09/أيلول/2008
- مقدمة
- سيرة حياته
- الجوائز والأوسمة العالمية التي نالها
- أعماله
- أدبه وتأثيره على مسيرة الأدب
- لغته الشعرية
- شعر التفعيلة
- الإيقاع
- عالمية أدبه
- الملامح الإبداعية الأساسية في أدب نزار
- أشياء أفروديت
- الإيروس في أدب نزار
- الجسد في تجربة نزار الإبداعية
- ما قيل عنه
- ما قيل في وداعه
- قراءة في "دمشق ونزار قباني"
- المراجع
مقدمة:
بالحب يتحوّل العالم إلى قصيدة، ويصبح بحيرة مملوءة شعراً.. ويعود إلى براءته الأولى.. وما فعل الحب بين الرجل والمرأة، إلا تعبير عن فعل الحب الحقيقي الذي من خلاله تفتح اللحظة الحاضرة أبوابها ليلجها ويختبر نشوة الأبدية.. وكلما أحب الإنسان أكثر، كلما أصبح شاعراً يغرف من الشعر، ويفيض شعراً.. الشعر ليس قضية بيان ولغة بقدر ما هو لغة الحب والشعور ونبض الكون، ونسغ الوجود الحي..
الوجود يظل لغزاً مغلقاً على الإنسان الذي لا يعرف الحب.. فبالحب تتوحد الأضداد، الذكر والأنثى، الجسد والروح، السماء والأرض، الأنا والآخر، الإلهي والإنساني..
والذي يحب يدركه الجمال، فالجمال والحب وجهان لحقيقة واحدة، وبالحب يعود الجسد الإنساني إلى جماله الأول، ويصبح مدخلاً لحقائق كونية..
لقد شغف نزار قباني بجمال المرأة وافتُتن به، وكانت قصائده اندفاعة ايروسية نحوه، مما جعله يعبر عن شعرية جمال المرأة، وشعرية الخلجات والأحاسيس التي تهدر كالأمواج حيناً، وكالعواصف حيناًَ آخر، فنزوة اللحم والدم وعنف الرغبة والشهوة أيضاً لها بعد شعري يسبح من خلاله الشاعر ويتواصل مع عوالم أرحب وأوسع.. إلا أن معاناة الشاعر لم تنفصل عن معاناة وطنه وشعبه فتفجر شعره السياسي محاولاً أن يكون مرآة صادقة لما يحدث في فلسطين، ولبنان، وسورية وطنه الأم.. إنما الأزمات التي عاناها هذا الوطن الغالي، دفع هو ثمنها غالياً، فلقد كانت إحدى ضحاياها زوجته بلقيس!
هكذا كان نزار يرى ويحس من خلال الجسد، فدمشق، كانت جسده الأم، ومن خلال الجسد كان يقتحم مملكة الشعر الرقيقة..!!
سيرة حياته:
نزار توفيق قباني، وُلِدَ في 21/آذار/1923، في حي مئذنة الشحم (أحد أحياء دمشق القديمة)، ويتساءل نزار فيما بعد، فيقول: "هل كان مصادفة يا ترى أن تكون ولادتي في الفصل الذي تثور فيه الأرض على نفسها، وترمي فيه الأشجار كل أثوابها القديمة؟ أم كان مكتوباً علي أن أكون كشهر آذار، شهر التغير والتحولات."
والده توفيق قباني كان يمتهن صناعة الحلويات، وكان ميسور الحال، وقد ساهم في بعض الاجتماعات التي كانت تُعقد في منزله لمقاومة الاحتلال الفرنسي، ونزار يذكر أنه في الثلاثينات رأى عساكر السنغال يدخلون في ساعات الفجر الأولى للمنزل بالبنادق والحراب، ويأخذون والده معهم في سيارة مصفحة إلى معتقل (تدمر) الصحراوي.
أنجب توفيق قباني ستة أبناء معتز، رشيد، صباح، نزار، وصال، هيفاء.. إلا أن وصال ماتت في ريعان شبابها، وفي هذا يقول نزار: ".. في تاريخ الأسرة حادثة استشهاد مثيرة سببها العشق..
الشهيدة هي أختي الكبرى وصال، قتلت نفسها بكل بساطة وبشاعرية منقطعة النظير.. لأنها لم تستطع أن تتزوج حبيبها..
.. حين مشيت في جنازة أختي.. وأنا في الخامسة عشرة، كان الحب يمشي إلى جانبي في الجنازة، ويشد على ذراعي ويبكي.."
أما والدته فتدعى فائزة، وهو يقول عنها أنها كانت ينبوع عاطفة يعطي بغير حساب. وكانت تعتبره ولدها المفضل وتخصّه دون سائر إخوته بالطيّبات، وتلبي مطالبه الطفولية بلا شكوى ولا تذمّر.
أما علاقته بأمه على الصعيد الفكري فإن نزاراً يقول: "على الصعيد الفكري لم يكن بيني وبين أمي نقاط التقاء. فلقد كانت مشغولة في عبادتها، وصومها، وسجادة صلاتها. تسعى إلى المقابر في المواسم، وتقدم النذور للأولياء، وتطبخ الحبوب في عاشوراء، وتمتنع عن زيارة المرضى يوم الأربعاء، وعن الغسيل يوم الاثنين، وتنهانا عن قص أظافرنا إذا هبط الليل، ولا تسكب الماء المغلي في البالوعة خوفاً من الشياطين، وتعلق أحجار الفيروز الأزرق في رقبة كل واحد منا، خوفاً علينا من عيون الحاسدين".
ويذكر أيضاً: "كانت أمي ماءً.. وأبي ناراً.. وكنت بطبيعة تركيبي أفضّل نار أبي على ماء أمي.."
وفي طفولته يذكر استيقاظ النزعة العدوانية لديه التي تجلت في الرغبة في تحطيم الأشياء أو تفكيكها وردها إلى أجزائها. وهو يعتقد أن هدفه من وراء ذلك اكتشاف المجهول الكائن وراء الأشياء. وهو يذكر أن شهوة كسر الأشياء هذه أتعبته وأتعبت أهله. وقد امتدت هذه المرحلة حتى العاشرة من عمره.
مدرسته الأولى كانت (الكلية العلمية الوطنية) في دمشق. دخل إليها في السابعة من عمره، وخرج في الثامنة عشرة يحمل شهادة البكالوريا الأولى (القسم الأدبي)، ومنها انتقل إلى مدرسة التجهيز حيث حصل على شهادة البكالوريا الثانية (قسم الفلسفة).
إن (الكلية العلمية الوطنية) قد لعبت دوراً رئيسياً في تشكيله الثقافي، ذلك أنها كانت مؤسسة وطنية خاصة يقصدها أولاد البورجوازية الدمشقية الصغيرة، من تجار، ومزارعين، وموظفين، وأصحاب حرف.
كانت الهيئة التعليمية في (الكلية العلمية الوطنية) ذات مستوى رفيع، وكان المدرسون من صفوة رجال المعرفة، ومن كبار الشعراء والمفكرين.
يقول نزار: "وإنه لمن نعمة الله عليّ وعلى شعري معاً، أن معلم الأدب الأول الذي تتلمذت عليه، كان شاعراً من أرق وأعذب شعراء الشام، وهو الأستاذ خليل مردم بك. هذا الرجل ربطني بالشعر منذ اللحظة الأولى..
واستمر خليل مردم يقطف لنا من شجرة الشعر العربي عشر زهرات جديدة في كل درس من دروسه، حتى صارت ذاكرتنا الشعرية في نهاية العام بستاناً يموج بالأخضر، والأصفر، والأحمر..
.. من حسن حظي، أنني كنت من بين التلاميذ الذين تعهدهم هذا الشاعر المفرط في حساسيته الشعرية، وأخذهم معه في نزهاته القمرية، ودلهم على الغابات المسحورة التي يسكن فيها الشعر..
إنني أدين لخليل مردم بك، بهذا المخزون الشعري الراقي الذي تركه على طبقات عقلي الباطن، وإذا كان الذوق الشعري عجينة تتشكل بما نراه، ونسمعه، ونقرؤه في طفولتنا.. إن خليل مردم كان له الفضل العظيم في زرع وردة الشعر تحت جلدي.. وفي تهيئة الخمائر التي كوّنت خلاياي وأنسجتي الشعرية.."
وفي هذا، يذكر نزار أن أول تجربة له مع الشعر كانت في صيف عام 1939 حين كان مبحراً في رحلة مدرسية من بيروت إلى ايطاليا عندما دمدم الكلمة الأولى من أول بيت شعر نظمه في حياته، وهو يقول: "وللمرة الأولى، وفي سن السادسة عشرة، وبعد رحلة طويلة في البحث عن نفسي.. نمتُ شاعراً.."
وهو يقول بعد رحلة طويلة في البحث عن نفسه ذلك أنه في الثانية عشرة بدأ الرسم واستمر في هذه التجربة سنتين أو ثلاثاً مستعملاً قوارير اللون، والصباغات، والأقمشة، ورسم بالماء، وبالفحم، وبالزيت..
أما في الرابعة عشرة فقد سكنه هاجس الموسيقى.. ونزار يوعز إلى هاتين التجربتين دوراً أساسياً في تشكيل لغته الشعرية حيث سكن الرسم والموسيقا كلمات نزار.. فها هو ذا يقول: "بعد مرحلة (طفولة نهد) و(أنتِ لي) و(سامبا).. ركبني هاجس الخطوط والأشكال وصارت الحروف عندي تأخذ أشكالاً مختلفة، فهي مرة خطوط مستقيمة، ومرة خطوط منكسرة، ومرة خطوط منحنية.
وللمرة الأولى، صرت أفكر هندسياً، وصارت القصيدة عندي عمارة أخطط لها كأي مهندس معماري."
إذن، بعد حصول نزار على شهادة البكالوريا الثانية (قسم الفلسفة) من مدرسة التجهيز، التحق بكلية الحقوق بالجامعة السورية، وخلال دراسته هذه أصدر أول دواوينه "قالت لي السمراء" في أيلول (سبتمبر) 1944 على حسابه الخاص، وكانت الطبعة الأولى منها 300 نسخة فقط. وقد بيعت خلال شهر. والمجموعة تضم ثمانٍ وعشرين قصيدة حافظت على الوزن الخليلي للقصائد إلا واحدة بعنوان "اندفاع" وهي كما سوف نرى كانت بذرة الشعر الحر.
ونزار يقول عن مجموعته الأولى ما يلي: "كانت القصيدة العربية تعاني انفصاماً حاداً في الشخصية وكنت أحس، وأنا أقرأ شعراء عصر النهضة، أنني أحضر حفلة تنكرية، وأن كل شاعر يستعير القناع الذي يعجبه.. هذا يستعير سيف أبي فراس.. وذاك يستعير حصان عنترة..
وفي وسط هذه الحفلة التنكرية، كنت أتساءل، وأنا شاب يافع، لماذا لا يكشف هؤلاء عن وجوههم الطبيعية، ويتكلمون بأصواتهم الطبيعية؟ ولماذا يستعيرون لغة الآخرين، وعصر الآخرين؟
في هذا الاحتفال الكرنفالي.. قررت بحماس الشاب أن أغيّر بروتوكول الحفلة، وأخرق نظامها.. وبكل بساطة، دخلت القاعة المكتظة بوجهي الطبيعي وملابسي العادية. وفي يدي أول مجموعة شعرية لي (قالت لي السمراء)."
في السنة التالية، نال نزار شهادة الليسانس في الحقوق من الجامعة السورية في دمشق، وكان ذلك في عام 1945، وكانت هذه الفترة سنوات الحرب العالمية الثانية، وفي شهر آب (أغسطس) من نفس العام، انضم نزار إلى السلك الدبلوماسي السوري، وكان حينذاك في الثانية والعشرين من عمره، وعُيِّنَ ملحقاً بالسفارة السورية في القاهرة. وهو يقول عن أسفاره التي بدأت منذ ذلك الحين: "ومع كل خطوة كنت أخطوها، كان قلبي يكبر، وشبكية عيني تتسع، وآبار نفسي تمتلئ، والبدوي في داخلي يرق، ويشف، ويتحضّر".
قضى نزار في القاهرة ثلاث سنوات (1945 – 1948)، وفي القاهرة طبع مجموعته الثانية (طفولة نهد) وكان ذلك في عام 1948.
بعد مجموعته "طفولة نهد" أصدر عام 1949 كتيباً شعرياً بعنوان "سامبا" وهي قصيدة طويلة تصف الرقصة التي شاعت في عصره.
ومن أهم تجارب نزار الشعرية خلال عمله الدبلوماسي بعد القاهرة كانت التجربة الإنكليزية، والتجربة الإسبانية.
ففي لندن (1952 – 1955) تعلم فيها اللغة الإنكليزية أثناء عمله في السفارة السورية في لندن، ووجد نزار فيها لغة اقتصاد وتقنين وظهرت تأثيراتها على مجموعته (قصائد) وما صدر بعدها من مجموعات مثل (حبيبتي) و(الرسم بالكلمات) كانت تأثيرات هامة تتعلق بمنطق اللغة، وطريقة التعامل معها. أما قصيدته "خبز وحشيش وخمر" فكان قد نشرها في مجموعته "قصائد" وقصيدته هذه كان لها دوي في العالم العربي لتعرّضها لبعض الوقائع الدينية. وكان قد كتبها في لندن عام 1954، وناقشها البرلمان السوري حينذاك حيث طالب رجال الدين بمحاكمة الشاعر وطرده من السلك الدبلوماسي.
وأمضى نزار في الصين فترة (1958 – 1960) وكان مأخوذاً فيها بروعة معجزتها التي استطاعت أن تحرر ألف مليون إنسان، من مخالب المرض والجوع والأفيون والاستعمار. وفي هذا يقول نزار: "ولكي أكون منصفاً ومتجرداً أقول: إن الذي يريد أن يفهم الصين عليه أن يتخلى عن كل أفكاره السابقة، ويناقش الأمور بالمنطق الصيني.. لا بمنطقه هو.. وعندئذ يجد الصين على حق في كل ما تقوله وما تفعله.. لأن نكهة الاستعمار الذي جعل الصينيين بمرتبة القطط والكلاب.. لا تزال تحت لسانها.."
وبعدها كانت تجربته في إسبانيا (1962 – 1966) وتعلم فيها اللغة الإسبانية ووجد فيها لغة ماء ونار. وهكذا عشق نزار إسبانيا ولغتها. وآثار هذه التجربة ظهرت في قصائده (أوراق إسبانية) ضمن مجموعته (الرسم بالكلمات) التي صدرت عام 1966.
ونزار يقول: "ليس شعر رفائيل ألبرتي، وغارثيا لوركا، ولوحة (غيرنيكا) لبيكاسو سوى شهادة خطيرة على تعايش الماء والنار في الفن الإسباني".
وكذلك يقول نزار عن تجربته في إسبانيا: "السفر إلى الأندلس، سفر في غابة من الدمع. وما من مرة ذهبت فيها إلى غرناطة، ونزلت في فندق (الحمراء) إلا ونامت معي دمشق على مخدتي الأندلسية.."
ونزار يقول عن إسبانيا: "إسبانيا هي أرض الانفعال، والتوتر، ولا يمكن لأي إنسان يمر بها أو يسكنها أن يبقى محايداً.
الحياد في إسبانيا كلمة لا معنى لها.. فبمجرد أن تخترق حدود البيرنيه.. أو تنزل على شواطئ برشلونه أو فالنسيا.. تصبح طرفاً في اللعبة المثيرة.. وتتحول في دقائق إلى شجرة من أشجار الغابة المحترقة.
ولأن همنغواي كان يعرف أن حياد الأشياء موت لها، ولأن أميركا لم تعد تستطيع أن تقدم له الإطار الانفعالي الذي يبحث عنه ككاتب روائي، ولأن حضارة الإسمنت والهمبورغر، والأطعمة المثلجة، أفقدته حرارة الحياة ورومانتيكيتها.. حمل دفاتره وذهب إلى إسبانيا ليموت على طريقة الثيران الإسبانية.. بمنتهى البطولة والجمال".
استمر نزار في عمله الدبلوماسي واحداً وعشرين عاماً إلى أن قدم استقالته من عمله الدبلوماسي في ربيع عام 1966، وأسس في بيروت داراً للنشر تحمل اسمه، وتفرغ للشعر، وهكذا أصبح لبنان وطناً ثانياً له ولكلماته.
كان نزار قد تزوج امرأة من عائلته التي كانت كنيتها (أقبيق) ويُحكى أن الكنية تركية الأصل، ومعناها "ذو الشوارب البيض" وكانت قد أُطلِقَت على جد العائلة في القرن الخامس عشر، وهو متصوف مشهور.. هذا وقد هاجر فرع من العائلة إلى دمشق في القرن 18 الميلادي، وبقي بها إلى اليوم.
زوجة نزار الأولى كانت تنتمي لهذه العائلة وتدعى (زهرة) وأنجب منها "هدباء" و"توفيق" و"زهراء". وكانت وفاة ابنه توفيق وهو في الثالثة والعشرين من عمره عندما كان يدرس الطب في القاهرة أثر أزمة قلبية، وقد رثاه نزار في قصيدة "إلى الأمير الدمشقي توفيق قباني" قائلاً فيها:
مكسرة كجفون أبيك هي الكلمات
ومقصوصة كجناح أبيك هي المفردات
ماذا سأكتب يا ابني.. وموتك ألغى كل اللغات
بعد طلاقه من "زهرة"، تزوج نزار للمرة الثانية، من "بلقيس الراوي" العراقية..
أما زواجه من بلقيس الراوي فقصته التالية: كان اللقاء الأول في آذار عام 1962 حين استدعته العراق، لتقديم أمسية شعرية في حديقة كلية التربية ببغداد وقدم فيها أروع قصائده، وتقول بلقيس عن هذا اللقاء: "التقيت بنزار أول مرة عام 1962، عندما كان يقوم بزيارة لبغداد، كان لقاؤنا الأول في سامراء حيث اجتمعنا في دعوة غداء، وهناك قال لي نزار يا بلقيس هل تقبليني زوجاً، عندها شعرت بحب جارف له".
وحين تقدم نزار بطلب يدها من أسرتها العراقية الملتزمة بالتقاليد الموروثة، فإن قصائده الغزلية كانت سبباً لرفضه.. وحين عاد إلى بغداد في نيسان 1969 وذلك بدعوة رسمية للاشتراك في مهرجان المربد الشعري والذي عُقِدَ بقاعة الخلد في بغداد، ونقلته أجهزة الإعلام في العراق مباشرة على التلفزيون والإذاعة، حيث ألقى نزار قصيدته "إفادة في محكمة شعرية"، وبعد أيام تزوج نزار من بلقيس، ليستقرا معاً في بيروت، حيث رُزِقَ زينب وعمر.
وعن تجربته في النشر في لبنان فقد نشر نزار "من أوراقي المجهولة" معاناته مع أغلبية الناشرين اللبنانيين في تلك الفترة، والذين كانوا يشكلون عصابات أشبه بالمافيات تعمل على تزوير كتبه. كتب: "وربما كانت المرة الوحيدة التي انتصر فيها كتاب عربي على مزوري كتبه، هي المرة التي تدخلت فيها قوات الردع السورية عام 1976، بناء على شكوى رسمية تقدمتُ بها إلى قيادة قوات الردع لترفع عني سيف ميليشيات التزوير، باعتبار أن (الأمن الثقافي) لا ينفصل عن الأمن العسكري الذي أخذت قوات الردع السورية على عاتقها تثبيته في بدايات الحرب الأهلية.
لقد اعتبر الأخوة السوريون آنئذٍ أن العدوان على كتبي، هو عدوان على تراث ثقافي عربي – سوري، فتحركوا فوراً لإنقاذ أعمالي الشعرية من مخالب المزورين، وحاصروا أوكارهم، ومطابعهم، ومستودعاتهم، وصادروا أهرامات من الكتب المزورة، وأرغموا الفاعلين على دفع جميع حقوق التأليف المسروقة.
هذه حادثة من حوادث الردع الثقافي، لا بد لي من ذكرها في هذه السيرة الذاتية، كنموذج لسلطة تدافع عن ثقافتها ومثقفيها.
ويا ليت الدول العربية الأخرى، التي تسلّلت إليها جرثومة التزوير حتى وصلت إلى كراسي المسؤولين عن شؤون الثقافة والإعلام، تقتدي بهذا الموقف السوري الحضاري الكبير وتتحرك لحماية آلاف المبدعين العرب من أسنان أسماك القرش التي لم تجد حتى الآن من يردعها ويقتلع أسنانها المتوحشة.
إن السلطة الحقيقية هي التي تدافع عن مثقفيها.
لا تلك التي تبيعهم في المزاد العلني..
هي السلطة التي تضع الكتاب في قائمة الكتب المقدسة..
لا في صناديق النفايات!!.."
وفي 15/كانون أول/ عام 1981 قامت إسرائيل بتفجير مبنى السفارة العراقية في بيروت، حيث قُتِلَت بلقيس. وفي هذا يقول نزار: "ما كان يمكن أن تموت بلقيس بهذه الصورة، بلقيس لم تكن امرأة عادية، كنت في مكتبي بشارع الحمرا، حين سمعت صوت انفجار زلزلني من الوريد إلى الوريد. ولا أدري كيف نطقت ساعتها: يا ساتر يا رب، بعدها جاء من ينعي إلي الخبر، السفارة العراقية.. نسفوها، أحسست أن بلقيس راحت، سوف تحتجب عن الحياة إلى الأبد، وتتركني في بيروت ومن حولي بقاياها، كانت بلقيس واحة حياتي وهويتي وأقلامي. ولم يتعرف أحد على بلقيس بين الضحايا إلا من خاتم الزواج في يدها اليسرى، لأن التشويه كان قد أصاب ملامحها الجسدية بصورة قاسية.."
وعلى أثرها كتب مرثيته الشهيرة "قصيدة بلقيس" يقول نزار في مطلعها:
شكراً لكم
شكراً لكم
فحبيبتي قُتِلَت.. وصار بوسعكم
أن تشربوا كأساً على قبر الشهيده
وقصيدتي اغتيلت
وهل من أمة في الأرض
إلا نحن تغتال القصيده؟
بلقيس..
كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل
بلقيس..
كانت أطول النخلات في أرض العراق
كانت إذا تمشي..
ترافقها طواويس
وتتبعها أيائل
...
فيما بعد، اضطرته ظروف الحرب اللبنانية إلى مغادرة بيروت عام 1982، وتنقل بين باريس وجنيف، حتى استقر به المقام في لندن التي قضى بها الأعوام الخمسة عشر الأخيرة من حياته وحيداً ذلك أنه كان قد رفض أن يتزوج بعد وفاة بلقيس. ومن لندن كان نزار يكتب أشعاره ويثير المعارك والجدل.. خاصة قصائده السياسية خلال فترة التسعينات، مثل: "متى يعلنون وفاة العرب؟" و"المهرولون".
ومن الجدير بالذكر أن الشعر السياسي عند نزار ظهر بزخمه على أثر هزيمة حزيران عام 1967، وكانت قصيدته (هوامش على دفتر النكسة) احتجاجاً ومعارضة على الوضع العربي الذي قاد إلى هذه الهزيمة. يقول فيها:
أنعي لكم، يا أصدقائي، اللغة القديمه..
والكتب القديمه..
أنعي لكم:
كلامنا المثقوب كالأحذية القديمه..
ومفردات العهر، والهجاء، والشتيمه..
أنعي لكم..
أنعي لكم..
نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمه
ـ 2 ـ
مالحةٌ في فمنا القصائد..
مالحةٌ ضفائر النساء..
والليلُ، والأستارُ، والمقاعد..
مالحةٌ أمامنا الأشياء..
ـ 3 ـ
يا وطني الحزين..
حولتني بلحظةٍ..
من شاعر يكتب شعر الحب والحنين
لشاعر يكتب بالسكين..
ـ 4 ـ
لأن ما نحسه أكبر من أوراقنا..
لابد أن نخجل من أشعارنا..
..
كان قد نشر القصيدة أول ما نشر في مجلة (الآداب) اللبنانية، ومن هنا بدأ يمتزج عشق نزار، وايروسيّته بغضبه الداخلي الذي أججته معاناة الوطن العربي، واستعر على أثر هزيمة حزيران. وفي قصيدته الحزيرانية يقول نزار: "كنتُ أول من طبق الطريقة البوذية في حرق نفسه في منتصف الشارع. مطلوب من كل الأدباء العرب أن يُحرِقوا أنفسهم على الطريقة البوذية في الساحات العامة.. فمنذ عصور طويلة لم تطهِّر النيران أدبنا وأدباءنا".
"من منا استُشهِد على بياض ورقة.. سقط على بياض ورقة.. على طريقة الحلاج أو سقراط أو لوركا.."
"كانت قصائدنا موظفة عند الحكومة.. تأكل.. وتشرب.. وتقبض مرتّبها.. وتدعو للسلطان بطول العمر.."
وهكذا حين جاء حزيران لم يجد بين يديه إلا أدباً مترهِّلاً.. كثير الشحم، يلبس جبته ويركض خلف الولائم والجنائز.."
إذن، كان قد استقر المقام لنزار في لندن حيث تابع شعره السياسي، وفي أواخر عام 1997 داهمته أزمة قلبية نجا منها بأعجوبة دخل على أثرها غرفة الإنعاش في مستشفى سان توماس بلندن. كانت هذه الأزمة القلبية على حد قوله استفتاء عظيماً لشعره..
يقول: "عندما فتحت عيني في غرفة الإنعاش في مستشفى سان توماس في لندن بعد الأزمة القلبية الخطيرة التي أصابتني لم أصدق ما تراه عيني.. فقد كان الوطن العربي كله جالساً قرب سريري يذرف الدموع ويتضرع إلى الله كي يعيد إلى قلبي السلامة والعافية.. ويشهد الله أن ما لقيته من عشق الناس كان فوق ما أتوقع وأن أمطار الحنان التي تساقطت على سريري اللندني لم تكن مجرد نهر صغير بل طوفاناً حملني على ذراعيه وأوصلني إلى شاطئ السلامة.."
وفي 30 /نيسان (ابريل)/ 1998 وافته المنية عن عمر يناهز 75 عاماً أثر أزمة قلبية ثانية داهمته، ولم تمهله طويلاً، ولفظ الشاعر أنفاسه الأخيرة بين يدي ابنتيه هدباء، وزينب. وكانت وصيته: "أرغب أن ينقل جثماني بعد وفاتي إلى دمشق وأدفن في مقبرة الأهل.. لأن دمشق هي الرحم الذي علمني الشعر وعلمني الإبداع وأهداني أبجدية الياسمين.. هكذا يعود الطائر إلى بيته والطفل إلى صدر أمه".
وفي هذا يذكر الكاتب شمس الدين العجلاني عن نزار وهو يقول:
أعود إلى دمشق
ممتطياً صهوة سحابه
ممتطياً أجمل حصانين في الدنيا
حصان العشق
وحصان الشعر
أعود بعد ستين عاماً
لأبحث عن حبل مشيمتي
وعن الحلاق الدمشقي الذي ختنني
ويذكر الكاتب شمس الدين العجلاني: "يعود الشاعر إلى دمشق ملفوفاً بالعلم السوري بعد أن وافته المنية في منزله بلندن عن عمر يناهز 75 عاماً"
"لم تكن جنازة تلك التي عبرت شوارع دمشق، بل قافلة أكف وأفئدة وعيون تحتضن جثمان شاعرها الكبير وتهتف (زيّنو المرجة.. والمرجة لنا)."
الجوائز والأوسمة العالمية التي نالها:
1) وسام الاستحقاق الثقافي الإسباني عام 1964 – مدريد، تقديراً لما فعله الشاعر لمد الجسور الثقافية بين العرب وإسبانيا.
2) جائزة جبران العالمية – قدمتها للشاعر رابطة إحياء التراث العربي – سيدني، أوستراليا.
3) وسام الغار – من النادي السوري الأميركي في بلدية واشنطن D.C 27 أيار (مايو) 1994.
4) ميدالية التقدير الثقافي – الجمعية الطبية العربية الأميركية، لجنة الثقافة والتراث، كليفلاند، حزيران (يونيو) 1994.
5) عضوية شرف في جمعية متخرجي الجامعة الأميركية في بيروت ودرع الجمعية، 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 1995.
6) جائزة سلطان بن علي العويس للإنجاز العلمي والثقافي، دبي، 24 آذار (مارس) 1994.
أعماله:
المجلد الأول (الأعمال الشعرية الكاملة)
1) قالت لي السمراء 1944 شعر
2) طفولة نهد 1948 شعر
3) سامبا 1949 شعر
4) أنتِ لي 1950 شعر
5) قصائد 1956 شعر
6) حبيبتي 1961 شعر
7) الرسم بالكلمات 1966 شعر
8) يوميات امرأة لا مبالية 1968 شعر
9) قصائد متوحشة 1970 شعر
10) كتاب الحب 1970 شعر
المجلد الثاني
11) أشعار خارجة على القانون 1972 شعر
12) أحبكِ.. أحبكِ والبقية تأتي 1978 شعر
13) إلى بيروت الأنثى مع حبي 1978 شعر
14) 100 رسالة حب 1970 نثر
15) كل عام وأنتِ حبيبتي 1978 شعر
16) أشهد أن لا امرأة إلا أنتِ 1979 شعر
17) هكذا أكتب تاريخ النساء 1981 شعر
المجلد الثالث (الأعمال السياسية الكاملة) قصائد
المجلد الرابع (الأعمال الشعرية الكاملة)
18) قصيدة بلقيس 1982 شعر
19) الحب لا يقف على الضوء الأحمر 1985 شعر
20) سيبقى الحب سيدي 1987 شعر
المجلد الخامس (الأعمال الشعرية الكاملة)
21) الأوراق السرية لعاشق قرمطي 1988 شعر
22) لا غالب إلا الحب 1990 شعر
23) هل تسمعين صهيل أحزاني 1991 (سيرة ذاتية قصيرة وشعر)
المجلد السادس (الأعمال السياسية الكاملة)
24) قصائد مغضوب عليها 1986 شعر
25) تزوجتك أيتها الحرية 1988 شعر
26) الكبريت في يدي ودويلاتكم من ورق 1989 شعر
27) هوامش على الهوامش 1991 شعر
المجلد السابع (الأعمال النثرية الكاملة)
28) الشعر قنديل أخضر 1963 نثر
29) قصتي مع الشعر 1970 نثر
30) عن الشعر والجنس والثورة 1971 نثر
31) المرأة في شعري وفي حياتي 1975 نثر
المجلد الثامن (الأعمال النثرية الكاملة)
32) ما هو الشعر 1981 (دراسة وحوارات)
33) العصافير لا تطلب تأشيرة دخول 1983 (افتتاحيات لأماسي شعرية)
34) لعبت بإتقان وها هي مفاتيحي 1990 (حوارات)
35) جمهورية جنونستان 1998 (مسرحية)
36) بيروت.. حرية لا تشيخ (نص، بيروت 7/كانون أول(ديسمبر)/1992)
بعد نشر الأعمال الكاملة صدر له:
1) أنا رجل واحد وأنت قبيلة من النساء
2) قاموس العاشقين
3) خمسون عاماً في مديح النساء
4) متى يعلنون وفاة العرب 1994
5) تنويعات نزارية على مقام العشق 1996
6) دمشق ونزار قباني
أدبه وتأثيره على مسيرة الأدب:
يعتبر الشاعر شوقي بزيع أن أدب نزار "أقرب إلى المدرسة الرمزية منه إلى السُريالية، ولو أن شعره لا يخضع لتصنيف محدد ولا يندرج تحت مدرسة بعينها. إنه قبل كل شيء شعر حرية وتعدد وتنوع: فيه جمالية الرمزية وهندستها، وفيه صفاء الرومانسية ورقتها الغنائية، وفيه سعي الواقعية نحو الالتزام بقضايا الإنسان وهمومه المباشرة."
وفي الحقيقة هذا كله يتضح في سر انتشار شعر نزار السريع، ورواج نتاجه، مما جعله ظاهرة شعبية لم يعرفها الشعر العربي منذ عهود طويلة.
وليس غريباً أن يُعتبَر نزار أمير الشعر الغنائي على مدى أربعين عاماً، وكان المطربون الكبار يتسابقون للحصول على قصائد نزار بدءاً من أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ونجاة، مروراً بفايزة أحمد وفيروز وماجدة الرومي، وانتهاء بكاظم الساهر وأصالة نصري.
كما أن لتركيب القصيدة النزارية الفضل الأكبر في شعبيتها وحفظها وسرعة هضمها من قبل القارئ والمستمع. ومثال على ذلك نقرأ من "قصيدة حزن" (الرسم بالكلمات) 1966:
علّمني حبكِ، سيدتي، أسوأ عادات
علّمني أفتح فنجاني في الليلة، آلاف المرات
وأجرّب طب العطارين.. وأطرق باب العرافات
علّمني.. أخرج من بيتي.. لأمشط أرصفة الطرقات
وأطارد وجهك في الأمطار.. وفي أضواء السيارات
وأطارد ثوبك.. في أثواب المجهولات
وأطارد طيفك.. حتى.. حتى.. في أوراق الإعلانات
علّمني حبك.. كيف أهيم على وجهي ساعات
بحثاً عن شعر عجري.. تحسده كل الغجريات
بحثاً عن وجه.. عن صوت.. هو كل الأوجه والأصوات
..
علّمني حبك أشياء.. ما كانت أبداً في الحسبان
فقرأت أقاصيص الأطفال.. دخلت قصور الجان
وحلمت بأن تتزوجني بنت السلطان
تلك العيناها أصفى من ماء الخلجان
تلك الشفتاها أشهى من زهر الرمان
وحلمت بأني أهديها أطواق اللؤلؤ والمرجان
علّمني حبكِ، يا سيدتي، ما الهذيان
علمني كيف يمر العمر، ولا تأتي بنت السلطان
لغته الشعرية
يسمي نزار اللغة التي استعملها في أدبه اللغة الثالثة وهي الجسر بين اللغة البلاغية المتعجرفة من جهة واللغة العامية المتواضعة من جهة أخرى. وفي هذا يقول: "هذه الازدواجية اللغوية التي لم تكن تعانيها بقية اللغات، كانت تشطر أفكارنا وأحاسيسنا وحياتنا نصفين.."
"لذلك كان لا بد من فعل شيء لإنهاء حالة الغربة التي كنا نعانيها. وكان الحل هو اعتماد (لغة ثالثة) تأخذ من اللغة الأكاديمية منطقها وحكمتها، ورصانتها، ومن اللغة العامية حرارتها، وشجاعتها، وفتوحاتها الجريئة."
"إن (اللغة الثالثة) تحاول أن تجعل القاموس في خدمة الحياة والإنسان، وتبذل ما بوسعها لتجعل درس اللغة العربية في مدارسنا مكان نزهة.. لا ساحة تعذيب. تحاول أن تعيد الثقة المفقودة بين كلامنا الملفوظ، وكلامنا المكتوب، وتنهي حالة التناقض بين أصواتنا وبين حناجرنا."
"كانت لغة الشعر متعالية، بيروقراطية، بروتوكولية، لا تصافح الناس إلا بالقفازات البيضاء، ولا تستقبلهم إلا .. وربطة العنق الداكنة.. وكل ما فعلته أنني أقنعت الشعر أن يتخلى عن أرستقراطيته ويلبس القمصان الصيفية المشجّرة.. وينزل إلى الشارع ليلعب مع أولاد الحارة.. ويضحك معهم، ويبكي معهم.."
وفي هذا نسمع رأي الشاعر أدونيس يقول: "كان منذ بداياته الأكثر براعة بين معاصريه من الشعراء العرب، في الإمساك باللحظة التي تمسك بهموم الناس وشواغلهم الضاغطة: من أكثرها بساطة، وبخاصة تلك المكبوتة والمهمشة، إلى أكثرها إيغالاً في الحلم وفي الحق بحياة أفضل. وفي هذا تأسست نواة الإعجاب به، ذلك الإعجاب التلقائي الذي تجمع عليه الأطراف كلها. ابتكر نزار قباني تقنية لغوية وكتابية خاصة، تحتضن مفردات الحياة اليومية بتنوعها ونضارتها، وتشيع فيها النسيم الشعري، صانعاً منها قاموساً يتصالح فيه الفصيح والدارج، القديم والحديث، الشفوي والكتابي".
شعر التفعيلة:
يقسم الأستاذ برهان بخاري التراث الشعري لنزار قباني من الناحية العروضية إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول وهو ما كتبه متقيداً بشروط القصيدة التقليدية، والقسم الثاني: هو ما خالف فيه شروط القصيدة التقليدية بتغيير حرف القافية فقط داخل القصيدة الواحدة، أما القسم الثالث: فهو الذي تحرر فيه من شروط القصيدة التقليدية بما في ذلك التحرر من الالتزام بالصدر والعجز في البيت الواحد، وحافظ فيه على تفعيلة بحر معين ضمن القصيدة الواحدة.
وفي دراسته يقول: "يكشف لنا التحليل المعمق أن عملية انفلات الشعر الحديث أو تحرره من أسر قيود القديم قد جرى في حدود البحور التي تستخدم تفعيلة متتابعة واحدة فقط [الكامل (متفاعلن)، الرجز (مستفعلن)، الهزج (مفاعيلن)، الرمل (فاعلاتن)، المتقارب (فعولن)، المتدارك (فعلن)]. والسبب في ذلك هو إمكانية التصرف بعدد التفعيلات في البيت الواحد وإمكانية استخدام قوافٍ متنوعة في القصيدة الواحدة، الأمر الذي أدى إلى نشوء مصطلح "شعر التفعيلة" على الشعر الحديث، والذي لا يمكن توفره إلا في هذه البحور تحديداً."
ومن جهتها الأستاذة مؤمنات الشامي تخلص في دراستها إلى "أن نزار قباني يُعدُّ من أنصار شعر التفعيلة المجددين فيه والذي احتل أغلب الديوان تقريباً طابعاً أشعاره بإيقاع سلس، رشيق، وسريع، وتشير الدراسة إلى أن حركة الشعر الحر بدأت سنة 1947 في العراق، ومن العراق زحفت هذه الحركة، وامتدت حتى غمرت الوطن العربي كله. وكانت "نازك الملائكة" و"بدر شاكر السياب" و"البياتي" أوائل من كتبوا هذا اللون من الشعر. أما نزار فقد كتب في الشعر الحر سنة 1944 قصيدته (اندفاع)، وهذا يدل على أن نزاراً لم يتأخر عن رعيله الأول في كتابته القصيدة الحرة، التي استمر في كتابتها إلى مرحلة التسعينات والتي اعتمدها في نظمه، أما الشكل التقليدي فقد بدأه من مرحلة الأربعينات واستمر فيه إلى مرحلة الثمانينات.
أما الأوزان التي تناولت الغرض السياسي فهي على الأغلب أوزان بسيطة صافية ذات معان جليلة، وجرس عالٍ فيها نوع من الأبهة والفخامة والجدية، وتتناسب والأغراض التي وظِّفت لها، ولاسيما تصوير الواقع السياسي."
الإيقاع:
يصف جوزيف كامبل مصطلح "الإبيفاني" الذي أطلقه الروائي جيمس جويس، فيقول: "معادلة جويس حول التجربة الجمالية تعتمد على أنه لا شيء يحركك من أجل أن ترغب في امتلاك الموضوع الجمالي. فالعمل الفني الذي يثير فيك الرغبة لامتلاك الموضوع يطلق عليه جويس صفة الابتذال، وفي حال دفعتك التجربة الجمالية إلى نقد الموضوع أو إلى رفضه، فإن جويس يسمي ذلك الفن تعليماً، أو نقداً سوسيولوجياً بواسطة الفن. أما التجربة الجمالية بحد ذاتها فهي إلقاء نظرة بسيطة على الموضوع. جويس يقول بأنك تصنع إطاراً من حوله ومن ثم تراه كشيء واحد، وفي رؤيته كشيء واحد تصبح مدركاً لعلاقة الجزء بالجزء، وعلاقة كل جزء بالكل، ومن ثم علاقة الكل بكل جزء من أجزائه، وهذا هو العامل الجمالي الجوهري، الإيقاع، الإيقاع المتناغم للعلاقات. وعندما يقدح أوار إيقاع سعيد من قبل الفنان، فمعنى ذلك أنك تختبر شعاع النور. عندها تكون محجوزاً في معتقل جمالي. وتلك هي الإبيفاني."
وهذا لا شك ينطبق على العمل الإبداعي للشاعر أيضاً، وربما هي دعوة لـ"الإبيفاني" في قراءة القصيدة النزارية.
وكذلك لا يغرب عن بالنا محور أساسي عبرت عنه "الإبيفاني" هو الإيقاع الذي يعكس العنصر الجمالي في العمل الإبداعي من خلال العلاقات المتبادلة، وهذا ما نلمحه في الطبيعة من دوران الأفلاك، وتعاقب الليل والنهار، وحركة الفصول، وكذلك في الجسد الإنساني كإيقاع التنفس، ونبض القلب، ومن ثم في فنون مختلفة كالرقص والموسيقا وأخيراً الشعر.
وفي رسالتها للماجستير تقول الأستاذة مؤمنات الشامي: "تحدد الإيقاع الشعري للقصيدة العربية المعاصرة والقديمة في مستويين: المستوى الصوتي الخارجي، ويحكمه الوزن والقافية، والمستوى الداخلي الذي تحكمه ضوابط صوتية باطنية أرحب من الوزن والنظام المجردين."
"ومن هنا برزت أهمية الموسيقا الداخلية التعبيرية، التي تستخدم أدواتها الفنية فتخلق من خلالها حالات من الإيحاء تعبر عنها الألفاظ التي تُستخدَم كوظيفة دلالية ونفسية تسبر مكونات الشاعر وأغواره النفسية، محدثة تأثيراً في ذائقة المتلقي."
"وبذلك يتجاوز الإيقاع في اللغة الشعرية المظاهر الخارجية للنغم إلى الأسرار التي تصل بين النفس والكلمة وبين الإنسان والحياة."
"والموسيقى الداخلية ذات جانبين مهمين: اختيار الكلمات وترتيبها، والمواءمة بين الكلمات والمعاني التي تدل عليها."
يقول نزار: "كانت تستولي علي حالة موسيقية تدفعني في أكثر الأحيان إلى أن أغني شعري بصوت عالٍ. وكانت حروف الأبجدية تمتد أمامي كالأوتار، والكلمات تتموج حدائق من الإيقاعات، وكنت أجلس أمام أوراقي كما يجلس العازف أمام البيانو أفكر بالنغم، قبل أن أفكر بمعناه، وأركض وراء رنين الكلمات".
"وبناء على هذا فإن النغم جزء لا يتجزأ من التجربة الشعرية، إذ لا يمكن فصله عن الألفاظ وهو جزء متمم لمعنى القصيدة."
"وعلى هذا الأساس لا يتكامل الإيقاع التركيبي للقصيدة المعاصرة إلا بالتناغم الخارجي المؤسس على هذا الوزن والقافية، والتناغم الداخلي القائم على التموجات النفسية والتوترات الانفعالية التي تمنح لنا موسيقى تعبيرية. وبذلك يتآلف الإيقاع مع نمو القصيدة في أثناء بنائهما الفني عبر شبكة من العلاقات التي تضعها الحروف والكلمات، والجمل، إضافة إلى المحسنات اللفظية، من جناس وطباق، وأمور أخرى كالتكرار والتقسيم والموازنة فتسهم جميعها في خلق موسيقى داخلية تكون عنصراً مميزاً في البناء الشعري للنص الشعري العربي."
"ولكل نص شعري إيقاع يصدر عن الحالة النفسية الشعورية التي تسيطر على جو القصيدة العام، خالقاً بذلك صورة موسيقية، تنقل المعنى إلى وجدان المتلقي."
ومثال ذلك قصيدة "جميلة بوحَيْرَدْ" ومنها:
"وامرأةٌ في ضوء الصبحِ
تسترجع في مثل البوحِ
آياتٍ مُحزِنَةَ الإرنانْ
في سورةِ "مريم..
والفتحِ"
..
..
القيد يعض على القدمين
وسجائر تُطفأ في النهدين
ودمٌ في الأنف..
وفي الشفتين..
جراح جميلة بوحَيْرَدْ
هي والتحرير على موعدْ
امرأةٌ دوَّخت الشمس
جرحت أبعاد الأبعادِ
ثائرةٌ من جبل الأطلسْ
يذكرها زَهْرُ الكُبَّادِ.."
كما يأتي التوازن الإيقاعي الذي يتولد عن انفعالية البنية النصية، والفعاليات الدلالية التي تحقق تلك الانفعالات، لتخلق نوعاً من التناغم العضوي، والانسجام بين النص والمتلقي، ولاسيما على المستوى الدلالي كما نرى في قصيدة "بلقيس" تفعيلة "الكامل".
عالمية أدبه:
يقول نزار: "إنني في شعري أحمل جنسيات العالم كله.. وأنتمي لدولة واحدة، هي دولة الإنسان".
لشعر نزار ترجمات للإنكليزية، والفرنسية، والإسبانية، والإيطالية، والروسية.
وقد قام المستشرق الإسباني بدرو مارتينز مونتافث بترجمة مختارات من شعر نزار إلى اللغة الإسبانية، وقد صدرت هذه المختارات عن المعهد الثقافي الإسباني العربي تحت عنوان (أشعار حب عربية). ويقول نزار بهذا الصدد: "الواقع كنت مبهوراً بقدرة اللغة الإسبانية على نقل انفعالاتي وهواجسي بمثل هذه الدقة والصفاء. بل لا أكون مبالغاً إذا قلت إن النص الإسباني لبعض القصائد كان يتفوق في جماليته وموسيقيته على النص العربي.."
أما عن الترجمة الروسية الأخيرة لمجموعة منتخبة من قصائد نزار من مختلف دواوينه، يذكر د. فالح الحمراني: "تضمن ديوان نزار بالروسية قصائد مثل: جسمك خارطتي، وبيروت حبيبتي، ومدرسة الحب، ورسالة من تحت الماء، وقارئة الفنجان، وقولي أحبك، ونهر الأحزان، وأيظن، وخبز وحشيش وخمر، وأشهد ألا امرأة إلا أنت، واختاري، وحارقة روما، وقصائد حب قصيرة جداً.."
وأدرج المستشرق الروسي دياكونوف الشاعر نزار قباني ضمن كوكبة الشعراب العرب المشهورين الذين أسسوا لانطلاقة الشعر الحديث ووضع مفهوم حديث للقصيدة العربية بعيداً عن المفهوم الكلاسيكي لها.
كما أن دياكونوف يعقد مقارنة بين ما جاء في قصيدة "خبز وحشيش وخمر" من أفكار، وطروحات المفكر الروسي التنويري الكبير بيتر تشادايف (1756 – 1794)، كما يذكر انعكاس هذه الأفكار أكثر في قصيدة "هوامش على دفتر النكسة" التي كُرِّسَت لهزيمة العرب في الحرب مع إسرائيل عام 1967.
الملامح الإبداعية الأساسية في أدب نزار:
أفروديت في أدب نزار
تُعرَف أفروديت على أنها إلهة الحب والجمال البشريين عند اليونان. إلا أن أفروديت الكونية قد أسماها القدماء أورانيا، أو إلهة السماء. وهكذا فمن خلال هذه الشخصية الكونية نتواصل مع الجمال الذي يملأ الطبيعة والكون ويتجسد في المرأة.
إن حضور أفروديت في العالم وثورتها تحدث مع الانقلاب الربيعي، حيث الربيع هو فصل الحب والجمال، فصل الشباب، وليس غريباً أن تكون ولادة عبقرية شعرية نزارية متزامنة مع هذا الانقلاب، فأتت صرخة من الأعماق لتعيد أفروديت إلى عرشها المفقود، لتذوق الجمال والإحساس به.
إلا أن أفروديت لها سرها الخاص فهي إلهة الجمال من جهة والغواية والإغراء من جهة أخرى. كيف لنا أن نفهم هذه الازدواجية؟!..
إن فينوس – وهي نفسها أفروديت ولكن في الثقافة الرومانية – تستطيع أن تقدّم لنا الإجابة عن هذه الازدواجية، فهي نجمة المساء، التي ترمز للجانب الإغوائي، وهي نجمة الصباح التي ترمز للجانب التأملي.
عندما تختفي نجمة الصباح من حياتنا، يبقى جانب واحد وهو نجمة المساء حيث يهيمن الجانب الإغوائي، وهنا تظهر أفروديت مشوّهة، حيث تتكاثف شحنتها الإلهية في البورنو، والبورنو Porne كلمة يونانية تعني عاهرة، وكانت تُستخدَم كلقب يطلق على الإلهة العظيمة أفروديت، إلا أن البورنو قد يكون بدوره دعوة لتنشيط وإحياء نجمة الصباح في حياتنا!!
وهذا ما يعبّر عنه الروائي جوليان غرين في مذكرات طفولته وحداثته التي نُشِرَت بعنوان "الانطلاق قبل طلوع النهار"، ويروي لنا كوستي بندلي كيف أن الروائي كان ينفّس عن نزعته الجنسية المكبوتة بتأثير تربية قاسية، بانصرافه إلى رسم أجساد عارية. كانت هذه الرسوم تدخله في حالات من الانخطاف يغيب أثناءها عما حوله، وتغذي فيه رغبات، لم يكن يدرك عند ذاك ماهيتها، ولكنها، كما يقول: "رغبات كان محكوماً عليها أن تبقى غير مشبعة لأنها كانت تتجاوز الإمكانات البشرية".
كتب الأديب جبرا ابراهيم جبرا: "مهما تكن العواطف أولية، فإن ثمة صورة شعرية لابد متحققة في مكان ما، على شكل غير متوقع يعود بنا إلى أصول تجارب الإنسان، وأنماطه العليا. الحب، أو الإثارة الجنسية التي يسببها، يلهب خيال الشاعر فيرى الحياة في سلسلة من "الأزواج" أو النظائر يعكس الواحد منها الآخر: الشيء والشيء المشبه به. الإنسان والطبيعة: شيء ومرآة، متبادلان. وذلك بالطبع هو سر الشعر، عندما تغدو الكلمة وسيلة للاتصال بظواهر الكون، والتوحد بالطبيعة في شتى حالاتها وغزاراتها."
كنموذج لما تحدثنا عنه نعرض قصيدة "إلى مضطجعة" التي يقول نزار فيها:
ويقال عن ساقيك إنهما في العري.. مزرعتان للفل
ويقال: أشرطة الحرير هما ويقال: أنبوبان من طل
ويقال: شلالان من ذهب في جورب كالصبح مبتل
*
هرب الرداء وراء ركبتها فنعمت في ماء.. وفي ظل
وركضت فوق الياسمين..فمن حقل ربيعي ... إلى حقل
فإذا المياه هناك باكية تصبو إلى دفء.. إلى وصل
*
يا ثوبها، ماذا لديك لنا؟ ما الثلج.. ما أنباؤه؟ قل لي
أنا تحت نافذة البريق.. على خيط غزير الضوء.. مخضلّ
لا تمنعي عني الثلوج.. ولا تخفي تثاؤب مئزر كحلي
إني ابن أخصب برهة وُجِدَت لا تزعجي ساقيك.. بل ظلي
1948 "طفولة نهد"
إن حضور أفروديت بازدواجيتها المتكاملة والرائعة، يشرحها لنا الدكتور محي الدين صبحي، يقول: "مشهد الساق الواقعية يثير فينا أحاسيس وغرائز، في حين أن مشهد الساق في لوحة أو في قصيدة يثير لدينا تداعيات صورية. لكن الشاعر رأى ساقاً طبيعية فثارت في نفسه تداعيات صورية، وإذن فالشاعر أو الفنان على العموم ينظر إلى الطبيعة على أنها فن وإلى الفن على أنه طبيعة.. فالتحريف في صورة الموجود الطبيعي تمليه الرغبة فيه، اشتهاؤه، من جهة، وزاوية النظر التي يسلّطها الشاعر عليه من جهة أخرى، فالشاعر حين نظر إلى الساق كان كأنه ينظر إلى حديقة فيها فل وطل وحرير وماء وظل وياسمين..
وهذه النظرة هي التي أسميناها موقف المتذوق. حيث يغلب عنصر التأمل على عنصر الرغبة..
وحتى التصريح بالرغبة حافظ على الطابع الفني في الحوار، أي احتفظ بالرؤية الأساسية في دمج جمال المرأة بجمال الطبيعة. وكان منسجماً مع هذا المستوى الرفيع من الإحساس في خاتمة القصيدة."
يقول د. محي الدين صبحي: ".. وبينما تحيل الأخلاق البورجوازية المرأة إلى جمال والجمال إلى متعة، والمتعة إلى تملك واستهلاك، يحيل المذهب الإنساني الشعري المرأة إلى حرية، والحرية إلى جمال، والجمال إلى تأمل وتذوق يؤديان إلى المزيد من الحرية".
إنما جمال أفروديت في شعر نزار ينعكس في تصويره لسحر العيون، ورقة الثغر، وانضفار الساق، وجماح النهد، واسترسال الشعر.. وهذا كله يمتلئ بسيل من الصور الشعرية الخالصة تدعو الحواس كلها لكي تمتلئ بهذا المهرجان من الجمال عبقاً ولحناً وإحساساً وذوقاً ورؤى..
أشياء أفروديت:
لاشك أن الإحساس بأفروديت تملأ العالم سحراً وجمالاً وفتنة لهو إحدى أهم مصادر السعادة للإنسان في هذه الحياة.
منذ أن يبدأ الطفل يقف على قدميه وينظر إلى قبة السماء في الليل تملؤها النجوم أو إلى زهرة أو حيوان أليف أو ينبوع يتدفق أو وجه يبتسم حتى يرتعش دهشة وفرحاً..!!
وحين ينضج الطفل ويصبح راشداً، فإن أفروديت تلبس اللحم والدم، فيرى روعة السماء والنجوم والعطر تنضح في جسد الآخر،.. لكنه، إن أساء فهم دعوة أفروديت له أو خشَيَها فحاول الهرب منها، أو حاول مقاومتها، فإن لها طريقتها في ملاحقته والانتقام منه، فلها القدرة مثلاً على أن تختفي في بعض أشيائها.. وحينئذ قد يصبح عبداً لهذه الأشياء.. وهذا ما قد حلله بإسهاب فرويد ودرسه محللون آخرون، وأشار إليه كولن ويلسن.. من الصعوبة بمكان أن نتهم شاعراً كبيراً، إن لم نقل ظاهرة شعرية في التعبير عن سحر أفروديت وجمالها وفتنتها، بأنه قد وقع عبداً لأشيائها، كما قد ظن بعض الدارسين والنقاد..!!
وبعبارة أخرى، قد عرف الشاعر بإحساسه المرهف أن أفروديت تقدس المرآة، ومتعة الظهور، ومواد التجميل، والأزياء، والزينة، والمجوهرات، والعطر،.. ومن هنا أتت كثير من قصائده على اختلاف مشاربها وصفاً لعالم أفروديت المترامي الأطراف.
وفي هذا السياق، يقول د. محي الدين صبحي: "إن الشعر الذي يتعرض لأشياء الجمال في نتاج نزار قباني يكاد يكون من أكثر نتاجه إبداعاً، على الرغم من أن الأنظار لم تلتفت إلى ما فيه من جدة وأصالة.
يقول مثلاً:
يتألق القرط الطويل بجيدها مثل الشموع بليلة الميلاد
أليس في هذه الصورة فرح وقدسية معاً.. بل وفيها أيضاً أضواء ذابلة، أضواء شموع تتمايل وتتراجف من الثمل والسهر.."
الايروس في أدب نزار:
من المعروف في الأساطير اليونانية أن أفروديت كانت أماً لـ(ايروس) و(انتيروس)، ومما لاشك فيه أن الحب (ايروس) وليد الجمال (أفروديت)، وهذا الحب (ايروس) الذي هو الرفيق الأزلي للجمال (أفروديت) هما سر الوجود وكنهه..
وكذلك تروي الأسطورة، أنه في عيد ميلاد أفروديت في السماء، تزوج ايروس من فتاة بشرية (بسيكه)، وهكذا فمن خلال الايروس يشترك الإنساني بالإلهي..
لسنا بصدد نقد مفكرين كبار يتعالون على الايروس، ويعتبرونه مجرد تحريض بيولوجي. ويصفونه أنه توق الأعضاء بعضها للبعض الآخر، ويعتبرون الشخص في الايروس غير هام.
وهم أيضاً يتعالون على مفهوم الليبيدو، وهو الطاقة الجنسية عند فرويد، وتمثل طاقة الايروس، ويصرحون أن الليبيدو هو نبض الحياة، وهو يأتي من القلب.
والقلب هو العضو الذي يفتح أبوابه من أجل استقبال شخص آخر، ويقولون أن هذه هي المعادلة الإنسانية في مقابل المعادلة الحيوانية التي لا تتعامل إلا مع المصلحة الذاتية.
ولعل للتواضع كلمة أخرى.. إن بذرة الحب تكمن في الايروس، ومن خلال الايروس يضرب الإنسان جذوراً في الأرض، تشكل له الدعامة والغذاء لنمو أغصانه وهي أجنحته في السماء.
ليس بوسعنا أن نتعالى على الايروس، فهو حيوية الكائن وسره، وهو بالتالي يروي القلب بزخمه، وبدونه ليس بوسع الإنسان أن يحب حباً حقيقياً..!!
لا بل بوسعه أي الايروس أن ينقل الإنسان إلى تخوم الكون، ويكشف له حقائقه وأسراره ويعلمه مزيداً من التواضع..
"الحب الحقيقي يحرر الذات من ضغط القوى الأخلاقية التي تقيم السدود في وجه عمليات إشباع الغرائز".
وهو"مشاركة فعالة تتم بين حريتين تمنح كل منهما نفسها للآخر بلا حساب".
كتب الأديب جبرا ابراهيم جبرا: "الحب هنا يجعل من كل رجل عاشقاً، ومن كل امرأة معشوقة، رغم ما يملأ الحياة من كل ما يحض الرجال والنساء على إغماض العين وتبليد الحس".
"الجنس في هذا الشعر لا يبقى نزوة في فراش: إنه ينبوع فرح يتفجر مع كل شمس، مع كل قمر، مع كل رفة عصفور، أو انحسار تنورة. والذي يرفعه إلى مرتبته الخاصة، هو جدية الشاعر، وشاعريته، اللتان تؤكدان على قواه الفائضة على الكون."
في تعليقه على "القصيدة المتوحشة" يقول د. محي الدين صبحي: "لاشك أن هنالك فرقاً شاسعاً بين الإنسان المتحرر من داخله بحيث يقدر على ممارسة كل فعالياته، والإنسان المستَعبَد لنمط واحد من أنماط السلوك المتكرر والممل بسبب تصلبه حسب القوالب التي وضعه فيها المجتمع.
.. إن الشاعر يرفض النموذج الذي تصلب حسب القوالب التي صبه فيها المجتمع، لأنه يرفض أصلاً هذا المجتمع ومثله القائمة على الكبت والمداورة والنفاق. وهو ينطلق من صدامه مع مثل المجتمع من قضية بسيطة، فالمجتمع يفرض على المرأة أن تكتم عواطفها فلا تبوح بها.. بل أن تكبت رغباتها فلا تمارسها ولا تسعى لإشباعها.. فالحب الصامت مرفوض لأنه يقوم على القهر والكبت.. الحب القديم المليء بالصمت والتأمل وليالي العذاب والوحشة ومناجاة العين للعين والخوف من الرقيب والعاذل والحسود.. أسلوب بال من أساليب الحب يرفضه الشاعر وينادي بأسلوب جديد متحرر.
.. الحب الصامت الذي يؤدي إلى الكبت والمعاناة، والحب المتكلم الفعال الذي يستعين في سبيل سعادته بكل ملكات النفس وفعاليات الجسد.
..الإنسان الصامت إنسان يكبت عواطفه ويكبح جماح انفعالاته ويكتم ميوله ونزعاته حتى عن نفسه، ويقضي عمره في حبس انفعالاته ومجاهدة عواطفه وقتل غرائزه."
القصيدة المتوحشة
ـ 1 ـ
أحبيني .. بلا عقد
وضيعي في خطوط يدي
أحبيني.. لأسبوع.. لأيام.. لساعات
فلست أنا الذي يهتم بالأبد
أنا تشرين.. شهر الريح.. والأمطار.. والبرد
أنا تشرين.. فانسحقي
كصاعقة على جسدي
ـ 2 ـ
أحبيني.. بكل توحّش التتر
بكل حرارة الأدغال.. كل شراسة المطر
ولا تبقي.. ولا تذري
ولا تتحضري أبداً..
فقد سقطت على شفتيك كل حضارة الحضر..
أحبيني.. كزلزال.. كموت غير منتظر..
وخلّي نهدكِ المعجون بالكبريت والشرر..
يهاجمني.. كذئب جائع خطرِ..
وينهشني.. ويضربني كما الأمطار.. تضرب ساحل الجزر
أنا رجل بلا قدر.. فكوني أنتِ لي قدري
وأبقيني.. على نهديكِ.. مثل النقش في الحجر..
ـ 3 ـ
أحبيني.. ولا تتساءلي كيفا..
ولا تتلعثمي خجلاً.. ولا تتساقطي خوفا
أحبيني بلا شكوى.. أيشكو الغمد إذ يستقبل السيفا؟
وكوني البحر والميناء.. كوني الأرض والمنفى
وكوني الصحو والإعصار: كوني اللين والعنفا
أحبيني بألفٍ وألف أسلوب
ولا تتكرري كالصيف..
إني أكره الصيفا
ـ 4 ـ
أحبيني.. وقوليها
لأرفض أن تحبيني بلا صوت
وأرفض أن أواري الحب في قبر من الصمت
أحبيني.. بعيداً عن بلاد القهر والكبت
بعيداً عن مدينتنا التي شبعت من الموت..
بعيداً عن تعصبها..
بعيداً عن تخشبها..
أحبيني..
بعيداً عن مدينتنا التي من يوم أن كانت
إليها الحب لا يأتي..
إليها الله.. لا يأتي..
ـ 5 ـ
أحبيني.. ولا تخشي على قدميك – سيدتي – من الماء
فلن تتعمدي امرأة.. وجسمك خارج الماء
وشعرك خارج الماء..
فنهدك بطة بيضاء.. لا تحيى بلا ماء..
أحبيني.. بطهري.. أو بأخطائي..
بصحوي.. أو بأنوائي..
وغطيني..
أيا سقفاً من الأزهار.. يا غابات حناء
تعرّي..
واسقطي مطراً
على عطشي وصحرائي..
وذوبي في فمي.. كالشمع
وانعجني بأجزائي..
تعرّي
واشطري شفتي إلى نصفين
يا موسى بسيناء.
1970 "قصائد متوحشة"
ومن الجدير بالذكر ما يقوله د. محي الدين صبحي: "المعرفة التامة التي تؤدي إلى أن يحفظ أحد الطرفين صاحبه عن ظهر قلب، كالتلميذ، فتلك خطيئة لا يمكن تجاوزها إلا بنسيان تلك المعرفة، أية فاجعة لعاشق يحرمه المعشوق من لذة الدهشة ومفاجأة الاكتشاف!
وأية فاجعة أقسى من أن يشعر المرء بالسلامة حيث يجابه "النهد الذي يحترف القتل وجاهياً، وما زال على القتل صغيراً" إن الجانب الأكبر من العشق يقوم على الإحساس بالخطر والمجازفة، بل يحس المرء بأنه مقدر عليه "أن يمشي أبداً في بحر الحب بغير قلوع". أما أن يحفظ "جغرافية النهدين عن ظهر قلب" وأن يعرف "طعم العرق المالح، والجرح الطفولي على ركبتك اليسرى.. وتوقيت الأعاصير" فهذا سقوط في الابتذال والتفاهة، سقوط في وهدة التملك البورجوازي الذي يجعل من المعشوق رجلاً كان أو امرأة قطعة أثاث.."
الثاناتوس في تجربة نزار الإبداعية
يقول نزار في سيرته الذاتية: "إن أخطر ما يقع فيه الشاعر هو السقوط في صمغ الطمأنينة، ومهادنة الأشياء التي تحيط به. والشاعر الذي لا يعرف قشعريرة الصدام مع العالم يتحول إلى حيوان أليف، استؤصلت منه غدد الرفض والمعارضة.
إنني منذ طفولتي، كنتُ أجد متعة كبرى في التصادم مع التاريخ والخرافة، ولم أكن راغباً أبداً في أن أكون درويشاً في حلقة ذكر.. أو طفلاً يغني في جوقة الكنيسة.."
إن بذور التحدي والرفض لدى الشاعر نزار قباني تعود عميقاً إلى طفولته الأولى، فالثاناتوس أو "غريزة الموت" حسب فرويد، تحتوي جذور العدوان الموجودة فيها كما افترض فيما بعد. ونستطيع أن نسميها "النزعة العدوانية" الكائنة في صميم الكائن البشري، هذه النزعة تتجلى بادئ ذي بدء في الطور السادي الفموي وهي المرحلة الأولى لتطور الليبيدو عند الطفل حسب فرويد.
يتحدث نزار عن رغبته في تحطيم الأشياء والألعاب عندما كان في سن العاشرة تقريباً، وأن هذه الرغبة كانت قد أتعبته وأتعبت أهله معه، والحال، فإن عبرت عن شيء فهي تعبّر عن استيقاظ النزعة العدوانية الكائنة في صميم الكائن البشري موازية للنزعة الجنسية، وكان قد عبر عنها فرويد في ثنائية الايروس والثاناتوس، وعندما يواكب النزعة العدوانية النضج والوعي تصبح ثورة حقيقية على العادات البالية والجهل المستحكِم وراءها من جهة، وعلى الظلم والضعف ومحاباة الوجوه من جهة ثانية.
في الواقع، كان شعر نزار السياسي تعبيراً صارخاً لرغبته القديمة في الطفولة في تحطيم الأشياء وكسرها.. لقد كان يريد تحطيم الواقع السياسي المرير المحيق بالوطن العربي ليخرج منه وعي جديد يتمثل بانتفاضة أو صحوة أو يقظة، وهذه اليقظة لا تحصل إلا من الداخل. حتى شعر نزار الغزلي لم يخفِ إلى حد ما بذور الرفض والتحدي لواقع تغييب جسد المرأة، والتعتيم الملقى عليه، في الحين أنه في عتمة الظلال والخفاء يلتهب شوق آخر يعبّر عن ازدواجية مؤلمة تحكم المجتمعات التي ما زالت ترزح تحت نير التكافلية مع الغرب والجهل، والكبت..
هكذا مجموعته الأولى "قالت لي السمراء" كانت في الواقع ردة فعل عنيفة على رياء المجتمع آنذاك وازدواجيته المؤلمة، وبالتالي فإن بذور التحدي والرفض كانت كامنة فيها، ناهيك أنه استطاع أن يعبّر عن نفسه كما هي، فها نحن نسمعه يقول: "كنت أبحث باستمرار عن وجهي وصوتي بين ألوف الأوجه والأصوات. استعارة أصابع الآخرين وبصماتهم لم أحترفها. كنت أريد أن أكتب بأصابعي أنا.. وأترك على الورق بصماتي المميزة..".
إذن، استطاع نزار منذ البداية أن يعثر على وجهه وينزع بالتالي من خلال قصائده سواء الغزلية أو السياسية الأقنعة البربرية التي يحاول بعض رجالات عصرنا أن يضعوها على وجوههم إن في الأدب أو في السياسة أو في الدين أو في الأخلاق..!!
هكذا كانت قصيدته التي كتبها في لندن "خبز.. حشيش.. خمر" ونشرها عام 1954 تحدياً ورفضاً، وأثارت زوبعة آنذاك في البرلمان السوري حيث طالب رجال الدين بمحاكمته وطرده من عمله الدبلوماسي. ومن جملة ما تحمله القصيدة من ثورة، ما أشار إليه الناقد ايليا الحاوي في إحدى مقاطع القصيدة التي تمثل ثورة الشاعر على الإيمان الغيبي القانع بقسمة الحياة الذليلة المتعثرة بالشقاء.
يقول الناقد: "القصيدة تتطور من خلال الإشارات الحسية العميقة الإيحاء المتمثلة في ضمير الشاعر.. فهو قد استخدم العالم الخارجي لتجسيد عالمه الداخلي أو لتجسيد التقائهما في حالة من الثورة القاتمة التي تنظر إلى كل مظهر من مظاهر الواقع نظرة سخط ونقمة. فالشاعر يدعو إلى التجدد والنهوض من خلال تصويره المزري للتقاليد، وقد رسمها رسماً إيحائياً ذاهلاً من الداخل، التقط به من الواقع الشذرات العالقة بانفعاله، المستمدة منه عمق التجربة والدلالة".
أما الانعطافة في مسيرته الشعرية فقد حدثت كما يشير الدارسون على أثر هزيمة حزيران حيث كانت ثمرتها قصيدته "هوامش على دفتر النكسة" التي كانت العتبة لتفجّر شعره السياسي الذي تناول فلسطين والعرب، ثم احترق فيما بعد مع احتراق بيروت فكتب "إلى بيروت الأنثى مع حبي" وقد صدرت هذه المجموعة عام 1978.
وجُمِعَت قصائد نزار السياسية فيما بعد في مجلدين، المجلد الأول وفيه اثنان وخمسون قصيدة تتناول مختلف القضايا التي تهم الواقع العربي قبل هزيمة حزيران وبعدها. أما عن المجلد الثاني فتقول الأستاذة فلك جميل الأسد في أطروحتها للماجستير "التحدي والرفض في شعر نزار قباني" ما يلي: "فيه أربع مجموعات: المجموعة الأولى هي "قصائد مغضوب عليها". وفيها عشرون قصيدة، ترسم صورة للعربي المقهور في وطنه، والذي يتحمل أبشع أنواع القمع والإرهاب. وهذه المجموعة تمثل رفضاً وتحدياً وتمرداً على الواقع العربي، وهي تتسم بقسوة واضحة على الشعب العربي وحكامه، وقد برز ذلك في معظم قصائد هذه المجموعة لاسيما في قصائده (تقرير سري جداً من بلاد قمعستان) و(السيمفونية الجنوبية الخامسة) و(لماذا يسقط متعب بن تعبان في امتحان حقوق الإنسان).. والمجموعة الثانية "تزوجتك أيتها الحرية" وتضم أربعين قصيدة، عالج فيها الشاعر موضوع الحرية المفقودة في معظم البلاد العربية، ويرى الشاعر في هذه البلاد معتقلات يعاني فيها أبناء الشعب العربي شتى ضروب القهر والاضطهاد. أما المجموعة الثالثة "الكبريت في يدي ودويلاتكم من ورق" ففيها أربع وعشرون قصيدة.. وهو يهاجم في بعض هذه القصائد الكتاب والشعراء العرب الذين جعلوا من مهنتهم حرفة كالدعارة يبيعون أقلامهم لمن يدفع لهم.. وأخيراً يضم المجلد الثاني مجموعته الشعرية الرابعة "هوامش على الهوامش" وفيها ثماني قصائد.. وهناك قصائد سياسية قالها الشاعر بعد ذلك، ومن أشهرها "المهرولون” وهي صرخة رفض وتحد لهؤلاء الذين كانوا يدّعون أنهم رموز الثورة والفداء، فإذا بهم يهرولون ويتزاحمون لتقبيل حذاء القتلة، ليحصلوا على وطن أصغر من حبة قمح، كما يقول الشاعر. تلك كانت اتفاقيات أوسلو التي قضت على أحلام المناضلين العرب في استرجاع حقوقهم.
..كذلك هناك قصيدته "المتنبي وأم كلثوم على قائمة التطبيع" وهي قصيدة يرفض فيها الشاعر كل محاولات بعض حكام العرب جر شعوبهم وإرغامها على تطبيع العلاقات مع إسرائيل.."
من آخر ما كتب نزار في شعره السياسي قصيدته التي يصف فيها مجزرة قانا. وتشير إلى نضج شعوري كبير للمعاناة الإنسانية في فلسطين.. يقول فيها:
1
وجه قانا شاحب اللون كما وجه يسوع
وهواء البحر في نيسان،
أمطار دماء ودموع..
2
دخلوا قانا على أجسادنا
يرفعون العلم النازي في أرض الجنوب
ويعيدون فصول المحرقة..
هتلر أحرقهم في غرف الغاز
وجاؤوا بعده كي يحرقونا..
هتلر هجرهم من شرق أوروبا..
وهم من أرضنا هجرونا
هتلر لم يجد الوقت لكي يمحقهم
ويريح الأرض منهم..
فأتوا من بعده.. كي يمحقونا!!
3
دخلوا قانا.. كأفواج ذئاب جائعة
يشعلون النار في بيت المسيح
ويدوسون على ثوب الحسين..
وعلى أرض الجنوب الغالية..
4
قصفوا الحنطة، والزيتون، والتبغ،
وأصوات البلابل..
قصفوا قدموس في مركبه..
قصفوا البحر.. وأسراب النوارس..
قصفوا حتى المشافي.. والنساء المرضعات..
وتلاميذ المدارس
قصفوا سحر الجنوبيات
واغتالوا بساتين العيون العسليه!..
5
ورأينا الدمع في جفن علي
وسمعنا صوته وهو يصلي
تحت أمطار سماء داميه..
6
كل من يكتب عن تاريخ (قانا)
سيسميها على أوراقه:
(كربلاء الثانية)!!..
7
كشفت قانا الستائر..
ورأينا أمريكا ترتدي معطف حاخام يهودي عتيق..
وتقود المجزره..
تطلق النار على أطفالنا دون سبب..
وعلى زوجاتنا دون سبب..
وعلى أشجارنا دون سبب..
وعلى أفكارنا دون سبب..
فهل الدستور في سيدة العالم..
بالعبري مكتوب.. لإذلال العرب؟؟
8
هل على كل رئيس حاكم في أمريكا؟
إن أراد الفوز في حلم الرئاسة..
قتلنا، نحن العرب؟
9
انتظرنا عربياً واحداً
يسحب الخنجر من رقبتنا..
انتظرنا هاشمياً واحداً..
انتظرنا قريشياً واحداً..
قبضاياً واحداً لم يقطعوا شاربه..
انتظرنا خالداً.. أو طارقاً.. أو عنتره..
فأكلنا ثرثرة وشربنا ثرثره
أرسلوا فاكساً إلينا.. استلمنا نصه
بعد تقديم التعازي وانتهاء المجزره!!
10
ما الذي تخشاه إسرائيل من صرخاتنا؟
ما الذي تخشاه من (فاكساتنا)؟
فجهاد الفاكس من أبسط أنواع الجهاد..
فهو نص واحد نكتبه
لجميع الشهداء الراحلين.
وجميع الشهداء القادمين!!.
11
ما الذي تخشاه إسرائيل من ابن المقفع؟
وجرير.. والفرزدق؟
ومن الخنساء تلقي شعراً عند باب المقبره..
ما الذي تخشاه من حرق الإطارات..
وتوقيع البيانات.. وتحطيم المتاجر..
وهي تدري أننا لم نكن يوماً ملوك الحرب..
بل كنا ملوك الثرثره..
12
ما الذي تخشاه من قرقعة الطبل..
ومن شق الملاءات.. ومن لطم الخدود؟
ما الذي تخشاه من أخبار عاد وثمود؟؟
13
نحن في غيبوبة قومية
ما استلمنا منذ أيام الفتوحات بريدا
14
نحن شعب من عجين
كلما تزداد إسرائيل إرهاباً وقتلا..
نحن نزداد ارتخاء.. وبرودا..
15
وطن يزداد ضيقاً
لغة قطرية تزداد قبحاً
وحدة خضراء تزداد انفصالاً
وحدود كلما شاء الهوى تمحو حدودا!!
16
ما الذي تخشاه إسرائيل من بعض العرب
بعدما صاروا يهودا؟؟
لندن أيار 1996
الجسد في تجربة نزار الإبداعية:
لقد كان وعي نزار للعالم والأشياء ترجمة للجسد، أو ما يُسَمَّى جَسْدَنَة العالم حسب تعبير الشاعر شوقي بزيع، فها نحن مثلاً نسمع تأثر نزار باللغة الإسبانية خلال تجربته الدبلوماسية هناك، يقول: ".. اللغة الإسبانية لغة مكشوفة على الشمس، والبحر، وسهول العنب والزيتون. وفيها من التوتر والحرارة، والعنفوان، والحركة، والزخم الصوتي واللوني، ما يجعلها شديدة الشبه براقصة إسبانية يحترق المسرح تحت ضربات قدميها..
الذي يستمع إلى امرأة إسبانية تتكلم أو تغني، أو تخاطب عشيقها، يستطيع بسهولة أن يشم رائحة البهارات الهندية تفوح من شفتيها.."
وفي الحقيقة، قلّما تعلمنا أن نصغي للجسد بعمق وحقيقة وصدق.. قلّما نحاول تحويل خلجاته العميقة ونزواته إلى إبداع شعري يخترق فضاء الشهوة.
تُعقَد مقارنة بين غزليات الشاعر عمر بن أبي ربيعة والشاعر نزار. إن غزل نزار مختلف وذلك أن اللغة عنده تصبح جسداً، والأنثى قصيدة. إنه يعايش التجربة بكل جوارحه وليس بقاموسه الشعري. والشعراء يعرفون جيداً أن اللغة هي في آن ايروسية وتناسلية. يقول والاس ستيفنز: "ينظر الشاعر إلى العالم، كرجل ينظر إلى امرأة". ويصف براون الطبيعة الجنسية للغة في كتابه "جسد الحب".. فكل جملة هي ديالكتيك "فعل حب" كما أشرنا في المقدمة!!
أما المقاربة التحليلية النفسية الحديثة للجسد، فيشير ميشيل برنار: "بالنسبة إلى المحلل، لا يوجد واقع جسدي ما وراء الدلالات التي تترجم وتعرض مواضيع رغبتنا المخيلة. باختصار، الجسد نص، وتنظيم أحرف ممنهج ينبغي تفكيكه في منطقه وطرافته. فهذا هو المشروع الذي سعى إليه سيرج لوكلير، بعد لاكان، ولخصه في هذا التعبير الغني بالمعاني: يجب "أخذ الجسد حرفياً".
وفي موضع آخر يقول: "نكتفي أن نلمح مع لوكلير على أن الجسد، باعتباره منبع وعضو لذة، هو تدوين للغتنا، وأن لغتنا على العكس تعبر وتركّز في تجربة جسدنا الشبقية. ينبغي إذن أن "نقرأ" أو نفكك الجسد كما نقرأ ونفكك الكتاب والرموز، وأن نقرأ ونسمع أيضاً اللغة في تسجيلاتها الجسدية. فهنالك "حرف الجسد" و"جسد الحرف" على حد مصطلحات لوكلير."
وفي الواقع أن هنالك أبعاداً للجسد كالحركية والتوطن ورمزية الجسد الاجتماعية، وهنا يأتي الشعر السياسي عند نزار تعبيراً صارخاً عن هذه الأبعاد، وإن كنا قد تعرضنا لها من زاوية التحليل النفسي.
وكذلك، يمكن قراءة كل واقع انطلاقاً من الجسد: فهكذا مثلاً يصبح نظام الملكية، كهيئة سياسية، رمز سلطة التناسلية على غرائزنا الجسدية الأخرى. وبالأحرى لابد أن ترتبط جميع الأشكال الثقافية، مثل أشكال هندسة بناء منازلنا، بحنيننا إلى بطن الأم.. – وفي هذا الضوء نستطيع أن نفهم أكثر البعد النفسي في العمل الإبداعي لنزار في "دمشق ونزار قباني" خصوصاً عندما يربط بين دمشق – المكان وما يضفيه حضور الأم عليه من معنى، ما يجعل غيابها ذبولاً للمكان، حيث نسمعه يقول مثلاً:
رحمة الله على أمي..
فقد كانت تحب الشام، والماء،
وزهر الياسمين..
ثم.. لما رحلت
بكتِ الشام عليها
واستقالت بعدها
أنهر الشام جميعاً
وشتول الياسمين
فإذا أدركنا هذه الرمزية "بالمعنى الشبقي للواقع" عدنا إلى الوحدة الأصلية المفقودة من جراء انفصال الشخصيات و"ضروب الأنا" وجميعها أقنعة تخفي الصلة بين جميع الكائنات. ويقول براون أيضاً: "إذا اكتشفنا عالم الرمزية اكتشفنا الجسد البشري"، بأصالته وتمامه وكماله. ويعتقد براون أنه يستطيع، برؤية الجسد الكونية والرمزية السابقة، أن يوفق بين فرويد وماركس والبابا يوحنا الثالث والعشرين، الذين يزعمون ثلاثتهم توحيد البشرية، أولهم بعالمية الليبيدو، والثاني بعالمية العمل، والثالث بعالمية المحبة".
وفي هذا كله، لا نقصد تقريظ الجسد كما تفعل الرأسمالية المعاصرة التي تستغله شر استغلال لتسخّره لمصالحها الاقتصادية وغيرها..
إلا أن ما نلمحه من خبرة نزار الجسدية في الشعر والمقاربة التحليلية النفسية الحديثة للجسد، تدفعنا إلى رؤية جديدة للجسد، إلى عصر جديد يأخذ فيه دوره ومكانته التي خسرها منذ عهود خيم الظلام عليه واضطهده وحاربه كما في بعض التيارات من الديانات الشرقية وفي الغنوصية، إلا أن ديانات أكثر حداثة وضعت مبدأ الخلود فيه من حيث المبدأ كالقيامة، لكن أتباع هذه الديانات كانوا مشوّشين إزاء حقيقة الجسد الكونية التي عبرت عنها القيامة.
فلنسمع ما يشير إليه الشاعر شوقي بزيع: "وسواء في التشبيه أو الكناية أو الاستعارة والمجاز فإن الصورة الشعرية عند نزار هي مجسّمات مرئية لخلجات النفس وبخار الرغبات وصهيل الروح المتوثبة. لا يعود الجسد هنا نقيصة أو رجساً كما في المفهوم الديني والأخلاقي الموروث بل يصبح تاج الروح وبهاءها الملموس".
وفي دراسة جميلة للشاعر شوقي بزيع حول نزار قباني وجَسْدنة العالم يعقد مقارنة بينه وبين الشاعر سعيد عقل، نسمعه يقول: "إن البعد الجسدي في شعر نزار قباني لا يتصل بالجسد الأنثوي وحده بل هو جزء لا يتجزأ من جسدنة اللغة التي لا تتولد عنده من احتكاكها بنفسها، كما عند الكثير من الشعراء، بل من احتكاكها بدورة الدم، والحياة المعيشة، إنه يكسو عبارته دائماً باللحم والدم، ويحقنها برعشة الخلق وكهرباء التجربة فنحس لها دبيباً في أوصالنا شبيهاً بدبيب الخمرة في قصائد الأخطل".
"ففي حين يخاطب الشاعر سعيد عقل جسداً هلامياً لا يقيم إلا في الذهن ومعادلاته النظرية مثل:
لوقعكِ فوق السرير مهيب
كوقع الهنيهة في المطلق
فإننا نجد أن نزاراً يكسر الجليد ليستوي بين يديه حياً وجامحاًً وصارخاً في ملموسيته.
وأنا أعرف طعم العرق المالح يجري في مساماتكِ
والجرح الطفولي على ركبتكِ اليسرى
وهذا الوبر النامي على سلسلة الظهر كأسلاك الحرير"
إذن نخلص في هذه الدراسة المتواضعة إلى أن اللغة عند نزار تصبح جسداً، والأنثى قصيدة، ولعمري أن هذا أقصى ما يستطيع أن يصل إليه الشاعر في تجربته الإبداعية.
فها نحن نسمع نزاراً في "تنويعات نزارية في زمن العشق" في قصيدة تحت عنوان "حب بلا حدود" يقول فيها:
أنتِ امرأة
صُنِعَت من فاكهة الشعر
ومن ذهب الأحلام
وفي مجموعته "لا غالب إلا الحب" في قصيدة بعنوان "هل المرأة أصلها قصيدة؟ أم القصيدة أصلها امرأة؟" نسمعه يقول:
"هل المرأة أصلها قصيدة؟
أم القصيدة أصلها امرأة؟
سؤال كبير ما زال يلاحقني
منذ أن احترفت حب المرأة..
وحب الشعر
سؤال لا أريد له جوابا
لأن تفسير الأشياء الجميلة يقتلها"
وهذا ما يؤكده د. أحمد حيدوش: "وبما أن القصيدة أنثى، والأنثى قصيدة، فإنه عندما يحب امرأة، فذلك يعني البحث عن أصله وعن أصل الكتابة".
ذلك أن الأنثى هي أم الرجل والمرأة، وحين تصبح هذه الأنثى قصيدة، فهي أيضاً أصل الكتابة، وهذا ما مر معنا سابقاً حين ذكرنا أن كل جملة هي ديالكتيك "فعل حب".. هي اتحاد مع هذه الأنثى القصيدة، اتحاد يولِّد الإبداع، والوحي، والشعر..
ما قيل عنه:
كتب الشاعر أنسي الحاج: "في فضاء الشعر العربي، نزار قباني وهجٌ حَرَق، وبرق بَدَل أن يخطر ويختفي، التمع وانتشر وجلس يشع لأنه صار جسراً بين عالمين.
لم أقرأه مرة إلا أحببته. في بداية حياتي كنت مبهوراً بجرأته وشهوانيته، وفي ما بعد، بشجاعته ورقته، واليوم، ودائماً، بأصالته وعفويته الخلاقة واشتعال وجدانه، دون هوادة، بكل ما يمس القلب الحق، والشعور الحق، والشاعر الحق.
ولم أعرفه إلا مدهشاً. ساحر لا يمكن أن تمله، لأنه أسبق منك إلى الملل من نفسه. عرف سر التجدد، وأنه الإقامة في النار، وأن ضرائبه كبيرة، وهو تكبّدها ويتكبّدها، لأن الكبار أقدارهم كبيرة.
والكتابة عنه بعض الكتابة عن الذات. وهي أيضاً تشبه الاعتراف بالحب. فأدب كأدب نزار قباني ليس مجرد عمارة من الكلمات، بل هو روح زمن وروح شعب وروح تجربة في الشعر بل معه، وربما قبله وبعده، القيامة من الموت.
من موت حضارة ولغة وشعب، إلى حياة تعانق الحياة.
وفي هذه المغامرة الشرسة، يسطع نزار قباني نجماً في كل شيء: في إطلالته وإيقاعه، في إشعاعه وتأثيره، في انفصاله واتحاده، في عشقه وغضبه، في صوته وضميره، في حنانه وعنفه، وفي حضوره الشفاف في القلوب.
هذا العدواني الجميل الدائم الصبا، هو نفسه "القمر الأخضر" الذي تغنى به مرة، ولأنه لم يكتب كلمة إلا بانفعال الشعور البكر، لا أستطيع أن أقرأه إلا كأني أقرأه للمرة الأولى.
والشاعر هو دائماًً "المرة الأولى" معه الفجر دائم، والليل غير الليل، واللغة تكتشف أنها الآن، على يديه، بدأت تولد.
ومع نزار قباني، أشعر أني أقترب من ينبوع، وأمشي في بستان، وأن الربيع يتفجر حولي حتى في الإحباط واليأس.
ولا أعرف، في الحقيقة، إذا كان يُكتَبُ عن نزار قباني دون الأخذ منه. وأجزم بأنه لا يُحكَى عنه بأجمل مما يحكي شعره. وأكثر من فهمه، فلندع أنفسنا نحبه.
نزار قباني حكاية حب، وأمثولة حرية، في قربانة هي الشعر. وإذا أحببناه، فلن يكون ذلك بأكثر من رد لبعض ما تناولناه من تلك القربانة".
ما قيل في وداعه:
كتب ساسي جبيل من تونس: "لم ينته نزار..
هل أنهى الموت المتنبي أو شكسبير أو أبا تمام..؟! كان نزار صوتاً متفرداً وكتلة من الكلام.. لقد ترك في كل عربي شيئاً منه.. ترك قصائد كالورد وأخرى كالغضب.. وأخرى كاللهب.. وأخرى كالأغاني.. لم ينته نزار..
لم ينته نزار..
من كان مثله لا يموت.. سيبقى باسقاً كنخلة في بغداد، وكمئذنة في دمشق..
من كان مثله لا يموت.. سيبقى منارة تضيء بنورها كل بقاع الأرض.. من كان مثله لا يموت.. سيبقى أغنية نرددها في كل حين، وقيثارة نعزف على أوتارها إلى أبد الآبدين..
لم ينته نزار..
فلا شيء يخاف من الشعر أكثر من الموت، فالشعر يخلق أزمنة لا يستطيع الموت أن يزيلها.. هذا الزمن الشعري، ليس مثل زمن الساعات، يمتد من الأزل، إلى الأبد..
لم ينته نزار..
فهو حينما ينشر ديواناً جديداً يشعر بأنه زرع شجرة جديدة ستزهر وستثمر سواء كان موجوداً أم لا..
..
لم ينته نزار.. فكل بيت تركه على ورقة ليس وصية بل صكاً جديداً للولادة.. كل بيت تركه الشاعر كان مؤثراً في القلوب والعقول لذلك فهو في الأعماق.. الأعماق التي لا تطالها العناكب.. كل بيت تركه نزار كان واحة أقحوان وحديقة ألوان زاهية لا تؤثر فيها السنون..
لم ينته نزار..
فالبلابل لا تموت.. والصخور العاتية، حتى وإن أتى عليها الطوفان فإنه لن يزيدها إلا نضارة وبهاء.. نزار الذي فقدناه كان أشخاصاً عديدين في شخص واحد أو على حد تعبير أدونيس "مفرداً بصيغة الجمع"".
قراءة في "دمشق ونزار قباني":
في دراسة جميلة للدكتور خالد حسين يصف هذا الكتيب، قائلاً: "يبتدئ هذا الكتيّب بتصدير يتمرأى فيه هذا الشغف المكاني، هذا العشق لـ"دمشق" وهذا الهيام بها، تصدير ممهور باسم الشاعر على النحو الآتي: "كتب الله أن تكوني دمشقاً، بك يبدا وينتهي التكوين" فالتسمية (دمشق) تأتي بأمر ميتافيزيقي، ليس للبشر يد فيها، ولهذا يمتلك المكان القدرة على إلغاء كل الأمكنة والفضاءات الأخرى، لتكون دمشق – المكان هي البداية والنهاية، المكان السرمدي الذي ينجز فيه "التكوين" شؤونه وكينونته، كما لو أن "دمشق – المكان"، وفق تصدير الشاعر، هي الصورة النهائية للتكوين مكاناً وكائناً، لأنها تكتسب سلطتها، قوتها، من الميتافيزيقا، ولهذا يبدأ بها العالم وينتهي!
يكتب الشاعر في مقدمة هذا الكتيّب:
(لا أستطيع أن أكتب عن دمشق، دون أن يعرّش الياسمين على أصابعي.
ولا أستطيع أن أنطق باسمها، دون أن يكتظ فمي بعصير المشمش، والرمان، والتوت، والسفرجل.
ولا أستطيع أن أتذكّرها، دون أن تحط على جدران ذاكرتي ألف حمامة..
وتطير ألف حمامة).
"تتخذ دمشق شكل القدر، قدر الشاعر، التعويذة التي تسيِّجه، السحر الذي يستبد به، فيغدو مسحوراً، لا طاقة له على تفكيك شفراته، ألغازه، كائن مسلوب تماماً من هذا المكان الساحر الذي يُسَمّى "دمشق".
(كل حروف أبجديتي مقتلعة حجراً حجراً من بيوت دمشق.. وأسوار بساتينها، وفسيفساء جوامعها..
قصائدي كلها معمرة على الطراز الشامي..
كل أَلِفٍ رسمتها على الورق هي مئذنة دمشقية..
كل ضَمّةٍ مستديرة هي قبة من قباب الشام..
كل حاءٍ هي حمامة بيضاء في صحن الجامع الأموي..
كل عينٍ هي عين ماء..
كل شين هي شجرة مشمش مزهرة..
كل سين هي سنبلة قمح..
كل ميم هي امرأة دمشقية.. وما أكثر الميمات في دواوين شعري..
وهكذا تستوطن دمشق كتابتي، وتشكل جغرافيتها جزءاً من جغرافية أدبي..)
"يتراءى للمتأمل في هذه الشذرة أن دمشق أو دمشق – المكان هي نوع من المكان البؤري، المكان – البؤرة الذي يشكل محور كينونة الكائن، التي تتخذ من هذا المكان محارة لها، فيها تنبثق، وتضج بالحياة، وإليها تعود."
"إن البعد المكاني يشتغل بعنف في شعر نزار قباني، اشتغال صار حتى أن نزار يتلمس طيف دمشق في تفاصيل المكان – الآخر عبر تداخل تناصي بين غرناطة ودمشق."
(شوارع غرناطة في الظهيره
حقولٌ من اللؤلؤ الأسود..
فمن مقعدي
أرى وطني في العيون الكبيره
أرى مئذنات دمشقَ..
مصورةً فوق كل ضفيره)
"يمسك الشاعر بخاصية التماثل بين غرناطة – المدينة الأندلسية ودمشق مكاناً وبشراً، دمشق التي فرَّت بحضارتها وأشيائها وكائناتها إلى بلاد الأندلس في لحظة تاريخية، لتسكن فضاء غرناطة، فاحتضنتها الأخيرة، لتعيد إنتاجها، فالعيون دمشقية، والمآذن ترتسم على الضفائر، ولهذا يأخذ التخيل الشاعر بعيداً، حتى يشعر أنه محاط بحارات دمشق وناسها وأهلها، هذه دمشق، دمشق التي تحتاز على موقع أثير في شعره، دمشق التي لا تغيب عن الشاعر أبداً حتى من خلال شغب عصفورتين:
(حديثكِ سجادة فارسيه..
وعيناكِ عصفورتان دمشقيتانِ..
تطيران بين الجدار وبين الجدار..
وقلبي يسافر مثل الحمامة فوق مياه يديك،
ويأخذ قيلولة تحت ظلِّ السوارْ)".
المراجع:
1) نزار قباني: التجربة الشعرية، والسيرة الذاتية
تأليف: عبد العزيز شرف، محمود الهندي
2) قصة حياة نزار قباني
تأليف: محمد العريسي
3) حياة الشاعر نزار قباني وأحلى قصائده
تأليف: محمد ياسر زمزم
4) قصتي مع الشعر
تأليف: نزار قباني
5) نزار قباني: شاعر لكل الأجيال
إعداد وتحرير: محمد يوسف نجم
6) نزار قباني: رحيل عملاق
إعداد وتحرير: ساسي جبيل
7) مدخل إلى الموسوعة الشاملة للشاعر نزار قباني
تأليف: برهان بخاري
8) الإيقاع في شعر نزار قباني
تأليف: مؤمنات الشامي (رسالة ماجستير)
9) قوة الأسطورة
تأليف: جوزيف كامبل
ترجمة: حسن صقر، ميساء صقر
10) رفاق الروح
تأليف: توماس مور
ترجمة: محمد الجورا
11) الجنس ومعناه الإنساني
تأليف: كوستي بندلي
12) الكيان الشعري عند نزار قباني
تأليف: د. محي الدين صبحي، تقديم: نزار قباني
13) الأعمال الشعرية الكاملة
تأليف: نزار قباني
14) نزار قباني
تأليف: ايليا الحاوي
15) التحدي والرفض في شعر نزار قباني
تأليف: فلك جميل الأسد (رسالة ماجستير)
16) الجسد
تأليف: ميشيل برنار
ترجمة: إبراهيم خوري
17) شعرية المرأة وأنوثة القصيدة: قراءة في شعر نزار قباني
تأليف: د. أحمد حيدوش
18) مواقع إلكترونية
جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع اكتشف سورية
|