الموسيقى العربية والتركية والقواسم المشتركة

ملخص بحث الدكتور علي القيم – سورية
في مؤتمر العرب والأتراك.. مسيرة تاريخ وحضارة

زرت تركيا مرات عديدة، لحضور اجتماعات مجلس إدارة «مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية باستانبول» المعروف باسم «أرسيكا» ومقره في قصر أثري جميل من أشهر وأجمل القصور العثمانية ويدعى «قصر يلدز» وكانت مناسبة جيدة للاطلاع عن قرب على معالم هذه المدينة العريقة الحافلة بشتى أنواع التراث الإسلامي العريق وفنون العمارة الذي تزخر به، وعلى نماذج لافتة للسمع من أنواع الموسيقى التركية القريبة إلى قلوبنا وأسماعنا، ومدى التأثير والتأثر الحاصل بينها وبين موسيقانا العربية، في الماضي، كما في الحاضر...

لقد عدت من زيارتي بمجموعة كبيرة من الأشرطة والأسطوانات المدمجة لأعلام الموسيقى التركية، القدماء منهم والجدد، وبعد استماع دقيق وطويل، وجدت بأن الثقافة التركية في الموسيقى بكليتها مزيج عجيب من العناصر المتنوعة والمتباينة فعلاوة على خاصيتهم المكتسبة، فقد أخذ الأتراك كثيراً من الموضوعات الفنية والاصطلاحات الأدبية، وأن الموسيقى التركية الكلاسيكية، هي توأم الموسيقى العربية، وصنوها إذ تطورنا نظرياً وعملياً من بيئات شرقية وذلك على مرحلتين:

ـ الأولى: تتسم بالأصالة العربية والتركيز النظري والعملي حتى العصر الذهبي العباسي.

ـ الثانية: تتسم بالتفتح والتثاقف والتداخل مع مختلف العناصر المكونة للعالم الإسلامي، تمكنت بعدها بدعم من السلطة العثمانية، من التألق ثانية في مجالات الخلق والإبداع.

المرحلة الأولى، مراجعها قليلة، ويوجد من الوثائق ما ذكره (أبو الفرج الأصفهاني) في كتابه (الأغاني) من أن أبا يحيى عبد الله بن سريج المغني الذي طوت شهرته أرجاء الحجاز ليعتبر من أصول الغناء العربي في العهد الأموي، مع ابن محرز ومعبد ومالك، وقد ولد بمكة المكرمة في السنة الثانية عشرة للهجرة من أب تركي، ولا بد أنه قد تأثر بكلامه وبألحانه وتقاليده التركية.

ويروي لنا الكتاب نفسه أن مسلم بن محرز بن المكي، سافر إلى فارس وتعلم الغناء بها، ثم صار إلى الشام وتعلم بها غناء الروم، ليحدث بعد ذلك مدرسته الخاصة التي أنتج بها غناء (الرمل) وطور بها الغناء العربي من الاعتماد على البيت الواحد من الشعر إلى البيتين، وتبعه المغنون بعده في أغلب الدول الإسلامية، ويعتبر إنتاج ابن محرز، أول تفاعل حقيقي بين الموسيقى العربية والتركية.

واشتهر في العصر العباسي زامر تركي يدعى (برسوم) كان على درجة من الفن، جعلت أكابر فنانين عصره مثل (إسماعيل بن جامع) و(إبراهيم الموصلي) يتحاكمان لديه فيجيبهما بقوله: الموصلي بستان تجد فيه الحلو والحامض والطري والذي لم ينضج، فتأكل من هذا وذاك، وابن جامع زق عسل، إن فتحت فمه خرج عسل حلو تأكله.

أما الفترة الثانية، فقد كانت فترة تحول جذري تعانق فيها الشعبان العربي والتركي، تحت راية الدين الإسلامي، وامتزجت ثقافاتهما امتزاجاً كلياً، وظهر ذلك جلياً في نظم الأغاني والتأليف الموسيقي، وفي مستوى الترنيمات الموسيقية، فإخواننا الأتراك يستعملون الكلمة العربية (يا ليل) وما تفرع عنها مثل (يالاللي)، كما نستعمل في الغناء العربي حتى اليوم (جانم وأفندم) و(آمان) للاستعطاف، كما اشترك الشعبان مع الشعب الإيراني في توحيد أسماء درجات السلم الموسيقي أو أسماء المقامات الموسيقية أو المصطلحات الغنية.

ودخل الغناء التركي شتى أرجاء الوطن العربي عن طريق التهاليل المستعملة في المساجد، وقبيل صلاة العيدين، ومنهم من يترنم بها عند الإتيان بالإمام من بيته إلى الجامع، وحتى المآتم...

وكان المعهد الموسيقي الرسمي باستانبول المعروف باسم (دار الألحان التركية) دوره الفعال في خدمة الموسيقى التركية بشكل خاص والموسيقى الشرقية بشكل عام، حيث أنه كان قبلة الفنانين، وقد تخرج منه العديد، وأقيمت في رحابة أبحاث على غاية من الأهمية في شتى المجالات الموسيقية، ساهم بها خير إسهام في تطور ودراسة الموسيقى العربية، وكانت أكثر اتجاهات هذه الأبحاث تتبنى وجهة النظر العربية المتوارثة، ونلاحظ أن هذا التثاقف بين الموسيقى التركية والعربية مكن من ازدهار وتطور الموسيقى على يد عبده الحمولي ومحمد عثمان، وتم تهذيب التواشيح والقدود وتبادل ترجمتها بين الشعبين، وبفضل التثاقف الإيجابي بين الموسيقى السورية والتركية، فإن الموسيقى المصرية انطلقت في أواخر القرن التاسع عشر لتقدم بدورها أجل الخدمات للتراث الموسيقى العربي.
ويبرز التأثير التركي في الموسيقى العربية في القوالب الآلية مثل: البشرف والسماعي واللونغا.. مما مكن تطوير التخت الشرقي الذي يشمل الموسيقى في شتى أرجاء الوطن العربي وما جاورها، وهذا التخت يتألف تقليدياً من الآلات التالية:

ـ عود كبير
ـ عود صغير، (مازال دوره أساسياً في إيران وتركيا).
ـ قانون صغير
ـ الناي (انتشر بفضل الطرق الصوفية وبخاصة المولوية).
ـ البزق: آلة دخلت عن طريق الغجر الرحل، وتمتاز بنغماتها الوسط.
ـ الإيقاع: الدف ـ الدربكة ـ النقرات.

التخت الشرقي الذي يرافق الغناء ولا سيما ما يمكن تسميته بـ «الموشحات التركية» المأخوذة من الموشحات العربية، ما زال على الصورة القديمة المعروفة عنه، ولم يسمح بدخول الآلات الغربية إليه، كما حافظوا على دور المجموعة كاملاً في الغناء باعتبار الموشح أغنية جماعية، وهذا بخلاف ما هو حاصل في الوطن العربي في وقتنا الراهن.

أما الإنتاج الغنائي فقد ظهرت منه التقاليد العربية الأندلسية في الغناء التركي التقليدي المعروف بكلمة (شرقي) وكان يقدم ضمن الفاصل، وارتبطت معزوفات تركية بالتراث العربي، وبالمقابل فإن مدينة استانبول، كانت مقصد الأدباء والعلماء، كفترة زمنية طويلة، فيقدمون فيها إنتاجهم، ويقتبسون روائع ما يسمعون بها، ومن ذلك نتج وأثمر ما نلاحظه من تشابه كبير بين القطع والأغاني العربية والتركية، وكان من أبرز الزائرين من سورية الشيخ علي الدرويش، ومن مصر محمد عثمان وعبده الحمولي، وكان من ثمار هذه الزيارات موشحات وأدوار وبشارف عديدة أثرت الموسيقى العربية والتركية على حد سواء، نذكر من هذه الأعمال الشهيرة والتي مازالت تردد حتى اليم موشح «اسقني الراح وافرح الأرواح» وموشح «زارني منيتي» و«ماكنت أدري» وغيرها من الأعمال التراثية الخالدة، التي تؤكد بما لا يقبل الشك عناصر عديدة مشتركة بين الموسيقى التركية والموسيقى العربية، ما زالت موجودة وبقوة حتى اليوم، ومن يتجول في شوارع وأزقة مدينة استانبول وغيرها من المدن التركية، لا بد وأن تلامس مسامعه أينما اتجه نغمات وألحان موسيقية شجية يجمعها معنا رباط أزلي متين، وعلاقات حضارية وثقافية وفنية قديمة، توجتها الحضارة الإسلامية بكل أبعادها ومعانيها السامية النبيلة.


==
المصدر نشرة مؤتمر العرب والأتراك.. مسيرة تاريخ وحضارة 2010.

مواضيع ذات صلة: