في رحيل الباحث والمؤرخ الدكتور عدنان البني
ما أرحب هذا الإنسان!

23/تشرين الأول/2008

رحل الباحث الأثري والمؤرخ الأستاذ الدكتور عدنان البني، رحل الإنسان المبدع الخلاق، رحل الرائد الذي أمضى من حياته أكثر من نصف قرن في خدمة آثار وتراث وطنه وأمته العربية. كان يعمل بجد وإخلاص وحب، ينقب، يكتشف، يرمم، يدرس ويدرّس يكتب وينشر، إنها الرسالة النبيلة، التي لا تدانيها رسالة، رسالة سامية، نذر نفسه من أجلها، وكافح، وناضل.
اجتهد فكان العطاء والنجاح والارتقاء والسمو، عدنان البني أحب عمله، أخلص له، أعطاه كل عمره، زرع الحب فحصد الحب، وهل هناك أجمل وأنبل من هذا الحصاد؟! أحبه كل من عمل معه وعرفه وتتلمذ على يديه، وحب الناس الذي لا يدرك معناه، ولا يفهم مغزاه ولا يعرف قيمته ومكنوناته، إلا من فقده، فمن يفقده، يفقد كل ما هو سام ونبيل في الحياة، لأن حب الناس غاية المنتهى، وقيمة القيم، ومن أحبه الله، حبّبه وقرّبه من عبيده.
يقول الشاعر العالمي الكبير رسول حمزاتوف: «إذا أطلقت رصاص مسدسك على الماضي أطلق المستقبل عليك مدافعه». والدكتور البني أدرك منذ سنوات طويلة، منذ بداية مسيرته العلمية والعملية في حقلي التاريخ والآثار، أبعاد ومفهوم هذه المقولة الخالدة. لذلك كان في كل ما بحث وكتب ودرس، ينطلق من الماضي بحب ورؤى ثاقبة وشفافية مطلقة. يدرس التاريخ بمنهجية علمية واعية لآفاق المستقبل، ينقب ويكتشف المواقع الأثرية في شتى أنحاء وطننا الحبيب، بقلب عاشق، وآفاق عالم، وصوفية مؤمن متعبد في محراب التراث والأوابد الأثرية.
في كل ما كتب وبحث ودرس، كان يدرك جيداً رسالة المؤرخ، ويعي مسؤولية الأثري، ويفهم آفاق العالم المنفتح على حاضر ومستقبل مشرق. لذلك كانت نتاجاته مراجع أساسية في تاريخ وتطور الكتابة في المشرق العربي القديم، وتاريخ وآثار تدمر وملكتها العظيمة «زنوبيا» والنساء اللاتي مررن على دروبها، وإنجازات «أبولودور الدمشقي»، وغيرها من الأبحاث الرائعة التي نشرت في مجلة الحوليات الأثرية العربية السورية، وكبريات المجلات والدوريات المتخصصة في العالم.
عرفت الأستاذ الكبير، منذ أول صباح يوم عملت فيه في المديرية العامة للآثار والمتاحف في صباح يوم 1 حزيران 1970. كان هامة كبيرة وكانت تفصلني عنه في بدايات عملي، مسافات علمية ووظيفية كبيرة، ومع ذلك لم يشعرني في يوم من الأيام بأنه الأستاذ وأنا التلميذ، وعلى هذا استمرت صداقتنا الأخوية القوية، ورحلة مسيرتنا في هذه المديرية، وخارجها. حواراتنا في شؤون التاريخ والآثار والتراث وحتى الموسيقى، كان تستمر ساعات. شاركت معه بالتنقيب والمسح والكشف الأثري في الجزيرة السورية، وتدمر، وترميم الجامع الأموي الكبير بدمشق، وفي ندوات ومؤتمرات علمية وآثارية عديدة، وفي جلسات الود والسمر، وكان في هذه العلاقة الأخوية المستمرة، مثال المحب، الصادق الصدوق المدرك لأبعاد الصداقة والزمالة والهم المشترك.
عدنان البني، لم يتعب يوماً من التجوال في دواخل المعرفة والعلم والثقافة والبحث الأثري والتاريخي. كان دائماً صاحب رسالة يحارب من أجلها ومن أجل عظمة الحضارة والإنسان في سورية الخالدة. لقد نذر نفسه من أجل تراث أمته العربية، ورافق تأسيس المشهد الأثري الحضاري في وطننا منذ بدايات إشراقته في عصرنا الحديث والمعاصر. هو لا يحتاج إلى مديح ولا إلى شهادات. أعماله وإنجازاته التي يصعب حصرها وعدها، قادرة بقوة وفخر، على الحضور لتقول كلمتها الصريحة والواضحة، وهي راسخة في أذهان وأفئدة زملائه وتلامذته ومعارفه، وهذا جزء من غنى الحياة وعظمتها في حياة البشر. كثيرون يحسدونه ويجلونه لتحقيقه أشياء لم يحققها إلا القلة القلائل في سورية والوطن العربي، إنها «الريادة البحثية» التي من خلالها لامس «وردة المستحيل» وطاف من حولها متعباً، فاستحق الحب والتقدير والإعجاب. هذه «الريادة» جعلته على مدى عمره المديد، يحمل حساسية الشباب، فلم يتنازل للزمن وكان دائماً يجري ويعمل معنا، فتياً وسط نهر العطاء. دائماً يريد أن يستعيد سجال الشباب ونزعتهم وحيويتهم، ليشرب معهم من نبع الحياة، وليجعل الأيام والسنوات مزهرة، حافلة بالفرح والحيوية والألق. ما أرحب هذا الإنسان!


علي القيم
الوطن

Creative Commons License
طباعة طباعة Share مشاركة Email

المشاركة في التعليق

اسمك
بريدك الإلكتروني
الدولة
مشاركتك