في ذكرى الجلاء..

تستذكر سورية اليوم ذكرى جلاء القوات المستعمرة الأجنبية عن أراضيها بلا عودة، وهي المناسبة التي صاغت وقررت مستقبل سورية الحديث والمعاصر، ونجم عنها نشوء «الجمهورية العربية السورية».

هذا هو تراثنا، تراث يوسف العظمة والشيخ صالح العلي وإبراهيم هنانو وسلطان باشا الأطرش، الذين أعلوا الوطن فوق كل اعتبار، ونظر كلٍ منهم إلى ثورته على أنها ثورة الشعب السوري ضد الاستعمار الفرنسي.
اليوم عيد الجلاء، وبقدر ما تثير فينا هذه الكلمة من عودة إلى حنين ماضٍ، فإنها تذكرنا باستقلال الوطن، وخروج القوات الأجنبية من آخر شبر فيه. تذكرنا بذلك المنجز المشترك الذي ساهم فيه أبناء الوطن السوري جميعهم، بغض النظر عن اختلاف معتقداتهم الدينية والطائفية والسياسية والفكرية، أو انتماءاتهم العرقية، أو شرائحهم الاجتماعية الاقتصادية.

لقد كانوا ببساطة سوريين يصنعون وطناً، وضعوا أيديهم بأيدي بعض وصنعوا الجلاء وطردوا الفرنسي من أرضهم، رافضين كل مشاريع التقسيم المناطقي أو المذهبي التي خرج بها عليهم ذلك المستعمر اللئيم، الذي عمل على استهداف وحدتهم التي هي مصدر قوتهم وجوهر انتمائهم، وهكذا كان شعار الثورة السورية الكبرى الذي أعلنه للملأ قائدها الزعيم الوطني سلطان باشا الأطرش: «الدين لله، والوطن للجميع». فوقف أبناء جبل العرب وسهل حوران جنباً إلى جنب مع إخوانهم في غوطة دمشق وجبال حارم وهضبة حلب، وأبناء الساحل السوري مع رجال حماة وحمص وسهوب الجزيرة السورية ليشكلوا بكليّتهم هذا الوطن العظيم: ســـــــــورية.

تأتي ذكرى الجلاء هذا العام وسورية تعيش مرحلة صعبة من تاريخها، تتقاطع فيها عوامل خارجية لم يشهد التاريخ مثيلاُ لها، تسعى من خلالها قوى مختلفة إلى إزاحة سورية عن تراثها وتاريخها ودورها الحضاري، المُطالب بالحقوق الوطنية في السيادة والاستقلال وتحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي، وعلى رأس هذه الحقوق «قضية فلسطين»، قضية العرب المركزية.

وإذ تختلط هذه القضية بقضايا أخرى، فإن الشعب السوري يتبين طريق خروجه من محنته بصبره المعهود، وبصيرته الثاقبة، التي لا تعجز عن غربلة المسائل، فيتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وإذا الحاجة والرغبة إلى تطوير المجتمع السوري وبنيته السياسية أمرٌ، وتدمير سورية والقضاء على وحدتها ودورها أمر آخر تماماً.

علّ ذكرى الجلاء تأتي، ومعها جلاء البصر والبصيرة لكل سوري، فتتضح الصورة الشاملة، ويتبين له أن استقرار الوطن واستقلاله عامل أساسي حاسم في أي تطور مستقبلي، وأن سعيه نحو الحرية والديمقراطية، ونحو الرخاء الاقتصادي والتقدم الاجتماعي، له عناوين قائمة واضحة، أساسها وحدة الشعب السوري ووحدة مؤسساته، فسورية التي تركها لنا آباء الاستقلال وطناً واحداً موحداً عصياً على الاستعمار متطلعاً إلى المستقبل، لا بد أن نتركها لأبنائها بلد الأمن والأمان والسلام والازدهار، لنا وللإنسانية جمعاء.

اكتشف سورية