رحيل مأمون البوشي: فنان التصوف والشخوص الهاربة من التاريخ

طوته الأيام الأخيرة لعام 2008

25/كانون الثاني/2009


إثر نوبةٍ قلبية، رحل في دمشق يوم 27 كانون الأول 2008 وبصمتٍ غريب، الفنان التشكيلي السوري الشاب مأمون البوشي عن عمرٍ ناهز الخامسة والأربعين.

فالفنان من مواليد قدسيا عام 1965، تخرج في قسم الرسم والتصوير بكلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق عام 1987، شارك في العديد من المعارض الجماعية، وأقام بضعة معارض فردية في سورية ومصر، كما شارك في بينالي القاهرة والإسكندرية أثناء وجوده في القاهرة لمدة تربو على خمس سنوات.

أولى معارضه الفردية أقامها في صالة دمشق العام 1997، ثم في صالة الجابري بحلب عام 1998، وفي العام نفسه أقام معرضه الفردي الثالث في صالة دمشق، ثم في صالة المركز الثقافي العربي في دمشق العام 1999، ثم في صالة السيد، وصالة عالبال، إضافةً إلى عدة معارض أقامها في مصر.

عند رحيله، كان الفنان مأمون البوشي يُدرس مادة الرسم والتصوير بكلية الفنون الجميلة في دمشق كمحاضر، وقد أعلن منذ مغادرته محترفات هذه الكلية العام 1987 انحيازه للأسلوب الواقعي الرومانسي الشفيف المفعم بالصوفية، والمتماهي إلى حدٍ بعيد، بطبيعة شخصيته الوادعة، الهادئة، المحبة.

فهذا الفنان الذي عاش في غوطة دمشق الغربية كما يقول عنه الفنان فاتح المدرس، كرس حياته للرؤى الروحية التي جسدها في لوحاته بشكلٍ خجول وهادئ وميتافيزيكي، اتجه في انجاز أعماله إلى ما أعطاه فنانو ما بعد عصر النهضة ،فعاش في جوٍ لوني محترق وقبل أن يصبح رماداً، أعطى العمل ذلك الضوء الخفيف لعوالم جبران خليل جبران وبعض رؤى المتصوفة، ويؤكد الفنان المدرس الذي قدم معرضه في صالة دمشق أنَّ أعمال الفنان مأمون البوشي تنقلنا إلى عوالم هي في غاية الطيبة الوجودية وكأننا نقرأ شعراً لمتصوفٍ كثير الرموز، يتحرك بين الوجود والعدم، إلا أنَّنا نجد بين آنٍ وآخر ثورة خفية لرفض العالم السكوني واستبداله بجيشان عاطفي تشكيلي هو من صلب التحرك في خضم العالم الماثل.

تأثر الفنان البوشي بفناني ما بعد عصر النهضة، يعود إلى كونه تفرغ عقب تخرجه في كلية الفنون الجميلة -وكان من المتميزين بين أقرانه- لإنتاج اللوحة الاستشراقية المطلوبة بإلحاح في السوق المحلي، وهو ما جعله يعزف عن إنتاج اللوحة الخاصة به خلال عقد من الزمن، أي منذ تخرجه وحتى إقامة معرضه الفردي الأول عام 1997 الذي ضمنه سبعاً وثلاثين لوحة منفذة بتقانات مختلفة، حملت بوضوح، ملامح شخصيته الفنية الخاصة بكامل أبعادها ومقاومتها المتسمة بوحدة شكلية ولونية فائقة الانسجام والتوافق والشفافية، عالج فيها موضوعاً أساساً هو الإنسان والأسطورة والحلم، وهذه الوحدة بين اللون والخط «الرسم» وبين الشكل والمضمون استمرت في إنتاجه الفني حتى رحيله فالفنان البوشي، وبألوان تتدرج بين البني الترابي والأصفر وبعض التواشيح الخفيفة من الألوان القريبة، يبني عوالم لوحته المعالجة بصيغة واقعية مختزلة مشوبة بحس تعبيري صوفي، يعكس جوانب من شخصيته الحقيقية.

ولتأكيد العلاقة الحميمة التي تربطه بشخوص أعماله، عمد إلى رسم نفسه في أكثر من لوحة وهي ظاهرة مألوفة رأيناها في العديد من التجارب الفنية العالمية، لعل أهمها وأبرزها تجربة الفنان الهولندي الشهير «رامبرانت» الذي رسم نفسه خلال مراحله العمرية المختلفة في ما يربو على سبعين لوحة، بحيث يمكن اعتبارها توثيقاً كاملاً لحياته، ومن الفنانين الذين رسموا أنفسهم في لوحاتهم، الفنان الايطالي «بوتشلي» الذي كان يتعمد إبراز نفسه من خلال الوضعية المخالفة لوضعيات الشخوص الأخرى في اللوحة، بينما لدى الفنان البوشي تتماهى شخصيته مع الشخوص الأخرى لتتحول إلى جزء منها تسعفها في تأكيد فكرة اللوحة ومضمونها الرافل بهموم وقضايا إنسانية متأرجحة بين الحزن والفرح، والسكون والثورة وشخوص لوحات البوشي، ملتحمة بموجوداتها الأخرى، وتغلف ملامحها مسحة من الحلم الشاعري تارة، ومسحة من الخوف والدهشة والانفعال، تارةً أخرى وهي بشكلٍ عام تذكرنا بشخوص الإيقونات ولوحات الأساطير والحكايا الدينية، وهذه الشخوص المتميزة الأشكال والوضعيات تسكنها حالةً لافتة من العتاقة تبدو معها وكأنها خارجة لتوها من أعماق التاريخ، أو من مغائره القديمة المفعمة بالغموض المثير الذي يحكي نزوعات الإنسان وهواجسه القديمة ـ الجديدة، المتعلقة بثنائية الحياة وقطبيها: الرجل والمرأة الايجابي والسالب، الخير والشر، الأبيض والأسود، الفرح والحزن، الأمل واليأس، وقبل هذا وذاك، نزوع الإنسان الأزلي، لتحقيق المجتمع المثالي.

يقول الفنان البوشي: «إن أشخاص لوحاته ليست شخوصاً مرئية بضوء الواقع، ولا هي شخوص اصطلاحية ذهنية، بل تظهر جميعاً مستمدة من مناخ الأسطورة والأجواء الطقوسية عذاباً وانتظاراً»، وإنسانيتها تتحول إلى حاجة ملحة للعصر وضرورة كاشفة له ويؤكد أنَّ المرأة في لوحاته ومن خلال التعبير الذي يكسو وجهها، تتهمه وتتهم كل من يراها، أو هذا ما يرجوه ويأمله، لذلك فإن الوجه الذي يرسمه يريده وثيقة تدين العصر والإنسان.

بمعنى آخر: حاول الفنان البوشي، من خلال اللوحة العبور إلى الروح من خلال الجسد: فالمرأة في بعض أعماله عارية لتحرير الجوهر الذي يسكن داخلها فبعد موت الجسد تصير جوهراً، والإنسان برأيه، برزخ جسر بين الظل والنور، ويتمحور وجوده حول العبور نحو النور، وهذا الإنسان لا يستطيع أن يحيا دون غيب يكشف له محدوديته، لذلك فإن الوقوف عند المرئي ليس إلا وقوفاً عند القشرة أو السطح وقيمة التعبير في مدى كشف الفنان عن بعد اللانهاية في الإنسان والعالم، فالحقيقة ليست فيما يُرى بل فيما يتعذر رؤيته.. إنها في الغامض اللامتناهي.



د. محمود شاهين


تشرين


مواضيع ذات صلة
- رحيل الفنان التشكيلي محمد خضر العلي عبيد
- رحيل شيخ المنشدين حمزة شكور
سعى لمحوّ الصورة المغلوطة في أذهان الغرب

- رحيل الفنان التشكيلي مصطفى فتحي
- رحيل التشكيلي جريس حنا سعد
- رحيل الفنان التشكيلي شريف محرم
- رحيل الشاعر كمال فوزي الشرابي عن عمر يناهز 86 عاماً
- رحيل الفنان الكبير عبد الفتاح سكر
- رحيل الأديب الباحث نشأت الخانجي
- رحيل الصحافي الكبير جبران كورية
وداعاً أبا جابر

- رحيل الأديب الروائي والمسرحي وليد مدفعي
- مأمون البوشي رحيل العاشق المتيّم بشاعرية النور
سعى لإسقاط اللباس للتعبير بحرية عن رغبة الروح بالانعتاق من العالم المادي


تعليقات القراء

المشاركة في التعليقات:

*اسمك:
الدولة:
بريدك الإلكتروني:
*تعليقك:

الحقول المشار إليها بـ (*) ضرورية

ضيف اكتشف سورية
أنطون مقدسي
أنطون مقدسي
حصاد عام 2008
حصاد عام 2008
دمشق القديمة
غاليري اكتشف سورية
غاليري اكتشف سورية
 

 


هذا الموقع برعاية
MTN Syria

بعض الحقوق محفوظة © اكتشف سورية 2008
Google وGoogle Maps وشعار Google هي علامات مسجلة لشركةGoogle
info@discover-syria.com

إعداد وتنفيذ الأوس للنشر
الأوس للنشر