بعد أكثر من نصف قرن على رحيلها
04/أيلول/2008
حين نسمع أغاني ماري جبران يحملنا صوتها الشجي إلى أجواءٍ فيها من الصفاء والنقاء والمتعة، لأنها تمتلك صوتاً فريداً وجميلاً يتميز بامتدادات صوتية طويلة تجمع بين الحدة والطراوة والعذوبة.
وحين تشدو القصائد الطويلة والتي كان لإنشادها وغنائها طريقة محددة في الأداء آنذاك، تبرز هوية صوتها وتركيبته الجمالية أكثر لأن تلك القصائد تحتاج إلى قدراتٍ صوتية عالية في القرار والجواب وعند هذا الأسلوب من الغناء تعطي بعداً آخر للمفردة الشعرية بطبقات الصوت وزخرفته من الآهات والأنين.
وعلى الرغم من أن ماري جبران لم تُسجّل أغنياتها إلا في الخمسينيات من القرن الماضي، إلا أنها بدأت الغناء منذ صغرها في العشرينيات لكن الظرف المناسب لم يساعدها على الظهور، وربما يعود سبب ذلك لجمالها الذي كان نقمة عليها فحرمها من الظهور لتكون بين الكثيرات من الأصوات التي انتشرت حينذاك، فما إن تتبناها إحدى السيدات في ذلك العصر لتغني في صالونها أو الملهى الذي تشرف عليه حتى تشعر صاحبة الملهى بالغيرة الشديدة من جمالها وجمال صوتها فتحاول تغييبها عن الحضور إلى أن تصل بها إلى الطرد والتشهير بها أحياناً، وحتى من أقرب المقربين منها وهي خالتها ماري جبران الكبيرة والتي تعلمت منها الغناء عندما كانت العائلة في فلسطين، إلا أن الغيرة الشديدة لتلك السيدة جعلتها تغيّبها عن الوسط الغنائي.
إلا أن الإصدار السادس عشر ضمن سلسلة أعلام الموسيقى والغناء في سورية الصادر عن دار الأسد للثقافة والفنون أعاد الحياة مرة أخرى لأغنياتها وصوتها العذب الجميل، وليضع أمام الدارسين والمتتبعين تجارب الغناء والموسيقى في سورية.
كانت حياتها مليئة الترحال والتنقل من بلدٍ إلى آخر، وكان للمنافسات في عصرها دورٌ كبير في تغييب تجربتها الإبداعية بالرغم من أنها تمتلك صوتاً متميزاً وحضوراً لافتاً في الأداء لأصعب الأدوار والموشحات والقصائد، هي من أوائل المطربات السوريات ولدت في بيروت عام 1903، وانتقلت مع أسرتها إلى دمشق خلال الحرب العالمية الأولى، بدأت حياتها الفنية في التاسعة من عمرها ممثلة ومغنية في فلسطين والأردن مع خالتها ماري جبران الكبيرة، عادت إلى سورية سنة 1924 لتغني في ملاهي دمشق وحلب، وحملت اسم خالتها لتستفيد من شهرتها، سافرت إلى مصر وعملت في مسارحها وصالوناتها الغنائية وتعرفت هناك على كبار الملحنين، ثم عادت بعد سبع سنوات لتعمل مع الملحنين السوريين نجيب السراج، وزكي محمد، ورياض البندك، وآخرين. وغنت أجمل أعمالها «زنوبيا»، و«خمرة الربيع»، و«الشباب»، و«دمشق»، انتخبت نقيبة للموسيقيين السوريين سنة 1950، توفيت سنة 1956 بعد صراعٍ طويل مع مرض السرطان.
يتضمن الألبوم خمسة أغاني سُجّلت قبل وفاتها بسنتين، والأغاني هي «خليك يا بدري» كلمات فخر الدين الشريف وألحان راشد عزو، وأغنيتين «زنوبيا» و«أحلام الرمال» من شعر زهير ميرزا وألحان زكي محمد، وأغنية «يا زمان» لنجيب السراج من كلمات عزة الحصري وأغنية «ياليل» لرياض البندك.
ولا بدّ من أن نحتفي بما تقدمه لنا دار الأسد للثقافة والفنون من تجارب قديمة وأصيلة في الغناء والموسيقى العربية في عصر الأغنية المتسارعة والإيقاعات السريعة التي تبثها الفضائيات، والتي لا لون لها ولا طعم ولا تقترب من حضارتنا وتراثنا الغنائي الأصيل.
|