المحتويات
قلما عرف التاريخ شخصية كانت مثار جدل في حياتها وبعد مماتها حتى وقت طويل، فقط تلك الشخصيات التي ترسم ملامح التاريخ وتمد أيديها إلى عالم المستقبل، فتساهم – بعد قرون – بكتابة تفاصيله واللعب على تناقضاته وتشكيل أحداثه. لا غرو أن صلاح الدين الأيوبي كان وسيبقى واحداً من تلك الشخصيات الأسطورية المفردة، التي تلعب رمزيتها أدواراً في صناعة زمننا الحاضر ومستقبلنا المقبل. تأتي رمزية هذه الشخصية من قدرتها الفذة على توحيد قوى العالم الإسلامي في مطلع الألفية الميلادية الثانية من أجل تحقيق نصر كبير على الصليبيين الذين كانوا قد احتلوا معظم سواحل بلاد الشام ومصر واستقروا فيها أكثر من 200 سنة، وكان من نتائج جهود تحرير القدس والقضاء على الكثير من الإمارات الصليبية مما مهد الطريق لزوال الاحتلال الصليبي عن البلاد العربية نهائياً في وقت لاحق، وهو إنجاز مرتبط بشخصية صلاح الدين بالدرجة الأولى وبقدرته على جمع الناس وتنظيمهم وقيادتهم لتحقيق الهدف الكبير.
من هو صلاح الدين؟
هوأبو المظفر يوسف بن أيوب بن شادي، صلاح الدين الأيوبي الملقب بالملك الناصر، من أشهر ملوك وقادة الإسلام ومحرر القدس من أيدي الصليبيين. يختلف المؤرخون في أصل هذه الأسرة، والأرجح أن أباه وأهله كانوا من دوين وهي بلدة في شرقي أذربيجان، وهم بطن من الروادية من قبيلة الهذبانية الكردية، وقد دخلت أسرتهم كنف الحياة الإسلامية في بغداد وتكريت وبعلبك ودمشق، وترعرعت بينها، وتثقفت بالثقافة العربية الإسلامية في وقت كان شعار الحياة العامة الدين الإسلامي الذي يجمع بين القوميات المختلفة برباط أخوي {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عندَ الله أَتْقَاكُم} (الحجرات آية 31)، و«لا فضل لعربي على أعجمي إلاّ بالتقوى».
مولده ونشأته
ولد صلاح الدين في الليلة التي غادر فيها والده نجم الدين وعمه أسد الدين شيركوه تكريتَ، متوجهين إلى الموصل حيث يقيم عماد الدين زنكي أتابك الموصل، الذي أكرم مثواهما عرفاناً بالجميل الذي أسدياه إليه عندما هُزم هو والسلطان السلجوقي مسعود في حربهم ضد الخليفة المسترشد سنة 526هـ/1131م. ولما فتح عماد الدين بعلبك سنة 534هـ، ولىّ عليها نجم الدين أيوب. وفي بعلبك قضى يوسف صلاح الدين طفولته الأولى، وفي سنة 546هـ، فارق صلاح الدين والده وعمل في خدمة عمه أسد الدين الذي تولى قيادة الزنكيين بعد مقتل والده سنة 541هـ/1145م، فقدمه بين يدي نور الدين الذي قبله وأقطعه إقطاعاً حسناً.
تلقى صلاح الدين العلوم الإسلامية، فدرس القرآن والحديث والفقه على أيدي كبار العلماء، منهم الشيخ الإمام قطب الدين النيسابوري، الذي قال عنه المقريزي، بأنه جمع لصلاح الدين عقيدة تحوي جميع ما يحتاج إليه، كذلك تلقى فنون القتال والفروسية وغيرها من فنون أبناء الطبقة الحاكمة.
انطلاقته السياسية والعسكرية
في سنة 549هـ، ملَكَ نور الدين زنكي دمشق. وحينما بلغ صلاح الدين الثامنة والعشرين من عمره تولّى رئاسة الشرطة في دمشق سنة 560هـ/1164م، نائباً لواليها تبعاً لذلك، وكانت مهمة النائب فيها، قيادة العساكر والمحافظة على النظام والسهر على جباية الخراج، فأظهر السياسة وأحكم الأمور فيها.
في منتصف ربيع الأول سنة 564هـ/1168م، وصلت حملةُ نور الدين حدود مصرَ. ولما علم الصليبيون بقدومها رحلوا عن مصر خائبين دون أن يحققوا شيئاً من أهدافهم ودون أن يستلموا من شاور الأموال التي وعدهم بها، وبذلك صفا الجو لشيركوه الذي تقدم بأمان إلى القاهرة حيث استقبل المصريون الحملةَ النورية بالترحاب، وخرج العاضد للقاء شيركوه، ويقال إنه اجتمع به وأسرّ إليه أموراً مهمة، منها قتل الوزير شاور.
صلاح الدين في مصر ونهاية الخلافة الفاطمية
وفي سنة 565هـ/1169م، تقدم الصليبيون نحو دمياط بقوات كبيرة، فأرسل إليها صلاح الدين مباشرة بعض العون العسكري والمادي، وسمح للأمراء الأيوبيين بالذهاب إليها، كما أن نور الدين أرسل إليه العساكر يتلو بعضها بعضاً، وتقدم نور الدين نفسه إلى بعض القلاع في الشام فاستولى عليها، مما دفع الصليبيين إلى الانسحاب من دمياط على الرغم من الحصار الشديد الذي دام خمسين يوماً.
كان من نتيجة انسحاب الصليبيين من دمياط أن ظهر صلاح الدين للمصريين بمظهر المنقذ، مما ساعد على التفافهم حوله، وأخذوا يساندونه في حربه ضد الصليبيين ويسيرون معه لمحاصرة قلاعهم في الشام بعد أن لاحقهم هناك. وفي سنة 567هـ، نفذ صلاح الدين الأوامر التي كانت تصدر إليه من نور الدين بإسقاط الخلافة الفاطمية، فقطع الخطبة للخليفة العاضد الفاطمي، وأقامها للخليفة المستضيء العباسي، وكان العاضد مريضاً على فراش الموت فتوفي دون أن يعلم ما حدث.
بإسقاط الخلافة الفاطمية أعيدت الوحدة بين مصر والشام من جديد مذهبياً وإقليمياً، وأصبحت الخلافة العباسية هي الوحيدة التي يدين لها جميع المسلمين بالولاء، فنشأت طاقة بشرية ومادية ظهرت آثارها في الحروب التي خاضها صلاح الدين ضد الصليبيين.
وفاة نور الدين زنكي وإعادة التشكل السياسي في المنطقة
كان لوفاة نور الدين زنكي سنة 569هـ/1174م، أثر كبير في إبراز شخصية صلاح الدين وتحديد العلاقة بينه وبين القوى الإسلامية في منطقة الشام والجزيرة، لأنه لم يكن من المنتظر أن تبقى منطقة الشام والجزيرة التي كانت تحت حكم نور الدين محافظة على وحدتها وقوتها، خاصة وأن الأمراء الزنكيين وكبار القادة في جيش نور الدين دخلوا فوراً بعد وفاته في تنافس على وصاية ابنه الصغير الصالح إسماعيل، علماً بأن الخطر الصليبي غدا ذا تأثير كبير في تطور الحياة السياسية في منطقة الشام.
حين لم يكن بمقدور الصالح إسماعيل ولا بمقدور عمه سيف الدين غازي صاحب الموصل ولا السلطان السلجوقي في آسيا الصغرى أن يجابهوا الخطر الصليبي على انفراد، خاصة أنّ الإمدادات الأوربية لم تنقطع عن قوى الصليبيين في المنطقة، أصبح لزاماً أن يتقدم أحد أمراء نور الدين الأقوياء ليملأ الفراغ ويوحد الكلمة ويجمع الصف. وكان صلاح الدين غداة وفاة نور الدين يملك قوة كبيرة من العدد والعدة، فهو أمير مصر الغنية القوية، وقائد لعدة فرق عسكرية مكونة من الأكراد والأتراك الذين قدموا معه، إضافة إلى القوات المصرية التي انضمت إليه بدافع المحبة أو كرهاً بالحكم الفاطمي، لذلك كله أحس صلاح الدين بأنه الوارث الحقيقي للدولة الزنكية وأن من واجبه إعادة بناء الدولة وتوحيد الكلمة ومواصلة السياسة التي بدأها نور الدين محمود الزنكي، وقد استغرقت عملية التوحيد هذه فترة زمنية امتدت من سنة 570هـ/1174م إلى سنة 582هـ/1186م.
توحيد العالم الإسلامي وهزيمة الصليبيين
نجح صلاح الدين بضم كل من دمشق وحمص وحماة سنة 570هـ، ولكن الوحدة بين مصر والشام وبلاد الجزيرة لم تتم إلا بعد دخول كل من حلب وميافارقين والموصل تحت إمرة صلاح الدين، إذ بضم حلب سنة 578هـ كان كمال انضمام الشام إلى مصر، وبفتح ميافارقين وبعقد الصلح مع الموصليين انضمت منطقة الجزيرة وديار بكر للوحدة. وبذلك ثبت مركز صلاح الدين قائداً إسلامياً عاماً للقوى الإسلامية في كل من مصر والشام وبلاد الجزيرة وديار بكر ومناطق شهرزور وما وراء النهرين كافة، وأصبحت تلك المناطق جميعاً، بعد أن سادها الاستقرار بين مختلف عناصرها العربية والكردية والتركمانية مادة لجيوش صلاح الدين. وكان من نتائج تلك الوحدة والاستقرار أن هُزِم الصليبيون هزيمةً ساحقة في معركة حطين سنة 583هـ، تلاه استرداد طبرية وعكا وتبنين وصيدا وبيروت وعسقلان، ثم تحرير القدس في السنة نفسها.
الاتفاق مع ريتشارد قلب الأسد ووفاة صلاح الدين
صفاته النفسية والقيادية
توفي صلاح الدين بعد قضى سني حياته بصد هجمات الصليبيين المتكررة على منطقة الشام، وبرهن على مقدرة عسكرية فائقة وقسوة على النفس في الإخلاص، فقد صان شرفه وحافظ عليه أكثر من حفاظ الصليبيين على قانون الفروسية، وكان رجلاً مستقيماً يعرف بحسن نواياه، لم يستخدم المكر والخديعة مع أعدائه، بينما استغل أعداؤه تلك الصفات فيه، وكانت مشاركته الفعلية في الحروب إلى جانب قواته العسكرية من العوامل الرئيسة لانتصاراته، وقد برزت له هذه الميزة حتى في أشد الأيام الدامية، حيث كان يتنقل وسط ميدان المعركة يوقظ الهمم ويحيي في الجند الروح الإسلامية.
تركة صلاح الدين
مع وفاة صلاح الدين انقسمت السلطة الأيوبية بين عدة جهات كل منها تدعي المشروعية في الحكم وصدقية الولاية الأيوبية، وقد دار التنافس الكبير بين الملك العادل أحمد بن أيوب أخ صلاح الدين الذي ملك دمشق ومصر، وبين الملك الظاهر غازي ابن صلاح الدين وصاحب حلب، ودار بينهما صراع مرير تارة يهاجم الظاهر غازي دمشق، وأخرى يهاجم الملك العادل حلب، حتى استتب الأمر في النهاية للملك العادل الذي كان أكثر حنكة ودراية وخبرة من ابن أخيه، ومع وفاة الملك العادل سنة 615هـ، كان نجم الدولة الأيوبية قد بدأ بالأفول.
المراجع
1. صلاح الدين الأيوبي، نجدة خماش، الموسوعة العربية، المجلد الثاني عشر.
2. صلاح الدين الأيوبي، بسام العلي، دار النفائس.
3. تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام وإقليم الجزيرة، الدكتور محمد سهيل طقوش، دار النفائس.
4. مواقع إلكترونية.
اكتشف سورية