ضمن فعاليات اليوم الثاني لمؤتمر «التراث والتنمية» والمنعقد خلال الفترة من 23-25 أيار الحالي 2010 على مدرج معهد التراث العربي في جامعة حلب بمشاركة عدد من الجهات منها مجلس مدينة حلب وجامعة حلب ومؤسسة «مخططون بلا حدود» الفرنسية وغيرها، استمرت الجلسات العلمية والأكاديمية التي ضمت تجارب ومشاريع تتم في بلدان صديقة أو مجاورة حيث أقيمت صباح يوم الاثنين 24 أيار جلستان علميتان الأولى حول «الهيكليات المؤسساتية والمنظمات العاملة في حماية التراث المعماري والعمراني والمشهد العمراني» في حين كانت الثانية عن «القوانين والأنظمة العمرانية». وقد تم تأجيل الجلسات المسائية إلى اليوم التالي لكي يتسنى للمشاركين حضور المحاضرة التي سيلقيها الأستاذ ريتشارد روجرز والتي جرت مساء يوم الاثنين.
ومن بين المشاركين في المؤتمر التقينا البروفيسور والباحث الفرنسي جان بيير لو دانتيك - المهندس المعماري والمؤرخ والعميد السابق لكلية العمارة في باريس - والذي تحدث عن مشاركته في المؤتمر قائلاً: «كانت مداخلتي اليوم عبارة عن عرض تأملات حول مفهوم التراث من الناحيتين التاريخية والسياسية، حيث قدمت أمثلة عن التراث الأوروبي الموجود في الدول الأوروبية والذي يعود إلى كل الأمة الأوروبية، إنما ترى في الوقت ذاته بأن كل دولة تفهم هذا التراث وتتعامل معه بطريقتها الخاصة بها. كما تطرقت إلى مفهوم الحداثة والتصادم الذي بات يحصل ما بين التراث وما بين الحداثة وصعوبة الدمج ما بين الماضي والحاضر وصولاً إلى المستقبل في أوروبا. وأخيراً تحدثت عن الفترات التي مرت بها الأمة الأوروبية فيما يتعلق بموضوع التراث حيث كانت هناك فترات تطورت فيها الحداثة في المدن الأوروبية بشكل سريع وأدت إلى تدمير المدينة القديمة، وفترات أخرى كانت الدول الأوروبية تقوم بالحفاظ على كل الإرث الحضاري الماضي الموجود فيها، وأخيراً تحدثت عن فكرة كيف يجب أن يكون التراث عاكساً لتاريخ الأمة وقطعة من المدينة الحديثة».
أما الدكتور مصباح رجب - الأستاذ في الجامعة اللبنانية ورئيس قسم التخطيط فيها - فقد قدم عرضاً يتعلق بمشروع «حماية الإرث الثقافي» الذي يتم في خمس مدن لبنانية هي: صيدا، صور، جبيل، طرابلس، وبعلبك، حيث يتابع بالقول: «بينت في عرضي عن تلك المدن وذاك المشروع كيف كانت طرق التمويل لتلك المشاريع، وكم كانت حصة كل مدينة من الميزانية التي خصصت للمشروع وكيف تم تقسيم هذه الميزانية. بعد ذلك اخترت أحد هذه المشاريع وهو المشروع الذي يتم في مدينة طرابلس، وبينت كيف بدأ المشروع والظروف التي مر بها مع عرض لنقاط القوة والضعف التي ألمت بهذا المشروع».
ويتابع الدكتور رجب بأنه عرض بعض نقاط القوة التي حققها المشروع والتي كان منها إعادة إسكان عائلات تشردت منذ خمسين وستين سنة بفعل فيضان النهر ضمن المدينة القديمة في طرابلس، إضافة إلى فك عزلة بعض المناطق القديمة ضمن المدينة وانفتاحها على بقية المناطق. ولكن من جهة أخرى كما يقول فإن نقاط الضعف التي عانى منها المشروع تمثلت في الميزانية المقفلة له والتي لم تراع التطور الزمني الحاصل وارتفاع كلف المواد المستخدمة في المشروع مثلاً، أو التطورات والتغييرات السياسية والأمنية التي مر بها لبنان ما جعل وضع المشروع أكثر تعقيداً وتقييداً مع تعرضه لضغط مادي شديد: «بدأ هذا المشروع مع بداية عام 2001، ويتوقع أن ينتهي في عام 2011. لكن وبحسب معلوماتي، فإن الفريق المسؤول عن هذه المشاريع والذي هو مجلس الإنماء والإعمار في لبنان سيطلب ميزانية إضافية للعمل على تنفيذ بعض السيناريوهات التي لم تتم وتمديد فترة المشروع لفترة أطول قليلاً».
ويضيف الدكتور رجب بأنه على إطلاع على مشروع «إحياء حلب القديمة» الذي يجري حالياً في مدينة حلب، حيث زار المشروع عدة مرات برفقة طلابه من الجامعة اللبنانية، ويقول بأن الفرق الذي لمسه بين مشروع «إحياء حلب القديمة» ومشروع «حماية الإرث الثقافي» الذي يجري في لبنان هو كما قال: «يكمن الفرق في أن مشروع حلب اتخذ فيه قرار سياسي بالتغيير والعمل على الارتقاء بكل النسيج العمراني والتاريخي للمدينة، أما في لبنان فكان عملية تدخل في النسيج التاريخي فقط من أجل خلق ديناميكية معينة تحفز على الاهتمام اللاحق بباقي النسيج في المدينة. حيث كان التركيز على البنية التحتية التي كانت مهترئة، وواجهات المباني والأسواق التاريخية، كما تم خلال المشروع أيضاً بناء مساكن للعائلات التي تشردت بسبب النهر في طرابلس مثلاً حيث تم نقلها إلى مساكن جديدة».
ويختم بالقول بأن النتيجة المتوقعة من هذه المشاريع بحاجة إلى وقت لكي تبرهن فاعليتها مضيفاً بأن هذه التجارب كانت نماذج أو سيناريوهات سيتم العمل على شبيه لها مستقبلاً في مناطق أخرى أو الارتقاء بكافة النسيج التاريخي للمناطق نفسها.
أما الجزء الثاني من ورقة العمل التي قدمها المهندس الرفاعي فكان حول دور الجهات غير الحكومية في الحفاظ على التراث حيث يقول بأن نقابة المهندسين السوريين على سبيل المثال كانت واحدة من الجهات غير الحكومية التي قدمت مساهمات مميزة في هذا المجال ويتابع بالقول: «تعتبر نقابة المهندسين في سورية النقابة الوحيدة من بين النقابات الموجودة في العالم العربي التي تهتم بموضوع التراث عن طريق لجنة خاصة وهي لجنة التراث، والتي انبثق عنها لجان في كل محافظات القطر. لهذه اللجنة عدد من الأنشطة التي تقوم بها في مناطق أثرية مثل ماري، عمريت، دمشق القديمة، وحلب القديمة، حيث شرحت في ورقة العمل التي قدمتها بعض الإنجازات التي قامت بها اللجنة بشكل عام، ومن ثم انتقلت إلى عمل اللجنة في حلب حيث قدمت أمثلة عملية حول ما قامت به هذه اللجان وكيف أنها باتت تمثل عملياً الضمير العلمي للمجتمع في متابعة ما تقوم به الجهات الرسمية من أعمال تتعلق بمجال التراث، والتأكد من أن هذه الجهات تقوم بأعمال التراث وفق الأنظمة والمواثيق الدولية».
ويضيف المهندس الرفاعي بأن اللجنة قامت أيضاً بإطلاق دورات تخصصية للمهندسين الراغبين في العمل ضمن مشاريع التراث، وتشجيع الطلاب والأساتذة على الاهتمام بالتراث وغيرها من المشاريع التي يجري العمل عليها ضمن برنامج عمل سنوي: «أما المحور الثالث الذي قدمته في ورقة العمل فكان يتحدث عن جمعية العاديات التي أنا عضو مجلس إدارة فيها والتي تقوم بدورها بجهود كبيرة في مجال الحفاظ على التراث حيث تعتبر أقدم جمعية موجودة في الوطن العربي ولها فروع في كل أنحاء القطر وتقدم في كل يوم أربعاء محاضرات أو ندوات تخصصية بالتراث، إضافة إلى وجود لجنة خاصة بالتراث العمراني فيها تتابع الأعمال التي تتم في مجال التراث أيضاً».
وينهي المهندس الرفاعي حديثه بأنه عرض أمثلة عملية كثيرة حول تدخلات هذه الجهات وأهمية هذا التدخل في موضوع الحفاظ على التراث منها التقرير الذي رفع بشأن آثار مدينة ماري التي أهملت ما أدى إلى اندثار أغلب الآثار الموجودة فيها، حيث أدى التقرير الذي رفعته اللجنة إلى تشكيل لجنة رسمية تألفت من عدد من الجهات التي تابعت الموضوع وقدمت عدداً من النتائج. كما أن لجنة إعادة ترميم الجامع الأموي الكبير التي تم تشكيلها جاءت ـ كما يقول ـ بناء على تقرير من لجنة التراث. وكان قرار عدم تملك الأماكن الأثرية من قبل الأجانب قد جاء أيضاً من قبل لجنة التراث التي تحاول القيام بدورها في مجال الحفاظ على التراث بدعم وتجاوب من الجهات الأخرى.
ومن المشاركين في المؤتمر كان الباحث ديران هارمانديان من لبنان، وهو معماري ومخطط مدن، وأستاذ سابق في كلية الهندسة المعمارية، والذي يقول لنا: «تأتي أهمية المؤتمر من كونه يعطي الفرصة للمتواجدين للاستفادة من خبرات بعضهم البعض. كل بلد وكل مدينة تخلق خبرة يستفيد منها المرء في أعماله ومشاريعه التي يقوم بها في مدينته أو دولته. وحتى الضيوف الأوروبيون الذين يقدمون إلينا يستفيدون من خبراتنا كما نستفيد نحن من خبراتهم. وتأتي عملية تبادل الخبرات كعامل أساسي في موضوع الحفاظ على التراث لأن الخطأ في هذه العملية يكلف كثيراً».
ويضيف الباحث هارمانديان بأن كل التجارب التي تم عرضها كانت مهمة حيث لا توجد تجربة أهم من تجربة، إذ تتأثر كل تجربة بالوضع التي هي موجودة فيه وبعدد من العناصر الفريدة التي تميزها عن باقي التجارب، فكل تجربة لها المجال والأهمية الخاصة بها وكل تجربة تتأثر بالوضع الميداني الذي هي فيه ويؤثر بدوره على نتائجها: «نحن بحاجة للتركيز أكثر على مفهوم التراث لأنه للأسف لم يعد يوجد لدينا ثقافة التراث حيث أصبح أمراً كمالياً أو إضافياً وليس أساسياً يدخل في ممارساتنا وحياتنا اليومية وثقافتنا. لدينا عدة حضارات مرت على بلادنا تركت كلها آثارها على أرضنا، ومن المؤسف أن الاهتمام بالحضارات والتراث ليس كما يجب، حيث تتم عملية الاهتمام بمواقعنا الأثرية من الخارج وليس عن طريق تمويل داخلي. هذا الأمر يبرز كم نحن لدينا تقصير من قبلنا بآثارنا لأن العقلية التي لدينا في المنطقة وصعوبات الحياة التي لدينا ووضع الحرب الذي نواجهه جعل موضوع التراث كمالياً وليس أساسياً».
يذكر بأن اليوم الختامي للمؤتمر سيكون في الخامس والعشرين من شهر أيار 2010 وفيه ستستمر الجلسات إضافة إلى إعلان التوصيات الختامية للمؤتمر.
أحمد بيطار - حلب
اكتشف سورية