غاليري اكتشف سورية

ريتشارد الثالث شرير غريب عن مملكة الأفكار

في عرض البسام مسارب فانتازيا أكثر تشويقاً وبهجة

ما فعله المخرج الكويتي سليمان البسّام في عرضه «ريتشارد الثالث»، لم يكن طليعياً إلى ذلك الحد، ففي سبعينات القرن الفائت أقدم لافونتان على إخراج «ترويض الشرسة» لشكسبير على نحوٍ فانتازي غريب، مستفيداً من توريط الممثل بالسادية، مضيفاً الأكروبات وألعاب القتال الفردي إلى شكل العرض المسرحي الجديد: الكاراتيه والجودو ممزوجاً بالسيرك والبهلنة العنيفة، وذلك على أي حال لا يقلل من شأن التجربة التي خاضها البسام مع النص الشكسبيري، ولا سيما أنه يقدم لنا «ريتشارد الثالث» بعيداً عن الصيغ المتفاصحة للمسرح التي قدمتها الترجمة، ذلك إذا استثنينا جهد جبرا إبراهيم جبرا: روعة ما نقله إلى العربية في كتابه «المآسي الكبرى» لشكسبير.‏

العرض الذي نهل من معين اللهجات الكويتية والعراقية يراكب على نحوٍ تعريبي مصاقبات تاريخية وسياسية عدة، هذه المصاقبات التي تولف بين أكثر من حقبة ربما سترّدنا إلى أخلاقيات نهاية العصور الوسطى، تحديداً إلى العصر الذي اكتملت فيه الصيغ الإقطاعية الحاكمة في أوروبا، فاستطاع أمراؤها وملوكها عبر فترة زمنية طويلة أن يصلوا إلى أحكام قيمة كوّنتها الدسائس والمؤامرات الدائمة الهادئة، وذلك بدوره سيفرض بعد ذلك شعوراً صارماً لدى الرعية بطاعة الأوامر والامتثال للخدمة العمياء للسيد المجاب، بحكم حاجة هذه الرعية إلى السائس الملك المصون المهاب من أعوانه وحاشيته الفاسدة، تلك الفترة من حياة أوروبا المتأهبة للنهضة بعد ذلك ستكون في عرض البسّام وبتلميحات وصلت حد التصريح لمقاربة أنظمة عربية بعينها، أروقة بلاطات يتنازعها السماسرة وذوي القربى من ملكٍ يشرف على نهاياته المتعددة، ربما لو قيست هذه الفترة بزمن أوروبا الوسيط الآفل، لكنا تقريباً قبل خمسمائة سنة من سقوط الباستيل.‏

إن حياة القصور التي يسرد لها شكسبير ليست بعيدة عن إقطاعيات نفطية عربية أراد لها المخرج أن تكون بيئة بديلة لا نريد هنا تفنيد أو معالقة ترميزاتها. أما المصاقبة الأكثر وضوحاً فستبدو في الرؤية المستعرِبة، وتقديمها على هيئة مملكة متنازع عليها بين أخوة الملك، ونسائه، وجاههم وتنعمهم بكثرة الوصيفات والجواري، باستثناء قد يبدو غرائبياً إلى حد المغالاة بتحوير الجملة في النص الشكسبيري: عواطفه، وتصاويره الشعرية الرائعة لوصف واقع قريب زمنياً إلى حد المطابقة القسرية، فقط لإنجاز المقارنة.‏

من حيث الفصول الخمسة للمسرحية لم يتغير النص كثيراً إلا بلهجاته الجديدة التي استطاع من خلالها الممثل السوري فايز قزق أن يجسد المثال الشكسبيري الأقل اكتمالاً وتعاطفاً، فريتشارد الثالث لم يكن النموذج الأفضل عن الشرير، الذي نضج أكثر في نصوص أخرى للشاعر الإنكليزي، كما في «ماكبث» و«ياغو»، ربما بسبب سطوة كتاب «تاريخ إيرلندا» لوليم ستيوارت الذي قرأه شكسبير باكراً، فكان لابد من كتابة نماذج أكثر درامية للشرير العاشق، الذي ينصبُ شراكه وأحابيله منتهزاً حضوره الخطابي ذا النبرة العالية وسطوته على الشخصيات الأقل ذكاءً، التي تبدو ساذجة ومكتوبة لإتمام نجاح دوره البطولي في المغالاة والغطرسة.‏

يمكننا بعودة إلى أجواء الحفلة التنكرية للبسّام أن نرى الشخصيات الأصلية ضمن بيئة أكثر كثافة ودلالة، فصورة الملك العربي فيصل العميري بعقاله وعباءته المنفوخة لم تعد صورة إدوارد الرابع أمير ويلز، بل هي صورة انتخابية لمفردات النص الجديد، كما أن البزة الرسمية لدوق غلوستر فايز قزق تتمة للزيّ الشعبي الخليجي، الذي جعل من أمير إنكليزي يعربياً بمنطق شخصية قديمة مسرفة في هدرها وقوة حضورها.‏

الآن ما الذي يجري في هذه المأساة العربية؟ أو ما القانون الذي تحكم به هذه الطغمة الحاكمة؟ إذا كانت الدسيسة والإشاعة أبرز ملامح هذه الطبقة، أضف ذلك إلى التصفية الجسدية لولاة العهد المرتقبين، إما عبر اتهامهم بالخيانة العظمى أو التخلف العقلي، فالجنون والإقصاء والتخوين هي الثيمة الرئيسة التي يتردد أصداء استغاثاتها بين السلاملك الملكي وبين مجموع «حرملكات» الملك وحاشيته.‏

على ما يبدو لا يراهن المخرج كثيراً على القتل الشكسبيري للتخلص من حشود الشخصيات المتعاقبة على الخشبة، لكنه بالمقابل يستخدمه لتوضيح آليات التفكير عند هذه الشخصيات، مع الحفاظ على البنية الأصلية للصراعات المتواشجة، معولاً على التغيير الجذري للأزياء واللهجات، التي ُتوصّف قُدماً لنظرية المؤامرة المستمرة!‏

ابتداءً من قتل «كلرنس ـ جاسم النبهان» وانتهاءً بقتل «هيستنكز ـ مناضل داوود» وابني الملكة «إليزابيت ـ كارول عبود»، مروراً بالتشفي المرير للملكة المخلوعة «مارغريت ـ أمل عمران» التي تسدي بنصائحها باستنزال اللعنات قائلةً لإليزابيت «اسهري الليل وصومي النهار وقارني بين الفرح الذي مات والتعاسة التي ما زالت تعيش».‏

إذن لم تعد الحكاية قصة خلاف بين يورك ولانغستر، بل إذكاء للكراهية الخلاقة التي ابتدعها ريتشارد المريض بعرشه وأوهامه، وفق قياسات مستمرة لإقطاعيات ملكية متخلفة، ما زالت تحتفل بالعصبية وتحافظ على النهج الدموي لحماية عروش الملك وقداسته الأرضية.‏

يركز المخرج سليمان البسام في إعداده الجديد على مسارب أخرى لفانتازيا أكثر تشويقاً وبهجة، من خلال المونولوج الأمريكي لرجل يرتدي بزة المارينز، ويقوم بخطابات عسكرية لبث التعاطف بين نفوس المحاربين، حيث يعوض البسّام على التحالفات الراسخة بين الملكية الإقطاعية النفطية وبين الغرب الأمريكي بأداء مسخي استجدائي للممثل نايجل باريت، فتتضح أصوات الحشود الحربية التي تحمي الحكم العربي الأوليغاركي بغطاء من حاملات الطائرات وحقائب الدبلوماسية.‏

على مستوى آخر شكلت الموسيقا الحية لآلات تراثية كويتية مناخاً جديداً لعبت فيه أصوات الطارة والجرة والعود والدفوف تقطيعاً صوتياً متناوباً وفق التوترات التي تمليها الشخصيات المتناحرة، وحيث شكلت عروض الشرائح مستوىً آخر من المشاهدة كميول بصرية لدى المخرج بتقديم اتجاه أكثر معاصرة في فنون العرض المسرحي، وذلك ما يطلق عليه اليوم عالمياً «فن الخشبة»، حيث تتمازج الصورة مع الميزانسين لإنتاج أضخم وأكثر دهشة، ربما كان ذلك عائداً إلى رغبة المخرج في تخليص النص من المنولوجات الطويلة، وفي دمج الفضاءات المبتكرة للزيّ العربي الذي صممه عبد الله العوضي مع الموسيقا الارتجالية ذات الصبغة البحرية لصيادي الخليج العربي، في حين ترافق خطبة الرجل الأمريكي مشاهد من استعراضات ومارشات عسكرية سينمائية لجيش النازية القديمة. ‏

هكذا أراد مخرج «ريتشارد الثالث» أن يقدم لخشبة مليئة بالحشود، بينما يحاكي دوق كلوستر أشباح ضحاياه قائلاً «إان لضميري ألف لسان، وكل لسان يروي قصة تنطق بأنني شرير».‏

إن هذا الشرير اللاتعاطفي سيظل مخيباً للآمال، لكنه في مأساته العربية الحديثة سيكون ضرباً للاستحالة والتخييل العقيم لاستخدامه كأداة فضح تعيد توزيع الأدوار في كل لحظة، وحيث يبقى الحصان الذي يساوي المملكة في نظره، ليس إلا من قبيل سباق سنوي لإحياء المآثر العربية القديمة، وكمصاقبة أكثر دهشة عندما يتحول هذا الحصان إلى آلة تعذيب من العصور الوسطى، محض حصان بدواليب بلاستيكية متحركة.



تشرين


مواضيع ذات صلة
- العرض المسرحي الكويتي ريتشارد الثالث في دار الأسد
- ريتشارد الثالث في دار الأسد للفنون
عرض عربي بامتياز عالمي بامتياز

ضيف اكتشف سورية
ضيف اكتشف سورية
دمشق القديمة
غاليري اكتشف سورية
غاليري اكتشف سورية
 



هذا الموقع برعاية
MTN Syria

بعض الحقوق محفوظة © اكتشف سورية 2008
Google وGoogle Maps وشعار Google هي علامات مسجلة لشركةGoogle
info@discover-syria.com

إعداد وتنفيذ الأوس للنشر
الأوس للنشر