مواضيع ذات صلة:


    من سورية

    جزيرة أرواد

    ماهر بارودي فنان سوري عالمي ينحت الأمل
    الخراف عندما تحز رقبة السكين!

    12/آب/2009

    السخرية من أغطية المشروبات الغازية، كأوسمة كما السخرية من السكين التي تجزها رقاب الخراف، سخرية مفرطة توازي ضحكة مجلجلة في بيت عزاء، اقتراب من الوحل وغوص به حيث الكثيرون هناك يتوسدون الرطوبة ويختنقون بأناتهم، البارودي يلتقط هؤلاء ويعجنهم بمنحوتاته، لكن أنينهم لا يصل إلا عندما يقف كلب أو حمار فوق رؤوسهم، هم مرميون على الأرض والكلب ينتصب برأسه ناعماً بالفضاء، هم يلوذون بأثمالهم في الخارج العاصف، والكلب في الداخل حيث الدفء. المفارقة تنفجر كما طلقة خلبية، مجرد صوت، وإن كان! فماهر لا يريد قتل أحد، بل أن يقول للجميع، أن الجميع يساقون إلى دكان الجزار في كل مكان، فثمة عبث أسود يقود العالم.

    الميكروفون قضيب ذكري يقتحمنا جميعاً ويسوقنا قطيعاً وراء الكبار القتلة، وإلا كيف ساق الإعلام العالم قطيعاً، إلى تصديق الكذبة؟ فكان الموت في العراق.


    لماذا نكون نحن الخراف الوحيدين في العالم (العالم الثالث)؟ في مقصلة العالم. ثمة خاروفان بينهما مرآة، هل تريد أن تشاهد اللوحة وأنت تنظر في المرآة؟ من تكون أنت؟ الخاروف أم الجزار، أم كليهما؟ هل ستثور في داخلك، أم ستلوذ بزاوية في بيتك على أريكة ما، وأنت تشرب المياه الغازية!


    من أعمال التشكيلي السوري ماهر البارودي

    نقد كاريكاتوري تشكيلي لاذع، يرتفع ليكون البارودي في مشهد المفكرين المدافعين عن الإنسان، ويرتفع ليكون إنساناً يتحمل ويحتمل صفتي جرأة الصدق ومغامرة التشكيل بلون الصراخ والضحك الأسود. هل تعرفون كليلة ودمنة؟ عندما تكلمت الحيوانات بألسنة البشر لتقول: كلنا فداء الجزار. ماهر البارودي يقلب طاولة القصاب على رأسه، ويحول رقص الخراف في حفلة الموت، إلى حفلة سريالية هوسية واعية ولا واعية من الضحك على السكين لحظة تُحرك على الرقاب غرغرة الأحمر.

    يضحك، يبكي، يلوث اللوحة، المنحوتة، بوحل وسواد وأحمر، يصور كل البشاعة العالمية، كل البشاعة البشرية الحيوانية، لكن تشكيله يبقى رغم كل نزفه متمتعاً بكل جماليات التشكيل والتكوين والغرابة والابتكار الذاتي والإنساني اللصيق بماهر البارودي كفنان يحترق في اليوم ألف مرة ليصفع الجزار بكل المرارة مرة.

    وخلال زيارته لوطنه سورية، زارنا الفنان ماهر البارودي في «اكتشف سورية»، وكان معه هذا اللقاء المباشر:

    - من هو البارودي كإنسان وفنان؟
    - لا فرق لدي بين الإنسان والفنان فكلاهما صفتان يحملان ذات القيمة، من تحسس الإنسان والقدرة على التعبير عنه. سافرت إلى فرنسا عام 1979 مثقلاً بهمومي وآمالي التي أشارك بها مجتمعي، وبعد سنين طويلة من الغربة لا زلت مثقلاً بذات الهموم والآمال. همومي تكمن بانشطاري بين دمشق وفرنسا، فأنا لا زلت حتى اليوم أتحدث بلغتي الشامية، وهذا محط استغراب الأصدقاء، هناك أنا كذلك أحمل هم أن أجد نصفي الثاني في دمشق، وآمالي كلها تكمن بأن أستطيع تنفيذ هذا، لولا بعض الظروف.

    - ماذا أعطتك فرنسا، وماذا أعطيت فرنسا؟
    - أعطتني فرنسا الاستقرار كإنسان وفنان، والحرية، وهذا أهم ما تحتاجه لتستطيع أن ترسم وتنحت، وأن تعبر عما يخيفك أو يشغلك، أو ما تتطلع إليه أو ما تفكر به. أعطيت فرنسا حسي الخاص، وترجمتي الثقافية والفنية لما أملكه من جذور وتاريخ، فقد عبرت عن هذا التاريخ بالكثير من الأعمال النحتية والتصاوير.

    - إذا كنت تتابع حراك الفن السوري، فكيف تراه بالمقارنة مع الفن في أوروبا؟
    - يبقى الفن السوري محافظاً على خصوصيته ولم يدخل موضات الفن الحديث، ولا زال جدياً أكثر، في سورية الكثير من التجارب الممتازة، عكس فرنسا، فهناك الفنانون مشغولون بهاجس الجديد دائماً، كون الكثير من المدارس قد خرجت من فرنسا، وفي اعتقادي أنا، أن الجديد قد استنفذ، باستطاعة أي كان هناك، أن يقول عن نفسه فناناً إذا فعل إذا أي شيء، الفنان الجدي هو من يذكرنا بشيء فني حدث، لكنه يقدمه بأسلوبه وبقالب جديد وخاص، هذا هو الفنان الجدي برأيي.

    - كيف يتحدث الفنان ماهر البارودي عن مفهومه للرسم والتصوير؟
    - أنا لم أتعلم الرسم والتصوير من خلال دراستي الجامعية، فأنا كنت أرسم وألون منذ كنت طفلاً، فأنا عندما دخلت الجامعة كانت لدي خبرتي، الرسم بالنسبة إلي هو بداية لأي عمل فني، ويتجسد بهذه الكروكيات (دراسات أولية سريعة)، وذلك لنقل الفكرة بشكل مباشر إلى الورق قبل أن تتسرب منسية، وهذه الكروكيات قد تتحول إلى لوحات ذات قيم غرافيكية (لونية) أو تصويرية. التصوير هو استعمال اللون بمعالجات مختلفة وطرائق متعددة، إلا أني أرى أن اللون يخفف أحياناً من حدة الدراما في اللوحة، لذا تراني غالباً ألجأ إلى الأسود والأبيض (الفحم).

    - تراجيديا الملهاة أم كوميديا التراجيديا، أيهما أقرب إليك في أعمال الخراف؟
    - أرى نفسي أكثر اقتراباً من المؤلم المضحك (تراجيديا الملهاة)، أنا المسكون بكل هذا الألم أكون أكثر سخرية وأنا أعبر عما أشعر به، أثناء العمل أكتشف تخيلات عبر قيمي اللونية، حيث أكون في مواجهة لاشعورية مع ما يختلج فيّ فأراه يتحول إلى اللوحة، يفاجئني ويجعلني أسخر منه، أضحك منه، وعندما أراه هاماً في عملي أتركه، وأنا لا أتركه إلا لأنه يمس فيّ ألماً ما، أو وجعاً ما، عندما أتركه أرتاح، كمن فرغ إحساساً ضاغطاً، أنا أتخلى عن ألمي وهمي في اللوحة، أو في العمل النحتي، لكني لا أترك لوحتي مجرد ألم بل وضحكة أيضاً.

    من أعمال التشكيلي السوري العالمي
    ماهر البارودي

    - الحمل يرمز إلى السلام والبراءة، فمن هو هذا الحمل في أعمالك؟
    - الحمل هو هذا الإنسان، أنا فقط حولت إنساني إلى خروف، فأنا كنت في البداية أرسم الخروف كاملاً، لكني بدأت أكثف وأختزل منه، بعد أن تمكنت منه تشريحياً وتدريجياً أخذ يقترب أكثر من ملامح إنسانية، وذلك من خلال حراكه التعبيري، إن كان في نظرات العيون، أو في الوجه، أو في الشكل التعبيري. ما أقصده أني صرت أقترب بالخروف من التعبير الإنساني، وهو ما كنت أفعله بشكل مختلف عندما كنت أرسم الإنسان، إذ رحت أقترب به – تعبيرياً – لأعكس داخله المشوه، من خلال ازدواجية الشكل ومن خلال الأقنعة أيضاً.

    - هذا يفرض سؤالاً آخر، كيف كان الفنان ماهر البارودي يرسم الإنسان؟
    - في البداية، كان إنساني مستوحًى من المصحات العقلية، وبعد ذلك صرت أحمل هذا المريض شخصيات المعروفين في المجتمع كأصحاء، من طبقات معروفة، أي إن هذا المريض النفسي، لم يكن مرضه إلا دليلاً على صحته النفسية، فكيف نرى كل هذا الظلم والخواء ونبقى متوازنين نفسياً. المتكيف مع كل هذا هو مريض نفسي بشكل أو بآخر، وهؤلاء الذين تحجرت قلوبهم هم من يجب أن تغلق عليهم الأبواب ويوضعون في المصحات، لأنهم أكثر فتكاً بالمجتمع (بكل المجتمع لو أردت). ثم انتقلت بعد هذه المرحلة إلى مرحلة رسم المشردين في الطرقات لأن هؤلاء المشردين يمكن أن يصبحوا مرضى نفسيين في أي لحظة، أو العكس، بمعنى أني حولت الفن إلى وسيلة مواجهة للغطرسة في المجتمع، وغياب العدالة. بدأت عام 1974 بهذه المرحلة وتبلورت عام 1979 مع التخرج من الجامعة، إلا أنها ازدادت حضوراً بعد أن سافرت إلى فرنسا، واستمرت هذه المرحلة من العمل على الإنسان، نحتاً ورسماً وتصويراً، إلى عام 1997، حين بدأت رموز أخرى تدخل إلى عوالم اللوحة والنحت، منها الكلب والحمار اللذان شغلا حيزاً من أعمالي التشكيلية.

    - لكن الكلب والحمار، هما حيوانان محببان في الغرب، وليسا كذلك لدينا، هذا يعني أن التعبير وفهم اللوحة سيختلف بين المكانين، فهل استطعت أن تقول ما تريده بحيث يصل إلى الجميع؟
    - لم تكن هذه مشكلة لدي لأني كنت أظهر الملمح الإنساني في هذا التشكيل، والمقارنة هنا ليست دقيقة، لأنني كنت أخرج هذا المفهوم من إطاره الضيق ليكون عالمياً. هذا يجري في كل العالم، ومع بداية غزو أفغانستان ثم العراق، بدأت أركز على مفهوم رسم الحيوانات كرمز واستعارة للكيفية التي يرانا بها الغرب، كعالم ثالث، هنا أنا أسجل احتجاجاً على عنصرية الرؤية والنظرة، استخدمت رموزاً إضافية منها الببغاء والخنزير والخروف، بعد ذلك استمريت في العمل على الخراف.

    - كيف أفهم توقفك تشيكيلياً عند الخراف؟
    - لأني وجدت أن الإعلام في الغرب أقوى من القنابل لديهم، وهو ما يتجلى بانصياع ذلك الغرب لإرادة إعلامه المضلل، كما القطيع، حتى أني استخدمت مع هذه الحيوانات الميكروفون للتدليل على هذه الحالة من الانسياق للإعلام لأصل إلى أكبر عدد ممكن من المتلقين.

    - إذا كنت تشبه الغرب بالقطعان، فماذا تقول عن الشرق؟
    - الأمر لا يختلف كثيراً فالكل يخضع لسطوة الإعلام، نحن نخضع عالمياً لشريعة الغاب.

    من أعمال التشكيلي ماهر البارودي

    - يذكرني بعض من منحوتاتك ورسومك التي تشغلها شخصية المهرج بشخصية المهرج في لوحات بيكاسو، ما المختلف والمتشابه بينكما؟
    - لم أكن أفكر ببيكاسو عندما رسمت المهرج، أنا رسمت المهرج الخاص بي، كنت أرى هذا المهرج في المصحات النفسية قبل أن أسافر، أنا حملته معي إلى فرنسا، وهناك أفرجت عنه، هو امتداد حقيقي لمشاهدة واقعية لأحد المرضى الذين كانوا يضعون أغطية الكازوز (المياه الغازية) على صدر قميصه كأوسمة ونياشين.

    - إذاً، هل استوحيت أعمالك التي تصور الجنرالات من تلك المصحة النفسية فقط؟
    - نعم، كبداية كنت أستوحي منها، لكن مع الوقت تبلور المفهوم وتوسع، ومع دخول تأثيرات جديدة، أصبح الجنرال يمثل رمزاً لقطبي العالم، وهو ما جسدته في عمل نلت جائزة في باريس (1982) ويصور شخصيتي جنرالي أمريكا والاتحاد السوفييتي سابقاً، تحت شجرة ذابلة فاقدة للحياة. هذا العمل منفذ نحتياً، ومن خلال هذا العمل ولعشر سنوات لاحقة استوحيت الكثير من الأعمال من خلال هاتين الشخصيتين والصراع ما بينهما.

    - توغل كثيراً في الأشياء، وكأنك عندما تنحت في الحجر، تصل إلى حدود شهقة روحه، وهكذا في بقية أعمالك، ألا يرهقك كل هذا الاقتراب من الألم، ولكل الوقت؟
    - نعم هذا يرهقني جداً، لكنه يريحني في نهاية المطاف، إنه يريحني لأنني أريد أن أوصل رسالتي إلى الآخر، فأنا أحمل الأمل على الدوام بالتغيير.

    - يغلب على بعض أعمالك الإيقاع الكاريكاتوري، فأنت ترسم غرافيكياً وتشكيلياً بحس كاريكاتوري، أتعتقد أنك بهذا تصل إلى المتلقي بشكل أسرع؟ وما خصوصية هذا النوع من الرسم؟
    - عندما تزعجني حالة معينة وتؤثر بي أحاول قدر الإمكان أن أعامل هذه الشخصية بطريقة تحويرية وتشويهية، وكأنني أقاصصها تعبيرياً، وهذا هو كل ما أقدر عليه.


    من منحوتات التشكيلي ماهر البارودي

    - أقول أنك تمتلك صفة الجرأة العالية في قول الصدق، فهل ترى هذه الصفة لازمة لشخصك أم لفنك؟
    - أنا هكذا، وأعتقد أن الآخرين يرونني هكذا، فسلوكي وفني كل لا يتجزأ، لا يمكنني أن أقبل ما أرفضه، وما أرفضه لا بد وأن أعبر عنه بطريقتي، فأكثر ما يتطلبه الفن بداية، هو الصدق.

    - لنعد إلى لغتك النحتية، فأنت تفجر الحجر لتخرج منه، ولكنك تبقى فيه، ماذا يعني لك الخروج من الحجر؟
    - أنت تضعني أمام اكتشاف هذا المفهوم، فأنا فعلاً لا أخرج من الحجر، هو وطني وسجني، جذوري وحريتي، أنا ابن هذه الأرض سورية، غربتي عنها تشعرني بتلك الدوامة، أنا ألوذ بصلابة هذا الحجر، أنا أنحت فيه لأدخل رحم الأرض بذاك الطقس من السرية والسريالية.

    - التعايش مع الموت أو السفر مع الموت، أيهما أقرب في التعبير إلى عملك بشكل عام؟
    - أجد أن السفر مع الموت هو أقرب تعبيرياً في أعمالي، ولقد جسدت هذا التعبير في إحدى منحوتاتي والتي يظهر فيها رجل وامرأة يتكئان على تابوت، يصور هذا العمل رفقة الموت وقد استوحيت الفكرة من حرب لبنان، إلا أن الموت هو سفر يومي مع الغربة، الغربة موجودة في أي مكان إذا أنت فقدت حريتك وكرامتك كإنسان.

    .


    عمار حسن
    اكتشف سورية

    طباعة طباعة Share مشاركة Email

    المشاركة في التعليق

    اسمك
    بريدك الإلكتروني
    الدولة
    مشاركتك