مسرح بصرى

تقع بصرى في الجنوب السوري وتمتد على منطقة بازلتية كبيرة تبدأ من جنوب دمشق وصولاً حتى شمال الأردن (الشكل1)، ويبلغ ارتفاعها عن سطح البحر 850 متراً، ولا يقطعها أي ممر مائي إلا أنها محاطة بثلاثة وديان تجري من الشرق إلى الغرب. في شمال بصرى نجد وادي الزيدي الأكثر أهمية وفي الجنوب وادي البطم ووادي الحجار[1].

لقد عرفت المدينة استيطاناً متواضعاً من عصر البرونز القديم ضمن منطقة القوس النبطي ومن عصر البرونز الوسيط عثر على بقاياه ضمن منطقة الحمامات الجنوبية والكاتدرائية في الشرق[2]. إلا أن أهم الفترات التاريخية للمدينة كانت خلال العصر الهيلنستي والنبطي ومن بعده الروماني حيث أن أغلب بقايا المدينة الحالية مؤرخة على هذه الفترات لا سيما الرومانية منها والتي منها المسرح موضوع البحث.


الشكل1: موقع مدينة بصرى على خارطة سورية

موقع المسرح:
يتوضع المسرح جنوب المدينة وخارج مركز المدينة القديمة (الشكل2)، على عكس ما نجده ضمن المدن الأخرى من نفس الفترة، والتي يأخذ المسرح ضمنها مكاناً مهماً في مركز المدينة، وربما يعود السبب إلى أنه عندما تقرر إنشاء مسرح بصرى كان مركز المدينة مشغولاً بالمباني المختلفة خصوصاً بعد إنشاء الإمارة العربية عام 106م.

الشكل2: موقع المسرح في مدينة بصرى الأثرية

الاكتشاف وبدء الأعمال:
إن صرح مسرح بصرى مثله مثل بقية الصروح الموجودة في المدينة على عكس المواقع الأثرية المغمورة لم يكن بحاجة للاكتشاف فقد بقي ظاهراً منذ بنائه حتى الوقت الحاضر، إلا أنه تعرض للتخريب والتغيير عبر العصور المختلفة واختفت أجزاء عديدة منه أسفل المباني الملحقة لا سيما الداخلية منه.

إنّ الجنوب السوري كبقية المناطق السورية وصله الرحالة الغربيون لكن بشكل متأخر مقارنة مع تدمر وحلب ودمشق. وفي الحقيقة، كانت المشاهدات الأولى للرحالة في الجنوب، وابتدأت بداية القرن التاسع عشر من قبل الألماني سيتزن «J.U.Seetzen» عام 1805م، ومن ثم الإنكليزي بانكز «W.J.Bankes» بين عامي 1816-1818 م، وقد أنتج خلال هذه الزيارة العديد من الرسومات للمباني التي تم التعرف عليها لاحقاً، فكانت بذلك واحدة من الوثائق الهامة لمدينة بصرى[3]. كذلك من بين الرحالة الذين زاروا بصرى خلال القرن التاسع عشر الرحالة دو لابورد Labord» «De الذي نشر العديد من الرسومات للمنشآت الهامة في المدينة وخصوصاً منظرٌ عامٌ للمدينة والقلعة (المسرح) (الشكل3).

وتوالت بعد ذلك العديد من زيارات الرحالة، واعتباراً من نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أخذت هذه الزيارات تأخذ الطابع العلمي وتم نشر مجموعة من الأبحاث والدراسات مترافقة مع الرسوم التوضيحية والصور الفوتوغرافية.


الشكل3: منظر عام لمدينة بصرى وقلعتها يعود للعام 1837م: رسم دو لابورد

أما بداية الأعمال الأثرية في الموقع فقد بدأت عام 1930م خلال فترة الاحتلال الفرنسي ورافقتها أعمال ترميم في الجامع العمري، وفي نهاية عام 1940 م بدأت أعمال الكشف عن مدرجات المسرح الذي كانت تغطيه منشآت إسلامية وخزان مياه (الشكل4)، ومنذ الاستقلال بدأت المديرية العامة للآثار والمتاحف متابعة الأعمال بمشاركة البعثات الغربية ومنها الاستمرار بالكشف عن كامل المسرح حتى عام 1970م. وفي عام 1975م تم افتتاح متحف داخل قلعة بصرى (المسرح) ويتجاوز عدد اللقى الاثرية التي يضمها متحف بصرى الـ 1117 قطعة أبرزها 150 قطعة حجرية تتنوع بين تماثيل وتوابيت وأعمدة وقطع إكساء تعود للفترات الرومانية والبيزنطية والنبطية وبعضها تماثيل لإلهة النصر تيكة ودافع الشر غورغوريون، إضافة لاحتوائه على تماثيل لشخصيات مهمة ولوحات فسيفسائية كلوحة دير العدس والنقوش الكتابية اليونانية واللاتينية والنبطية والإسلامية وهي عبارة عن نصوص تأسيسية لمبانٍ أثرية وشواهد قبور[4]. وتواصل بعثة سورية- فرنسية أعمال التنقيب في بصرى في الوقت الحاضر، وما تجدر الإشارة إليه أخيراً أن المسرح يستخدم اليوم للاحتفالات والمناسبات الفنية والثقافية، كما تقام فيه فعاليات مهرجان بصرى السنوي.

الشكل4: المنشآت الإسلامية داخل مسرح بصرى قبل إظهاره

تاريخ بناء المسرح ووصفه:
إن التاريخ الدقيق لبناء المسرح غير معروف، إلا أن أغلب الدراسات تشير إلى أن المسرح بني ما بعد العام 106م عندما اغتنم الرومان فرصة وفاة الملك النبطي رابال الثاني ليضموا المدينة والمقاطعة إلى الإمبراطورية الرومانية ولتصبح مدينة بصرى عاصمة للولاية العربية التابعة للإمبراطورية الرومانية، ويرجح أن المسرح بني ما بين عامي 117-138م خلال فترة الإمبراطور هادريانوس[5].

يعد مسرح بصرى من المسارح الرومانية القليلة التي بقيت محفوظة بصورة متقنة، وإذا أمكن رفع المباني الحديثة التي تحجبه عن الأنظار فإنه يعطينا - أكثر من أي بناء مماثل سواء أكان ذلك في الشرق أو في الغرب - الصورة الكاملة عن داخل المسرح القديم. فالمدرج المنحوت من الحجر البازلتي يظهر بكامل أقسامه وتبدو منصة التمثيل وجميع تفرعاتها غير منقوصة وهي مزينة بمحاريب وأبواب كبيرة، ويتوج البناء رواق مسقوف لا تزال بعض أجزائه ظاهرة، ومسرح بصرى المثال الوحيد في العالم حتى الآن الذي يحتفظ ببعض أعمدة الرواق، والأفاريز التي تعلوها لا تزال قائمة في موضعها الأساسي وهي من الطراز الدوري والكورنثي. تم تشييد المسرح بالحجر البازلتي المحلي، ويبلغ قطر الحجر المستخدم 102 متراً، وطول منصة التمثيل 45.5 متراً، وعمقها 8.5 متراً، ويبلغ ارتفاع المسرح 22 متراً (الشكل5). تخترق المنصة أبوابٌ تؤدي إلى الكواليس، وفي الجدارين الجانبيين حول المنصة شرفات كان يجلس عليها حاكم الولاية وكبار الرسميين والزوار[6]. ويصل الباحة بالخارج ممران معقودان من اليمين واليسار بالأعمدة الدورية، ومنصة التمثيل عريضة وقليلة الارتفاع نسبياً، ووراء الجدار الغربي للمنصة باحة مكشوفة للاستراحة. نجد في المدرج 37 صفاً من المقاعد المتصلة، منها ما هو مخصص للشيوخ وآخر للفرسان والطبقة الوسطى ثم ممر تليه 5 صفوف للعامة، وتوصل إلى المستويات الثلاثة أدراج صاعدة تحت ممرات معقودة تسمح بالدخول والخروج خلال عشر دقائق. وذكر أن هذا المسرح كان يتسع لحوالي عشرة آلاف مشاهد[7]. وكان المشاهدون يرون ويسمعون كل ما يجري في باحة العرض بوضوح.


الشكل5: داخل مسرح بصرى مع أقسامه الكاملة

وقد تحول هذا المسرح إلى قلعة (قلعة بصرى) فيما بعد. ويرجح أن التحصينات الأولى حول المسرح بدأت خلال العصر العباسي كما يذكر ابن عساكر عندما تم تهديد حاكم دمشق من قبل قبيلة بني مرة حيث سدت جميع أبوابه الخارجية وتركت له منافذ صغيرة فأصبح بمثابة حصن كان معروفاً باسم ملعب الروم. وفي العصر الفاطمي بنيت ثلاثة أبراج ملاصقة للجدران الخارجية الشرقية والغربية والشمالية. وفي زمن الحروب الصليبية بنى الملك العادل الأيوبي وأولاده في القرن الثالث عشر الميلادي تسعة أبراج محيطية ومستودعات ضخمة وخزان مياه، ليصبح المكان قلعة تامة وأحيطت هذه القلعة بخندق (الشكل6)، وتم حصر الدخول إليها بمدخل واحد يتم الوصول إليه عبر جسر خشبي[8].

أما بخصوص العروض التي كانت تتم داخل المسرح فيعتقد أن الرومان أدخلوا عروضهم الأدبية، وكانت هذه العروض تتم باللغة اليونانية واللاتينية كوميدية وتراجيدية، وتشير آخر الدراسات أنه كانت تتم داخل مسرح بصرى عروض تتعلق بالأمور الدينية مترافقة بالرقص والموسيقى، وما تجدر الإشارة له أنه لم يتم العثور على أية دلائل تشير إلى استخدامه لعروض مصارعة الحيوانات كما هو الحال في مسرح تدمر[9].

إن مدينة بصرى إحدى المدن الهامة في العالم والمؤرخة على العصر الروماني، وما المسرح إلا أحد مباني المدينة الذي يقدم صورة جلية عن أهميتها ومكانتها في تاريخ المشرق العربي سواء في العصور القديمة أو الوسطى، فالمسرح حافظ على عمارته وشكله الأصيل بفضل القلعة الأيوبية الإسلامية التي احتضنته وحمته من الكوارث والحروب والعوامل الطبيعية.


الشكل6: منظر للقلعة الإسلامية والمسرح في بصرى

الحواشي:
[1] للمزيد عن جغرافية المنطقة راجع
DENTZER J M; 2007, Bosra dans son environnement naturel, Bosra aux portes de L arabie, IFPO, p. 1,2.
[2] راجع بخصوص تاريخ بصرى من عصر البرونز حتى العصر الهيلنستي
BRAEMER F; 2007, Bosra de l age du bronze à lépoque hellénistique , Bosra aux portes de L arabie, IFPO, p. 5-8.
[3] هذه الوثائق تم نشرها عام 2004 م يمكن مراجعة
SARTER-FAURAIT A; 2004, Les voyages dans le Hauran de William johan bankes 1816 et 1818, BHA, n 169, Beyrouth,p.27-49, 172-185.
[4] راجع رابط موقع المديرية العامة للآثار والمتاحف
http://www.dgam.gov.sy/?d=177&id=941
[5] هادريانوس:(Hadrienus) إمبراطور روماني، ولد في روما سنة 67م وهو ابن تراجان بالتبني، وحكم بعده( 117-138م) ( غربال، شفيق وأخرون: د-ت، الموسوعة العربية الميُسرة، ج2، دار الشعب، القاهرة، ص 1878).
[6] DENTZER-FEYDY J ; 2007,Le théâtre, Bosra aux portes de L’ Arabie, IFPO, p. 173.
[7] عادل عبد الحق، سليم: 1964، مسرح بصرى وقلعتها، الحوليات الأثرية السورية، م 14، المديرية العامة للآثار والمتاحف، دمشق، ص 5.
[8] راجع الرابط التالي
http://www.discover-syria.com/bank/6222
[9] DENTZER-FEYDY J ; 2007, p. 178.

إعداد: همّام سعد

اكتشف سورية