الرقة
تقع مدينة الرقة، وهي مركز محافظة الرقة السورية، على الضفة اليسرى لنهر الفرات قبيل التقائه نهر البليخ، ويعني اسمها الأرض الملساء التي يغمرها الماء ثم ينحسر عنها. تبعد عن مدينة حلب نحو 190 كم، وتنقسم إلى قسمين قسم قديم، وآخر حديث. ويعود إنشاء القسم القديم من المدينة إلى عام 1887م، إذ أن المدينة التاريخية هجرت بعد غزو المغول واجتياح تيمورلنك. وكانت بداية إعمارها من جديد في عهد الدولة العثمانية التي أنشأت فيها مخفراً للدرك ، وشكل هذا المخفر نواة للمدينة التي بدأت تتوسع وتنتشر حوله، وبدأ بعض البدو يستوطنون فيها تدريجياً، ثم بدأت المساكن تظهر داخل السور العباسي القديم، وكان بناؤها من المواد المتوفرة محلياً ومن الأحجار التي اقتلعت من السور القديم.
ويعود تاريخ الرقة إلى أزمنة موغلة في القدم، متزامنة مع نشأة المجتمعات البشرية التي عرفت عصور ازدهار في فجر الحضارة الإنسانية. إذ قامت في موقعها في عصر البرونز (3000-2000 ق.م) مملكة توتول القديمة (تل البيعة) وازدهرت ازدهاراً كبيراً إلى أن دمرها حمورابي عام 1750 ق.م.
وبعد مرور قرون عديدة، وفي العصر الهلنستي، نحو القرن الثالث قبل الميلاد تقريباً، قام سلوقوس الأول نيكاتور ببناء مدينة إلى جانب تل البيعة، وسميت المدينة نقفوريون (نيكيفوريوم) Niecphorion، وفي العهد الروماني أولاها الإمبراطور غالينوس عنايته وسميت كالينيكوس أي الرقة السمراء، وكان لها دور تجاري في فترات السلم بين الروم والفرس، أما في فترات الحروب فقد كانت قاعدة عسكرية بسبب موقعها المتميز، وقد سقطت المدينة عام 542م بيد كسرى أنوشروان ملك الفرس الذي عمد إلى توطين قبيلة مضر العربية فيها حتى عرفت منطقة الجزيرة برمتها بديار مضر وكانت الرقة (كالينيكوس) عاصمة لها.
فتح العرب المسلمون المدينة عام 18هـ/639م صلحاً، وحظيت باهتمام الخلفاء الأمويين، حيث كانت مركزاً لتموين الجيوش الأموية الذاهبة إلى العراق، واتخذ فيها الخليفة هشام بن عبد الملك قصرين لسكناه، وبنى جسراً على الفرات وحفر قناتين تجلبان الماء إلى الرقة، ونشأت بين القناتين ضاحية تحولت إلى مدينة صغيرة سميت واسط الرقة حيث أقام الخليفة سوقاً عرف بسوق هشام الكبير.
أما في العصر العباسي فقد ازداد اهتمام العباسيين بالمدينة نظراً لموقعها الهام على تخوم الدولة الشمالية، حيث كانت معرضة دائماً لخطر البيزنطيين، فأمر الخليفة المنصور عام 156هـ/772م ببناء مدينة جديدة على شاكلة بغداد شمال غربي الرقة دعاها الرافقة، وهي مدينة توأم للرقة، وكانت تقع على بعد 2 كم منها، وتم بناء المدينة الجديدة وفق مخطط مدينة بغداد ذات الأبواب الأربعة المؤدية نحو الحواضر والأقاليم، وتمت إحاطتها بسور يشبه سور بغداد، إلا أن ضرورات الموقع حالت دون بناء سور مزدوج من ناحية النهر، بل استعيض عن ذلك بأبراج ضخمة، أما بقية السور فقد كان على شكل نعل فرس، وله بابان، غربي زالت معالمه وشرقي ما زال باقياً وهو باب بغداد، ويبلغ ارتفاع فتحته خمسة أمتار تعلوه قنطرة ذات قوس منكسرة، كما بنى المنصور مسجداً جامعاً ما تزال آثاره باقية حتى اليوم. وقد تعرضت المدينة الرومانية القديمة للانحطاط التدريجي وأخذت الرافقة بالتوسع في عصر ازدهارها إلى أن احتوت المدينة القديمة وشمل الاسم المدينتين معاً.
شهدت الرقة عصرها الذهبي حين انتقل الخليفة هارون الرشيد للإقامة بها، حيث نافست بغداد بازدهارها الثقافي والاقتصادي، وقد بنى الرشيد لنفسه مقراً في المنطقة عرف باسم قصر السلام، وأنشأ ميادين للسباق وحدائق غناء على ضفتي الفرات، إضافة إلى ميناء للسفن النهرية. وبنى أيضاً قصر هرقلة والقصر الأبيض فعرفت الرقة آنذاك بالرقة البيضاء، وتوسع عمرانها وازدهرت تجارتها، وشقت قناة للماء كانت تروي الأراضي الواقعة في شمالي الرقة، وكانت تسمى في عهد الرشيد نهر الذهب ويطلق عليها السكان اليوم تسمية الحفر، وكانت تمر على بعد 700 متر من السور، وتستمد ماءها من ضفاف الفرات عند الفيضان.
وفي عهد المعتصم شيد القصر B كما يدل على ذلك كتابة منقوشة على أحد جنباته، ومع بناء مدينة سامراء 221هـ/831م انتهت فترة ازدهار الرقة الأولى، إلا أنها عادت للازدهار بعد ثلاثة قرون في ظل حكم الزنكيين والأيوبيين، واستمرت فترة الازدهار الثانية مئة سنة. وبعد تفتت الخلافة العباسية وحكم الأسر ضعف شأن الرقة، وأضرت الحروب الصليبية والاجتياحات المغولية المتكررة بتجارتها إلى أن قام تيمورلنك بغزو المنطقة عام 773هـ/1371م وكان ذلك ضربة قاصمة للمدينة، التي هرب أهلها أمام الجحافل المغولية التي دمرتها عن بكرة أبيها ولم تقم لها قائمة بعد ذلك، إلا بعد 500 سنة في العهد العثماني. وهي الآن مركز لمحافظة الرقة التي كان اسمها محافظة الرشيد حتى العام 1962م.