سلوقوس الثاني

.

الحرب السورية الثالثة (حرب لاوديكي)



الدولة السلوقية

على الرغم من الظلام المحيط بسيرة الحرب يمكننا أن نتبين بعض ملامحها، فقد توقفت القوة السلوقية عن أن تكون متحدة، وانقسم أنصار الملكتين إلى حزبين يناصر كل منهما قضية اقتنع بعدالتها لسبب أو آخر، ولم تقف برنيكي عند سماعها نبأ موت زوجها وإعلان ابن منافستها ملكاً، بل بادرت إلى الرد على مناورة لاوديكي ببيان هاجمت فيه الحق الذي ادعته لاوديكي لابنها في العرش، واتهمت لاوديكي بدس السم لزوجها وتزييف اعترافه بسلوقس خليفةً له.

واستناداً على قوة لاوديكي الراجحة في آسيا الصغرى وبما تبقى لها من نفوذ داخل أنطاكية، وخشية من تدخل بطلمي متوقع لصالح برنيكي، فقد قررت لاوديكي أن تضرب ضربتها وتستعيد سلطتها على مركز الإمبراطورية في أنطاكية بسرعة مطلقة. واستطاعت إنفاذ بعض أعوانها إلى مركز منافستها في أنطاكية حيث قاموا باختطاف طفلها وإخفائه، وتوقعت أن يؤدي هذا العمل إلى حرمان برنيكي ذريعة الاستمرار في النضال من أجل ارتقاء طفلها العرش. وسرعان ما أثبتت الأحداث فشل خطتها، فقد أيقظ هذا العمل اللاأخلاقي ضمائر الكثيرين من مؤيدي لاوديكي نفسها في انطاكية، وتمكنت برنيكي من استغلال كل العواطف المتأججة ضد لاوديكي، كما فرض الجو العام على كبار موظفي البلاط الوصول إلى قرار يسمح للملكة باستدعاء الجيش البطلمي وإقامة دفاع لها في القصر الملكي في ضاحية دفنه مع مجموعة من الحراس الغاليين، خشية من هجوم متوقع لقوات لاوديكي.

وفي تلك الأثناء توفي بطلميوس الثاني وارتقى ابنه بطلميوس الثالث العرش وكانت القوات البطلمية في ذلك الوقت على استعداد لأن تتحرك بقواها كاملة. ذلك أن المشكلة في قورينايئه حلت لصالح بلاط الإسكندرية. فقد اكتشفت برنيكي ابنة ماجاس العلاقة بين زوجها دمتريوس العادل ووالدتها، واستطاعت تدبير اغتياله في سريره أمام سمعها وبصرها. وسرعان ما أعادتا إعلان خطبتها إلى بطلميوس الثالث الذي عقد عليها قرانه بسرعة ووحد قورينايئه مع مصر بزعامته واستعد للتدخل بكامل قواته (بما في ذلك سلاح الفيلة الإفريقية) للذود عن أخته المتقوقعة في دفنه، وقام قبل زحفه بإثارة عدد من مدن آسيا الصغرى للانتصار لها، واستجابت بعض هذه المدن واستنفرت قواتها البرية والبحرية استعداداً للتدخل لصالح برنيكي إلى جانب القوات البطلمية.

وتتضارب الروايات حول تاريخ وصول الأسطول البطلمي لنجدة برنيكي وعلاقته بمقتلها، وفي حين تذكر بعض الروايات أن اغتيال برنيكي تمّ قبل وصول أسطول بطلميوس إلى الساحل السوري، وتوحي لبعض المحدثين بأن بطلميوس كتم هذه الحقيقة للتمسك بذريعة تدخله في سورية، فإن بعض الدراسات الحديثة تؤكد أن برنيكي شاركت في الاحتفال بقدوم الأسطول البطلمي، وأنها قتلت عندما توغل بطلميوس في أراضي الإمبراطورية السلوقية شرقاً.

وتقتصر معلوماتنا عن مجريات حرب لاوديكي على ما أمدتنا به (بردية) معاصرة تتعلق بالحرب البحرية، ونقش قديم أيضاً يتحدث عن الحرب البرية. وتحدثنا قصاصة البردية الممزقة التي عُثر عليها أواخر القرن الماضي، والتي هي عبارة عن بقايا رسالة كتبها قائد الأسطول السلوقي في آسيا الصغرى، أن الأسطول البطلمي نزل أولاً في كليكية السلوقية، واستولى فيها على مبلغ 1500 تالانت كان أحد حكام المقاطعة ينوي إرساله إلى ملكته لاوديكي المقيمة في أفسوس، وأن الأسطول بعد ذلك أبحر إلى قبرص، ومنها إلى موقع (المستعمرة الأثينية القديمة) بوسيديوم شمال الساحل السوري. ومن بوسيديوم تحرك الجيش المرافق للأسطول باتجاه سلوقية التي استقبلتهم باحتفال مهيب. ويبدو أن حامية أنطاكية كانت تستعد لمقاومة الغزاة، إلا أن شكل وضخامة القوات البطلمية وخلّو أنطاكية من نصير للاوديكي قادر على تحريك مقاومة فعَّالة أقنعت هذه الحامية بصواب فكرة الترحيب بالقوات الغازية.

أما النقش وهو عبارة عن نصب من البازلت أقامه أحد موظفي البلاط البطلمي في موقع (أدوليس) في الحبشة على البحر الأحمر، خلد فيه حروب بطلميوس الثالث ونقل نصه راهب كان يعيش في القرن السابع ميلادي، فيخبرنا أن الملك البطلمي قام بعد سيطرته على مقاطعات تراقيه وشمال سورية وكيليكية وبامفوليه وايونيه والهلسبونت بعبور الفرات حتى بأكتريانا في الهضبة الإيرانية.

يبدو أن بطلميوس الذي دانت له معظم أصقاع الإمبراطورية السلوقية لم يستطع تكريس سيطرته على تلك الأصقاع باسم أخته برنيكي ولا القضاء على مقاومة منافستها لاويكي. إذ أنه بعد أن أنفذ رسلاً باسم برنيكي إلى حكام الولايات الشرقية يطلب إليهم الطاعة، اضطر إلى العودة سريعاً إلى مصر إما بسبب الأساطيل المصرية في البحر المتوسط كما تذكر بعض المصادر، لكنه رغم ذلك لم يعد قبل أن يعين بعض قواد حامياته حكاماً لإدارة دفة الحكم في آسيا الصغرى وما وراء الفرات لصالح أخته.

ورغم سقوط أفسوس (مركز الملكة لاوديكي وابنها سلوقس الثاني) في أيدي القوت البطلمية خلال الفترة الأولى من الحرب، وانتقال المركز الملكي إلى مدينة أخرى لم تحددها مصادرنا (ويمكن أن تكون سارديس) فإن ذلك لم يعق سلوقس الثاني عن بذل الجهود المستميتة في سبيل الإعداد لحملة الاسترداد الشهيرة.

وفي الوقت الذي عزم فيه بطلميوس الثالث على العودة إلى مصر كان سلوقس الثاني يحشد قواته عبر طوروس. وقبل عبوره طوروس ورغبة في تمتين جبهته الداخلية واكتساب الحلفاء، قام بعقد قران أختيه على ميثريداتس الثاني (ملك بونتوس) وأرياراثس (ملك كابادوكيه)، في الوقت الذي اكتسب بلباقته السياسية ولاء معظم المدن الإغريقية في آسيا الصغرى، وأعلن بعضاً منها -وبخاصة تلك التي قاومت الغزو البطلمي وأهمها سمورنا = ازمير- مدناً مقدسة ومنحها «حق اللجوء» -وهو حق إيواء اللاجئين السياسيين والمجرمين الذي كان يعتبر حقاً مقدساً لا يمنح إلا للمعابد الكبيرة- وأرسل الرسائل إلى «الملوك والمدن والأمم» يعلمهم برغبته في اعتبار هذه المدن مقدسة ولا تنتهك حرماتها، وإنه قد أعفاها من الضرائب الملكية لقاء إخلاصها للعرش السلوقي.

ولاشك أن عودة بطلميوس إلى مصر قد سهلت كثيراً من مصاعب الملك الشاب لاسترداد إرثه، ورغم ذلك فإن مهمة تحرير المدن والمقاطعات من النفوذ البطلمي لم تكن مهمة سهلة وبخاصة أن بعض مدن آسيا الصغرى مثل ماجنيزيه على نهر سيبولوس قد انحازت للملك البطلمي، ولكن حماس الملك الشاب وولاء بقية المدن مكنته في الدور الأول من الحرب وفي سنة 245/244ق.م بالتحديد من استعادة الولايات الوسطى والشرقية وجانباً من كيليكية وكافة سورية السلوقية فيما عدا سلوقية بيريه، واستحق بذلك الملك الشاب لقب «المنتصر» عن جدارة.

ويبدو أن النجاح السريع الذي أحرزه سلوقس في هذه المرحلة أفقده القدرة على تبصر الإمبراطورية بروية وحكمة، وبدلاً من فترة راحة يستجمع فيها قوته ويلتقط فيها أنفاسه، قام بالإعداد لحملة هجومية غايتها دفع خطر البطالمة إلى أبعد منطقة ممكنة وذلك بمهاجمة معاقلهم. ورغم الظلام المحيط بظروف هذه الفترة فإن بعض مصادرنا تشير إلى أن سلوقس قام بعد تحريره لمدينة أورثوسية (عرطوس على مصب نهر البارد) بمحاولة بحرية فاشلة لاسترداد شواطئ كيليكية، حيث تسببت العواصف بتحطيم أسطوله، ولم يستطع سلوقس نفسه النجاة إلا بصعوبة. ولم يثنه فشله عن القيام بحملة برية على جوف سورية حيث تصدى له الجيش البطلمي في مكان ما في فلسطين وأنزل بجيشه هزيمة اضطرته إلى الانكفاء مع بقايا جيشه باتجاه أنطاكية، وكان وضع سلوقس في تلك الفترة حرجاً جداً حيث لم يعد لديه من القوات ما يتمكن بها من الدفاع عن عاصمته في حال قيام بطلميوس الثالث بهجوم معاكس، وهذا ما أكدته الحوادث عندما قام بطليموس فعلاً بمحاصرة دمشق ولم يتمكن سلوقس من إنقاذها إلا عندما جاء أخوه انطيوخس (هيراكس=الصقر) لنجدته من آسيا الصغرى.

وكانت أنطاكية السورية قد استردت أهميتها السياسية في فترة دفاع سلوقس عن مملكته بعد فترة تمركزت فيها السلطة السلوقية في آسيا الصغرى بين يدي لاوديكي وابنيها سلوقس (الثاني) وانطيوخس (هيراكس) الذي لم يكن يتجاوز وقتها الرابعة عشر من عمره. وفي غمرة هذه الضائقة التي تعرض لها سلوقس -كما أسلفنا- أرسل إلى أخيه رسالة يطلب فيها عبور طوروس لنجدته، ويبدو أنه كان يشك في استجابة أخيه، فعرض عليه تشجيعاً أن يقتسم معه الإمبراطورية وبأن يتنازل له عن آسيا الصغرى. ولا يعرف الحقيقة هل كان هذا التخلي كاملاً أو خاضعاً لنوع من الإكراه خاصة وأن معلوماتنا تشير إلى أن لاوديكي وأصدقاءها كانوا هم الحكام الحقيقيون في أقاليم آسيا الصغرى. وعلى هذا لم يكن عرض سلوقس الثاني في الحقيقة إلا اعتراف بالأمر الواقع. ورغم أن مصادرنا لم تذكر شيئاً عن رد انطيوخس على عرض سلوقس، إلا أن المؤرخ جوستين يذكر عرضاً أن المجموعة الحاكمة في سارديس أرسلت جيشاً لمساعدة سلوقس وأن هذا الجيش قد مكن سلوقس من فك الحصار عن دمشق كما أقنعت بطلميوس الثالث بصواب فكرة عقد هدنة مع غريمه سلوقس مدتها عشر سنوات.

حرب الأخوين


وشعر سلوقس بعد عقد الهدنة بأنه لن يستطيع احترام التعهد الذي قطعه لأخيه تحت وطأة الحرب والذي ينص على الاعتراف بنفوذ أخيه في آسيا الصغرى، لأن ذلك كان سيعزله عن بحر ايجة، وهو أمر كان سيسبب له مخاطر سياسية وعسكرية واقتصادية. وعلى هذا أخذ سلوقس يترصد ويعوق محاولات أخيه لإخضاع جميع القوى في آسيا الصغرى تحت سيطرته، وعندما كشف انطيوخس محاولات سلوقس لإعاقة محاولاته أسقط الأخوان أقنعة الوفاق والاتحاد وبدأ الصراع على شكل حرب أهلية بين كتلتين متنافستين في الأسرة السلوقية الواحدة. وكانت المجموعة التي تعمل خلف انطيوخس والدته الملكة لاوديكي وحاشيتها بمشورة ودعم أخيها اسكندر حاكم مقاطعة لوديه الذي كان يخطط للحصول على منصب نائب الملك في آسيا الصغرى في حال تحقيق نصر حاسم على قوات سلوقس، وخلف هؤلاء جميعاً كان ملك مصر يغذي مجموعة انطيوخس نكاية بسلوقس الثاني وخشية منه.

ويبدو أن سلوقس لم يقف مكتوف اليدين بعد عقد الهدنة مع البطالمة، وهذا ما يوحي به اجتيازه جبال طوروس على رأس قواته حوالي سنة 237ق.م لاستعادة السيطرة على مقاليد الأمور في آسيا الصغرى، وتمكَّن بهذه القوات إكراه القوات المناصرة لأخيه على التقوقع داخل سارديس بعد معركتين منفصلتين، مما اضطر انطيوخس إلى طلب النجدة من قبائل الغال والاستعانة بهم ضد أخيه.

وكان نشاط الغال بعد هزيمتهم على يدي انطيوخس الأول قد اقتصر على مشاركة ملوك بونتوس (حلفاء السلوقيين) في حروبهم ضد القوات البطلمية، ويبدو أن الغال قد انتهزوا فرصة وفاة الملك ميثريداتس سنة 266ق.م وضعف خليفته ليستردوا بعضاً من حرية الحركة. وتعاظم خطرهم في عهد ابنه ميثريداتس سنة 266ق.م وضعف خليفته ليستردوا بعضاً من حرية الحركة. وتعاظم خطرهم في عهد ابنه ميثريداتس (أيضا) لدرجة أن مدينة هراكليه (صديق عائلة ميثريداتس) تعرضت نفسها لغضب الغال عندما أرسلت معونة لصد خطرهم عن أصدقائها في مملكة بونتوس.

وكنتيجة حتمية للكراهية التي كان الغال يكنونها لأي ملك شرعي قوي يمكن أن يحد من حرية حركتهم المشاغبة فقد رحبوا ببوادر الحرب الأهلية بين سلوقس وانطيوخس. وقلَبَ تدخل الغال إلى جانب انطيوخس موازين القوى، وبالقرب من أنقره الحالية دارت بين الأخوين معركة رهيبة قُتل فيها من كلا القوتين عشرين ألفاً كما تذكر المصادر. وتضيف المصادر نفسها تعقيباً أنه لم يكن ممكناً في أصيل المعركة العثور على أثر لسلوقس نفسه الذي تطايرت أنباء عن مقتله، فحزن أخاه حزناً شديداً دفعه إلى الاعتكاف في قصره وإغلاق أبوابه عليه، ثم تلتها أنباء عن نجاة سلوقس وهرَبه من المعركة متنكراً، وعن وجوده في كيليكية ومحاولاته لتجميع ما تبقى من قواته، مما دفع انطيوخس إلى تقديم شكره للآلهة على نجاة أخيه وإنهاء حداده وإعداد جيشه لعبور طوروس وتحطيم مقاومة أخيه قبل استفحالها.

انطيوخس واتالوس والغال


ويبدو أن معركة أنقرة التي حسمت على الأقل الصراع حول ملكية آسيا الصغرى لصالح انطيوخس قد أدت إلى نتائج لم يحسب لها انطيوخس حساباً، فقد كان من المتوقع بعد هذه المعركة أن يستعيد الغال ثقتهم بأنفسهم وأن يحاولوا بل أن ينجحوا في ممارسة ألوان من الضغوط التي لم يستطع انطيوخوس دفعها، وأصبح بموجبها ألعوبة في أيديهم يسيرونه مرة باتجاه فروجية في حملة تهديد وابتزاز، ويقايضهم مرة أخرى على حياته، ويلجأ مرة ثالثة إلى مدينة صديقه هرباً منهم، ثم نجده يواجههم في معركة مفتوحة وبعدها بقليل يسير بصحبتهم غازياً.

وكنتيجة طبيعية لفشل انطيوخس في إدارة الحكم في ممتلكاته في آسيا الصغرى وعدم تمكنه من حد نفوذ حلفائه، فقد طفقت المدن الإغريقية هناك تبحث عن منقذ لها من محنتها. ورغم أنها رانت ببصرها فترة صوب العرش البطلمي بعد ملاحظتها لسلامة ممتلكاته في آسيا الصغرى مثل أفسوس وبعض الموانئ في كاريه، فإنها سرعان ما أدركت خطأها في ذلك بعد تأكدها من بنود الحلف السري الذي عقده انطيوخس مع العرش البطلمي ومساعدة الحاميات البطلمية لانطيوخس في بعض تعدياته عليها. ونتيجة لضعف سلوقس بعد هزيمته على أيدي الغال، فقد اتجهت المدن الإغريقية باستغاثتها صوب إمارة برجامه في شخص أميرها أتالوس.

وما يعرف عن أتالوس لا يتوافق مع عظمة الدور الذي لعبه هذا العاهل البرجامي في صدّ الخطر الغالي، وحماية أصول الحضارة الهيلينية. وتقسم معلوماتنا عنه إلى بعض إشارات يوردها بعض مؤرخينا القدماء إضافة إلى بعض النقوش التي خلفتها مدينة برجامه تخليداً لذكرى حروب هذا العاهل.

وتخبرنا شذرات المعلومات التي يرويها المؤرخون بأن أتالوس قد خلف عمه على العرش البرجامي سنة 231-240ق.م ، وأنه كان أميراً نشطاً وضع أمور إمارته في نصابها وحالف روما، وأنه كان أول رجل في آسيا الصغرى رفض دفع الأتاوات التي فرضها الغال على أمراء وسكان ومدن آسيا الصغرى، وبذلك فقد عرّض نفسه إلى خطر مهاجمة الغال، ولكنه تمكن من دحرهم في معركة فاصلة ردتهم على أعقابهم من ساحل آسيا الصغرى الغربي إلى المناطق التي كانوا يشغلونها من قبل وبخاصة إقليم فرويجه.

وعندما ننتقل من روايات المؤرخين إلى النقوش التي خلفتها برجامه فإننا نجد أن أتالوس قد خاض عدداً من المعارك المظفرة ضد الغال وحليفهم انطيوخس، ورغم أنه يستحيل علينا إجراء ترتيب زمني لهذه المعارك نظراً لحالة وثائقنا إلا أن الوثائق تؤكد على أن أتالوس خاض عدداً من المعارك ضد الغال بقيادة انطيوخس، وعدداً آخر ضد بعض القبائل الغالية التي لم تأتمر بأوامر انطيوخس، وأن هذه المعارك قد امتدت من بيثونية شرقاً حتى نهر الكايكوس غرباً وكانت أشهر هذه المعارك «المعركة الكبرى» أو «معركة برجامه». وقد ترتب على انتصارات أتالوس السابقة بعض النتائج التاريخية أهمها: ترحيب عدد كبير من مدن ومناطق آسيا الصغرى بالسيادة الجديدة البديلة للسيادة السلوقية التي وصمت في تلك الأثناء بتقاعسها عن حماية الحضارة الهيلينية. ولا يُعرف في الحقيقة ماذا كان موقف بلاط أنطاكية من بروز هذه القوة الجديدة، وفيما إذا اغتبط سلوقس من ظهورها وانتقامها له من انطيوخس والغال وتحقيقها توازن القوى على الحدود الشمالية؟ كما لا يُعرف فيما إذا قام بين سلوقس وأتالوس أي نوع من التعاون لدرء خطري الغال وانطيوخس...!

على أي حال، في الوقت الذي اشتد ضغط أتالوس على انطيوخس، كان سلوقس على رأس حملة شرقية يحاول درء خطر البارثيين الذين استولوا على بعض المقاطعات السلوقية شرقي الدجلة، وعندما حاول انطيوخس انتهاز هذه الفرصة والاستيلاء على مقاليد الأمور في أنطاكية بتأييد من بعض أتباع عمته استراتونيكي تصدى له بعض أتباع أخيه سلوقس وأنزلوا به هزيمة فادحة. فرّ على أثرها إلى زوج أخته ملك كابادوكية.

ويبدو أن حسّ المتشرد قد أشعر انطيوخس بأن ترحيب بلاد صهره كان يخفي وراءه اتفاقاً مع أخيه سلوقس لتسليمه إليه، فركن إلى الفرار مرة أخرى ولكن باتجاه برجامه حيث قام سنة 229-228ق.م بهجوم أخير يائس أفقده ما تبقى من قواته وأجبره على عبور البوسفور إلى أوربا حيث وضع نفسه تحت رحمة القوات البطلمية التي كانت تحتل أقلية تراقيه 228-227ق.م. وبموجب أوامر بلاط الإسكندرية أحيط انطيوخس بحراسة مشددة واقتيد إلى الإسكندرية حيث فرضت عليه إقامة جبرية لم توافق مزاجه التشردي، وتمكن بمساعدة فتاة من القصر البطلمي مراوغة حراسه والعودة إلى تراقيه في أوربا. وبعد تمكنه من لمّ شعت عدد من أتباعه القدامى، اصطدم بجماعة من الغال لاقى حتفه على أيديهم. وبموته اندثرت السيادة السلوقية المنفصلة على آسيا الصغرى وأصبح أتالوس سيد الممتلكات السلوقية شمالي طوروس (باستثناء الأقاليم التي استقل بها حكام محليون) وتعين على سلوقس الثاني أن يقرر فيما إذا كان سيسترد هذه المملكات سلماً أم حرباً، أو أنه سيذعن لبقائها خارج نطاق إمبراطوريته.
ولكن القدر أنكر عليه معرفة هذا القرار إذ توفي بعد عام واحد من مقتل أخيه 227-226ق.م متأثراً بجراح إصابته أثر سقوطه عن ظهر جواده.

مواضيع ذات صلة: