شاعرية الحلم وغنائية النور 12/نيسان/2008
يقام حتى العشرين من نيسان الجاري في صالة آرت هاوس في دمشق معرض الفنان يوسف عقيل، متضمناً مجموعة جديدة من لوحاته بقياسات كبيرة تشكل الامتداد الطبيعي لتجربته التي عَرضت ابتداء بالعام 1979 في قاعة المتحف الوطني بحلب، ثم تتابعت عبر أكثر من خمسة عشر معرضاً فردياً، أقيمت في حلب ودمشق وبيروت، إضافة إلى مشاركاته في العديد من المعارض الجماعية الرسمية والخاصة داخل سورية وخارجها.
يطرح المعرض من جديد جمالية التعامل مع عناصر المنظر الطبيعي والأشكال القديمة والصامتة والزهور والطيور (بالأخص الحمامة)، وضمن النهج الحامل لملامحَ تقنية سبق أن تميز بها منذ سنوات طويلة واتخذها كمدخل لاقتناص الشاعرية البصرية المتصاعدة من وتيرة البحث اللوني والتقني.
اللافت في تجربة يوسف عقيل المتواصلة دون توقف أو انقطاع، ذلك الأداءُ الهادئ والمكثف والهادف إلى إظهار إيقاعات الضوء على أرضية لونية خافتة أو معتمة، فيبحث عن شاعرية في التعبير اللوني ونورانية بمنظورية البعد والعمق المتبعة في الرسم التقيليدي الواقعي، كما أن الأشجار والأغصان والبيوت القديمة والعناصر المختلفة لا تأخذ في لوحاته لونها الأصلي المتوفر دائماً في الواقع أو الصورةِ الضوئية.
إذ يبتعد عن توجهات ومعطيات الفنون الاستهلاكية ويطلق مشاهد لوحاته وعناصرها نحو الرؤى الحلمية، فإنه لا يفصح في دلالاتها الزمنية المتتابعة في التعتيق اللوني الذي يصل إليه بأداء عقلاني يحدّ من الطفح البصري الانفعالي، ويدخلنا أحياناً في أجواء بصرية تاريخية قادرة على التألق والتواصل مع معطيات ثقافة العصر وجمالية فنونه. هذه المظاهر البصرية المنضبطة والواعية والمقروءة في مساحة اللوحة، تجعله يغوص في المسائل التقنية، ليحقق درجة من الخشونة في أماكن متفرقة من بعض لوحاته الجديدة، ويصل إلى التأليف الفني، الذي يحافظ على المناخ البصري الخاص الشاعري والرومانسي.
يمكن القول إن اللوحة الجدارية قد منحته حرية أكبر في استخدام المواد المختلطة، على الأقل في تأسيس أرضية اللوحة، وإيجاد تضاريس لونية ومساحات ضوئية واسعة ومحاطة بمساحات داكنة. بذلك تظهر فروقات في الأمزجة والخيارات والموضوعات أحياناً بين لوحاته القديمة والجديدة، الأمر الذي يمنحنا الانطباع بأن معرضه الحالي أو على الأقل في بعض لوحاته الجديدة يبدو أكثر حرية وعفوية.
من هنا يمكن القول إنه يتعاطف في معالجاته اللونية مع معطيات الاختبارات التقنية الحديثة، ثم يرتد مرة أخرى نحو مظاهر الاهتمام بالأناقة والدقة والدرج اللوني والشاعرية وإضاءة مساحات من اللوحة، ويعمل على موازنتها مع المساحات الخافتة، مع إعطاء أهمية كبرى للأداء التقني المركز، ليكون النموذجَ الأمثل المعبر عن إحساسه المنظم في الرسم والتشكيل والرؤية الفنية.
هذا يعني ابتعاده الكلي عن الصياغة الواقعية في مدلولها الإنشائي أو منظورها الاستعراضي، وعدمَ تعاطفه مع الأداء اللوني الارتجالي وما تمنحه الحركة الداخلية الانفعالية من تجليات لونية تلقائية، وتكوين عفوي متحرر، حيث يمارس حريته في عملية بناء لوحته ضمن منطق تصويري مدروس وموزون، ويتنقل من تفصيل إلى آخر دون أن ينسى أن لوحته وليدة تأملات فنون العصر القادمة من علاقته المزمنة مع رموز المدينة القديمة التي عرفها في طفولته، باحثاً منذ البداية عن مناخاتها اللونية وشاعريتها البصرية.
|