إضاءات | عن غلاف ولوحة وتمثال

.

تابعت بعضاً من (الإعصار الفيسبوكي) الذي طال أغلفة الكتب المدرسية الجديدة، ولم يتح لي أن أطلع إلا على ثلاثة من الأغلفة موضوع الاحتجاج، وهي التي نشرت مع النصوص المستهجِنة، أحدهم لوحة للفنان (ادهم إسماعيل) واثنان لصورتين من النحت السوري القديم.
من حيث المبدأ أجد أن من حق الجميع إبداء الرأي بقضية عامة، والكتب المدرسية هي كذلك بلا شك، لكني أستغرب - وقد يكون الاستغراب خطأ في ظل الشكل السائد لحواراتنا- اللهجة الحادة لدى بعض المثقفين المحتجين، ليس لأنها فقط بالغت في احتجاجها حتى انحدرت إلى درك الشتائم والتخوين، وإنما لأن كثيراً منها فضحت جهل بعض هؤلاء (المثقفين) الذين نسبوا تمثالاً سورياً قديماً إلى الفكر (الداعشي)، لمجرد أنه لرجل ملتحٍ، في حين أن (داعش) هي من عمل على تحطيم أمثال هذه التماثيل أينما أتيح لها ذلك. وبالتالي فإن مجرد التعريف بها هو شكل من أشكال مقاومة الفكر الظلامي، الساعي دائماً لتدمير تراثنا الثقافي، وهو أمر كان علينا أن نقوم به منذ زمن بعيد.‏

وما أصاب التمثال السومري من اتهام أصاب لوحة الفنان (أدهم إسماعيل) فقد نالت تهمة مماثلة، وهي التي تمثل أحد تجارب الحداثة والتأصيل والتجديد في الفن التشكيلي السوري المعاصر، ومن بين الكم الكبير من التعليقات حول اختيارها غلافاً لأحد الكتب المدرسية يستحق تعليق الفنان (بطرس المعري) أن يكون منطلق حوار هادئ وعاقل و(عارف) حيث يقول: (لا تكفي الصورة أو اللوحة الجميلة لتصنع غلاف كتابٍ ناجح. اختيار الصورة الرئيسية بالتأكيد أمر مهم، لكن إن لم يستعملها المصمم الغرافيكي بالشكل اللائق فالنتيجة لن تكون جيدة. نتكلم هنا عن (قص) الصورة وعن توزيع بقية عناصر الغلاف بدقة وعناية، أي بطريقة مدروسة بصرياً.عملية الخيار يجب أن تكون أيضا مدروسة بعناية، تناسب المرحلة العمرية كما تناسب الموضوع وربما تعطي فكرة عن المحتوى. كتب الأطفال والمطبوعات الملونة بشكل عام هي منتجات حساسة جداً. وعلى الصعيد الفني لا يجب أن يغيب عن أذهاننا أن الطباعة الجيدة تلعب دورها أيضاً، من ناحية جودة الصورة الأصلية كصورة وجودة الورق والأحبار والفرز والطباعة. إن لم تكن المطبوعة الملونة على سوية عالية من الجودة فمن الأفضل التحايل على الموضوع باختيار رسومات بسيطة صريحة المساحات. سخر أغلبنا من الكتب المطبوعة ولكنها خطوة جيدة ولو أنها برأينا كانت بحاجة إلى الدراسة أكثر قليلاً. اختيار لوحة لأدهم إسماعيل كفنان سوري خرج عن تقاليد التصوير الزيتي التي عرفها القطر آنذاك هو اختيار جيد ولكن نسأل، هل يعرف طلاب هذه المرحلة أدهم إسماعيل، هل يستسيغون فنّه؟ (سؤال بريء ربما يكون الرد أن الطلاب يدرسون أعماله.) سيسأل الطالب ربما لماذا العيون لا بؤبؤ لها. هل يعرف المعلم الجواب، هل يستطيع أن يقنع الطالب؟ فن التصوير غير التقليدي أو غير الواقعي هو فن غير معروف لدى عامة الشعب وهو كقطعة الموسيقا الكلاسيكية لا يمكن لمن اعتاد أن يسمع الأغاني الخفيفة والشعبية أن يسمعها باستمتاع.. ).‏

أعتقد أن مسألة الاعتياد هي نقطة جوهرية في هذا الحوار، وخاصة أن كثيرين منا يكرهون أي خطوة تأخذهم بغير اتجاه ما اعتادوا عليه، ونرى هذا الأمر كثيراً في الفن التشكيلي الذي لا تزال تفصله مسافة هوة واسعة عن الجمهور، ومنها أن طالباً جامعياً كان يحدث طبيباً شهيراً عن أهمية الـ(غرنيكا) اللوحة التي أدان من خلالها (بيكاسو) جريمة قصف النازيين لبلدة اسبانية وادعة، فأصبحت رمزاً لإدانة كل الحروب الغاشمة، وكيف أن هذه اللوحة أظهرت القدرة للفن الحديث على التأثير مهما استغرق في التعبيرية ونأى عن الواقع، فما كان من الطبيب الشهير إلا أن عقب بلا مبالاة: أما كان من الأفضل لو أنه رسمها بشكل واقعي؟ وأمام هذا التعقيب البليد، أجاب الطالب المُستَفز: هو الفرق بين من يطرب لأغاني (فيروز) وبين من يطرب لصراخ (أحمد عدوية).‏

ونعود إلى التمثال الذي هو أحد تماثيل مجموعة كبيرة من المنحوتات السومرية المعروفة باسم تماثيل (العُباد)، والتي يعرفها العالم المتحضر وينظر إليها بعين التقدير باعتبار أنها تمثل منذ نحو خمسة آلاف سنة، توجه الفن إلى ما هو تعبيري، على حساب ما هو تشبيهي، وهي الفكرة التي يرى كثير من مؤرخي الفن وعلماء الجمال أنها أساس الإبداع في الفنون البصرية. إن عدم معرفتنا، أو عدم معرفة القسم الأعظم منا، بهذا التمثال وسواه مما تحوي متاحفنا، هو بأكثر الكلمات تهذيباً: تقصير جماعي وفردي لا عذر له، والأمر ينسحب على المنحوتات التدمرية الرائعة والفريدة، ومنها (أسد اللات) الذي ضجت مواقع الآثار العالمية بخبر تدميره بمعاول (داعش) في حين أن ذلك الحدث المؤسف كاد أن يمر مرور الكرام عندنا، رغم أهمية التمثال، وجماله، وعمق دلالته، ووجود نسخة عنه في حديقة المتحف الوطني بدمشق، واحتلاله لصفحة من صفحات تقويم وزارة السياحة في إحدى السنوات.‏

لو أننا قمنا بما علينا القيام به في التعريف بإبداعات أسلافنا، لما سمحت الذائقة العامة بأن يوضع في ساحة الأمويين ذلك العمل الذي ينسب زوراً إلى تدمر و زنوبيا، فلا هو يمثل المستوى المتقدم لفن النحت السوري المعاصر. ولا هو يستوحي خصوصية وجمال النحت التدمري، ولا هو يعبر عن ملكة تدمر الأسطورية.‏

-


غلاف مجلد «سورية ذاكرة وحضارة»

*الصورة: غلاف دليل معرض الآثار السوري المتجول (سورية ذاكرة وحضارة) الذي وقف ملايين الزوار في أوربا واليابان والولايات المتحدة ساعات طويلة لمشاهدته، وطبعت من الدليل الذي كتب نصوصه علماء أثار من الدول التي زارها عشرات آلاف النسخ باللغات الإنكليزية والإيطالية والألمانية والفرنسية واليابانية، وصورة الغلاف هي لتمثال سومري من الحقبة ذاتها التي ينتمي إليها التمثال المنشورة صورته على غلاف وزارة التربية. وهو أكثر (رعباً) من الأخير بحسب مفهوم بعض من كتب معترضاً، ومع ذلك فإن كل من تحدث عنه في بقاع الأرض جميعاً تحدث بتقدير وإعجاب بهذا العمل الأثري الرائع. وبما يتناقض كلياً مع أحاديث بعض المعترضين (الفيسبوكيين)، ومنهم من لا يكف عن التباهي بأنه ابن حضارة عمرها آلاف السنيين.

سعد القاسم

صحيفة الثورة