سورية في العصور الكلاسيكية
تعد العصور الكلاسيكية «السلوقية والرومانية والبيزنطية» من أهم المراحل التي مر بها تاريخ سورية في الأزمنة القديمة، إذ استمرت قرابة عشرة قرون كانت فيها سورية مركز الإمبراطورية السلوقية التي امتدت من البحر المتوسط غرباً حتى حدود الهند شرقاً، والتي عرف حكامها باسم «ملوك سورية» وحروبها باسم «الحروب السورية». كما أنها صارت بعد ذلك أهم ولايات الإمبراطورية الرومانية في الشرق، وبقيت مئات السنين حصنها الحصين في صراعها مع الممالك الفارسية المتعاقبة التي كانت تسعى لبسط سيطرتها عليها، كما أنها شكلت درة ممتلكات إمبراطورية الروم البيزنطية حتى الفتح العربي الإسلامي.
وتميزت هذه العصور بأحداث جسام وإنجازات حضارية رائعة في شتى المجالات، الاقتصادية والفكرية الفنية والدينية، فقد كانت سورية من أغنى بلدان حوض البحر المتوسط وأكثرها تطوراً وازدهاراً، كما تبوأت قطب الرحى في التجارة الإقليمية والدولية آنذاك، وانتشر أبناؤها في شتى أرجاء المعمورة، فكانوا رسل حضارة وبناء تركوا آثارهم في كل مكان حلّوا فيه، وكانت أرضها مهد الديانة المسيحية ومنها انتشرت إلى سائر بلدان العالم القديم حاملة رسالة المحبة والخير والسلام.
لقد كانت سورية موطناً ومنطلقاً لحضارة عريقة وموئلاً لحضارات مختلفة، إذ التقى على ثراها الشرق والغرب فتفاعلا وتبادلا الأفكار والخبرات والثقافات، فكانت الحضارة الهيلنستية التي جسدت تلاقي حضارة الشرق العريقة مع الحضارة الإغريقية الوافدة، فهذا الشاعر ملياغر Meleager من أبناء غدرا/أم قيس في الأردن (من مدن الديكابوليس) يمجد الأخوة الإنسانية التي تحققت على أرض سورية بقوله: «لا تظنوني غريباً، فكلنا من وطن واحد هو العالم».
في تلك العصور برز اسم سورية Syria بشكله الحالي وترسخ استعماله للدلالة بصورة أساسية على المناطق الممتدة من جبال طوروس أساسية على المناطق الممتدة من جبال طوروس في الشمال حتى حدود مصر في الجنوب، ومن الفرات وبادية الشام شرقاً حتى البحر المتوسط غرباً، وكان قد ظهر أول مرة في القرن الخامس قبل الميلاد لدى المؤرخ هيرودوت، ولكن لم يبدأ استعماله على نطاق واسع إلا منذ مجيء الاسكندر الكبير المقدوني. أما قبل ذلك فكانت سورية الولاية الخامسة في الإمبراطورية الفارسية الأخمينية، وعرفت باسم سترابية «عبر النهر» Abar Nahara، التي كانت تضم حسب هيرودوت (التاريخ: الكتاب 3 الفقرة 91) «كل فينيقية وسورية الفلسطينية وجزيرة قبرص» وتدفع جزية سنوية مقدارها 350 تالنته (وهي وحدة حسابية نقدية تبلغ نحو 26كغ من الفضة)، إضافة إلى تقديم السفن اللازمة للأسطول الفارسي. وهنا تجدر الإشارة إلى عمق الصلات التي كانت قائمة بين سورية والعالم الهيليني والتي انعكست في عدد من الأساطير الإغريقية التي جاء أبطالها من الساحل السوري، مثل قدموس مؤسس مدينة طيبة، إحدى أشهر المدن اليونانية القديمة، والأميرة أوروبا Europa التي اختطفها كبير آلهة الإغريق زيوس من شواطئ صور، وأنجب منها مينوس ملك كريت، وهي التي أعطت القارة الأوروبية اسمها. وغني عن القول أن الإغريق يدينون بكتابتهم، ومن ثم بقسط كبير من نهضتهم العلمية والثقافية إلى الأبجدية الفينيقية الكنعانية، التي نشأت على أرض سورية، التي كان لها كذلك دور أساسي في نقل كثير من منجزات الحضارتين المصرية والبابلية إلى الإغريق.
وبالمقابل فقد بدأت تظهر، منذ القرن الخامس قبل الميلاد، بعض المؤثرات الإغريقية على الصعيدين الاقتصادي والفني، وخاصة في مدن الساحل السوري، حيث أقيمت بعض المراكز التجارية وانتشرت الصناعات الفخارية الإغريقية، كما عمّ تداول الدراخما (الدرهم) الأثينية التي صارت وحدة العامل النقدية الدولية في ذلك العصر.
العصر الهيلنستي السلوقي
ولكن ظهور الإسكندر المقدوني وانتصاراته المذهلة على أعظم إمبراطوريات الشرق القديم، وما تلا ذلك من تطورات وتغييرات جذرية طالت شتى المجالات، شكل نهاية عصر وبداية عصر جديد في تاريخ سورية والشرق القديم، إذ كانت معركة إسوس Issos التي جرت عام 333ق.م في أقصى الشمال الغربي من سورية، من أهم المعارك الفاصلة في التاريخ القديم فقد شكلت بداية النهاية للإمبراطورية الأخمينية التي حكمت المنطقة ما يزيد على قرنين من الزمن، كما أنها فتحت أبواب سورية ومصر على مصراعيها أمام الاسكندر، الذي أسس تخليداً لانتصاره الكبير في ذلك الموقع مدينة سماها باسمه، ولا يزال اسمها حياً حتى اليوم في تسمية خليج الاسكندرونة. لم يلاحق الاسكندر فلول الجيش الفارسي المنهزم، وإنما سعى إلى تثبيت سلطانه على سورية والاستحواذ على أساطيلها البحرية، ليؤمن مؤخرة جيشه واتصالاته ببلاد الإغريق، فأرسل قائده بارمنيون Parmenion على رأس قوة من الفرسان لاحتلال دمشق، مقر القيادة الفارسية، حيث أودع الملك دارا الثالث خزينته الحربية وحريمه، فاستولى عليها. أما هو فسلك الطريق الساحلي فجاءته وفود من عمريت وأرواد وجبيل وصيدا تعلن استسلامها، ولكن مدينة صور أبت الخضوع إلا بعد أن أحكم الحصار عليها براً وبحراً وردم البحر الفاصل بين جزيرة صور والبر المقابل لها، وكان انتقامه في غاية القسوة، إذ أعدم عشرة آلاف من أبنائها وباع نحو ثلاثين ألفاً في أسواق النخاسة. ثم تابع زحفه جنوباً فتصدت له مدينة غزة الباسلة شهرين كاملين قبل أن يستطيع دخولها والاستيلاء على مخازنها التجارية الضخمة المليئة بالبخور والتوابل والبضائع النفيسة. وهكذا صار الطريق أمامه مفتوحاً إلى مصر، التي استولى عليها بلا مقاومة تذكر. وبعد أن نظم أمورها ووضع حجر الأساس لمدينة الاسكندرية، انطلق في ربيع عام 331قق.م عائداً إلى سورية فعين عليها أحد قواده المدعو لاوميدون Laomedon وأكمل استعداداته قبل أن يعبر الفرات إلى بلاد الرافدين، حيث جرت قرب أربيل معركة جاوجميلا Gaugamela التي قررت مصير الإمبراطورية الفارسية بصورة نهائية، وتساقطت عواصمها الواحدة تلو الأخرى، وتابع الاسكندر حملته الشهيرة إلى الشرق حتى وصل إلى الهند، ثم قفل راجعاً إلى بابل حيث وافته المنية عام 323ق.م عن عمر يناهز الثالثة والثلاثين عاماً.
تمزقت إمبراطورية الاسكندر بعد موت مؤسسها، وبدأ كبار قادته صراعاً على السلطة دام عدة عقود، وجرت كثير من المعارك والحروب الدامية على أرض سورية التي كانت محط أطماعهم جميعاً، فعلى أثر مؤتمر بابل نشب أول صدام بين القائد العام برديكاس Perdiccas وبطلميوس والي مصر، انتهى باغتيال برديكاس في جنوبي سورية وعقد مؤتمر تريباراديسوس Triparadeisos (في شمالي البقاع) الذي اقتسم فيه كبار القادة أقاليم الإمبراطورية من جديد، فكانت سورية من نصيب لاوميدون. ولكن بطلميوس سرعان ما بادر إلى طرده واحتل جنوبي سورية، أما شماليها فوقع تحت سيطرة القائد أنتيغونوس مونوفتالموس (الأعور) Antigonos Monophtallmos. وهكذا صارت سورية مثار نزاع بين هذين القائدين، وجرت معركة غزة عام 312ق.م، التي انتهت بانتصار بطلميوس وحليفه سلوقس، الذي تمكن على أثرها من العودة إلى عاصمته بابل. ولكن انتيغونوس عاد وهاجم الحاميات البطلمية في جنوبي سورية وطردها، غير أن محاولته الاستيلاء على البتراء، عاصمة الأنباط باءت بالفشل. وبعد أن استتبت له الأمور في سورية، بدأ العمل على جعلها مركز ملكه فأسس مدينة أنتيغونية (قرب موقع انطاكية لاحقاً) لتكون عاصمة له. وأخيراً جاءت معركة ابسوس Ipsos عام 301ق.م لتحسم الصراع حول إمبراطورية الاسكندر، فسقط انتيغونوس صريعاً وخرج سلوقس منتصراً ليفوز بممتلكاته وعلى رأسها سورية. وكان بطلميوس قد استغل ظروف المعركة واحتل جنوبي سورية ومدنها الساحلية وصولاً على نهر الكبير الجنوبي، وبذلك صارت سورية مقسمة إلى جنوب خاضع للبطالمة، عرف باسم «سورية المجوفة» Koile Syria، وشمال خاضع للسلوقيين سمي «سلوقيس» seleukis. ولكن سلوقس لم يعترف بهذا الواقع، وظل هو وخلفاؤه يطالبون بسورية بأكملها وهكذا نشأت «المشكلة السورية»، التي كانت سبباً للنزاع وقيام سبعة حروب بين السلوقيين والبطالمة امتدت أكثر من مئة عام وعرفت بـ «الحروب السورية». وهكذا صارت سورية جزءاً من مملكة سلوقس، الذي اختارها لتكون قاعدة حكمه ومركز إمبراطوريته التي امتدت من البحر المتوسط حتى حدود الهند وكانت بذلك أعظم الممالك الهلنستية قاطبة.
عانت سورية من الحروب السلوقية البطلمية التي اندلعت أولاها بعد موت سلوقس، وتجددت في عهد خلفائه، ولكن أعظمها جرى في عهد أنطيوخوس الثالث (223-187ق.م) وهي الحرب السورية الرابعة، إذ التقى الجيشان في معركة رفح عام 217ق.م التي خسرها انطيوخوس، غير أنه عاد وانتصر في الحرب الخامسة عام 200ق.م في معركة بانيون Panion الحاسمة (عند منابع الأردن)، واستولى على جوف سورية وجنوبيها حتى حدود مصر، وهكذا خضعت سورية بأكملها للإمبراطورية السلوقية التي بلغت ذروة قوتها واتساعها. ولكن انطيوخوس دخل في صراع خاسر مع الرومان، فهزم في معركة ماغنيزيه عام 190ق.م التي جردته من ممتلكاته في آسيا الصغرى وبحر إيجه وفرضت عليه دفع غرامة حربية باهظة للرومان. وكان ذلك نهاية عصر القوة السلوقية. وعندما حاول ابنه انطيوخوس الرابع (175-164ق.م) النهوض بمملكته ومد نفوذه على مصر، وأحرز نصراً كبيراً على البطالمة، تدخل الرومان وأجبروه على فك الحصار عن مدينة الاسكندرية والانسحاب إلى سورية. وازداد تدخل الرومان في شؤون المملكة بعد موته، مما أدى إلى قيام أحد المواطنين من مدينة اللاذقية باغتيال المندوب الروماني الذي جاء للتخلص من الفيلة الحربية السلوقية بموجب معاهدة أفاميا، وأدى الصراع المستمر على العرش وازدياد قوة الفرثيين في الشرق، وتنامي الثورات والحركات الانفصالية إلى ضعف المملكة وتفككها شيئاً فشيئاً. فاستغل ملك أرمينيا تيغران (تيغرانيس) تلك الأوضاع واستولى على مناطق واسعة من سورية (83ق.م)، بينما كان الأنباط والمكابيون يوسعون مناطق نفوذهم في جنوبي سورية. وهكذا بدأت سلطة السلوقيين تتقلص وتنهار، وباتت المملكة تنتظر مصيرها المحتوم الذي جاء على يد القائد الروماني بومبيوس Pompeius لذي طرد تيغران ودخل أنطاكية وخلع آخر الملوك السلوقيين وأعلن سورية ولاية رومانية، وانتهى بذلك العصر السلوقي ليبدأ العصر الروماني.
كان تأسيس المدن من أهم مآثر السلوقيين الذين ساروا على نهج الاسكندر، ويروى عن سلوقس أنه أسس (16) مدينة سماها باسم والده أنطيوخوس، وخمسة باسم والدته لاوديكي وتسعة باسمه وثلاثاً باسم زوجته أبامه. وقد استأثرت سورية بأكبر قدر من اهتمام سلوقس وخلفائه، فقد أسسوا فيها أعظم مدنهم، وعلى رأسها أنطاكية Antiocheia وشقيقاتها سلوقية Seleukeia عند مصب نهر العاصي وأفاميا Apameia واللاذقية Laodikeia. كما أطلق على عدد من مناطقها تسميات مقدونية أو إغريقية فحملت منطقة سلوقية اسم بيريا، وسمي العاصي أورنتس Orontes وجبل الأقرع كاسيوس Kados، وقد بنيت هذه المدن الجديدة وفق مخطط مرسوم يقوم على النظام الشبكي كرقعة الشطرنج، وزودت بالمعابد والمسارح والأندية والساحات العامة (آغورا) والأسوار والمؤسسات المختلفة، وتقدم دورا أوروبوس (صالحية الفرات) نموذجاً لهذه المدن الهيلنستية السلوقية. أما سكانها فكانوا بالدرجة الأولى من الجنود المقدونيين والإغريق، ثم تبعتهم جموع كبيرة من رجال المال والأعمال والتجار والحرفيين والفنانين والخبراء من شتى الأصناف، إضافة إلى أعداد متزايدة من أبناء البلاد الذين شكلوا في كثير من الأحيان جماهير هذه المدن. ولم يقتصر السلوقيون على إنشاء مدن جديدة، وإنما حولوا بعض المدن القديمة العريقة في سورية إلى مدن هيلينية بإعطائها أسماء مقدونية إغريقية وإقامة أحياء جديدة فيها، ومنحها دساتير وتنظيمات بلدية إغريقية، وهكذا سميت حلب بيرويا Beroia على اسم العاصمة المقدونية، ودعيت شيزر باسم لاريسا، والرستن أريتوسا، وحماة إبيفانية Epiphaneia، ودمشق دمترياس Demetrias، والرها إديسا Edissa، ومنبج هيرابوليس Hierapolis، وبعلبك هليوبوليس Heliopolis وحمص إيميسا Emesa، ودورا على الفرات باسم أوروبوس Europos، مسقط رأس سلوقس.
أما البطالمة في الجنوب، فإنهم اكتفوا بإعادة تأسيس بعض المدن على الطراز الهيليني ومن أشهرها عمان، التي حملت اسم فيلادلفيا Philadelphia وعكا التي سميت بطولمايس Ptolemais. والجدير بالذكر أن معظم هذه التسميات زالت بزوال الحكم السلوقي-الروماني وعادت تلك المدن إلى أسمائها القديمة.
وقد انتشرت اللغة الإغريقية، بوصفها لغة البلاط والإدارة والثقافة، على نطاق واسع، وخاصة بين أفراد الطبقات العليا السورية من سكان المدن المتهلينة، والذين كانوا يتكلمون اللغتين الإغريقية والآرامية. وقد أنجبت سورية عدداً كبيراً من لشعراء والعلماء والمؤرخين والفلاسفة الذين كتبوا باللغة الإغريقية، التي كانت لغة العلم والثقافة في العالم الهيلنستي. ومن أشهرهم بوسيدونيوس Poseidonions الآفامي (135-51ق.م) الذي كان أعظم عالم موسوعي في عصره ومن كبار المؤرخين والفلاسفة الرواقيين.
ولكن معظم سكان سورية، وخاصة في الأرياف، ظلوا متمسكين بلغتهم الآرامية وعباداتهم المتوارثة وأنماط حياتهم التقليدية، ويتجلى ذلك في الكتابات والنقوش التدمرية والنبطية. وكانت المحصلة النهائية لهذا التلاقي والتعايش الفكرية والثقافي أن صار أفراد الجاليات الإغريقية مع مرور الزمن أكثر تأثراً بالحياة الشرقية من تأثر السكان الوطنيين بمظاهر الحياة الإغريقية.
كانت سورية بلاشك العمود الفقري للإمبراطورية السلوقية، وأنطاكية رأسها السياسي وعاصمتها التجارية، وأفاميا قاعدتها الحربية الأولى، في حين كانت سلوقية دجلة عاصمة جناحها الشرقي. ارتبطت كل هذه المراكز السياسية والحربية والتجارية بطرق مناسبة وآمنة، وأضاف إليها السلوقيون شبكة واسعة من الطرق، وكانوا حريصين على تشجيع واستمرار العلاقات التجارية لمملكتهم مع الشرق ومع الجزيرة العربية وعالم البحر المتوسط، كما ازدهرت الزراعة وازداد إنتاج الحبوب والثمار والخضراوات، نتيجة تحسين الأساليب الزراعية واتساع الأسواق والطلب المتزايد لسكان المدن على المنتجات الزراعية، ودخلت زراعات وأصناف جديدة، وازدهرت صناعة الخمور وزيت الزيتون. وحافظت سورية على شهرتها في كثير من الصناعات النسيجية والصوفية والأقمشة الأرجوانية وصناعة الزجاج والخزف والصناعات المعدنية وصياغة الحلي والأحجار الكريمة.
وهكذا فإن سورية تمتعت في العصر السلوقي، وخاصة في عصر القوة، بازدهار كبير نتيجة تطور الزراعة والصناعة ونمو التجارة واستخدام النقود والأوزان الموحدة واللغة المشتركة، وكان مستوى الحياة مرتفعاً حتى في العصور المتأخرة بشهادة بوسيدونيوس الذي يذكر في تاريخه من القرن الأول قبل الميلاد: «كان جميع سكان سورية آمنين من أي ضيق يتعلق بضرورات الحياة بسبب الوفرة الكبيرة التي تقدمها بلادهم».
العصر الروماني
بدأ تدخل الرومان في شؤون ملوك سورية السلوقيين منذ معاهدة أفاميا، وازدادت ضغوطهم مع ضعف المملكة وتفككها، وعندما تفاقمت الأوضاع في الشرق الهيلنستي وباتب تهدد مصالحهم الحيوية، أرسلوا قائدهم الكبير بومبيوس للتصدي للأخطار والقوى المعادية، فقام أولاً بالقضاء على خطر القراصنة الذي استشرى في شرقي البحر المتوسط، ثم هزم ملكبونتوس مثريداتيس Miithridates ألد أعداء الرومان في الشرق وحليفه تيغرانيس ملك أرمينية، وبعد أن استتبت له الأمور في آسيا الصغير زحف نحو أنطاكية وأجهز على المملكة السلوقية، التي لم تعد تضم سوى سورية، وأعلنها ولاية رومانية عام 64ق.م باسم provincial Syria. وفي دمشق بدأ بوبيوس بتنظيم الأوضاع في الولاية الجديدة، فأبقى على الممالك والإمارات العربية القائمة في الرها (الأبجر) وأريتوسا /الرستن (سمسيجيرام) والبقاع والجولان (الإيطوريون) نظير تبعيتها للرومان ودفع الجزية لهم. وهكذا ظلت مملكة الأنباط أكبر قوة في جنوبي سورية أما المملكة الحشمونية اليهودية، فتم تقليص نفوذها وتحرير المدن الهيلنستية التي استولت عليها، ووضعت تحت إشراف ولاة سورية.
والأساس الآخر الذي بنى عليه بوبيوس تنظيماته هو دولة المدينة، فترك للمدن الهيلنستية حريتها وحكمها الذاتي وسمح لها أن تحتفظ بدساتيرها ومجالسها وحكامها، وهكذا شكلت عشر منها رابطة الديكابوليس Dekapolis، وهي تحالف تجاري ضم مجموعة من المدن في حوض نهر الأردن وجنوبي سورية، تزعمته فيما بعد مدينة دمشق. وبعدها غادر بومبيوس سورية بعد أن عهد إلى القائد إيميليوس سكاوروس Scaurus بإدارتها ووضع تحت تصرفه فرقتين عسكريتين لحمايتها.
ولمكانة سورية وأهميتها في الشرق، فقد بات يتولى أمورها في العصر الجمهوري حاكم بمرتبة قنصل سابق Proconsul يتمتع بسلطات عسكرية وإدارية واسعة، وغدت بذلك من أرفع المناصب ومطمح كبار القادة.
كان غابينيوس A. Gabinius أول حاكم روماني مهم على سورية (57-55ق.م)، اتخذ من أنطاكية عاصمة للولاية وحدّ من استغلال متعهدي الضرائب وجشعهم ونزع عن حاكمها لقب الملك، فبات يحكمها بوصفه الكاهن الأكبر. وقد خلفه القائد كراسوس Crassus، أحد زعماء الحكم الثلاثي في روما «إلى جانب بوبيوس ويوليوس قيصر»، الذي منح ولاية سورية لمدة خمس سنوات، وأطلقت يده في الحرب على الفرثيين، ولكنه مُني بهزيمة منكرة في معركة حران عام 53ق.م، فقتل وأسر عدد كبير من جيشه.
عانت سورية بعد ذلك من ويلات الحروب الأهلية الرومانية التي قامت بين بومبيوس ويوليوس قيصر، ثم بين أنصار قيصر وقتلته، حيث جاء إليها زعماء الحزب الجمهوري، وهو كاسيوس Cassius، ليجند القوات الرومانية في الشرق، فاعترضه دولابلا Dolabella، أحد أنصار قيصر، الذي اعتصم في اللاذقية، فحاصره كاسيوس فيها، واحتلها وانتقم من أهلها. وبعد معركة فيليبي (42ق.م) تعلم ماركوس أنطونيوس أمور الشرق بما في ذلك سورية، وقد استغل الفرثيون تلك الأحداث للقيام بهجوم اجتاحوا فيه معظم أراضي سورية (40-38ق.م) إلى أن تمكن الرومان من طردهم. ومن واقائع تلك الحقبة محاولة أنطونيوس الاستيلاء على تدمر وثرواتها، التي أخفقت، وقيامه بحملتين على الفرثيين انطلاقاً من سورية، حققت الثانية بعض النجاح. كما قام بتعيين هيروديس Herodes (من العرب أدوميين المتهودين) على رأس مملكة هيلنستية يهودية في فلسطين، فكان خير مدافع عن المصالح الرومانية على مدى ثلث قرن (37-4ق.م) وينسب إليه تأسيس مدينة قيسارية (على اسم قيصر) التي ستصبح عاصمة فلسطين الإدارية في العصر الروماني.
ومع انتصار أوكتافيان /أوغسطس على أنطونيوس وكليوباترة في معركة أكتيوم (31ق.م) وتأسيس النظام الإمبراطوري الروماني، بدأ عهد جديد في إدارة سورية، التي صارت منذ عام 27ق.م على رأس الولايات التابعة للإمبراطور الروماني بوصفه حاكمها الأعلى، الذي يعين مندوباً عنه (Legatus Augusti) بمرتبة قنصل، والياً عليها لمدة ثلاث إلى خمس سنوات في العادة، وكان تحت إمرته أربع فرق عسكرية (ليغون Legiones) عدا القوات المساعدة، إضافة إلى أسطول نهري على الفرات كثيراً ما استخدم في الحروب مع الفرثيين، وأسطول بحري في أهم الموانئ السورية. وهذا يظهر الأهمية العسكرية الفائقة لسورية في الاستراتيجية الرومانية. وقد أُنشئت في عهد أوغسطس مستعمرتان عسكريتان رومانيتان في كل من بيروت وبعلبك. كما جرى إحصاء عام للسكان في أثناء ولاية كويرينوس Quirinus ورد ذكره في الإنجيل، وتأكد وثائقياً من خلال نقش يذكر أن عدد سكان أفاميا (الأحرار) بلغ 117 ألف نسمة وهذا يعد دليلاً على ضخامة المدينة وازدهارها وقتئذ. وقد ارتبط ذلك الإحصاء بتحديد الضرائب المفروضة على السكان والتي صارت جبايتها على أيدي موظفين ماليين، بدلاً من متعهدي الضرائب السابقين، الذين عانت البلاد من جشعهم واستغلالهم. سلك أوغسطس طريق التفاهم والدبلوماسية مع المملكة الفرثية، ونجح في أثناء زيارته الشرق (22-19ق.م) في عقد اتفاق معها، استعاد بموجبه الأسرى والرايات الرومانية السليبة، وضمن بذلك الهدوء والسلام على الجبهة السورية سنوات طويلة. وهكذا سارت الأمور في عهد السلالة اليولية-الكلاودية (14-68م). وفي أواخر حكم نيرون اندلعت ثورة يهودية في أورشليم/القدس، فكلف فسباسيان، قائد جيش الشرق، بقمعها، وفي أثناء ذلك وصلت الأنباء عن نهاية نيرون وانتحاره، فبادرت الجيوش الرومانية المرابطة إلى إعلان قائدها فسباسيان امبراطوراً، وتغلب فسباسيان على منافسيه الآخرين وتبوأ عرش الإمبراطورية عام 69م، وأوكل إلى ابنه تيتوس متابعة الحرب التي انتهت عام 70م باقتحام المدينة وتدمير الهيكل اليهودي، ولم يعد لليهود في أورشليم وجود يعتد به. وكان من نتيجة هذه الثورة أن صارت مقاطعة يودايا Judaia ولاية رومانية. وعاشت سورية بعد ذلك عهداً من السلم والازدهار في عهد السلالة الفلافية (69-96م) وضمت إليها مملكة كوماجينه (الواقع شمالها، على الضفة الغربية للفرات) وكذلك الإمارة العربية في الرستن وحمص.
شهدت سورية والإمبراطورية الرومانية في عهد الأباطرة بالتبني (الأنطونينيين)، أو الأباطرة الصالحين (96-180م) عصراً من أزهى عصورها شهد عدداً من الأحداث المهمة في تاريخها. فالإمبراطور ترايانوس (ترايان)، الذي بدأ سيرته قائداً لإحدى الفرق العسكرية المرابطة في سورية في ولاية والده عليها (76-96م) اشتهر بحروبه التوسعية الاستعمارية في داكية (رومانية اليوم) والشرق، وبسعيه للسيطرة على الطرق التجارية الرئيسة التي تصل العالم الروماني بالشرق براً وبحراً. وفي إطار هذه السياسة كلف واليه على سورية كورنيليوس بالما Cornelius Pa;lma بالقضاء على مملكة الأنباط وتحويلها إلى ولاية رومانية (106م) حملت اسم الولاية العربية Provincia Arabia يحكمها طبقة الفرسان، وبإمرته فرقة عسكرية (ليغون) ترابط في عاصمة الولاية بصرى التي بدأ صعودها وازدهارها لتغدو واحدة من أهم مدن سورية، كما أمر هذا الإمبراطور بشق الطرق العسكرية فيها وإقامة خط الحدود «gdlds» Limes، الذي امتد من خليج العقبة حتى بصرى بطول 300كم لحمايتها من هجمات القبائل البدوية. ووضع أسطولاً رومانياً في ميناء العقبة، لإحكام السيطرة على شواطئ البحر الاحمر وطريق البخور القادم من جنوبي الجزيرة العربية. وفي عام 114م بدأ الإعداد في سورية لحربه الكبيرة على الفرثيين بتقديم قربان للإله زيوس كاسيوس تيمناً بنجاح حملته، التي اجتاح بها بلاد الرافدين ووصل حتى الخليج العربي، واحتل العاصمة الفرثية طيسفون. وكان ذلك قم الأمجاد العسكرية الرومانية، إذ بلغت الإمبراطورية ذروة اتساعها، ثم عاد إلى أنطاكية وتوفي في كيليكية في طريقه إلى روما عام 117م، وقد برز في عهده المهندس الشهير أبولودور الدمشقي Apollodoros، الذي صمم ونفذ عدداً من أروع المشاريع العسكرية والمدنية، وعلى رأسها عمود تراجان، وسوقه الفخمة وحماماته التي لا تزال تزهو بها مدينة روما.
شهدت سورية ازدهاراً كبيراً في عهد خلفه هادريان Hadrianus، الذي كان والياً عليها قبل تسلمه العرش والمناداة به إمبراطوراً على أرضها، لذلك كان شديد الاهتمام بها، فأتم الطريق الرئيسي من دمشق إلى البتراء وزار معظم المدن السورية وأغدق عليها الهبات والامتيازات، فتسمت تدمر باسمه Palmyra Hadriana. أما مدينة دمشق التي اشتهرت بسيوفها وأسلحتها وبمعبد الإله جوبيتير /حدد، فقد منحها لقب متروبوليس، أي إنها صارت من أمهات المدن. وقد اندلعت في عهده آخر ثورات اليهود في فلسطين (132-135م) بزعامة باركوكبا، التي سحقتها الجيوش الرومانية ودمرت مدينة أورشليم، التي اعتصم بها المتمردون، ومنع اليهود بعدها دخول القدس، التي أعيد بناؤها وسميت إيليا كابيتولينا Aelia Capitolina وهو الإسم الذي حملته حتى الفتح العربي الإسلامي. أما مقاطعة يودايا فتحولت إلى ولاية رومانية باسم سورية الفلسطينية Syria Palaestina يحكمها وال برتبة قنصل تحت إمرته فرقتان عسكريتان رومانيتان. وأبان حكم ماركوس أوريليوس تعرضت سورية لهجوم فرثي كبير فأرسلت تعزيزات عسكرية إليها تمكنت بقيادة أفيديوس كاسيوس Avidius Cassius من التغلب على الفرثيين ودحرهم والوصول حتى سلوقية دجلة. ولكن الجيوش الرومانية عادت حاملة معه وباء الطاعون الذي انتشر في جميع أنحاء الإمبراطورية وخلف كثيراً من الضحايا في أنطاكية وغيرها من المدن السورية.
كان أفيديوس من أبناء سورية من مدينة كيروس Cyrrhus وصار والياً عليها بعد انتصاراته على الفرثيين التي منحته شعبية كبيرة. وعندما وصل نبأ كاذب بموت الإمبراطور ماركوس أوريليوس أعلن أفيديوس نفسه إمبراطوراً في أنطاكية عام 175م، ولكن ثورته لم تدم طويلاً، فما إن زحف الإمبراطور على رأس جيشه لمقارعته حتى انهارت ثورته ولقي أفيديوس حتفه على أيدي أحد ضباطه.
تتالت الأحداث بعد مقتل الإمبراطور كومودوس (192م) فقد نشب صراع على السلطة بين كبار قادة الجيوش الرومانية، وأعلن حاكم سورية آنذاك بسكينيوس نيجر Pescennius Niger نفسه إمبراطوراً، واتخذ من أنطاكية مقراً لقيادته، فلقي تأييداً كبيراً، وتطوع كثير من شبانها في جيشه. ولكن سبتيميوس سفيروس كان قد نجح في الوصول إلى العرش في روما، وبدأ بينهما صراع انتهى عام 194م بهزيمة نيجر ثم مقتله. وكان أول إجراء قام به القائد المنتصر في أنطاكية هو تقسيم سورية إلى ولايتين: سورية المجوفة وسورية الفينيقية، وذلك للحيلولة دون طموح ولاتها وجيوشها إلى عرش الإمبراطورية. كما قام سفيروس بالانتقام من أنطاكية، بسبب ولائها لخصمه المهزوم، فنزع عنها لقب ميتربوليس Metropolis وعاصمة سورية وجعلها «قرية» Kome تابعة لمنافستها، مدينة اللاذقية، التي كانت قد أعلنت ولاءها له. كما منحها لقب ميتروبوليس وجعلها عاصمة سورية المجوفة، وأغدق عليها كثيراً من الهبات والامتيازات، ولا يزال قوس النصر القائم فيها حتى اليوم شاهداً على ذلك. ثم قام سفيروس بحملة مظفرة على الفرثيين والممالك الدائرة في فلكهم واحتل مدينة نصيبين ذات الأهمية الإستراتيجية الكبيرة. وفي حملته الثانية عام 198م اجتاح بلاد الرافدين واحتل بابل وسلوقية دجلة والعاصمة طيسقون، وأجبر الفرثيين على التنازل عن شمال الرافدين، الذي صار ولاية رومانية باسم Mesopotamia (الجزيرة السورية).
أسس سفيروس أسرة حاكمة عرفت باسم السلالة السفيرية أو الليبية-السورية (193-235م)، إذ كان من مواليد لبتيس ماغنا (لبدة في ليبيا) وكانت زوجته جوليا دومنا Julia Domna تنحدر من أسرة كهنوتية عريقة في حمص، فكانت أول إمبراطورة رومانية من أصل سوري. ولذلك حظيت ولايتا إفريقية (طرابلس الغرب وتونس) وسورية بأكبر قدر من الرعاية والامتيازات الإمبراطورية. وتقدم الآثار والمكتشفات الأثرية شواهد كبيرة على حركة التجديد التي طالت معظم البلدان السورية. وأهم حدث جرى في عهد كراكلا (211-217م) كان إصدار مرسومه الشهير الذي منح بموجبه جميع سكان الإمبراطورية الأحرار حقوق المواطنة الرومانية، أي إن سكان سورية قد أصبحوا منذ عام 212م مواطنين رومانيين. وقتل كراكلا في أثناء حملته الفرثية قرب مدينة حران في شمال سورية، ولكن الجنود ثاروا على قاتله ماكرينوس ونصبوا كاهن إله الشمس في حمص إلاغبالوس Elagabalu إمبراطوراً، فكان بذلك أول سوري يتولى عرش الإمبراطورية الرومانية (218-222م)، وكان لجدته، شقيقة جوليا دور مهم في تنصيبه وسياسته، ولكن أعماله وتصرفاته الغريبة ولدت النقمة عليه، فسقط قتيلاً هو وأمه على أيدي حرسه الإمبراطوري، الذي نادى بابن خالته الفتى اسكندر سفيروس إمبراطوراً (222-235م) وتولت الوصاية عليه أمه الإمبراطورة جوليا ماميا، وتميز حكمه بسياسة رشيدة واهتم بأحوال الرعية وشؤون الإمبراطورية. وقد منح دمشق وبصرى حقوق مستعمرة رومانية، كما أغدق الهبات على حمص وبعلبك وصور. ومن مزايا هذا العهد بروز الإمبراطورات السوريات سياسياً وعسكرياً وثقافياً وضمُّ البلاط الإمبراطوري شخصياتٍ لامعةً في القانون والفلسفة والأدب.
وبمقتل اسكندر سفيروس عام 235م على أيدي جنده، بدأ عصر من الفوضى والاضطرابات لسياسية والعسكرية، وصار الأباطرة ألعوبة في أيدي عساكرهم، وتعرضت الإمبراطورية لأخطار عظيمة في الداخل والخارج. وفي خضم تلك الأحدث تسلم فيليب العربي (244-249م) عرش الإمبراطورية وكان ابناً باراً لموطنه شهبا، التي جعل منها مدينة رومانية هيلنستية تزهو بمنشآتها وأبنيتها الفخمة، وسماها مدينة فيليب Philippopolis. وفي عهده جرى الاحتفال بمرور ألف سنة على تأسيس روما.
مع قيام الإمبراطورية الساسانية عام 226م تغير المسرح السياسي في الشرق بصورة كاملة، إذ اتخذت سياسة هجومية توسعية سعياً وراء إعادة أمجاد الإمبراطورية الأخمينية الفارسية.
في سنة 256م هاجم الساسانيون سورية واستولوا عليها وهزموا الجيوش الرومانية بقيادة فالريان Valerianus (259م) الذي وقع في أسرهم، كما أنهم غزوا عاصمة الشرق أنطاكية ونهبوها وتردد صدى هذه الانتصارات في الشرق كله.
في تلك السنوات العصيبة على الرومان برز أذينة الثاني، أمير تدمر، الذي تصدى للجيش الفارسي بقيادة مليكه سابور، وأحرز عدة انتصارات قادته إلى العاصمة طيسفون. وكافأه الإمبراطور الروماني بلقب قائد الشرق ومقوم الشرق الروماني كله. وهكذا بدأ صعود تدمر الذي وصل أوجه في عهد الملكة زنوبيا التي اتخذت لقب إمبراطورة ومدت سلطانها إلى مصر وآسيا الصغرى، ولكن الإمبراطور أوريليان جند قوى الإمبراطورية وتمكن من التغلب على الجيوش التدمرية في عدة معارك، ثم حاصر تدمر وأسر ملكتها، ولما ثارت المدينة على الحامية الرومانية، عاد ودمر هذه المدينة العريقة (272م) التي فقدت مكانتها وأهميتها بعد ذلك.
ومع صعود ديوقليسيان عرش روما انتهى عصر الفوضى العسكرية، وبدأ عصر جديد تميز بإصلاحات سياسية وإدارية وعسكرية واقتصادية شاملة غيرت من طبيعة الدولة الرومانية.
اهتم هذا الإمبراطور بالدفاع عن سورية وتقوية حدودها ضد الفرس الساسانيين، فصار خط الحدود الدفاعي يمتد من جبل سنجار في أعالي الجزيرة عبر الفرات إلى تدمر وبصرى والبتراء وصولاً إلى البحر الأحمر (Strata Diocletiana)، كما زاد من عدد القوات والجيوش لحمايتها من الأخطار. وفي نطاق إصلاحاته الإدارية قسمت سورية عدة ولايات وصارت جزءاً من دوقية الشرق الكبرى، كما تم الفصل بين السلطتين المدنية والعسكرية وزاد إشراف السلطة الإمبراطورية على الإدارة والاقتصاد.
وقد أدى هذا التنظيم الإداري والعسكري إلى تمتع سورية بعهد من السلم والهدوء، ولكن تلك الحروب والصدامات تركت أثاراً قاسية في العلاقات التجارية مع الجزيرة العربية ومع الشرق وعانت منها تجارة البخور والتوابل والحرير.
وشهد هذا العصر المتأخر انطلاق الديانة المسيحية وانتشارها بعد حملات الاضطهاد والملاحقة وتحول سكان المدن والأرياف في سورية إلى المسيحية بأعداد كبيرة فاقت مثيلاتها في بقية أنحاء الإمبراطورية. وبدأ اعتراف الإمبراطور قسطنطين عام 313م بحرية العبادة للمسيحيين بدأ عهد جديد من العلاقة بين الدين والدولة الرومانية. وفي عام 325م دعا الإمبراطور إلى مجمع كنسي كبير في نيقية Nicaea من أجل توحيد العقيدة المسيحية بعد أن بدأت تنشأ الهرطقات والطوائف المختلفة، ثم أُنشئت القسطنطينية عاصمة شرقية للإمبراطورية عام 330م ومدينةً مسيحية. وما إن جاءت نهاية القرن الرابع حتى صارت المسيحية الديانة الوحيدة المعترف بها وأغلقت المعابد الوثنية واختفت كل مظاهرها وولدت الإمبراطورية البيزنطية.
العصر البيزنطي
كانت سورية في الحقبة التي امتدت من القرن الرابع إلى أوائل القرن السابع الميلادي، أي منذ عهد قسطنطين إلى عهد هرقل، ميداناً للصراع بين الساسانيين والبيزنطيين، شهد مرحلة ساخنة في القرن الرابع وهدوءاً نسبياً في القرن الخامس مرده إلى صلح طويل الأجل بين الدولتين، لكن الحروب عاودت سيرتها الأولى في القرن السادس، وهكذا عادت الجيوش إلى سورية تكتسحها وتخرب مدنها وقراها وتعبث فيها سلباً ونهباً. غير أن ويلات الحروب لم تستطع القضاء على حيوية سكانها ونشاطاتهم وإبداعاتهم الحضارية في شتى المجالات. وقد أسند أباطرة القسطنطينية مهمة حماية الحدود الشرقية السورية والبادية إلى العرب الغساسنة الذين حارب زعيمهم الحارث الفرس وحلفاءهم المناذرة، فقام هؤلاء بمهاجمة سورية عام 529م بقيادة المنذر الذي احتل عدداً من المدن ونهبها.
وتعرضت بعض المدن الساحلية، وعلى رأسها أنطاكية، لسلسلة من الزلازل القوية (526-528م) دمرت كثيراً من أبنيتها، وما كادت عملية إعادة البناء تنتهي في عهد الإمبراطور جستنيان، حتى جاءت حملة كسرى أنو شروان عام 540م التي اكتسحت مناطق واسعة من سورية ودمرت حلب واحتلت أنطاكية، فقضي على كثير من سكانها، كما لقيت أفاميا وأديسا مصيراً مشابهاً. ولم تستطع عاصمة سورية النهوض بعد هذه الكوارث، فقد تعرضت أيضاً في القرن السادس إلى ستة زلازل متتالية إضافة إلى انتشار وباء الطاعون فيها.
وفي عام 614م احتل كسرى الثاني في هجوم جديد، دمشق والقدس، وعاث فيهما نهباً وتخريباً، وقد وقع الصليب المقدس في أيدي الفرس وخضعت سورية بكاملها للحكم الفارسي، ماعدا المناطق الساحلية التي بقيت في أيدي البيزنطيين، ثم جاء الهجوم المضاد بقيادة الإمبراطور هرقل الذي قام بست حملات متتالية (622-629م) انتهت بطرد الفرس من سورية واستعادة الصليب المقدس وإعادته إلى القدس في موكب نصر حافل.
مع انتصار المسيحية في سورية، تنامت القوة الروحية للأساقفة على الصعيد الاجتماعي والسياسي، كما تنامى دور الرهبان وأعدادهم وتأثيرهم في السكان، وخاصة من خلال الاهتمام باللغة والثقافة السريانيتين ورعايتهما، ومن أشهر هؤلاء القديس سمعان العمودي الذي كان في حياته محط تقديس كبير، ثم أقيمت له بعد موته كنيسة عظيمة يحج إليها الناس ضمت عموده الشهير. وقدمت سورية عدداً كبيراً من الشهداء المسيحيين الذين قضوا في سبيل عقيدتهم في سنوات الملاحقة والاضطهاد، فأنشئ في مدينة الرصافة مزار للقديس سرجيوس، الذي كان ضابطاً في الجيش الروماني، رفض إنكار نصرانيته فقتل عام 300م تقريباً، وقد تحول المزار منذ القرن الخامس إلى محجة لا للسوريين فقط، وإنما للحجاج من شتى بلدان البحر المتوسط. وأُنشئت كذلك أربع كنائس كبيرة ومزارات واستراحات للحجيج، وصارت مدينة الرصافة تعرف باسم مدينة سرجيوس Sergiopolis.
كان هذا العصر عصر ازدهار في سورية، تزامن مع زيادة أعداد السكان، فقد انتشر الاستيطان في معظم المناطق، وتقدم الآثار الكثيرة المنتشرة في الشمال الغربي من سورية فيما صار يعرف باسم المدن الميتة (أو المنسية)، شواهد على الازدهار الكبير الذي عرفته المنطقة، والمتمثل في الكنائس والأديرة والمدافن والبيوت الريفية الفخمة ومعاصر الزيتون وسواها. ويرى الباحث «تشالنكو» أن هذا الازدهار مرده بالدرجة الأولى إلى زراعة شجر الزيتون وتصدير الزيوت التي كان لها سوق رائجة في شرق البحر المتوسط، وكانت التجارة والتبادلات تتركز في المدن، ولكن التجار السوريين انتشروا في كل أنحاء الإمبراطورية، وكانت سورية تصدر المصنوعات الثمينة، مثل الحرير الأرجواني والزجاج من صور وصيدا وبيروت، إضافة إلى مصانع النسيج في كل مكان وصناعة الأسلحة في أنطاكية ودمشق. وقد نظم الحرفيون أنفسهم في تنظيمات حرفية، وكانت الأسواق تغص بالمواد الغذائية الأساسية وبضائع الترف والرفاهية. وكانت سورية أهم مصادر الطقوس الشرقية من القرن الثالث إلى السادس، وخاصة أنطاكية موئل أسقفية الشرق ومقر بطاركتها.
كانت اللغة الإغريقية لغة الطبقة العليا المثقفة، واللغة اللاتينية لغة الدولة الرسمية، أما اللغة السريانية/الآرامية فكانت لغة جماهير الشعب الواسعة، ولهذا فقد نشأت إلى جانب الطقوس باللغة الإغريقية طقوس أخرى تنافسها باللغة السريانية.
وكانت أنطاكية مركز الطقوس الإغريقية-السريانية الغربية؛ وكانت الرها/أورفه مركز الطقوس السريانية والإغريقية الشرقية، وكانت كلتا المدينتين تمثلان مركزين روحيين ودينيين رفيعين، إلى جانب مدرستي أنطاكية والرها الشهيرتين، برزت أيضاً مدرسة بيروت الحقوقية، التي أسهم مفكروها الكبار في صوغ قوانين جستنيا وتدوينها، وهي أهم مجموعة قانونية رومانية.
عانت الإمبراطورية وسورية معها من الحروب والهزات الأرضية والأوبئة، ثم جاءت الصراعات الدينية والهرطقات التي هزت كيان الدولة، وأدت إلى صراعات دموية. وهكذا تعمقت الخلافات المذهبية بين مسيحية الشرق والمذهب الإغريقي-اللاتيني الذي ساد في القسطنطينية، وتعرض أتباع المذهب المونوفيزيقي (الطبيعة الواحدة)، مثلما تعرض النساطرة، للاضطهاد والملاحقة من قبل السلطات البيزنطية، ولذلك رحب سكان سورية بـالفاتحين العرب المسلمين، ووقفوا إلى جانبهم في معركة التحرير، وانسحب قيصر الروم هرقل، و يردد عبارته المأثورة: «سلام عليك يا سورية سلاماً لا لقاء بعده».
محمد الزين
الموسوعة العربية