كلمة أ.د سلطان محيسن في حفل منحه وسام «الشمس المشرقة "الأشعة الذهبية"»

السيدة الدكتورة نجاح العطار، نائب رئيس الجمهورية
السيد ماساكي كونيدا، سفير اليابان في دمشق
السيدات والسادة

ليست الآثار مجرد كنوز ولا ركام، بل هي بحث علمي دقيق في تاريخ البشر وحضارتهم، والآثار دليل أصالة وهوية وانتماء، وهي ثروةٌ وطنيةٌ، ورأس مال عظيم.

مكانة سورية في الآثار لا تضاهى، لكونها المهد الأول والأقدم لابتكارات كبرى حققها الإنسان في مجال العمارة والزراعة والكتابة والفنون والمعتقدات والقوانين والمؤسسات، وما إلى ذلك من الإبداعات التاريخية التي توالت على امتداد السنين.

ومن المعلوم بأن الاهتمام المبرمج بآثارنا كان غربياً، بدأ منذ مطلع القرن التاسع عشر، وارتبط بدوافع، معظمها ديني وعرقي ومنفعي، شكلت السمة البارزة لعصر الاستشراق، وما رافقه من كشف وترحيل لبعض أهم آثارنا كي تُدرس وتُفسَّر وفق رؤية توراتية-استعمارية تخالف الواقع التاريخي، وتخدم منطلقات ومعتقدات أثبتت التنقيبات والأبحاث الحديثة خطأها.

يُسجل لليابان دخولها إلى ساحة البحث في آثارنا من الباب العلمي الصحيح متحررة من أيِّ مواقف مسبقة أو مطامع من أيِّ نوعٍ كان، مجسِّدةً أُنموذجاً ساطعاً للتعاون الدولي الآثاري السليم، كشفاً وتنقيباً ودراسةً وتفسيراً وتوثيقاً وتوظيفاً وصيانة وترميماً وتأهيلاً، وما إليه.

حققت البعثات الأثرية اليابانية والسورية-اليابانية، وعلى رأسها بعثة جامعتي دمشق وطوكيو العاملة في كهف بالديدرية في منطقة عفرين، حققت اكتشافات متميزة، مثلتها الهياكل العظمية العائدة لإنسان النياندرتال المؤرخة منذ حوالي 100,000 سنةٍ خلت، والفريدة من حيث اكتمالها، أو شعائر دفنها، التي غدت إحدى أكبر إنجازات علم الآثار في هذا العصر. كانت لي وللأستاذ أكازاوا فرصة تأسيس وإطلاق تلك البعثة التي ما زالت مستمرةً، واعدةً بالمزيد من الإضافات.

كما قامت بعثات أخرى باكتشافات قيِّمةٍ من مختلف الأنواع والعصور، ومن مواقع امتدت من الساحل وحوض العاصي، مروراً بالبادية وتدمر، وحتى الجزيرة والفرات. وهكذا تكاملت جهود البعثات الأثرية اليابانية مع افتتاح قسم اللغة اليابانية في جامعة دمشق ومع إنجازاتٍ كبيرةٍ أخرى للبعثات السورية والأجنبية، من فرنسية وألمانية وإيطالية وسويسرية وبريطانية وإسبانية وبولونية وأمريكية وغيرها من البعثات التي قدمت، كلٌّ حسب اختصاصها، مساهماتٍ جوهريةً في دراسة تاريخ سورية وحضارتها.

الاهتمامُ الذي تعطيه اليابان لآثارنا يعكس استيعاب اليابانيين المتقدم لقيمة التراث الأثري الذي أولوه في بلادهم عناية تكاد تكون فريدة، فقد وثَّقت اليابان في سجلها الوطني للآثار أكثر من 400 ألف موقعٍ أثريِّ، ولديها أكثر من 50 ألف مختصٍ بالآثار، وحوالي عشرةُ آلاف فريق عمل، وألف متحف، وهم يخصصون لذلك ميزانيات تتجاوز مليارات الدولارات. حتى إنَّ منظمة اليونيسكو حثت الآخرين على الاستئناس بقانون وممارسات الآثار في اليابان، لكونها أيضاً البلد الذي يولي فيها المواطن العادي احتراماً للآثار يتجاوز أحياناً ما تقوم به المؤسسات الاختصاصية نفسها,

لم تكن الآثار في مفهومنا مجرد بحثٍ وتغنٍّ بالماضي المجيد، بل هي خدمة للحاضر ورؤية للمستقبل، وعلى أكثر من صعيد. آثار سورية هي القاسم المشترك لكل أبنائها، وهي دليل وحدتهم وعمق جذورهم، وقاعدة بناء هويتهم الوطنية والثقافية، إضافةً إلى كونها مادة علمية وتربوية ومصدر ريع يعزز صمودهم وازدهارهم.

آثارنا ضمانة مكانتنا التاريخية والحضارية المرموقة، لأن سورية -وهذا ما ناقشته في كبريات مراكز البحوث والجامعات- هي البلد الأهم في الآثار: قِدَماً، استمرارية، إبداعاً، تنوعاً وغنىً.

عملت طيلة حياتي المهنية على تجسيد هذه القناعات معتبراً حماية الآثار السورية وحسن التعامل معها واجباً وطنياً وعلمياً يتجاوز أية ميزة أو منفعة شخصية، مهما كانت.

لقد تحققَتْ-سيما- أثناء إدارتي السابقة للآثار السورية، تصويباتٌ وإنجازاتٌ جوهريةٌ متنوعةٌ، داخليةٌ وخارجية، إنجازاتٌ لسنا في وارد تناولها، فهي واضحةٌ لكل صاحب عينٍ أو ضميرٍ.

إنها إنجازاتٌ ما كانت لتحصل لولا الرؤية التراثية الوطنية والإنسانية الشاملة للقائد الراحل حافظ الأسد، ولا من دون الحسِ الثقافيِّ العميق ، والدعم اللامحدود للسيدة الدكتورة نجاح لعطار. لهاتين الشخصيتين الكبيرتين في تاريخ سورية المعاصر أنسب ما حققناه من نجاحاتٍ، متحملاً وحدي مسؤولية أيَّ تقصير.

آثارنا ورقتنا الرابحة في كل المنازلات، فلنتصدَّ مع حلفائنا الطبيعيين، الباحثين المخلصين، لكلِّ محاولات تزويرها وتسخيرها لتغذية الحقد والكراهية، وتغطية العدوان والاحتلال من فلسطين إلى الجولان فالعراق. ولنوصد الأبواب في وجه المدرسة الاستعمارية الجديدة التي روَّجت لحقوقٍ صهيونيةٍ مزعومةٍ في أرضنا، وتفوقٍ عرقيٍّ وحضاريٍّ علينا. المدرسة التي اختطفت تاريخنا، وغرَّبت حضارتنا، وفصلت بيننا وبين ماضينا، وأسقطت حقنا في تراث أسلافنا، وعاملتنا كدخلاء طارئين ومتخلفين.

مرةً أخرى، آثارنا رصيدُ أجيالنا ومستقبل أطفالنا، فلنحفظها بالأيدي الكفوءة والأمينة، ولنخصَّها برعايةٍ شعبيةٍ ورسميةٍ تحصِّنها من أيِّ اختراقٍ.

ولنترجم، الدعم والمتابعة غير المسبوقة التي يخص بها السيد الرئيس بشار الأسد والسيدة عقيلته أسماء الأسد، الآثار، إلى واقع يلبي طموح رئيسنا، ويليق بسورية وآثارها العظيمة.

الشكر العميق لصاحب الجلالة امبراطور اليابان مانح هذا الوسام ولشعب وحكومة اليابان، وللزملاء والأصدقاء اليابانيين. كل الشكر لسعادة السيد ماساكي كونيدا، سفير اليابان في دمشق ومعاونيه، لجهودهم في إنجاز هذا التكريم الصادق الذي هو تكريم لسورية وأبنائها.

أؤكد اعتزازي بوسام اليابان «وطن شروق الشمس» الذي جمعتني وطلابي، بالكثيرين من أبنائه تجربة بحثٍ وصداقةٍ طويلةٍ، تناوبت، وتنوعت فصولها بين سورية واليابان، وفتحت الأبواب للمزيد من التعاون والتعارف.

إلى جانب سعادتي اليوم، لا أخفيكم بعض الغصّة عندما أتذكر كيف أن جلالة ملكة الدانمارك أرادت، في مطلع عام 2001، تكريمي بوسامٍ رفيعٍ مشابهٍ، لكن وزيرة الثقافة في حينه، وفي موقفٍ لم يسجل له مثيلٌ من قبل، قد عرقلت ذلك التكريم.

أخيراً، كثيرون مدُّوا إلي أيادي العون والتشجيع، وكان لهم فضلٌ فيما أنجزت واستطعت أن أواجه من ظروفٍ لم تكن سهلةً دائماً: زوجتي وأولادي الذين هيؤوا لي ظروف البحث والمتابعة وتحملوا عناء غيابي المتكرر، طلابي، د. جمال تموم ود. عمار عبد الرحمن، الأخت ذكاء الجابي والآنسة إيمان سنديان، زملائي وأصدقائي، في الداخل والخارج، وعلى رأسهم الدكتور أحمد زرزور، والفنان حيان فرجاني، والمهندس نبيل ذكرى، وآخرون اعتذر عن ذكر أسمائهم لضيق المجال، ثم لابد من وقفة حزن وإجلالٍ، خاصة أمام القامة الشامخة في عالم الثقافة والآثار، المأسوف عليه الصديق والأستاذ الكبير الراحل جورج تات.

السيدة الدكتورة نائب رئيس الجمهورية

مواقفكم في بناء الثقافة والآثار صفحاتٌ ناصعةٌ على مر العصور، تشجيعكم ودعمكم وسامٌ محفورٌ في الضمير والوجدان... حضوركم اليوم تكريمٌ لا يتجاوزه أي تكريم.

أدامكم الله ورعاكم.

السيدات والسادة

أشكر حضوركم العزيز وأتمنى ازدهار التعاون السوري-الياباني، وفي كل مجال.

مواضيع ذات صلة: