده أحمد معلا أن يتحقق فعلاً بين المتلقي ولوحته (أرجو أن تفهم كلمة لوحة هنا على أنها الصالة بالكامل). هل أراد معلا أن تكون اللوحة بمثابة «الأم = القوة الفنيّة» التي تمد الطفل «بالغذاء = الحياة». عبر أداة اتصالية هي «حبل السرة = الحواس».

- هذا وفيما نرى: إن مماثلة أحمد معلا للوحة بالأم على الصعيد البيولوجي النفسي، يقابله رمزيَّاً مماثلته للوحة بالوعي على الصعيد الأيديولوجي الفكري، ومن هذه النقطة بالذات يتحقق جدوى الحوار التأملي.

ويتوفر أفضل تحقق للنقل أو للتحويل الفني كما نصطلح تسميته – أي تحقق النقل أو التحويل بشكله الإيجابي – إذا عرفنا أنَّ للنقل أو التحويل في التحليل النفسي شكلاً إيجابياً وآخر سلبياً.

وكأن أحمد معلا بهذه العملية يريد أن يزيح وعي المتلقي (الجمهور) عما هو عليه إلى وعي آخر يتطابق مع رؤيته هو: وبالتالي يتأكد لنا من خلال هذه العملية أنَّ معلا لم يتنازل عن رؤيته الإبداعية (الجمالية/الفكرية) على حساب الجماهيرية، بل إنه قام بعملية استيعاب لوعي الجمهور الفني/الفكري ومحاولة الصعود به إلى وعي آخر جديد.

في نهاية بحثنا في الطقس نريد أن نلفت النظر إلى الملاحظة التالية: إن معلا على ما يبدو عليه من إغراقه في الحداثي و مما يظهر من استفاداته من التقنية الغربية لا تنقصه الأصالة في عمله هذا، بل إنه يبدو في محاولته هذه كمن يؤسس لتراث تشكيلي جديد منطلقاً في مشروعه من استيعابه للمنجز الحضاري (الفني) لهذا المكان من العالم، ومحاولاً قراءته قراءة جديدة تتفق وروح الحاضر دون أن تلغي الماضي، جادَّاً السعي لاكتشاف المنظومة الفنية و الفكرية التي تشكل شخصية هذا الإنسان في هذا المكان من العالم.

وقد قاده اكتشافه هذا إلى استخدام الظواهر الفنية التي كان لها الجزء الأكبر في بناء الشخصية الفنية لهذا الإنسان عبر التاريخ. هذا الاستخدام الذي تجلى بشكل عصري بدا واضحاً في الطقس التشكيلي الذي يدعو معلا له.

ونرى أن معلا في مشروعه هذا يحاول ما حاوله سعد الله ونوس في المسرح، إذ على الرغم مما يبدو عليه مسرح ونوس من إغراقه في الحداثي ووضوح استفاداته من التقنية الغربية، إلا أنَّا لا نستطيع الادعاء بأن مسرح ونوس لم يكن منطلقاً من أصالة راسخة، بل إن ونوس على الرغم من تأخره (زمنياً) عن الرواد الأوائل للمسرح العربي، إلا أنه يعتبر من أهم من حاول تأسيس مسرح عربي ذو شخصية عربية تنطلق في تقاليدها المسرحية من التراث الحضاري العريق لهذا المكان من العالم، وذلك من خلال البحث عن الظواهر المسرحية في الثقافة العربية ومحاولة الاستفادة منها و توظيفها في أساليب الفرجة المسرحية. مما أعطى مسرحه - على تأخره زمنياً – هذه الريادة في التأسيس الفعلي لمسرحٍ عربي ذي شخصية عربية.

في التجربة:
- بالعودة إلى كلام فرويد حيث يقول: «إن الناس يعبدون الفنان في الواقع كما يفعلون مع كل رجل عظيم»(17) ويرى أن الاهتمام الذي يثيره الرجل العظيم مرده التأثير الذي يمارسه على الناس وهذا التأثير غير ممكن لأن الناس الآخرين يحتاجون إلى الإعجاب بسلطة من السلطات بوصفهم ينجذبون لكل بديل عن الأب.

- ويلتزم فرويد إذ يطبق التحليل النفسي على الفن بتنفيذ «قتل الأب وبدائله»، «فالخصائص المعزوّة إلى الرجل العظيم هي خصائص الأب»(18).

وبناءً عليه فإن مفهوم الرجل العظيم مفهوم ذرائعي لا يجد وحدته إلا بتماثل ردود الفعل النفسية الطفالية، ولكن التقدير النفسي المغالي للأب ليس سوى مرحلة واحدة، والطفل ينفصل عن أبويه تحت تأثير المنافسة وخيبة الآمال وتبني موقف نقدي إزاء الأب، وتنبعث عندئذ أسطورة البطل الذي يخلف الأب وينتهي دائماً إلى قتله...الخ.

إذاً ومن خلال كل ما سبق نستطيع أن ننظر إلى تجربة معلا هذه على مستويين:
- المستوى الأول (الأفقي): إن أحمد معلا من خلال تبنيه موقفاً نقدياً إزاء الأب:

1- الأب = الأوامر والنواهي، والقواعد السلطوية = النظام الأخلاقي التشكيلي، وفي هذا السياق يقول أحمد معلا: «إن إحساسي أن الحركة التشكيلية جامدة ونموذجية، إنها حركة دون أخطاء لدرجة أنها حركة ثابتة ومضطرون لتسميتها حركة بالكلام وليس بالفعل» (19).

- إذاً من خلال تبنيه هذا الموقف النقدي:
2- يطرح نفسه ذلك الشخص الذي يخالف الأب منتهياً إلى قتله، القتل هنا يتجلى مكافئه الرمزي في عملية الانقلاب الذي يحاوله أحمد معلا في الوسط التشكيلي من خلال إصراره على البحث داخل اللوحة وليس في البحث عن اللوحة. وبالتالي خرقه لأوامر ونواهي وقواعد النظام الأخلاقي التشكيلي التي تسيِّر واقعه. وفي هذا السياق كثيراً ما يردَّد: «الفرق بيني وبين الآخرين أنني أبحث عن الفن فيما هم يبحثون عن اللوحة».

- أما المستوى الثاني الذي يمكن أن ننظر إلى تجربة معلا هذه من خلاله (المستوى العمودي وهو الأهم): فإن أحمد معلا من خلال تبنيه موقفاً نقدياً إزاء الأب:

1- الأب = الأوامر والنواهي والقواعد السلطوية = النظام الأخلاقي السائد في الواقع العربي، إذاً وبنفس الأسلوب الذي اتبعناه في الطريقة السابقة نقول أنه من خلال تبني أحمد معلا هذا الموقف النقدي، فإنه على المستوى العامودي (الجماعي/الثقافي).

2- يطرح سعد الله ونوس على أنه ذلك الشخص الذي يخلف الأب منتهياً إلى قتله. هنا يجب أن نفهم أن طرح أحمد معلا لسعد الله ونوس لا يقتصر على الاسم (اسم الكاتب) بل يطرحه بما يرمز إليه هذا الاسم، أي إن طرح أحمد معلا لاسم سعد الله ونوس = الثقافة = الوعي. الذي يجب أن يخلف هذا الأب = النظام الأخلاقي السائد في الواقع العربي، منتهياً إلى قتله، القتل هنا هو الفعل الجماعي الإيجابي/المادي وسط هذا السكون المخزي للحاضر العربي. كما يضمر معلا في طرحه.

ملاحظة: الآن وبعد هذا العرض نريد أن نلفت الانتباه إلى الملاحظة التالية: لو أن أحمد معلا اكتفى في طرحه (مشروعه) بالمستوى الأفقي مهملاً المستوى العامودي، لفقد مشروعه ومصداقيته ولكان من السهل جداً أن نتهم أحمد معلا بالنرجسية وبأنانية الطرح (المشروع)، ولكان طرح أحمد معلا (مشروعه) يتناقض أصلاًُ مع ما يدعو إليه من تعددية طرق الاتصال.

1- ولكن وجود «التحية» كفعل يتقبل الآخر ويدعو إلى الاحتفال به ومعه.
2- ثم وجود اسم سعد الله ونوس كرمز يعبر عن كلمة السر أو الحل الذي يمكن أن يتحقق الفعل الجماعي المادي من خلاله.

هاتان الركيزتان:
1- وجود التحية = الحوار.
مقرونة باسم
2- سعد الله ونوس = الثقافة = الوعي.

هما البرهانان الأكيدان على مصداقية طرح (مشروع) أحمد معلا وجديَّته واللتان لولا وجودهما بهذا الشكل من الاتساق والترابط لتشكلت ثغرة كان من السهل جداً أن تؤدي إلى نسف مصداقية مشروع أحمد معلا بالكامل.

كلمة أخيرة:
في ختام هذه القراءة، نرى أنه من الواجب أن نرفع أيدينا تحيةً لأحمد معلا قائلين له: «إنك أكدت لنا من خلال تجربتك هذه أن سعد الله ونوس الإنسان، سعد الله ونوس المبدع، موجودٌ في لاوعينا بمقدار ما هو موجودٌ في وعينا».

ذلك أن سعد الله ونوس أصبح رمزاً من رموز الثقافة العربية وإن أمةً لا تبدع رموزها، ولا تحتفل بها، هي أمة إلى فناء.

دمشق/نيسان/1997

الهوامش:
1. د. دملخي. إبراهيم، الألوان نظرياً وعملياً، ص 22.
2. د. منصور الأحمد، سيكولوجيا الإدراك، ص 169.
3. الثورة، لقاء مع الفنان، العدد 10252، ص 6.
4. كراس معرض «تحية لسعد الله ونوس»، ص 19.
5. مجلة العلوم الأمريكية المترجمة إلى اللغة العربية، عدد خاص «العقل والدماغ».
6. د. حنفي، عبد المنعم، الموسوعة النفسية الجنسية، ص 501.
7. لا بلانش، بونتاليس، معجم ومصطلحات التحليل النفسي.
8. د. حنفي، مصدر سابق.
9. د. طه، فرج عبد القادر، المعجم الموسوعي لعلم النفس والتحليل النفسي.
10. لا بلانش، بونتاليس، مصدر سابق، ص 111.
11. الثورة، مصدر سابق، ص 6.
12. د. ضناوي، صعدي، مجلة كتابات معاصرة، عدد 24، ص 52.
13. المرجع السابق، ص 54.
14. نحيل القارئ للاطلاع على موسوعة أساطير العرب، ج1- ج2، د. محمد عجينة.
15. قراءتنا المعنونة «هلع الكابوس»، عن محاولة تحليل السلوكات التي شكلت تلك الظاهرة المرافقة للمعرض.
16. فروم، إريك، مهمة فرويد، ص 107.
17. كوفمان، سارة، طفولة الفن، ص 33.
18. المصدر السابق، ص 33.
19. الثورة، مصدر سابق، لقاء مع الفنان.

المصدر للقراءات الثلاثة:
1. مجلة كتابات معاصرة، عدد 24، نيسان- أيار، المجلد السادس، 1995.
2. مجلة الثقافة النفسية، دار النهضة العربية، العدد التاسع عشر، حزيران، 1994.
3. مجلة العلوم الأمريكية المترجمة إلى اللغة العربية، المجلد 10، العدد 5، مايو 1994، عدد خاص: الكويت مؤسسة التقدم العلمي.
4. صحيفة الثورة السورية، العدد /10252/، تاريخ 26/3/1997.
5. صحيفة الثورة السورية، العدد /10265/، تاريخ 10/4/1997.
6. كراس معرض «تحية لسعد الله ونوس»، غاليري أتاسي، 1997.

المراجع:
1. الألوان نظرياً وعلمياً، د. إبراهيم دملخي، منشورات جامعة دمشق، 1994.
2. أساس البلاغة، الزمخشري، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت ط1/1996.
3. سيكولوجيا الإدراك، د. علي منصور، د. أمل الأحمد، منشورات جامعة دمشق، 95/96.
4. طفولة الفن، سارة كوفمان، ت: وجيه أسعد، وزارة الثقافة، دمشق، 1989.
5. علم نفس الصورة، مدخل إلى تكون صورة المرأة لدى الطفل، د. أفرفار، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1997.
6. معجم ومصطلحات التحليل النفسي، جان لابلانس وبونتاليس، ت: د. مصطفى حجازي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط2/1987، بيروت.
7. المعجم الموسوعي لعلم النفس والتحليل النفسي، د. فرج عبد القادر، ط2، دار سعاد الصباح، القاهرة-الكويت، ط1/1993.
8. المعجم الموسوعي لعلم النفس، ت: رالف رزق الله، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، 1991.
9. المبادئ الأساسية في الطب النفسي، ت: مجموعة، دمشق، 1993.
10. المعجم العربي الأساسي، لاروس، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، جامعة الدول العربية بدون تاريخ.
11. موسوعة أساطير العرب، ج1-ج2، د. محمد عجينة، دار الفارابي، بيروت.
12. مهمة فرويد، إريك فروم، ت: طلال عتريس، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1987.
13. الموسوعة النفسية الجنسية، د. عبد المنعم الحنفي، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط2/1997.


فداء الغضبان