جديد أحمد معلا.. الحيوية المستحدثة من المكان الأول

24/كانون الثاني/2009

«ولدت على البحر، ترعرعت على شاطئ الفرات في الرقة، سافرت بين المكانين، تهجأت جغرافية سورية في فصول متنوعة، احتضنتني بيوت من تراب وخشب، وأخرى من إسمنت وحديد، بيوت أرمنية وكردية وشركسية وآشورية. وتواجدت في قرية ذات أشجار مختلفة عما نراه عادة في غاباتنا، وتذوقت طعاماً ذا نكهة مختلفة، ولعبت وأنا أحلم مع ضفادع تنفصل أجزاؤها كلما أرادت، وحدثني أصدقاء عن السجن... الخ. الرواية والسينما والتاريخ والعشر قادتني جميعها إلى أمكنة كثيرة أثارت مخيلتي، وكذا حواسي مجتمعة، لاسيما حين كنت أتعامى لأفترض وجوداً مختلفاً.
المكان الأول: ربما هو فراغ في بادية الشام، يشكل مركزاً لدوران الغيوم التي انتهت للتو من الأمطار، معلنة نهاية غبار ليل المكان لعدة أيام.. عماء ثم انكشاف.. المكان الأول: هو أبيض اللوحة قبل أن أضع أي إشارة، أو لمسة. قلق يتشهى الرؤى، أو تكون اللمسة الأول، ولكنني أذكر أكثر من هذا: ملامسة يديّ والدتي الجسدي. ربما بقي للميتافيزيق المصنوع من الحكايات الأولى -والدينية منها بامتياز- الأثر الأكثر قدسية، حيث نسعى لإلصاق حجر بجدار من أجل التمكن من التمني الذي سيتحقق. المكان الأول يتحرك في كره وليس من مركز ثابت، إلا بالمعنى الرسمي، كمكان الولادة بالنسبة لسجلات القيد المدني، الظن بالأمام والوراء، والأعلى والأسفل.. الخ.. يشكل دعوة إلى مكان أولا لا أجده، كأنما هو الصفر بالنسبة إلى بقية الأرقام.. ابتكاره».
أعمال أحمد معلا الأخيرة، يحاول من خلالها تجاوز الفضاء المتحقق، وهي لا تنكر محاولات الآخرين، فهو يفكر في وقت يفكر به غيره بالتطوير. إلا أن المحرك العام لإنجاز هذه الأعمال يختلف عن طروحات غيره من المبدعين «على مستوى النوايا والتصورات والمفاهيم» والمضي إلى ضفاف يتحقق فيها المناخ التصويري عبر اكتشاف جديد للمادة، وللسطح في كل مرة، وليس عبر تكريس الحالة العقائدية للحرف.. قد تشي بعض الأعمال بالكتابة والحرب، لكنها في حقيقة إنجازها تستند إلى المجال الحيوي لهذا الحرف، كأثر وليس كبنية.. وما بين المنظور والمقروء ينشأ التفاعل المقصود، المرتبط بالخطاب البصري الجديد الذي يرى هذا التناول في إطار العملية الفنية بشمولها، والغنية بالعلامات الملونة المفتوحة على الحياة الآن، التي لم تعد تحتمل التأمل أكثر فيما يدعونه «جوهر التأمل».
وبكل الأحوال، فهذه التجربة ليست استلهامية، ولا هي نصية، ولا نقشية، ولا تزيينية، ولا هي تدعي تحريك الثابت.. إنها باختصار تتوافق مع النظرة اللايقينية في فن التصوير المعاصر إلى الصورة كمنتج حي، وفعل إشاري لا يمكن توصيف حضوره، كونه يعيش حالة صيرورة، وحالة استحالة التحديد، وصراع إنتاج الجديد المختلف (...)؛ ولعل مواجهة أعماله الجديدة والنظر إليها يتجاوز رهان الكتابة عنها قبل أن تكتمل الرؤيا ويعم الضوء.
يقول أحمد: «لو لم يكن هناك ضوء، لما كان هناك لون، ولذلك على الرسام أن يحتفي بالشمس دائماً.. رؤية الليل والنهار في لحظة واحدة، هذا ما يصنع سحر التضاد.. تضاد، تناقض، وحدة وجود.. أن نختلف لنجد معنى لتواجدنا مع بعضنا البعض».

طلال معلاّ



Le Monde diplomatique العربية

طباعة طباعة Share مشاركة Email

المشاركة في التعليق

اسمك
بريدك الإلكتروني
الدولة
مشاركتك