طلال معلا وصمته العاشر في غاليري تجليات: دعوة ملحة للكلام

18 شباط 2010

بلغة بسيطة يمكن الحديث عن وجوه طلال معلا دون الحاجة إلى الارتقاء إلى مستوى نقدي بحثي مقارن عالي الحرفة، ذلك لأن مرئياتِ طلال حاضرةٌ بيننا، وربما فينا لو توخيتُ الدقة؛ وجوه يرسمها كحضورها اليومي على أية أوراق يصادفها ولو كانت أوراق علب السجائر، وصولاً إلى قماشة اللوحة. فمن قال أن الصور لا تنطبع على الأشياء والأصابع والعيون والزمن؟!

وجوه الفنان طلال معلا قريبة من متناول العين، ولصيقة بأكتافنا كالجدران التي نصدمها يومياً لو نسينا أن طلال يرسمها. لكن إن لم ننسَ، فلننظر إلى الأمر بروح الطفل العارف الذي لا يريد انكسار المرآة التي تطل منها وجوهنا، من عوالمها المعتمة المتخفية تحت الجلد بأي من تحولاتها، دون أن يكون له موقف مضاد من هذه التحولات، لأنه لا ضير أن تكون الوجوه بأي صورة، ما دامت لا تتشظى هي والمرآة، فلا نعود نعرف ماهية الأجزاء المهشمة أكانت صوراً لوجوهنا أو أوهاماً لهذه الصور، فلا يعود أيُّ شيء حقيقياً.

لا يريد طلال لهذا أن يحدث، لكنه يعرف أنه يحدث. ومع ذلك، لا يستعرض هذا الحدث بشكل فجائعي، بل كألم مكظوم ومتوتر يجعل الصورة ترتجف، ولكن لا تنكسر.

وجوه طلال الصامتة للمرة العاشرة تتسع المساحات فيما بينها ليكون طلال ونحن بينها وفيها! فمن قال أننا أكثر جمالاً من هذه الوجوه أو أقل جمالاً؟! طلال معلاّ يعتقد، وربما سنعتقد معه، أن الجمال ليس هو المعيار والقصد، بل الحقيقة بتحديد نهائي.

مساء الثلاثاء 16 شباط 2010، اُفتتح في غاليري تجليات معرضُ الفنان والناقد التشكيلي طلال معلا، وقد ضمّ المعرض بحدود 40 لوحة من الحجوم المتوسطة والكبيرة. «اكتشف سورية» تابع الافتتاح، والتقى الفنان طلال معلا، وتوقَّف معه في هذا الحوار للتعرُّف أكثر إلى تجربته الأخيرة.

بدأ الأبيض يظهر في أعمالك الأخيرة وهو يغطي القسم الأعلى (الرأس) وخصوصاً للنساء. أيكون رمزاً للصفاء أو البتولية بمقابل التسليع والقيم الاستهلاكية الجديدة والغازية؟ أم أن الأمر لديك يأخذ معناه المعرفي؟
الألوان أدوات تعبيرية في التصوير، تماماً كالأشكال أو الكلمات، وقبل النظر إلى المدلول المباشر لهذا اللون أو ذاك لابد من اعتباره أداة معرفية تتضح في سياق التفاعل مع الأدوات الأخرى للتصريح بخطاب الافتراضات التي تصور الغاية المنشودة من العمل أو التجربة أو البناء الخيالي المتضمن نظام ترابط الجزئيات التي يشكل اللون أحد أهم أركانها، ليس على المستوى التشريحي للوحة وحسب، وإنما على المستوى التوليدي والإشاري الذي يجعل من التجربة لغة مستقلة تصور حقيقة ما يرمي إليه الفنان بعيداً عن المطابقات الاعتيادية بين اللون وحقيقته الطبيعية، أو بين اللون وحقيقته المادية والصناعية. فالرموز تحتفي بالألوان في تحليلها للاوعي البشر، ولكل مجموعة بشرية منتجها الفعال في هذا المجال، وما يمثِّل فرحاً في دلالة لون معين ينقلب حزناً لدى شعوب أخرى، فالكفن أبيض والمعدوم يرتديه، لكن مع ذلك تتفق الاشتقاقات المعنوية لدلالة بعض الألوان في الإشارة إلى البتولية أو الصفاء أو حتى الذهاب نحو مقاصد إيديولوجية بوضع هذا اللون بمقابل الاستهلاك أو التسليع، بالرغم من اعتقادي أن قسراً مرحلياً للمعنى قد يضر المفهوم الشمولي الذي أحاول الذهاب إليه. لا شك أن الدلالة أمر مشترك ويتطلب اتفاقاً بين الأطراف لمحاكاة المعنى، وإلا احتلَّت العبثية محفوظاتنا المعرفية عن اللون. الأبيض في أعمالي جزء لا يتجزأ من قلق اللوحة ومن سعيها للاختلاف والإثارة والمتعة، يؤسس أحياناً ويلغي أحياناً أخرى، وهو جزء من ذات الشخصية وأنماط حضورها في كادر الفنان.

تستعيد الشخوص في أعمالك الجديدة نصفَ جسدها بالمقارنة مع معرضك في آرت هاوس، لكننا نجد الخوف والقلق في العين إذ هي بلا أيد. هل تريد القول إن شخوصك عاجزة عن التواصل مع المجتمع والآخر؟ أو أنها لا تريد؟
هذه قراءة قريبة من حقيقة أشكالي، لكنها لا تروي كامل هذه الحقيقة. لاشك أن أسراراً تستبطنها هذه الشخصيات تقود لما هو أبعد من حدود قشرتها اللونية، وأبعد من التوازنات التي يفترضها المشاهد للوصول إلى إيحاءاتها ودلالاتها. المهم في الأمر أنها قادرة على توليد الأسئلة إلى ما لانهاية، بل لعل الثغرات التشويهية تستبطن قراءات متعددة للاستفهام المطلوب من قبل المتلقي أو الناقد. بالوسع الإفصاح عن حيل الفنان لإثارة المتلقي، وقد يلتف الأخير على الفنان للتهرب من المشاركة في الموضوع المطروح. لكن هذا المكر المتبادل لا يلغي الحقيقة التفاعلية بين البشر وقضاياهم الأساسية، والتي ما فتئت تشكِّل موضوعات الفن وإن اختلفت المداخل إليها، فالعناوين واحدة وترصُّدها من مواقع متنوعة هو المختلف.

ما تراه من اجتزاءات في العيون والأيدي وخلافها كما في النسب ومنطق البناء والتصريح اللوني، كل ذلك تركيبة اصطلاحية تخص وعيي لتاريخي وتأثير هذا العمق على ما أنتج اليوم وعلى الأداء الذي يحاول ملامسة قلب المعنى. إن ما أنزعه من ظاهر الأجساد مواجهةٌ لباطنها المتمرد، وقد يكون في هذه الخلخلة إشرافٌ على المدى الإنساني الذي يطيح بالمرئي المباشر لمصلحة المعنى. أنا غير متيقن من ذلك، لكن السياق الذي أنجزه يقود في هذا الاتجاه، يعزز ذلك الحضور الإنساني في الخلاء التقني الذي يقصي الإنسان ويطيح بحضوره من اللوحة. الإنسان في لوحتي مشارك ويسعى للتواصل ويهتم أن يكون في أقرب نقطة للرؤية وأن تكون صورته في كامل الكادر. إنهم ليسوا سلبيين بالتأكيد لأنهم يستنطقوني كل لحظة، إنهم يسعون لتحقيق القيمة واليقظة والحياة، وهم يرفضون الموت رغم علمهم أن في ذلك خلودهم.

رغم أن النساء في لوحاتك عرائس يرتدين الأبيض، إلا أنهن لسن سعيدات. لماذا؟
دارت تجربة رسام الوجوه فرانسيس بيكون حول العذابات المأساوية، وقد حمل الوجه ما لا يحتمل، وقد قال بأنه كان يودُّ تصوير الابتسامة إلا أنه لم يصوِّر إلا الصرخة، قوة الحياة في الصورة. قد يجيب ذلك عن بعض التساؤل الذي تطرحه العرائس على نفسها وهي تمضي إلى مقاومة الموت بالولادة وبدخول شعائر جسدية مجللة بالخوف والرهبة والعزلة والقلق إلى جانب اللذة. إنه ولوج فراغ المستقبل الذي يحيل الشعور بالوجود إلى شعور بالفناء، تدفع إلى ذلك صدمات الواقع وعنفه وتحوله. هذا بالضبط ما أحاول التعبير عنه في عشرات اللوحات التي رسمتها للعرائس المجلَّلات بالخوف، ليس من حضورهن في الزمان والمكان، وإنما من الكون المادي والمعرفي الذي ينتمين إليه. هذه صوري، بل هذه صورتي، إنه نوع من التحرر من حقائق مخيفة، تحرير الكائن من ذاكرته ووعيه ومعايير النظر إليه خارج المرآة.
إن الإبصار هو مادة التعريف التي تحاكي ماء نرسيس، وتدفع بالشخصي إلى معايير لا يكون فيها الوجه هو ذاته في فضاءات الاستعراض المتنوعة، لدرجة لم نعد نتعرف فيها على أنفسنا لنكون شواهد على عصرنا بأقل التقديرات. قد تشكِّل هذه الشهادة سعادة وقد تجيب مثل هذه السعادة عن اكتشاف معاني الفردانية المميزة للثقافة البصرية المعاصرة. قد تكون السعادة في استقرار الروح في عالم تتشظى فيه هذه الروح وتفسد الرؤية. إنها الأنا المتشظية التي يخترق وجودها غياب المعنى وفقدان الجوهر ووهم الوجود والقدرة على التعبير عنه. بهذه الصورة تستحيل لوحاتي إلى أقفاص افتراضية لا تحمي من التعرية وإنما تبرز الإرهاق وفقدان متعة التوازن في الحياة.

العيون في تشكيلك، ورغم أنها مفتوحة في كثير من الأحيان، إلاّ أنها لا ترى. هذا ما أشعر به، وهي ترى أكثر في حال إغماضها، ويمكن إضافة البياض المسيطر على مساحة العين الذي يدخل التعبير في أكثر من اتجاه!
هوية هذه الوجوه أنها لا ترى، أو أنها لا تريد أن ترى، بمعنى أنها لا تبادلك الرؤية وأنت تضع نفسك في مجال رؤيتها، فهي لا تمتلك جهازك الإبصاري ذاته. فعينها عينٌ أخرى، لها كونها الموازي ووجودها الحسي الخاص على المستوى الأيقوني. لاشك أن ثمة جسد يسكن هذه الصور، يبرهن على ذلك العمى الذي تشير إليه في سؤالك والذي له دلالاته الإيحائية التي تتجاوز حالة التمثيل التصويري الذي أقدمه إلى الذات المبصرة لنفسها. إن وجوهي جبهية تقابل المتلقي، فهي ليست جانبية، والمعروف أن مثل هذه الوضعية تتوسل المشاركة والنجدة فيما تمنح المتلقي غبطة التحدي. أنا أتأمل هذا العمى باستغراب أحياناً، ليس لتكرار حالة من العذاب البصري بل لكونها تشكل تداخلاً مع الثقافي المولد للمعاني المعاصرة، أي إعادة تأسيس موضوع الرؤية وتحديد مواصفات ما يقع في مجالات رؤيتنا للعالم. فلا شيء نخشاه في صورنا، وكأن الحميمية التي كنا نعهدها في الصورة قد ابتلعتها المرآة المعاصرة التي تتحكم بها العلوم الرقمية وخيالات الافتراض الوهمي. العمى الذي تشاهده هو المعنى، والمعنى في لوحاتي أشكال أقتبسها من ذاكرتي اليومية، ولهذا تبدو أعمالي متواليات متشابهة تختفي في أجزائها وتفاصيلها ما اعتادت العين على رؤيته. هي عيون عمياء بمقدار ما ترى وتعي -كشاهد عماء- عدسة كاميرا رقمية.

عندما تتجه اللوحة لديك إلى ألوان مثل الأزرق السماوي والفيروزي، أجد أن الوجوه أو التعبير فيها يصبح أكثر راحة. هل هذا بسبب اللون وأثره النفسي عليك؟ أم أنك تختار اللونَ ليدخلك هذه الحالة؟ السؤال هنا من يختار اللون، هو أم أنت؟
إذا كنت ترى ذلك فلا بأس، أما أنا فإنني أتعامل على الأغلب مع الألوان على أنها إشارات أو علامات منشِئة لكيان من تمفصلات تقود إلى المعنى، في وسيلة تقودني لتكثيف ما أصوره. فهي مادة تساعد على الارتحال من موقع معرفي إلى آخر. إن اللون شبكة من الدلالات الحيوية تعكس تجربة مستخدمها، ولهذا تضحى أحياناً عنوان التجربة ومستقرها بينما في أحيان أخرى تكون موقعاً لاستحضار الانفعالات والوجد، وقد تكون جسراً للعبور إلى رموز ودلالات فاعلة في عمليات التلقي البصري. واللون حالة ذهنية يمكنك تأويله بحسب مرجعياتك، وقراءته تحتاج لكثير من الاطلاع على الثقافات الإنسانية وتصوراً يتسع لإحالات سحرية وأسطورية ودينية ودنيوية. لهذا فهو سر الفنان وطريقة بوحه، كنز من المعلومات المتداخلة عن الطبيعة والوجود وما وراءهما. إنه أثرٌ يتركه الفنان في سعيه للخلاص دون أن يتذكر أسماء الألوان وهو يمد يده إليها، كل ما يعرفه في تلك اللحظة أن اللونَ حاملٌ لصمته وناطقٌ مجيد لما لا يعرف قوله. فهل يمكن تحديد من يختار الآخر؟

الأزرق رجل، والأحمر امرأة. أهكذا ترى الأمر؟ بأي رؤية رسمتَ هذه اللوحة؟
نعم، أراهما مختلفَين إلى هذه الحدود، وربما أكثر. لقد رسمتُ هذا العمل في إطار هذا الاختلاف. كما ترى في الصورة، فإن كلاً من المرأة والرجل في نفس الموقع، ويتقاسمان فضاء الكادر بالعدل والتساوي، لكن لكل منهما لون مختلف، ومن قال أنهما متشابهان. حين نتحدث عن تشابه أمرين لابد أن يكون أحدهما أصل للآخر، بينما الإشارة بالاختلاف تعني أن كل منهما المخلوق الأصل في نوعه من ناحية الخصوصية والهوية. الأحمر قصيدة والأزرق قصيدة أخرى، وكلاهما اشتقاق للتجسيد البشري المحتاج دوماً للتعبير عن مكنوناته وتفسير وجوده. تخمين قد لا أكون مصيباً فيه، لكنه وجهة نظر تحاكي الحقيقة من جهة وتحاكي الأخطاء المحتملة التي قد يتبناها الفن في احتمالات بحثه إلى حدود قد تبلغ الفكاهة.

في بعض الأحيان، يبدو وجهُ المرأة لديك كمساحةٍ من تراب وخضارٍ كما الربيع. أهكذا تراها أحياناً؟ أم هي الرؤية؟
إن كلَّ من رسم المرأة ومن لم يرسمها لم يستطع أن يوفيها حقها في المعاني التي تمثُّلها. اسأل التاريخ وما قبله قبل أن يعلنوا موته، واسأل الغموض عما يعرفه عنها. اسأل المراوغة والوفاء، الحرارة والحركة، الولادة ولغاتها، واسأل الرجل عنها. بالتأكيد كل شيء هراء بدونها، لأنها التحول بعينه واكتمال نظريات الجمال. إنها ببساطة سيرتنا وعطر التواصل مع الحياة والموضوع الأكثر غنى في الفن مذ كانت إلهة وحتى اليوم، لأنها تتجاوز الفن إلى تحققات فكرية واجتماعية. لهذا ينظر إليها كائناً جمالياً كونياً مؤثِّراً يمتلك من الجاذبية ما يجعل التنوع في تمثيله بلا حدود وأبعد من المجازات المولدة للذة الإبداع. حين يتحول وجهها إلى التراب الذي تتحدث عنه يعني أنها في مواجهة مع الخلق أو مع العدم أو الفناء، ويكون من اليسير تلمس المزايا التي أبرزها أو أتركها على سطح القماش بيدي مباشرة ودون الحاجة لوسيط. إنها محاولة لمؤازرتها اليوم بمواجهة موروث سلبي عديم الفائدة. الاقتراب من عيونها مبالغة في الكشف تصل حدود الصدمة والوقوع في أسر الروح والقيم.

أتقترح أن تسمي معرضك الأخير «شخوص في العاصفة»؟
لا! فشخوصي متوازنة والعاصفة تعني عدم التوازن بل فقدانه.

في معرضك السابق في غاليري آرت هاوس، كان لديك وجوه نصفية. لماذا تغيب هنا؟
العالم يقترب إليّ كل يوم، وكذلك كادر اللوحة. إنه نوع من التواصل والحميمية مع موضوعي «الوجه المتخيل»، فالاقتراب والبعد نوع من التحليل للكائن المرسوم دون إكراه أو تملق، نشاط بصري يخضع لقوانين إنتاج العمل الفني وزمن ومادة الاشتغال. لم أفكر ماذا سأنتج أو سأعرض، فاللوحات تنتقي نفسها قبل العرض، ولهذا الأمر جاذبيته التي يدعوها الناس القبول أو الألفة أو الأسلوب. قضية قد ترتبط بأحلام الفنان ونبرته البصرية لكن لك كل الحق أن تلمس مثل هذه الاختلافات التي تمنح مكونات الوجه الإنساني كل هذا التنوع والتبدل لاستقطاب العوالم العاطفية ومشروعية ترجمة الأحاسيس إلى أعمال فنية في غاية البساطة.

بما تفسِّر وجود الحرف -أو ما يشبه الحرف- في لوحتك؟
هذا أمر نادر في أعمالي، لكن وجوده لا يضيرني بشيء، فوجود الحرف أو الكتابة المرتبط بالمسرود البصري هو نوع من إضافة نغمية لغوية تكسر حاجز الصمت، نافذة على كون آخر في حياة الشخصية، استعارة إيحائية وتجريبية تخترق سكون التجربة.

هل يكون اللونُ والمواد العضوية الأخرى التي تشكِّل أنسجة اللوحة والوجوه مجردَ اتجاه تعبيري وتشكيلي في قول اللوحة؟ أم اتجاه ذهني فلسفي أداته الصورة؟
كلاهما معاً. اللون هو وجود اللوحة وحلم الفنان، إنه ما يربطنا بشمولية النزعة التشكيلية وذاكرتها، وهو مادة تحقيق انفجار المعنى ومغناطيس التأمل، أضِف إلى ذلك أنه يلغي عماء البياض الأولي لسطح القماش الذي يقود إلى التداعي والانتقال من لوحة إلى أخرى بحثاً عن الجوهر. إنه كيان يسعى للتحرر والانعتاق من ماديته ليصطبغ بجنون الإبداع ورغبات وأسرار المبدعين. كل شيء في خدمة الصورة وشمولية انبثاقها من الوعي المقيد أو اللاوعي الحر، مأوى التفكيك المستمر للحساسية الجمالية وتحويلها إلى موسيقى يعشقها الوجدان الإنساني باعتبارها اللغز الذي لا يمكن تحويله إلى صنم. اللون قبل أن يكون مادة أو فلسفة هو ما أريد إيصاله للآخرين.

بين وجوه لوحاتك اليوم وتلك المرسومة من سنوات، المفقود هو الحلم. هل هذا صحيح وكيف؟
الحلم عنوان للمراوغة واللعب بأقدار الشخصيات التي أرسمها والتي تشكل احتفاء بما أريد تجسيده كلما تخليت عن أحلامها، أو تخلت هي عنها باعتبار أن لها حياتها ووجودها الخاص. والإشكال هو في الصمت على هذا الفقد، حيث يتجلى الفقد إيقاعاً لمجمل التساؤلات التي تطرحها الأجساد والوجوه في لوحاتي. المهم هو كيف نتمكن من تأويل غياب الحلم؟ وهل يشكل هذا الغياب اشتهاء لتحققه الوجودي رغم أنه من السذاجة الاعتقاد بذلك في عالم الفن. فقدان الحلم هو الوسيط الذي يربطني باللوحة ويستدعي المتلقي إلى معانيها لإدراك ذاته قبل إدراك مرامي ما أرسم وأنا أسترجع مواقف أو أحداثاً أو هيئات أو انفعالات.

بين أحوال الصورة وأوهام الصورة ثمة صورة أو وجه هو وجهك أنت. أين التقطهُ في تجربتك؟
«أحوال الصورة» و«أوهام الصورة» كتابان لي يحتويان على نصوص تشكيلية، وقد صدرا منذ عقد من الزمن ويحتويان على جوانب تنظيرية واستشرافية لأحوال الفنون العربية المعاصرة. لقد رافقا بداية تحضيري لبينالي الشارقة للفنون وتأسيس مجلة الرافد. بالتأكيد يمكنك التقاط وجهي في المغامرة التي كنت أخوضها من أجل ما كنت أؤمن به وهو أنه لابد أن يكون للفن العربي حضوره العالمي وقد عملت بشكل مستمر على ذلك منذ مطلع التسعينيات في القرن الماضي في الكثير من الفعاليات والأنشطة المحلية والعربية والدولية، أو عبر المؤتمرات والندوات والورش والإصدارات.

كيف يتأثر الفنان طلال معلا بالناقد طلال معلا؟ ومتى؟ وهل تميل اللوحة لأي من الطرفين؟ وإلى أي حد؟ بالنسبة لي أرى إن اللوحة تسيطر عليكما أنتما الاثنين، ولكنها جزء منكما. التداخل كثيف هنا واللوحة هي هذا الانعكاس، وأنا أعجز من أن أستطيع فك هذا الالتحام ما بين الذهني والنفسي والتنبؤي. كيف تساعدني هنا لمزيد من الفهم؟
قد لا أستطيع مساعدتك في هذا المجال، فالقضية لها كيميائيتُها الخاصة. ليس الإشكال في أن تكتب بروح المصوِّر أو ترسم بروح الناقد، بل في ما هو أعمق من ذلك، حيث تتداخل المعرفة والخبرة والمراس والموقع والاهتمام وشمولية النظرة لخلق أي من الطرفين أو كليهما معاً. ثِق دائماً بأنني أحب المصور، ولهذا لم أنظر يوماً إلى النقد على أنه وسيلة لمعرفة الفنانين، وإنما معرفة الفن. إن أغلب ما أكتبه هو في هذا المجال التنظيري، أنا لا أفصل معرفتي عن بعضها البعض، وغالباً ما أنطلق من جهلي بالعالم لأعرف أكثر. ثِق أنني أكون بغاية الانشراح وأنا أنظر إلى لوحة أنهيتُها للتو، بينما لا يتملكني نفس الشعور وأنا أنهي نصاً عن الفن بالرغم من اعتزازي به. بكل الأحوال لابد من اعتبار أن كلَّ ما أنتج -كتابة وتصويراً- ثمارُ بحثٍ عن طريق لم يرغمني أحد على ارتياده، بل سلكتُه طواعية بقصد زحزحة الكثير من الأمور، معتقداً بأن ما أرسمه أو أكتبه له لسانه الذي يتحدث عنه.


عمار حسن
تصوير: عبد الله رضا

اكتشف سورية

Share/Bookmark

صور الخبر

التشكيلي طلال معلا

التشكيلي طلال معلا والتشكيلي خليل عكاري

من أجواء المعرض

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق