فوزي القاوقجي

من سيرة ضابط عربي في الجيش العثماني: آراء وانطباعات

ملخص بحث الدكتورة خيرية قاسمية - فلسطين
في مؤتمر العرب والأتراك.. مسيرة تاريخ وحضارة

تبدو المرحلة العثمانية شبه مجهولة في التاريخ العربي فلا يذكر عنها إلا صفات الجور والتخلف، وكي نعيد الاعتبار إلى هذه المرحلة علينا أن ننظر إليها بموضوعية وبدراسة جادة، وذلك بالاعتماد على المراجع والمصادر الأولية في الدولة العثمانية والولايات العربية مع التدقيق المتروي للمراجع الأجنبية، ولا يمكن أن نحكم على هذه المرحلة وفقاً للصورة التي آلت إليها في مرحلة انحطاط الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر، علينا أن نذكر أن هذه الدولة أتت إلى بلادنا والتهديد الأوروبي يحدق بنا من الشرق، بعد انقضاء الحروب الصليبية، فيسد مسالك التجارة الخارجية، وفي الغرب وبعد زوال الدولة الإسلامية في الأندلس، شرع التهديد الأوروبي في الهبوط جنوباً في حركة معاكسة للمد العربي الإسلامي في العصور الوسطى، وكانت الدولة العثمانية هي التي ألقيت عليها المسؤولية التاريخية في وقف هذا الخطر والتحول من موقع الدفاع إلى مواقع الهجوم، ولو إلى حين، ولاشك أن دولة تقوم بهذه المهمة التاريخية دون أن تنكسر أو تتفكك لثلاث قرون على الأقل، لا بد أنها كانت على قدر من التقدم في الإدارة والتنظيم وضبط العمل.

لم يعتبر الحكم العثماني في البلاد العربية حكماً أجنبياً، رغم تعسف الحكم وفساده في كثير من الأحيان، ذلك أن الدولة العثمانية كانت إسلامية في مؤسساتها وثقافتها، وظلت في ذهن الشعب العربي استمراراً للدول السابقة، ولم تختلف عن تلك الدول إلا في اعتبارها العثمانية لغة رسمية بدل العربية. وهذه أول مرة يفصل فيها بين الإسلام والعربية على نطاق رسمي، مع ذلك بقيت العربية لغة وثقافة من مقومات العرب الأساسية، وهذا أكد اقتران العربية بالإسلام عند العرب وحدهم.

وقد ظل عند العرب إحساس غامض أنهم شعب يتميز عن سواه من شعوب الدولة العثمانية باللغة والتراث والتقاليد التاريخية المشتركة، ولكن العرب تمسكوا بوحدة الدولة، هذه الوحدة التي ظلت قائمة نوعاً ما خلال المرحلة العثمانية نظراً لوجود منظمة سياسية مركزية واحدة تجمع الأجزاء العربية في آسيا واقعاً وفي أفريقيا اسماً، وظل العرب أوفياء على وحدة الدولة طالما استطاعت أن تدفع الغزو الأجنبي وتحافظ على الطابع الديني وتحفظ التراث دون تعصب قومي، فقد كانت الدولة العثمانية طليعة القوة الإسلامية في وجه الغرب وبقيت لقرون مصدر تهديد له حتى بدا الضعف على الدولة أمام الغرب أواخر القرن الثامن عشر.

إن التدهور المستمر في قوة الدول لعوامل داخلية وللانكسارات المتتالية أمام القوة الأوروبية المتتالية حمل عدداً من المصلحين والمفكرين داخل الدولة العثمانية، ومن بينهم كثير من العرب أواخر القرن الثامن عشر، إلى البحث عن أسلوب لمواجهة التفوق الأوروبي، ولكن دون تمزيق للوحدة، وهذا دليل على أن الدول العثمانية لم تكن في حالة جمود عند مجيء الموجة الغربية المهددة.

الورقة التالية تتناول قراءة في جانب واحدة من سيرة ضابط عربي في الجيش العثماني، يمثل ذلك الجيل الذي عاش تجربة مشتركة بين العرب والترك وسجل ملاحظاته بصورة صادقة وموضوعية، إنه فوزي القاوقجي (توفي 1976) واحد من أبناء الأمة العربية الذين اعتلوا مسرح الأحداث المعاصرة خلال النصف الأول من القرن العشرين. وفي حياته وفي شخصيته كثير من الغنى والتنوع، وتضاربت حوله الآراء وتراوحت بين عبارات الإعجاب وسيل الاتهامات. ويظل القاوقجي، مع ذلك نموذجاً فريداً للاندفاع وروح المغامرة والاعتداد بالنفس، منذ نشأته في الجيش العثماني 1912 إلى أن قرر الانسحاب من مسرح الأحداث بعد نهاية المرحلة المؤلمة من حرب فلسطين 1948.

وكانت مذكراته وأوراقه، الخاصة هما السلاح الذي غنمه من الميدان الحربي، ومذكراته التي دونها على مراحل (بدأت عام 1922 وانتهت قبل وفاته بشهور عام 1975)، ليست بالمعنى الدقيق سيرة ذاتية، بل مجموعة ملاحظات اقتطفها من اختبارات طويلة وتجارب عميقة في الأحداث التي عايشها وشارك بها، اختلطت بالانطباعات الشخصية والآراء الذاتية، ولا يمكن أن تؤخذ إلا بنوع من الحذر والتدقيق، مع ذلك فإنها قد أضفت الحياة على الفترة التي عاشها وشارك في أحداثها، أما أوراق القاوقجي الخاصة، وهي التي ظل يحملها معه في أسفاره، فهي تعد من أغنى المجموعات الخاصة، رغم ما أصاب بعضها من التلف والضياع. وأهميتها من ناحية الدقة التاريخية، هي أنها تحمل الرأي المعاصر للأحداث، وتحوي الأوراق بعض الانطباعات والخواطر التي سجلها في حينها، بالإضافة إلى التقارير والمراسلات.

وفي هذه الدراسة محاولة لاقتطاع جانب من هذه المذكرات، والأوراق، يتناول فترة من تاريخ العلاقات العربية التركية 1912-1928، كان القاوقجي خلالها مشاركاً أو مراقباً للأحداث، وهي فترة مفعمة بالتطورات شهدت السنوات الأخيرة من الوجود العثماني في المشرق العربي وبدايات التحرك القومي الذي توج بإعلان الثورة العربية الكبرى فأثارت في النفوس الآمال بتحقيق الوحدة والاستقلال. وقد أعقبها خيبة أمل أثر انهيار الدول العثمانية وتسويات ما بعد الحرب التي مزقت الوطن العربي وأخضعته لأشكال مختلفة من الحكم الأجنبي. وكان ذلك انطلاقة صور مختلفة من النضال الوطني بحث فيه العرب عن نصير لدعم كفاحهم. وتطلع البعض إلى تركيا بأمل الحصول على مساندة.

ولا تدعي هذه الدراسة أنها قد عالجت مجمل العلاقات العربية التركية في الفترة موضع البحث، كما لا يمكن القول أنها قد وصلت إلى مستوى الدقة المطلوبة في البحث التاريخي، فهي تحمل في طياتها الجانب الشخصي والرأي الخاص المستقل ولا بد من أن تقارن بالأحداث والظروف العامة إلا أنها احتوت على مادة حية قد تصلح للساعين إلى كشف الحقيقة التاريخية.
==
المصدر نشرة مؤتمر العرب والأتراك.. مسيرة تاريخ وحضارة 2010.

مواضيع ذات صلة: