الفنان رضا حسحس الاختزال وواقعيّة التجريد

تنقية واعية ومدروسة للبنية البصريّة الواقعيّة

11/نيسان/2008


مثل طائر السنونو، يجول الفنان التشكيلي السوري رضا حسحس ويصول بين أركان المعمورة، ثم يؤوب إلى عشه الواقع في حضن قاسيون، في منطقة المهاجرين، ليغسل الروح ويجددها تهيئة لرحلة جديدة، ومغامرة جديدة ثم عودة جديدة، يحمل فيها مذكراته وانطباعاته المكتوبة بالخطوط والألوان التي يقدمها للمتلقي، من خلال صالة أتاسي للفنون التشكيلية في دمشق.

آخر ذلك كان بين السابع والعشرين من آذار والسابع عشر من نيسان 2008، حيث عرض اثنتي عشرة لوحة متعددة الحجوم، منفذة بألوان الزيت والإكليرليك، اقتصرت على موضوع واحد هو «المنظر الطبيعي الخلوي» المنفذ بنوع من الواقعيّة التجريدية -إن صح التعبير-، وهي المرحلة الأخيرة التي انتهت إليها تجربته الفنية الطويلة الغنية بإنجازاتها وانعطافاتها والنتائج التي توصلت إليها، فهذا الفنان المولود في مدينة حمص عام 1939 المتخرج في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق عام 1966، يعكف منذ مطالع ستينات القرن الماضي، على اجتراح فعل الإبداع الفني التشكيلي وتقديمه للناس عبر المعارض الجماعيّة والثنائية والفرديّة التي وصلت بمعرضه الأخير إلى الرقم 12.

وبعد تخرجه من كلية الفنون بدمشق، أُوفد ببعثة دراسية لصالح وزارة الشؤون الاجتماعيّة والعمل، إلى مدرسة الفنون الزخرفية في «أوسون» في فرنسا، حيث عمق معارفه في مجال فن السجاد الجداري، وعام 1972 سافر إلى بلغاريا للتدرب على شؤون تصميم السجاد، وبين عام 1979 و1980 قام بدراسة موسّعة للرسوم التوضيحيّة في المدرسة العليا للرسوم الزخرفيّة بباريس، قام بتدريس مادة الرسم في كلية الفنون الجميلة وهندسة العمارة بدمشق بين عام 1975 و1987، كما قام بتدريس مادة «الفن القديم» في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق بين عام 1979 و1983، وبين عام 1983 و1985 درّس في جامعة ولاية كنساس في الولايات المتحدة الأمريكية.

أقام أول معارضه الفرديّة في المركز الثقافي العربي بدمشق عام 1968 وحمل عنوان «رسوم من الفرات» وأعقبه بمعرض «رسوم وثائقية لقرية سوريّة» في الصالة ذاتها عام 1976 وقدّم له بالقول «إن الفن لا يستطيع أن ينمو في الفراغ غير الواقعي، والواقعُ بدوره لا يحتضن شيئاً اسمه "الجمال المحض" أو "التشكيل من أجل التشكيل". إن الفن المثالي المضلل بمفاهيم النخبة، والخالد، والانتقائي والانتهازي كان يسقط كلما واجهه من يُعبّر عن واقع ووعي ممن هم أصحاب المصلحة الحقيقية في تغيير بنى التاريخ وعلاقاته الإنسانيّة نحو الأمثل». والقرية السوريّة التي نفذ فيها رسوم معرضه هذا، كانت «صدد» التي تبعد حوالي خمسة وستين كيلو متراً عن مدينة حمص، وفيها ربط بين بيوت القرية الطينية ووجوه أبنائها المتغضنة، في محاولة منه لعكس الظروف الحياتيّة القاسية التي يعيشها إنسانها المتعب المسكون بالقهر الصامت، والمشلوح بعيداً، بين ذكريات الاستلاب والقهر والتطلع إلى حياة أفضل.

ألح الفنان رضا حسحس في أعمال هذا المعرض، على نوع من الواقعيّة الدقيقة وصلت حد الفوتوغرافية نفذها بقلم الرصاص، إضافة إلى بضعة تجارب بالألوان المائية، جاءت بالصيغة ذاتها الواقعية الغارقة في شفافية ضبابية مدهشة، وشكّلت مفصلاً هاماً، في تجربته الفنية التي بدأها بأسلوب غنائي شاعري بسيط، كان حينها متمكناً من أدوات تعبيره (الخط واللون والتكوين)، ثم انتقل إلى مرحلة اتجه فيها نحو الشكل المجرد الذي عمل عليه مجموعة كبيرة من المصورين السوريين أثناء قدوم الفنان الإيطالي (لارجينا) للتدريس في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق أواخر ستينات القرن الماضي وبعده، فكان لوجود هذا الفنان فعل الساحر على إنتاج أساتذتها وطلبتها في آن معاً، إذ غادروا (بسرعة لافتة) الأساليب والصياغات التي كانوا يشتغلون عليها إلى الأسلوب التجريدي الجديد الوافد مع هذا الفنان، دون فهم أو قناعة أو وعي عميق له ولأبعاده، بدليل تخليهم عنه بسرعة قياسية، باستثناء الذين وجدوا فيه مهرباً ممتازاً، يسترون فيه إمكانياتهم الفنيّة المتواضعة.

بعد غياب عن الوطن دام عدة سنوات، عاد الفنان رضا حسحس ليقيم معرضه الفردي الرابع في صالة أورنينا بدمشق بين الرابع والرابع والعشرين من كانون الأول عام 1986، وفيه قدم خمسين لوحة حمل بعضها معه من الولايات المتحدة الأمريكية، ونفذ بعضها الآخر بالألوان المائية لمناظر من بلدة كسب، والبعض الثالث نفذه بألوان الشمع الحواري وكرسه لموضوع دمشق القديمة.

حملت أعمال هذا المعرض شيئاً من ملامح تجربته الغنائية الشاعريّة البسيطة الجميلة، وشيئاً من تجربته في التجريد والاختزال، وشيئاً من تجربته مع الواقعية المتطرفة، بمعنى أنه كثف فيها خبراته المتراكمة القادمة من عدة انعطافات التي تأرجحت بين التجريد المطلق والواقعيّة الحرفيّة، وبين هذين القطبين.

تلونت وتعددت مسارات تجربته، لكنه كان دائم الارتداد والعودة إلى الواقع، بهذا الشكل أو ذاك، حاضناً كل المراحل في مرحلة، إنما بعد أن يقوم بعملية غربلة واختزال، يبعد منها غير النافع والمشوش، ويضبط المندفع والمتطرف، وصولاً إلى غلال بصريّة جميلة ومدهشة، تنهض من الواقع وبين أحضانه: وهو الواقع الذي يشعل فيه دفء أحاسيسه المتقدة بالشاعرية الخالية من التفاصيل واللغو والثرثرة الشكليّة، معتمداً على المساحة الواسعة المشغولة بأصابع تحترق وجداً بما ترسم وتلون، وترشَح بخبرة متراكمة، باتت تشكل إحدى أبرز علامات فنه الذي حافظ على خط متصاعد من التطور والنضج والتبلور، لناحية الموضوع، أو طريقة التعبير عن هذا الموضوع.

في معرضه الأحدث، وعبر لوحاته الاثنتي عشرة المكرسة لموضوعه الأثير «المنظر الطبيعي الخلوي» المأخوذ من عدة دول من بينها سورية، ورومانيا، وتركيا، وإيران، وألمانيا، كرس الفنان حسحس خطه الفني القديم الجديد وخبراته التقانية الجامعة ببراعة بين قيم اللون والخط (الرسم) وانحيازه المفعم بالحب، لتجليات الطبيعة الخلوية المتناولة برؤية بانورامية رحبة، تُشكّل السماء المطرزة بأطياف التلال والوهاد والغيوم، القسمَ الأكبر من مساحتها، فلا تتعدى مساحة الأرض ثلثها في أحسن الأحوال، ما يمنح المنظر لديه رحابة منعشة، مريحة جميلة، لا تجذب إليها بصر المتلقي فقط وإنما بصيرته أيضاً، ذلك لأن الفنان رضا حسحس المستند إلى خبرة تشكيليّة تقانية توليفية واسعة، وثقافة بصريّة وفكريّة عميقة، يُماهي ببراعة وتفوق ومقدرة بين عقلانية الخبرة والمران والاطلاع المتواصل على كل جديد، وبين طلاوة وطراوة وحساسية التلقائيّة اللازمة الضروريّة للفن، فلا يضحّي بمرتكزات الوعي المخبري الحِرفي الضروري اللازم لاستقامة اللغة التعبيريّة، ولا بالعفويّة التي بغيرها يتحول الفن إلى لغة عقليّة رياضيّة خالية من الروح، مفتقرة إلى الإحساس، خاوية من الجمال، بائسة الدلالة والتأثير.

لقد خبر الفنان حسحس، القدرات المتفوقة للواقعيّة التي لا ضفاف أو شواطئ لها، وخبر قدرات التجريد والاختزال المدروس الذي لا يحوّل مفردات الواقع إلى ركام شكلي بارد وغامض وعبثي، بل يُعيد به ومن خلاله بناء هذه المفردات وتشكيلها، دون الإخلال بهيكليتها العامة، أو إلغاء دلالتها، أو تشويه ما ترمز إليه، بل يكثفها إلى حد لا تفقد فيه ماهيتها، أو رمزها، أو دلالتها الواقعيّة، أو قدرتها على إحالة المتلقي إلى ما تمثله، بل على العكس يكشح عن بنيتها اللغوَ غير اللازم، والثرثرة العناصرية المعيقة، والحشو التسجيلي المباشر والضعيف، وصولاً إلى حالة للشكل صافية ونقيّة وبسيطة لكنها قادرة على أخذ بصر المتلقي وبصيرته إلى جوهرها ودلالتها العميقة الصافية والصحيحة، بمعنى آخر يقوم الفنان رضا حسحس بعملية تنقية واعية ومدروسة للبنية البصريّة الواقعيّة لمفردات لوحته وعناصرها وأشكالها، ثم ينضدها إلى جانب بعضها البعض بالشكل والدرجة والإيقاع المناسب، تحت سماء واسعة، يفصلهما عن بعضهما البعض بأطياف تلال ووهاد شفيفة تتماهى بالغيوم تؤدي دوراً مزدوجاً تشكيلاً وتعبيراً، فهي تبرز السماء وتؤكد شفافيتها من جهة، وتبرز رسوخ الجزء المتناول من الأرض وقوته وحضوره وهو مؤلف من تلال بسيطة الارتفاع، وسهول وحقول مشغولة بعناية وتنظيم وتباين لوني، يدل على تنوع النباتات المزروعة فيها.

وعبر هذا الإيقاع السمفوني المدروس والمنسجم، للمساحات المُشكّلة للأرض والسماء وما بينهما، يتعانق عقل الفنان وعاطفته، وخبراته المتراكمة وشاعريّته العالية تجاه موضوع الطبيعة، أو بتعبير أكثر دقة المنظر الطبيعي الخلوي الواسع الذي يتقن جيداً رصده وانتخابه، ثم نقله إلى لوحته، بعد أن يمرره على مختبر أحاسيسه المرهفة، لينقيه من الشوائب والزوائد والمشوشات، ويسكبه، فوق بياض اللوحة قصيدة رومانسيّة تمجد الحياة عبر جماليات الطبيعة التي لا تذبل ولا تشيخ، قصيدةً كتبها الفنان رضا حسحس بالخطوط والألوان، إنما بعد مرحلة من الرصد والتأمل ثم الاختيار والدخول على المشهد في المكان المناسب، ومن الزاوية الصحيحة، وبالقطع المدهش، والاختيار المدروس لمكونات هذا المشهد التي على قلتها وبساطتها كافية لفتح فضاءٍ رحبٍ مفعمٍ بالجمال، أمام روح الإنسان وأحاسيسه المحاصرة بألف شكل وشكل من الاستلاب والحصار، ذلك لأنها مكتوبة من قبل موهبة حقيقية امتلكت باقتدار وسيلة التعبير الصحيحة والسليمة والخبيرة.




الثورة
الملحق الثقافي


مواضيع ذات صلة
- معرض منظر طبيعي لرضا حسحس في صالة أتاسي
مزيج بين الطبيعة المجردة والتجريد المطلق


تعليقات القراء

المشاركة في التعليقات:

*اسمك:
الدولة:
بريدك الإلكتروني:
*تعليقك:

الحقول المشار إليها بـ (*) ضرورية

ضيف اكتشف سورية
أنطون مقدسي
أنطون مقدسي
حصاد عام 2008
حصاد عام 2008
دمشق القديمة
غاليري اكتشف سورية
غاليري اكتشف سورية
 

 


هذا الموقع برعاية
MTN Syria

بعض الحقوق محفوظة © اكتشف سورية 2008
Google وGoogle Maps وشعار Google هي علامات مسجلة لشركةGoogle
info@discover-syria.com

إعداد وتنفيذ الأوس للنشر
الأوس للنشر