السهروردي المقتول

شيخ الإشراق

المحتويات

.

مقدمة


تزامن إعدادي لهذه الدراسة عن السهروردي مع عيد الأضحى المبارَك، وأثناء ذلك - قبل يوم من بداية العيد فعلياً - تناهى إلى مسمعي ذلك الدعاء الذي لطالما أحببتُه كثيراً منذ سنوات طويلة، فطلبتُ من ابنة أختي أن تجعل صوت التلفاز أعلى ما يمكن، وهرعتُ لسماعه، فإذا ببث مباشر لبداية الحج، ورأيتُ حجاجاً إلى بيت الله الحرام بالآلاف، وكلهم في صوت واحد: «لبَّيْكَ اللهم لبَّيْك، إنّ الحمد والنعمة لك، ولك الملك، لا شريك لك»، شعرتُني أردّد الدعاء في قلبي، ثم ازداد شعوري بأن شعرتُ بقلب كل مؤمن يقوم بواجبه الديني، وفقاً لإيمانه، شعرتُ بالآلاف، فإذا بي أشعرني واحداً منهم، وكم تمنّيْتُ أيضاَ أنا المسيحي أن ألبس العباءة البيضاء وأقوم بحجٍ إلى بيت الله الحرام، لا، لم أشعر برابط الأخوة مع هذا الشعب الطيب المسلِم الكريم كما في مثل هذه اللحظات، لم أشعر أن ثمة فرقاً بين دين وملّة وطائفة، فكلنا تجمعنا الأخوة الإنسانية، بقلبٍ مؤمن نيِّر بالمحبة، وهكذا انهمرَت دموعي حباً بهذا الشعب، سواءً كان من أي بلد عربي، وأيضاً شعرتُ بصِلَةٍ أخرى تجمعني معهم، ألا وهي العروبة، عروبتنا!، لماذا نترك مصالحنا تطغى عليها، وتمزّقها إرباً، لماذا نترك الآخَرين - ونحن أيضاً - ندوس بأقدامنا عليها، لِمَ لا نتحدّى العالَم ونحج لا بالآلاف بل بالملايين إلى القدس، مسيحيين ومسلمين ويهود محبين للسلام، لأن معنى القدس مدينة السلام، فنجعل منها عاصمةً للعالَم كله تتصالَح فيها الأديان والشعوب كلها، فتكون رمزاً لوحدة العالَم. أيضاً شعرتُ بمسلمين من بلدان أخرى (إيران، وباكستان، وأفغانستان...الخ)، فشعرتُ باتّساع دائرة انتمائي أو بالأحرى ارتباطي وحبي واتحادي في دائرة أوسع هي الإنسانية، فنحن مجموعة دوائر ضمن دائرة الكون، وأولئك المتصوفة الكبار، أولئك الشعلة النارية الملتهبة، أولئك هم شعلة النار التي تحيي الدين، وتجدّده، وتلده من جديد، أولئك يا أحبة كانوا على اتصال مع الدائرة الكبرى اللامتناهية، دائرة الكون، لذلك تنوعَت أحوالهم بين غيبة، وشطح، ورؤيا... وتنوّعَت فلسفاتهم حسب تجربة كل واحد منهم، فنحن في وسط حقل لا يمكن فيه لزهرة اللوتس أن تشبه زهرة النخيل، أو زهرة الياسمين، أو زهرة الزنبق...الخ. كل له خصوصيته، كل يفوح بأريج صوفي له عبقه وسحره وجماله.

وهكذا، كان قدَرُ السهروردي في حلب مختلِفاً عن قدر بولس على أبواب دمشق والشيخ الأكبر محي الدين بن عربي الذي ترك رفاته عند سفح جبل قاسيون بَرَكَةً لهذه الأرض التي عاش فيها نحو سبعة عشر عاماً، واسم السهروردي الكامل هو «شهاب الدين يحيى بن حبش بن أميرك السهروردي»، ولكن قد تستغربون إذ أحدثكم بعلم الكونيات، فالشهاب عبارة عن حبيبات كونية تخترِق المجال الجوي للأرض فتعطي لمعاناً هائلاً لمدة خاطِفَة، وتختفي تارِكَةً أثراً لا يُنسَى من البريق، والروعة، والجمال لدى رائيها في ليلة مظلمة...!!

تمثال متخيل للسهروردي

هكذا إذن، كان قدَر هذا الشاب الصغير، والصوفي الكبير، والرائي العظيم الذي لم يتجاوز السادسة والثلاثين من عمره، هكذا كان قدَرُه، فقد اخترق مجال الوعي الإنساني الذي لم يستطع الفقهاء والمتعصّبون آنذاك احتمال حضور عظمة روح كتلك التي للسهروردي، فأثاروا الفتنة ضده عند صلاح الدين الأيوبي الذي خاف أن يُفسِد عقيدة ابنه الملك الظاهر المتأثّر بتعاليمه، فأمر بقتلِه، وهكذا احترق هذا الشهاب في سماء التعصّب الديني، ولكنه لم يحترِق هكذا عبثاً، بل ترك وميضاً ولمعاناً ووهجاً ما زال أثره حتى الآن في نفوس محبّيه والمُعجَبين به، ولذلك دُعِيَ حقاً باسم «شيخ الإشراق».

لقد احترق ليضيء، وكان اسمه شهاب الدين، وكان حقاً شهاباً للدين، شهاباً مضيئاً في دين التصوف، دين الإسلام الحنيف، فأنار سماءه وسماءنا، ثم تلاشى سرُّه العميق في أعماق الأبدي!!!


مؤلفاته


تتكون مؤلفات السهروردي من مدوّنة واسعة تضم بين جنبيها 49 كتاباً. ويعتبِرها هنري كوربان واسعة نظراً لِقِصَر حياته. ويقول: «تتألف نواة هذه المدونة من ثلاثية عقائد: ثلاثة أبحاث وكل منها ثلاثة كتب، وهي تشمل المنطِق والطبيعة والميتافيزيقا».


أشهر كتبه


1) كتاب «حكمة الإشراق».
2) كتاب «هياكل النور»، ضبط: أحمد عبد الرحيم، توفيق علي وهبة. الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة (مصر)، 2009.
3) كتاب «اللمحات»، تحقيق: إميل المعلوف، دار النهار (بيروت)، 1991.
4) كتاب «التلويحات اللوحية والعرشية»، تقديم وتعليق: علي محمد إسبر، محمد أمين أبو جوهر. دار التكوين، الطبعة الأولى، 2005.
5) كتاب «مقامات الصوفية»، تحقيق وتقديم: الدكتور إميل المعلوف، دار المشرق، الطبعة الأولى، 1993.
6) كتاب «ديوان السهروردي»، تصنيف: كامل مصطفى الشيبي.
7) كتاب «المشارع والمطارحات»، تدقيق: مقصود محمدي. الناشر: حق ياوران، طهران.
8) كتاب «نصوص إشراقية: ثلاث رسائل في الرؤية والمجاز»، تحقيق: قاسم محمد عباس.
9) كتاب «اللمحات في الحقائق»، تحقيق: محمد علي أبو ريان.
10) كتاب «كلمات الصوفية»، دار المدى، دمشق، 2009.


ملخص دراسة هنري كوربان لكتاب السهروردي «حكمة الإشراق»



حكمة الإشراق

الكتاب الذي يحوي سر المؤلف: كتاب «حكمة الإشراق»


تنبثق مجمل هذه المؤلفات من تجربة شخصية يشهد بها المؤلف، وهو يشير إلى «ارتداد حدث في طفولته» إذ أنه ابتدأ حياته بالدفاع عن فيزيقا المشائيين السماوية. فقد أوقف عدد العقول على عشرة (أو خمسة وخمسين). وهذا هو العالَم الروحي المُقفَل الذي رآه يتلألأ خلال رؤية ذهولية، حيث بدَت له كثرة من هذه «الكائنات النورانية» التي كان يتأملها هرمس، وأفلاطون، وهذه الأضواء المينوية ينابيع «خرّ» (عظمة وسلطان النور) التي أخبر عنها زرادشت، ووقع خلسة نحوها الملك الصديق كيخسرو المبارك إليها فشاهدها. ويعود بنا اعتراف السهروردي الذهولي إلى واحد من المبادئ الأساسية في الزرادشتية: نور العزّة («خُرّة» بالفارسية).


السهروردي وفلسفة النور


لقبه «شيخ الإشراق» توفي وله من العمر 36 سنة.

وُلِدَ سنة 1155م، في الشمال الغربي من إيران في ميديا القديمة بسهرورد، درس في حداثته الباكرة في مراغة بأذربيجان، ثم قَدِمَ إلى أصبهان في وسط إيران.

ما كان لشيء أن يخلّصَه من نقمة صلاح الدين الأيوبي، حتى ولا صداقة حاكم حلب ابن صلاح الدين الملك الظاهر الذي أصبح فيما بعد صديقاً لابن عربي. فمات شيخنا الفتى بصورة سرية في قلعة حلب في 29 تموز سنة 1191م.

إن «حكمة الإشراق» هي بعبارة أو أخرى إحياء لحكمة فارس القديمة: الزرادشتية، والهرمسية، والأفلاطونية، فلدينا إذن الحكمة الهرمسية من جهة (ولقد سبق لابن وحشية أن أشار إلى تقليد يجعل الإشراقيين فئة كهنوتية يرجع نسبها إلى أخت هرمس)، ومن جهة ثانية، فإن الربط بين أفلاطون وزرادشت هو العامِل المُمَيّز للفلسفة الإيرانية في القرن الثاني عشر. والحق يقال أن مصطلح «أفلاطونيي فارس» يشير إلى هذه المدرسة التي ستكون إحدى خصائصها أن تؤوِّل النماذج الأصلية [عالم المُثُل] الأفلاطونية بتعابير علم – ملائكة زرادشتي.


مشرق الأنوار (إشراق)


فكرة الإشراق (وهو اسم يعني السنى والبهاء وإشراق الشمس عند طلوعها) تبدو على نحو ثلاثي:

1- نستطيع أن نفهم منها الحكمة أو الحكمة اللدنية التي يشكّل الإشراق أصلها باعتبار أنه يمثل ظهور وإشراق الكائن معاً، وفعل الوجدان الذي يكشِف هذا الكائن، وعندما يكشفه يقوده إلى الظهور. وكما أن هذا المصطلح يعني في العالَم الحسّي سناء وبهاء الصباح وأول بريق للنجم، كذلك فإنه يعني في سماء الروح «المثالية» لحظة تجلي المعرفة.

2- موضوع الكلام هنا إذاً، هو فلسفة تفترض رؤيا داخلية، وتجربة صوفية، ومعرفة هي معرفة مشرقية بالنظَر لانتسابها إلى مشرق المعقولات الخالِصَة.

3- نستطيع أن نفهم بفلسفة الإشراق فلسفة تشير إلى حكمة الإشراقيين أو المشرقيين اللدنية، أي حكمة حكماء فارس القديمة، وهذا ليس بسبب موقعهم الجغرافي الشرقي، وإنما لأن معرفتهم نفسها كانت مشرقية، بمعنى أنها كانت مبنية على الكشف والمشاهدة الصوفية. ففي كتاب «التلويحات العرشية» للسهروردي - وفيه يسرد لقاءه وجداله مع أرسطو – نجد أن أول جواب يجيب به الباحِثَ الذي يسأله هو التالي: «ارجع إلى نفسك»، ثم يبدأ عندها تعليمه تدريجياً على معرفة النفس، ثم على معرفةٍ لا هي نتيجة لتجريد، ولا تمثّلٌ لموضوعٍ بتوسيط صورة شخصية، وإنما معرفة مماثلة للنفس ذاتها وللأنانية، فهي في جوهرها إذاً حياة، نور، ظهور، شعور بذاته. وفي مقابل العلم التمثيلي الذي هو علم بالكلي المجرّد أو بالمنطق (علم صوري)، لدينا علم حضوري، اتصال شهودي، وإشراق حضوري تشرق به النفس على الموضوع، وذلك بصفتها كائناً نورانياً، أي أنها تستحضره أمامها، وذلك بأن تستحضِر نفسها. فظهورها هي نفسها لنفسها هو حضور هذا الحضور، وهذا هو الحضور الظهوري أو الإشراقي. وهكذا ترجع حقيقة كل علم موضوعي إلى شعور الإنسان العارِف بذاته. لكن أرسطو يجيب على أسئلة الباحث الأخيرة باستهتار، ثم يقول له عندما يلاحظ تشاغله باثنين من كبار الصوفية (أبو يزيد البسطامي وسهل التستري): «أولئك هم الفلاسفة حقاً». وهكذا تقوم «الفلسفة الإشراقية» بوصل الفلسفة والتصوف وصلاً لن يفترقا بعده.

يشهد السهروردي بأن ما شاهده هو مشاهدة كشفت له «منبع الإشراقي» الحقيقي. إنه «نور العظمة» الذي يسميه كتاب الأبستاق «خرّة» بالفارسية. ودور هذا النور هو دور أولي في الفلَك والأنتروبولوجيا المزدكيين. إنه جلال الكائنات النورانية المتلألئة، وهو الطاقة التي تثبِت الوجود في كل كائن، إنه حُميّا هذا الكائن ومصيره و«ملاكه الشخصي». وهو يتمثّل لدى السهروردي كإشعاع خالِد يشعّه نور الأنوار، فعندما ينير بتسلّطه الإشراقي، جميع الكائن – النور الذي جاء منه، فإنه يجعله حاضراً أبداً. وهذه هي بالتحديد فكرة تلك القوة القاهرة التي تفسر الاسم الذي يطلقه السهروردي، أي «الأنوار القاهرة»، على الأنوار المتسلّطَة، المسيطِرَة، الملائكية («ميكائيلية»، ميكائيل كملاك قاهر).

ينشأ عن قهر «نور الأنوار» هذا الكائن النوراني الذي هو أول مقدم من الملائكة والذي يشير إليه شيخنا باسمه الزرادشتي «أول أمهر سبندز» (أو «أول الملائكة المقرَّبين» عند الزرادشتية). فالعلاقة الأزلية الناشئة بين نور الأنوار والفائض الأول، هي العلاقة النموذجية الأصلية بين المعشوق الأول والعاشِق الأول. وتتبع عن هذه العلاقة نماذج على كل درجات الوجود فتنظّم الكائنات جميعها في أزواج. وهي تعبّر عن نفسها كقطبية قهر ومحبة. أو كقطبية الإشراق والتأمل والاستغناء والفقر... وهكذا فمن أولئك توالد هؤلاء نتيجة لإشعاعاتهم وانعكاساتهم، فإن مُثُل النور تبلغ الـ «ما لا يُعَدّ ولا يُحصَى»، وهنا ثمة تنبؤ بأن هناك عوالم لا تُحصَى وراء كرة الثوابت في علم الفلك (الهيئة) المشائي أو البطليموسي. وبعكس ما جرى في الغرب، حيث قضى تقدم علم الفلك على علم الملائكة، فإن علم الملائكة هاهنا يمضي بعلم الفلَك إلى ما وراء الترسيمة التقليدية التي كانت تحده.


تراتبية الوجود


تُدبّر أمور عالَم الأنوار المحضة هذا طبقات ثلاث. فانطلاقاً من العلاقة الأصلية بين نور الأنوار وبين النور الأول المنبثِق عنه، بتعدد «الأبعاد» المدركَة التي يتداخل بعضها في تركيب البعض الآخَر، يفيض عالَم «الأنوار القاهرة الأولية»، على نحوٍ أزلي. وهذه هي عوالم الملائكة التي يشير إليها السهروردي باسم «عالَم الأمهات» وهي «الأمهات التي ينشأ منها ما عداها من العقول والنفوس والأجرام والهيئات». وهذه التراتبية لعالَم الأمهات الملائكي ينتهي بالوصول إلى الكائن عن طريقين وهي «طبقات الطول». فمن جهة تؤلّف «أبعادها الإيجابية» سلكاً من الملائكة لا يكونون عللاً لملائكة آخرين، ولكنهم يبقون على قَدَم المساواة في ترتيب الفيض. هذه الأنوار تؤلِّف «طبقات العرض»، إنها تؤلّف أيضاً «أرباب الأنواع» و«نوع هذه الأنواع هو ربها»، وهذا الرب يكون قائماً بذاته في عالَم النور ثابتاً. والقائم النوري هو المُسمّى بالمُثُل الأفلاطونية. لا على أنها كليّات متحقّقَة، طبعاً، بل على أنها أقانيم من النور. ويظهَر في «طبقات الطول» ملاك الإنسانية، أو الروح القدس وهو جبريل أو العقل الفعال عند الفلاسفة.

السهروردي مُتخيلاً

ومن جهة ثانية فالأبعاد المدرَكة السلبية (كالعشق والشوق الذي هو أيضاً افتقار) كلها تؤلف «كرة الثوابت»، والتي تؤلف مجموعتها الكواكبية التي لا تُحصَى عدداً من الفيوضات تجسّم قسم اللاوجود الذي يحتويه كائنه المنبثق عن نور الأنوار – إذا ما عايناه منفصلاً صورياً عن مبدئه الأول- ونقول أن هذه الفيوضات تجسّمه في مادة سماوية لطيفة.

وأخيراً، يفيض عن سلك كبار الملائكة هذا سلك جديد من الأنوار يسيطر فيه الملائكة الكبار المثاليون على الأنواع، ويسيِّرون أمورها، على الأقل فيما يتعلّق بالأنواع العليا. هؤلاء الملائكة الكبار يقابلون في علم الملائكة السينوي ما يدعوه ابن سينا بالملائكة – الأنفس، والأنفس الفلكية، والأنفس البشرية.

أما فيما يتعلق بالكلمة النموذجية «برزخ» فهنا تعني في عالم المعاد الأمر المتوسط بين أمرين، وفي علم الكون «العالَم المعلَّق» (وهو عالَم المثال). أما في فلسفة السهروردي الإشراقية فهي تأخذ معنى أوسع وأشمل، فتشير عامّةً إلى كل ما هو جسم، إلى كل ما هو «حاجز» أو «مسافة»، والذي هو بحد ذاته ليل أو ظلمات.

وبالتالي، فليس البرزخ نوراً بالقوة أو كائناً تقديرياً بالمعنى الأرسطي، ولكنه في حيال النور، سلبية محضة، فكل نوع هو بمثابة «أيقونة» لملاكه وهو ضرب من السحر يقوم به هذا الملاك في «البرزخ» الذي هو في حد ذاته موت وليل مطلَق. إنه فعل نوراني يتدفّق من نور الملاك، إلا أن هذا النور لا يدخل في تركيب هيولاني مع الظلمة.


ترسيمة العوالِم


1) هناك عالَم «العقول المحضة» (أي الأنوار الملائكية الكبرى، والعقول الكروبيون، و«الأمهات» والعقول المثالية) وهذا هو عالَم «الجبروت».
2) هناك عالَم «الأنوار» التي تُدبّر أمر جسم من الأجسام (أي عالَم الأنفس السماوية والأنفس البشرية)، وهذا هو عالَم «الملكوت».
3) هناك «البرزخ» المزدوج المتألّف من الكواكب السماوية ومن عالَم العناصِر ما دون القمر، وهذا هو عالَم «الملك».
4) هناك عالَم «المثال» المتوسط بين العالَم العقلي لكائنات الأنوار المحضة، وبين العالَم المحسوس. والعضو الذي يدرك هذا العالَم هو المخيّلة النشيطة، وليس هذا العالَم بعالَم «المثل الأفلاطوني» ولكنه عالَم الصور و«المثل المعلقة»، وعبارة «المعلقة» هذه تعني أن هذه المثل ليست حالَّة في قوام مادي (كما يحل اللون الأحمر في جسم أحمر)، بل إن لها مظاهر تتجلى بها كما تظهر الصورة في المرآة. إنه عالَم نعثر فيه على كل ما في العالَم المحسوس من غنى وتنوّع، ولكن بحالةٍ لطيفة، وهو عالَم من الصور والظلال الدائمة، المستقلّة، الذي يشكّل عتبةً لدخول عالَم الملكوت. وهناك تقوم المدن الصوفية «جابلقا» و«جابرص» و«هورقليا».


الغربة الغربية (نص مأخوذ حرفياً عن هنري كوربان)


يجب أن نضع معنى ووظيفة قصص السهروردي الرمزية ذات التعليم الروحي، حول فكرة العالم المعلق، إذ تتم «دراميتها» على عالَم «المثال». ففي عالَم «المِثال» هذا يعاوِد الصوفي إدراك مأساة تاريخه الشخصي في خطَيْطة عالَم غيبي هو عالَم أحداث الروح. فعندما يعطي المؤلِّف رموزه هيئة ما، يكشف في الوقت نفسه معنى رموز الإيحاءات الإلهية. فالأمر هنا ليس متعلقاً بمجموعة من المجازات، وإنما بالتاريخ القدساني السري الذي يتم في الملكوت فلا تراه الحواس الخارجية، وإنما تتماثل معه الحوادث الخارجية العابرة.

وأكثر القصص التي توضّح هذه الإشارة الأساسية هي «قصة الغربة الغربية» فالحكمة اللدنية «المشرقية» يجب أن تقود العرفاني إلى أن يعي «غربته الغربية»، أي أن يعي حقيقة عالَم البرزخ بصفته «غرباً» متقابلاً مع «مشرق الأنوار». وإذن فإن هذه القصة تمثّل تعليماً يقود الصوفي إلى أصله أي إلى مشرقه. والحال هو أن الحدث الحقيقي الذي يتم بواسطة هذا التعليم، يفترِض وجود عالَم المثال وجوداً مستقلاً، كما يفترض أن للمتخيلة قيمة معرفية تامة. وهنا بالذات يجب أن نعرف كيف ولماذا ينحطّ المتخيَّل إلى وهمي، والقصص إلى روايات إذا استغنينا عن هذه المتخيلة.

والقضية الكبرى التي تشغل العرفاني «المشرقي» هي أن يعرف كيف يمكن للغريب أن يعود إلى حماه. فالحكيم الإلهي الإشراقي لا يفصِل ولا يعزِل البحث الفلسفي عن التحقيق الروحي. فالمُلاّ صدرا في صفحة مركزة جداً في شرحه الواسِع على كتاب الكليني (الكافي، وهو واحد من الكتب الرئيسية عند الشيعة) يصِف روحانية (منهج) الحكماء الإشراقيين كبرزَخ جامع (يعني كبين – بين) بين طريق الصوفيين، الذي ينزَع أساساً إلى التطهير الداخلي، وبين طريق الفلاسفة الذي ينزَع إلى المعرفة الخالِصَة. أما السهروردي فيرى أن التجربة الصوفية تظل تحت خطر المتاهة الشديد إذا لم تقتَرِن بالتكوين الفلسفي المسبَق، أما الفلسفة التي لا تنزَع ولا تهدف إلى تحقيق روحاني شخصي فليسَت سوى ادّعاء خالِص. ولهذا فإن كتاب «حكمة الإشراق» يبتدئ بإصلاح المنطِق ليخلُص إلى حالٍ من اللحظة الذهولية. فمنذ مطلع الكتاب، في المقدمة، يصنّف المؤلّف الحكماء. فهم محصّلون للعلم التأملي [البحت] والتجربة الروحية، أو يمتازون [يوغلون] في الواحدة ويضعفون في الأخرى. والحكيم الإلهي هو الذي يتوغّل في هذه وتلك، إنه الحكيم المتألّه. ولهذا فإن مفكّرينا سيرددون هذا القول، بأن الحكمة الإلهية المشرقية تمثل بالنسبة للفلسفة ما يمثّله التصوف بالنسبة للكلام (أي بالنسبة للجدلية المدرسية في الإسلام) وكأنه مثَل سائر. وبالنسبة للروحانية التي يدّعيها السهروردي فهي ذات مغزى كبير. فتجد من جهة أن «سبيل الله» لم يمر بقدماء الحكماء الإغريق، المتقدّمين على سقراط، الفيثاغوريين، الأفلاطونيين، وينتقِل إلى المتصوفة أمثال ذو النون المصري وسهل التستري. ومن جهة أخرى نجد أن سبيل حكمة الفرس القدماء ينتقل إلى أبي يزيد البسطامي والحلاج وأبو الحسَن الخرقاني من المتصوّفة. وقد يكون هذا تاريخاً بلا ريب، أقامه الوجدان، ولكن فعل الوجدان هذا يزيده بلاغة. فهو يؤكّد لنا (بعد المحادثة السرية مع أرسطو) على أنه لا يمكن أن تفصل الفلسفة عن التصوف في روحانية الإسلام السامية، إلا إذا تبينّا أو انتمينا إلى «طريقة»، أما السهروردي فما انتمى إلى طريقة أبداً. ومن هنا يتبيّن لنا معنى الجهد الإصلاحي والخلُقي الذي قام به السهروردي في الإسلام. فإذا ما ادّعيْنا قَصْرَ الإسلام على الدين الظاهري الشرعي السلَفي، فلم يكن جهد السهروردي إلا عصياناً، وهذه هي الناحية الوحيدة التي رآها بعض المؤرخين في قضية السهروردي، وكذلك في قضية الإسماعيليين، وجميع العرفانيين الشيعة، كما في حالة ابن عربي ومدرسته. وفي المقابل، فإذا كان الإسلام كاملاً، هو الإسلام الروحاني (الذي يضمّ الشريعة والطريقة والحقيقة) عندها يحل جهد السهروردي في قيمة هذه الروحانية ويتغذّى منها. وهذا هو المعنى الروحاني للوحي القرآني، المعنى الذي يفسّر ويبيّن الإيحاءات النبوية والحكمة القديمة كما يظهر معناها المستور. والحال هو أن التشيّع لم يكن منذ أصوله غير هذا الإسلام الروحاني الكامِل. فثمة إذن، اتفاق مُسبَق، إن لم يكن أكثر من ذلك، بين الحكماء الإلهيين الإشراقيين والحكماء الإلهيين الشيعة. وهذا الاتفاق ملموس حتى لدى مفكر إشراقي كأبي جمهور(الذي لا يزال يحتفِظ بتأثيره على المدرسة الشيخية حتى أيامنا هذه) بمعنى أنا نجده قبل مدرسة أصفهان والميرداماد والملا صدرا الشيرازي. فثمة جهد يتجه من هنا ومن هناك صوب الباطن، صوب المعنى الداخلي الروحاني. ومن هنا كان السر في النفور من مناقشات المتكلّمين المجردة العقيمة. فجهد السهروردي يصِل الفلسفة بالتصوف، كما أن جهد حيدر آملي في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي (شأنه في ذلك شأن إسماعيلية ما بعد آلموت) يجعل الشيعة يلحقون بالمتصوّفين الذين نسيتهم دعوتهم ومرابعهم. وهكذا فإن الحكمة الإلهية والعرفان الشيعي يُتِمّ واحدهما الآخَر.

السهروردي

والسهروردي يضع في قمّة ترتيبه للحكماء، الحكيم الذي يتوغّل في الفلسفة وفي التجربة الروحانية (التألّه). فهذا هو القطب الذي لا يستطيع العالَم أن يستمر بدونه حتى ولو كان خفياً مجهولاً من الناس «كلية». وتلك مسألة من المسائل الشيعية الكبرى (حديث الإمام الأول إلى تلميذه كُميل بن زياد). فـ «قطب الأقطاب» بالمعنى الشيعي هو الإمام، ووجوده الخفي يفترِض فكرة الغيبة الشيعية (غيبة الإمام)، ويفترض معها فكرة دور الولاية الذي يلي دور النبوة، بعد خاتم النبيين. هذه الولاية ليست سوى اسم «النبوة الباطنية الباقية» في الإسلام. وفقهاء حلب لم يخطئوا ذلك أبداً، فقد كان موضوع الدعوى التجريمية في محاكمة السهروردي، الموضوع الذي انتهى به إلى الإعدام، هو أنه كان ينادي بأن الله يستطيع أن يخلق نبياً، في الحال لو أراد، أو في أي وقت يشاء. ولكن المقصود هنا ليس النبي المشروع، وإنما النبوة الباطنة، وهذا القول ينمّ عن فحوى شيعية. وهكذا فإن السهروردي قد عاش مأساة «الغربة الغربية» حتى غايتها سواء في حياته، أو في موته مستشهداً من أجل الفلسفة النبوية.


التوحيد عند السهروردي


في كتاب المتصوف الكبير فريد الدين العطار النيسابوري «منطق الطير» يصف سبعة وديان على سالك الطريق أن يجتازها حتى يصل إلى الوادي الأخير وهو وادي الفقر والفناء، وللتوضيح فالوادي الأول هو وادي الطلب، يليه وادي العشق، ثم وادي المعرفة، ويليه وادي الاستغناء، حتى يصل إلى الوادي الخامس الذي هو موضوعنا في هذه الدراسة المتواضعة عن عملاق من عمالقة التصوف الإسلامي، أما الوادي السادس فهو وادي الحيرة، وكثيرون عبروا عنه في شعرهم مثل الشاعر الكبير أدونيس، وأيضاً عالم كبير من علماء الفيزياء النظرية المتخصصين في دراسة القسيمات الأولية ويحاولون إيجاد علاقة بين العلم والفن والتراث المنقول أمثال بَسَراب نيكولسكو، والوادي الأخير ذكرناه هو وادي الفقر والفناء. حديثنا هنا سوف يقتصر على الوادي الخامس وهو وادي التوحيد، لأنه يتناول أغلب المتصوفة الكبار كالحلاج والسهروردي وسواهم وتكفيرهم الأعمى. قبل الشروع في الحديث عن التوحيد عند السهروردي أحب أن ألفت الانتباه إلى أن هذا الوادي هو كما يقول الدكتور بديع محمد جمعة: «وما أن يصل السالِك إلى حد التوحيد والتفريد، فإنه يصل إلى حد الاضطراب وعدم القدرة على أن يفرّق بين نفسه وبين ربه لأن هذا الوادي تتلاشى فيه الثنائية ولا بقاء إلا للوحدانية»، فما هو سر هذه الوحدانية أو هذا التوحيد الذي جعل المتعصبين يكفّرون عظماء شهد لهم التاريخ أمثال السهروردي والحلاج وسواهم. هنا، سوف أنقل ملخّصاً لدراسة جميلة قام بها الدكتور عبد الرحمن بدوي في شأن التوحيد عند السهروردي يقول فيها ما يلي:

حيث التوحيد يلقي بالموحد حينما يُكشَف له «سرّ السرّ» في هذه الحال الباطنة التي يصفها المصطلَح الصوفي بأنها حالة «فناء» و«بقاء» في آنٍ. وعلى الموحّد أن يوضّح أولاً «مَنْ» هي في نظره الذات الواحدة التي تنطق بالتوحيد عن حق.

لقد صرّح السهروردي في «كلمة التصوف» قائلاً: «اقرأ الكتاب بوجد وطرَب وفكر. واقرأ القرآن كأنه نزل في شأنك».

ولما كان السهروردي قد تأثّر بالمدرسة السالمية التي أسسها سهل التستري فقد ورد اسم أبي طالب المكي عند متصوفنا، وهنا نذكر المقالة الرابعة عشرة من مقالات السالمية: «إن الله يقرأ على لسان كل قارئ، وإنهم إذا سمعوا القرآن فإنما يسمعونه من الله».

ولكن إذا كان عليك، من ناحية، أن «تقرأ القرآن كأنه نزل في شأنك»، ومن ناحية أخرى إذا كان الله هو الذي يقرأ بلسانك التنزيل، وإلا لم تستطع النطق به، فستقوم هنا مشكلة معرفة «من» هو القارئ حقاً.

وعلى هذا فإذا كانت القراءة الحقيقية للقرآن تشكل قولاً مباشراً (جواباً) وإذا كان «الأنا» الإلهي هو وحده الذي يملك هذا الحق ويحتفظ به في وجوده إلى أعلى درجة، فيجب إذاً على المؤمن الذي منح مؤقتاً هذا الحق ألا ينسِبَه إلى نفسِه، وألا يعميه «أناه» الخاص، وألا يضع نفسه موضع «هو»، ومع هذا فيجب عليه حقاً أن يقرأ.

ومأساة رجل كالحلاج أو السهروردي هي في أن رسالة الوحدانية المطلقَة الكامِلَة لا يمكن أن تتمّ دون أن تجلب عليه التكفير، ولا يظل مخلصاً مؤمناً إلا تحت مظاهر الكفر والجحود.

فلندرس بعناية بعض التعريفات التي وضعها السهروردي. ففي كتاب «كلمة التصوف» أيضاً يقول: «إن التوحيد لا يُقصَد به ما انتشر عن إدراك الله بالوحدانية الذاتية والقيومية، وإنما يعني تجريد الكلمة (الصغرى، وهي النفس) عن علائق الأجسام في المكان، حتى ينطوي في الربوبية القيومية كل نظر في مبادئ الوجود ومراتبه؛ ولا مقام وراء هذا المقام، وإن كان فيه مراتب».

ولننظر إذن في كيف أن «الحكيم المتألّه» عند السهروردي يكون دائماً على ارتباط وثيق بالصوفي المجرّب الذي يتذوّق.

وثمّة أربع درجات تتدرج حتى الكمال النهائي للتوحيد الذي يكون درجة خامسة، هي الحد النهائي:
أولاً: درجة من يقولون: «لا إله إلا الله». وهي درجة سائر الناس ممن لا يضيفون الألوهية إلا إلى الله.

ثانياً: ومن يقولون: «لا هو إلا هو»، وهؤلاء ينفون عن «الهوَ» الإلهي كل أنواع «الهوَ»، أعني أنه لا أحد غيره «هو» يقدر على أن يسميه «هو» لأن كل «هو» يصدر عنه ويُشتَقّ منه.

ثالثاً: ومن يقولون: «لا أنت إلا أنت». والذين ينطقون بهذا أسمى من السابقين، لأنهم لا يسمون الله بضمير الغائب وكأنه شيء غائب، وينكرون كل «أنت» تريد أن تشهَدَ على نفسها بهذا.

رابعاً: لكن كل من يخاطِب تقوم بينه وبين من يخاطبه مسافة؛ وهو لهذا «مشرِك» لأنه يقول بوجود الثنائية وجوداً فعلياً. ولهذا فإن الصيغة التي يكمل بها التوحيد هي «لا أنا إلا أنا».

يضيف السهروردي قائلاً: «إن هذه الصيَغ كلها ليست إلا حجباً، والمتقدمون في الطريق يُغرِقون هذه الكلمات الثلاث (هو، أنت، أنا) في بحر الفناء، هنالك تسقط الأوامر والنواهي، وتختفي كل إشارة «كل شيء هالِك إلا وجهه» (سورة القصص:88).

عند الحلاج والسهروردي، فإن الحجاب نفسه ما هو إلا شرط للحب، ولكن «الأنا» المخلوق، هو عينه هذا الحجاب، وهو الذي يجب عليه إذن أن يقبل التضحية بنفسه، ويُجذَب.


صفحة من مخطوط يعتقد أنه من تأليف السهروردي

التوحيد في رسالة «الغربة الغربية»


يستهلّ السهروردي رسالة «الغربة» بتحدثه عن رسالة بعث بها إلى سجين الظلمات وقد جاءت بها حمامة من بلاد سبأ (سورة النمل: 22)، وهي رسالة من أبيه يقول له فيها إنهم يدعونه ولكنه لا يأتي، ويأمرونه بأن يأوي إلى جبلهم ويبلغ أهله وأن يركب السفينة (سورة الكهف: 70) ويقول: «بسم الله مجراها ومرساها» (سورة هود: 43) وكل ما قدرت ملاقاته في الطريق مشروح في هذه الرسالة (الآية الأولى من سورة الكهف تشير إلى رحلة موسى مع الخضر، والثانية من سورة هود تشير إلى سفينة نوح.).

ففي رسالة السهروردي الموسومة باسم «كلمات ذوقية ونكتات شوقية»، والتي هي على هذا النحو بمثابة صلة لرسالة «الغربة الغربية»، إيضاح لقول النبي: «حب الوطن من الإيمان»، وفي كعبة هذا الإيمان تدعى النفس للدخول، منكرة للهياكل التي هي الأبدان الأرضية كما تنكر الأصنام وتحطمها. فإذا ما عرفت معنى الوطن الحقيقي، فاخرج من هذه القرية الظالِم أهلها، واذهب إلى عبادان، القرية التي بعدها تُمحَى الحدود كلها. ثم يورد أمثلة وشواهد، أولاً على هيئة أمثال، فيمثل القمر على أنه عاشق الشمس لا يتوقف أبداً، بل يظل في سيره ومنازله حتى يرتفع من منزلة الهلال إلى سمت البدر؛ وفي إبان تمامه تنعكِس عليه أشعة المعشوقة (الشمس، ملكة الكواكب)، وتُحرِق كيانَه الذي هو بطبعه ظلمة. فإذا نظر العاشِق المسكين إلى نفسه لا يُبصِر بعدُ شيئاً إلا وجده مملوءاً بهذا النور، هنالك يصيح: «أنا الشمس». وهذه الإشارة إلى العبارة الوجدانية الإلهية المشهورة التي قالَها الحلاج: «أنا الحق»، تبدو بوضوح في النص: أبو يزيد البسطامي والحلاج وغيرهما من أصحاب التجريد كانوا أقماراً في سماء التوحيد، ولما كانت أرض قلبهم تتلألأ بنور ربهم، كانوا يُظهِرون السر الظاهِر والباطِن. والله الذي يُنطِق كلَّ شيء هو الذي أنطقهم، فإن حقيقته تنطق بلسان أوليائه.

وبهذا القول الأخير نبلغ «المبدأ» الأوحد الذي بصّرتنا به نظرية السهروردي في قراءة القرآن، فيثبته لنا على أنه «الواحد» الذي يوحّد نفسه بنفسه في شهادة الإيمان التي ينطق بها المؤمن الواصِل إلى الشعور بشعوره.

هذا هنا على نسبة بين نظامين، لا يمكن الانتقال من أحدهما إلى الآخَر، إلا «بمحوٍ»، «بتجريدٍ» كامِل للعقل والقلب. وهذا الانتقال ليس ثمرة بيّنة مأخوذة من علوم العقل، ولكنه إخلاء السبيل لمن خاطبه الحلاج قائلاً:

«أنت بين الشِّغاف والقلب تجري ...|... مِثْلَ جَرْي الدموع من أجفان
وتُحِلُّ الضميرَ جوف فؤادي ...|... كحُلولِ الأرواحِ في الأبدانِ»

وعلى هذا فإن الله وهو نور (سورة النور: 35)، والنفس من أمره ونوره (راجع سورة الإسراء: 37: «الروح من أمر ربي»)؛ وفي هذا تقوم الرابطة بين النفس وبين الله: فكيانُها من النورِ لأنها النظام، ولأنها الأمر الخالِقُ الصادِرُ من الله الذي هو نور.


خلاصة


إذن فمن خلال هذه الدراسة المتواضعة ندرِك الوحدة الكامنة في هذا المفكر، ونستطيع أن نفهم الأساس في هذا الوجود، وهما اللذين بديا لنا أول الأمر عند السهروردي على أنهما تعبيران عن العزم على متابعة تراث النبي وحكماء إيران (أعني في اعتناقه لمذهب النور). وهكذا جاء السهروردي، في مقابل الطبيعيات السماوية عند أرسطو، يعبر عن نفسه بلغة علم الملائكة في إيران القديمة، ثم رأينا كيف أن هذه الكلمة تستلزم وتولد مقالاً في شكل أمثال، لأنها حادث واقعي فيه تنتظِم النفس ذلك النور الذي يسبقها ويهيمن عليها، وليسَ الأمر مجرد بحث نظري. وأخيراً رأينا هذا الحادث وقد بلغ كمالَه في توحُّد الواحد الذي يجر المؤمن به إلى الموت عامراً بنشوته.

نعم، فلقد بدأ السهروردي حياته الروحية بنغمة من شعر الحلاج في التوحيد:

«لأنوارِ نورِ النورِ في الخلق أنوارُ ...|... وللسر في سرّ المُسرّين أسرارُ»

وقضى السهروردي عمره يوقع عليها متنوع الألحان.


أهمية السهروردي


إن أهمية السهروردي لكبيرة في الحقيقة، فهو يأتي على الصعيد الأول من الوجهة التي تنفتح على مصير الكائن الإنساني. أما وظيفته فهي من نواحٍ ثلاث. إذ به تتم القيامة، ذلك أنه محل «الأجسام اللطيفة»، وبه تتحقق صحة الرموز التي أشار إليها الأنبياء، كما تتحقق صحة جميع التعابير الناجمة عن الرؤى، وبالتالي فيه يتم «التأويل»، ذلك التفسير الذي يعود بمعطيات الوحي القرآني إلى حقيقتها الروحية.

كما بوسعنا أن نميّز فيه الخط الفاصِل بين المشرِق، حيث تسيطر تأثيرات السهروردي وابن عربي، وبين المغرب حيث تتطور «المشائية العربية» إلى «رشدية سياسية». وبينما اعتاد المؤرّخون أن يروا في «الرشدية» العروبة، والكلمة الأخيرة في الفلسفة العربية، تقدِّم لنا «الفلسفة الإسلامية» عوضاً عن ذلك معيناً لا ينتهي من المناهل والثروات الفكرية.


مختارات من رسالة السهروردي: «مقامات الصوفية»



صلاة للسهروردي لله تعالى جلّ جلاله


«الحقيقة شمس واحدة لا تتعدد بتعدد مظاهرها من البروج. المدينة واحدة، والدروب كثيرة، والطرُقُ غير يسيرة. صُم عن الشهوات صوماً ينقطع باستهلال هلال موتك، وورود عيدك بقدومك على مُبدئك ومعيدك. صلِّ لربك والليل مظلم فَيَسْترهِبُك بتحيير حواسك، ويخوّفك بهمس أنفاسك، فيَلزَمك، حينئذ، الالتجاء إلى نور الأنوار. قفْ على باب الملكوت وقل: يا قيّوم الملكوت، الظلامُ أحاط بي، وحيّات الهوى قصدَتني، وعقاربُ الدنيا لسعَتني، وتماسيح الشهوات لدغتني وتركتني بين خصومي غريباً. يا أرحمَ عليّ من أبويّ، أنقذني وخلصني من سخطك. أدعوك يا رب بأنين المذنبين، أدعوك يا رب بتأوّه المجرمين، أناديك يا رب نداء غريق في بحر الطبيعة، هالك في مَهْمَهِ الشُبُهات. ها أنا مطروح على باب كبريائك. أيحسن من لطفك رد الفقير خائباً؟ أيليق بجودك طردُ الكئيب قانطاً؟ كل عبد إذا استجار بمولاه أجاره. فما لعبدك قد استجار فلا تجيره؟ أسيرٌ على الباب واقف يشكو من جيران سوء. لكل أسير قومٌ يرحمونه. فما لأسيرك لا ترحَم عليه بنظر منك؟ عبيد الآثمين في فرح ونيل، إذا لاذوا بمواليهم أحسن مواليهم إليهم. فما لعبدك الملتجئ بجناب جبروتك لا تلتفت إليه بجذبة من جذبات نورك. أفيرجع عبيد الآثمين في فرح ونيل، وعبدك يرجع خائباً عن نورك منتكِسَ الرأس بينهم؟ فهلا يقول عبيد الآثمين: ويل لك، هذه عطايا موالينا، فأين عطية مولاك؟

سبحان رب الجبروت، أنت سبُّوح قدّوس، ربُّ الملائكة والروح، أذقني حلاوة أنوارك، وأهّلني لمعرفة أسرارك. اللهم، كم من عبد آبقٍ ألمّ به مرض، فطرده الناس ولم يرضوا بمجاورته، فحملوه، وطرحوه على باب مولاه. فبينما هو ينوح على نفسه إذ أشرف عليه صاحبه فرحم غربته وذِلّته فقال: يا عبدَ سوء هربتَ عني ثم عدتَ إليّ حين لا يقبلك غيري فعفوت عنك. إلهي، أنا العبد الآبِق، حل بي مرض المعاصي. ها أنا ساقط على بابك على ظَماء. فما بال مريضك لا تعالجه وظمآن لطفك لا تسقيه شَربة من زلال عفوك؟

يا من قذف نوره في هُويّات السابقين، وتجلّى بجلاله على أرواح السائرين، وانطمس في عظمته ألبابُ الناظرين. اجعلني من المشتاقين إليك، العالِمين بلطائفك، يا ربّ العجائب، وصاحب العظائم، ومبدعَ الماهيات، وموجدَ الأنيَّات ومُنزِل البركات ومُظهِر الخيرات، اجعلنا من المخلصين الشاكرين الذاكرين الذين رضوا بقضائك، وصبروا على بلائك. إنك أنت الحي القيّوم، ذو الحول العظيم، والأبدي المتين، الغفور الرحيم».


وفي إحدى فصول الرسالة «مقامات الصوفية» يقول



مقامات الصوفية

سُئِلَ بعض المشايخ من أهل التصوف عن الصوفي فقال: «مَنْ كان مع الله بلا مكان». وقول الجنيد، رحمه الله، حين سئل عن الحقيقة:

«وَغنَّى لِيَ مِنْ قَلْبِي ...| ... وَغَنَّيْتُ كَمَـا غَنَّى
وَكُنَّا حَيْثُ مَا كَانوا ... | ... وَكانوا حَيثُ ما كُنّا»

ومن هنا نفهم قول أبي طالب المكي (وهو واحد من أتباع المدرسة السالمية التي أسسها سهل التستري المتوفي عام 896م) في حق أستاذه الحسن بن سالم إنه «طَوَى عنْهُ المَكَانَ»، وفي حق النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا لبَسَه لبْسُه رفع عنه الكون في المكان». وقال الحلاج في «الطواسين» أيضاً في حق النبي عليه الصلاة والسلام: «إنه غمض العين عن الأين». ويستحيل على الجرم وهيئته وذي المكان أن يُرفع عنه المكان أو يغمض عن الأين. وقول الحلاج: «تبَيَّنَ ذاتي حَيْثُ لا أيْنِ». وقول بعضهم: «طلَبْتُ ذاتي في الكونين فما وجدتُ» (حيث أن لفظة «الكَوْنيْن» تعني بالنسبة إلى السهروردي «العالم العنصري» و«العالم الأثيري» أو «العالم السماوي»)، وقول الحلاج: «حَسْبُ الواحِدِ إفرادُ الواحِدِ». وقوله في حق الصوفي: «إنه وِحدانيٌّ بالذاتِ لا يَقبَلُ ولا يُقبَلُ». وكلُّ جرم منقسم وكذا هيئاته، والواحد لا ينقسم، وفي كلام أبي يزيد من هذا كثير، وكلماتهم في ذلك لا تنحصر.

وللكلمة نسبةٌ إلى القدس وأخرى إلى البدن. وقد رُتِّبَ للإنسان ونحوه بحواس خمسٍ ظاهرة وهي: اللمس والذوق والشم والسمع والبصر، وخمسٌ باطنة: الأول يسمى الحس المشترك وهو قوة في مقدّم الدماغ تجتمع عندها مُثُلُ جميع المحسوسات فيدركها ويدرك بها أن هذا أبيض وهذا حُلو، وهذا حاضر. والحس الظاهر منفرد بأحدهما، والحاكِم لابد له من حضور كليهما. وما يُرى من النقط الجوالة بسرعة دائرة فإنما هي لتأدي الصورة من البصر إليها وانضمام الإبصار الحاضر إليها، فإن البصر لا يدرِك إلا بالمقابل، وبالمقابل نقطة لا غير، فكلما يرتسِم في الحس المشترك يشاهَد. والثاني الخيال وهي قوة في آخر التجويف الأول من الدماغ، هي خزانة الحس المشترك لجميع صوره. والثالث قوة في التجويف الأوسط هي الحاكمة في عجم الحيوانات، وهي التي تدرك في المحسوسات معانٍ غير محسوسة كإدراك الشاة معنى في الذئب موجباً للهرب فتُسمّى الوهم. وتخدمه فيها قوة بها التركيب والتفصيل، فتركّب الحيوانات من أعضاء مختلفة من أنواع الحيوان، وتفرّق أعضاء حيوان واحد وتنتقل من الشيء إلى ضده وشبيهه، وإذ هي تحاكي المدركات وأحوال المزاج سُمِّيَت متخيلة، وعند استعمال العقل مفكّرة. والخامس قوة في التجويف الأخير هي حافظة وخزانة لأحكام الوهم سُمِّيَت حافظة. وعُرِفَ تغاير هذه القوى ببقاء بعضها مع اختلال البعض، وعُرِفَت مواضعها بلزوم اختلالها من اختلال تلك المواضع.

وفي الحيوان قوة محركة وله قوة نزوعية باعثة على التحريك، مذعنة للمدركات، ومنها شهوانية جالبة للملائم، وغضبية دافعة للمكروه. وفي الحيوان جرم لطيف حار يحصل من لطافة أخلاط مبدؤه القلب سمّاه الحكماء الروح، هو حامل جميع القوى وهو واسطة بين الكلمة والبدن. فإن عضو الإنسان قد يموت مع بقاء تصرف الكلمة في البدن لسدَّةٍ منعَت هذه الروح عن النفوذ إليه، وهو غير الروح المنسوب إلى الله تعالى، أعني الكلمة التي فيها قال الله تعالى: {فإذا سوّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فيه من روحي}. وقال تعالى: {وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه}.

ملاحظة: بخصوص ورود «الكلمة»، فالمقصود منها حسب سياق النص هو التالي: السهروردي يقول في رسالته ضمن هذا النص ما يلي: «أدركتَ الواحد المطلق وهو شيء ما لا ينقسِم أصلاً. فلو كانت صورته في جرم أو هيئة فانقسم بالضرورة لانقسام محلّه، فما كنتَ عقلت الواحد غير المنقسم أصلاً، فلما عقلتَ فالعاقل فيك بريء عن الأبعاد ولوازمها، وسمّاه الحكيم النفس الناطقة، والصوفية السرّ والروح والكلمة والقلب. فشرح الكلمة أنها ذاتٌ ليست بجرم ولا بجرمية قائمة لا في محل، مدرِكَة، لها التصرف في الجرم».


من قصائد السهروردي في الحب الإلهي




وارحمتا للعاشقين



أبـداً تحـنّ إليكمُ الأرواحُ ...|... ووصالُكم رَيْحانُها والرَّاحُ
وقلوبُ أهلِ ودادكم تشتاقكمْ ...|... وإلى بهاء جمالكمْ ترتاحُ
وارحمتا للعاشقين تحمَّلوا ...|... ثِقَلَ المحبّةِ والهوى فضَّاحُ
أهل الهوى قسمان: قسمٌ منهمُ ...|... كتموا، وقسـمٌ بالمحبَّةِ باحوا
فالبائحونَ بسرّهم شربوا الهوى ...|... صِرْفاً فهزَّهُمُ الغرامُ فباحوا
والكاتمون لسرّهم شربوا الهوى ...|... ممزوجةً فحَمتْهُمُ الأقداحُ
بالسرّ إنْ باحُوا تُباحُ دِماؤُهم ...|... وكذا دماءُ البائحين تُباحُ
وإذا هُـمُ كتموا تحدّث عنهمُ ...|... عند الوشاةِ المدمعُ السفّاحُ
وبدَت شواهدُ للسَّقام عليهمُ ...|... فيها لمُشْكِلِ أمرِهِم إيضاحُ
خُفض الجناحُ لكم، وليس عليكمُ ...|... للصبِّ في خفض الجناح جناحُ
فإلى لقاكم نفسهُ مرتاحةٌ ...|... وإلى رضاكم طرفُهُ طمّاحُ
عودوا لنور الوصل من غسق الدُّجَى ...|... فالهجر ليلٌ والوصال صَباحُ
صافاهمُ فصفوا له، فقلوبهم ...|... في نورها المشكاةُ والمصباحُ
وتمتعوا فالوقت طاب بقربكم ...|... راق الشرابُ وراقَت الأقداحُ
يا صاحٍ ليس على المحب ملامة ...|... إن لاح في أفق الصباح صباحُ
لا ذنب للعشاق إن غلب الهوى ...|... كتمـانهم، فنما الغرامُ، فباحوا
سمحوا بأنفسهم وما بخلوا بها ...|... لمّـا دروا أن السـماحَ رباحُ
ودعاهمُ داعي الحقائق دعوةً ...|... فغدوا بها مستأنسين وراحوا
ركبوا على سُفن الوفا، ودموعهم ...|... بحرٌ، وشـدّة شـوقِهم ملاَّحُ
والله ما طلبوا الوقوفَ ببابهِ ...|... حتـى دُعوا، وأتاهمُ المفتاحُ
لا يطربون لغير ذكر حبيبهم ...|... أبـداً، فكلُّ زمانهم أفراحُ
حضروا وقد غابت شواهدُ ذاتهم ...|... فتهتكوا لما رأَوْهُ وصاحوا
أفناهمُ عنهم وقد كُشِفَت لهم ...|... حُجب البَقـا فتلاشَت الأرواحُ
فتشبَّهوا إن لم تكونوا مثلهم ...|... إن التشبُّه بالكرام فلاَحُ


المراجع


1) كتاب «تاريخ الفلسفة الإسلامية»، تأليف: هنري كوربان، ترجمة: نصير مروة وحسن قبيسي،
دار عويدات، بيروت، 1966.
2) كتاب «شخصيات قلقة في الإسلام»، تأليف: د. عبد الرحمن بدوي.
3) كتاب «منطق الطير»، تأليف: فريد الدين العطار النيسابوري، دراسة وترجمة: الدكتور بديع محمد جمعة، دار الأندلس، الطبعة الثالثة، 1984.
4) كتاب «مقامات الصوفية»، تأليف: السهروردي، تحقيق وتقديم وتعليق: الدكتور إميل المعلوف (دكتوراه في الفلسفة من جامعة كامبريدج).
5) كتاب «أجمل القصائد في الحب الإلهي»، إعداد: عبد الفتاح درويش، دار حمورابي، 2007.

إعداد: نبيل سلامة

اكتشف سورية