Discover-Syria
 

 



المكونات الكلاسيكية والشرقية في فسيفساء تدمر

على الرغم من قلة قطع الفسيفساء التي تم اكتشافها في تدمر، إلا أن هذا القليل يحمل خصائص هامة ومميزة، وقد اكتشف هذه القطع هـ.سيريغ بين عامي 1939 و1941 في منزلين إلى الشرق من معبد بل، وقدم ا. فريزولز دراسة تمهيدية لهذين المنزلين وقام بنشر هذه القطع لأول مرة هـ. ستيرن.

كنت قد شاركت في ندوة عقدت في باريس عام 1983 بعنوان "فن الأيقونة الكلاسيكية والهوية المحلية" بموضوع عن الفسيفساء التدمرية التي، شأنها شأن كل فسيفساء المدن الشرقية، كانت ذات طراز إغريقي روماني على عكس أعمال النحت ذات الطراز المحلي. وسأتحدث في بحثي هذا عن هذا الموضوع، لكن من زاوية مختلفة، وسأحاول أن أظهر أن تدمر، على عكس ما يمكن استنتاجه من الدراسة الشكلية (دراسة الشكل) للفسيفساء ومن الدراسة المعمقة لمحتويات إحدى هذه القطع: لوحة "كاسيوبيا"، كانت على صعيد قطع الفسيفساء أيضاً، نقطة التقاء الحضارة الشرقية والغربية ومركزاً هاماً للتبادل التجاري والثقافي وبوتقة لانصهار العناصر المحلية والعناصر الإغريقية الرومانية أعطت أمثلة مهمة عن فن الأيقونة الخاصة بالأفلاطونية المحدثة.


1ـ المكونات الكلاسيكية: تحليل الأشكال:
التكوين:
لقد حفظت إكساءات الأرضية في منزل "أخيل" بشكل جيد في اثنين من أروقة الباحة، وبتحليلها نلاحظ سلسلة من اللوحات المربعة أو المستطيلة المتجاورة، ذات الموضوعات الهندسية أو التصويرية، تغطي أرضية الأروقة، وحلية دائرية داخل مربع في كل زاوية، وتحتل لوحة "أخيل في سيكروس" المحاطة بمستطيلين مزينين بمعينات الرواق الشرقي، وتحتل الرواق الجنوبي ثلاث لوحات، بنفس مساحة لوحة "أخيل"، وعلى جانبيها معينات داخل مستطيلات، تحوي اللوحة الوسطى منها رسوماً لأشخاص فقدت معالمها أما اللوحتان الجانبيتان فمتناظرتان، وتحويان شكلاً نجمياً مثمناً بداخله في اللوحة اليسرى اسكليبيوس وفي اللوحة اليمنى امرأة، في حين أن عناصر الرواقين الغربي والشمالي غير واضحة.

تعتبر وضعية تجاور اللوحات المربعة أو المستطيلة عنصراً تزينياً مميزاً في تغطية المساحات الطولية، ويمكن ذكر العديد من الأمثلة من إكساءات أرضيات أنطاكية في منزل "مركب بسيشه" ومنزل "ميناندر" ومنزل "المائدة المخدمة" (المنسوب الأوسط)، كما أن استعمال المعينات للفصل بين اللوحات المختلفة موجود بكثرة في لوحات أنطاكية.

الموضوعات الهندسية:
إذا انتقلنا إلى الموضوعات الهندسية، فسنلاحظ تكرر نفس الموضوعات: ترس، ترس دولابي الشكل، معينات على أطرافها مربعات، عُقد سليمان، فؤوس مزدوجة، شبكة من النجوم ذات رؤوس أربعة، شبكة من الدوائر المتقاطعة.

لقد تطور التشكيل الهندسي المسمى "قوس قزح" خلال القرن الرابع، وبلغ أوجه في نهايته، وقد حوى العناصر التالية: شارات على شكل /7/، مربعات متناسقة، خطوط بشكل مكعبات مستندة على أحد رؤوسها، أسنان منشار، وجميعها دون ألوان، تعتمد بشكل أساس، على التضاد بين اللونين الأسود والأبيض، والمثال على ذلك إطار لوحة "أخيل" التي تجد مثيلاً لها إطار فسيفساء اوتيكنيا في شهبا ـ فيليبوبوليس المحفوظة في متحف دمشق.

إن وفرة التزيينات، التي كانت مفرطة في بعض الأحيان، كانت جزءاً من تطور الزخرفة السيفيرية، وإذا أضيف لها أسلوب تجاور اللوحات الذي ندر واختفى في القرن الرابع، أصبح بالإمكان إرجاع فسيفساء "أخيل" إلى النصف الثاني من القرن الثالث.

التجسيد:
ننتقل الآن إلى اختيار الأشكال، فباستثناء لوحة "كاسيوبيا" التي سنعود إليها لاحقاً، تعتبر هذه الأشكال ذات طراز إغريقي روماني، ومن ضمن مواضيعها الثانوية نجد رأس ميدوزا واسكليبيوس وديونيسوس، أما بالنسبة لمواضيعها الرئيسة فنجد "أخيل في سكيروس" و"صراع السنتورات والوحوش الضارية" الذي يستخدم في إطار لوحة كاسيوبيا.

ولن نقوم هنا بتحليل مفصل لعناصر لوحة "أخيل"، ولكن سنقوم بوصف مختصر للوحة وهي تمثل اكتشاف أوليس للبطل أخيل بين نساء جزيرة سكيروس الذي تخلص من ثيابه النسائية لحظة سماعه صوت البوق، وهو موضوع كثر استخدامه في العهد الإمبراطوري سواء في اللوحات المرسومة أو لوحات الفسيفساء أو التماثيل المنحوتة أو حتى في القطع الصغيرة كالعاج والفضة والطين المشوي، وذلك ربما لكونه يرمز إلى تخلص الروح من غلافها الجسدي، وهو موضوع استخدم في التصوير الجنائزي، لذلك نجده على جوانب ناووس حجري كما نجده في مدفن الأخوة الثلاثة في تدمر نفسها.

أما بالنسبة للسنتورات التي وجدت في العصر الإغريقي المتقدم وانتشرت في الفن الهيلينيستي فإنها تغيرت في العالم الروماني وأصبحت رموزاً للحكمة كما كان شيرون معلماً لأخيل، وهي بدورها تنتمي للتصوير الجنائزي، فهي، بانتصارها على الوحوش الضارية، تمثل انتصار الروح المدعمة بالعلم على تجارب الحياة المادية.

الأسلوب:
تعود لوحات الفسيفساء جميعاً إلى أسلوب الخداعية الكلاسيكية الهيلينيستية، وتبدو وكأنها من صنع الفنان نفسه والمشغل نفسه.

نلاحظ في لوحة "أخيل" تلاعباً بالخطوط المنحنية والمتوازية لتعطي إحساساً بالحركة، أما في لوحة "كاسيوبيا" فنجد خطوطاً قوسية وقوسية متظاهرة في تشكيل حلقي يعطي إحساساً بالحركة المستمرة، وتنتج من تناقض مساحات الظل والنور نماذج ذات تأثير قوي مدهش الوجوه قاسية ومعبرة ومرتبة بنظام الثلاث أرباع مما يظهر فن تيترارشي، فإذا اكتفينا بالمظهر الشكلي للوحات، نستطيع إرجاع فسيفساء تدمر إلى الفن الروماني الشرقي.


2ـ العناصر الشرقية: أسطورة كاسيوبيا
على عكس الموضوعات السابقة، لا تنتمي لوحة "محاكمة النيريدات" (التحكيم في قضية النيريدات) رغم مظهرها، إلى الأساطير الكلاسيكية، وسنحاول، قبل أن نبدأ في تحليل اللوحة، أن نصحح جزئياً الوصف الذي أعطاه هـ. ستيرن، أول من نشر عنها، وهو تحت تأثير الآداب الإغريقية الرومانية التي تربط بين كاسيوبيا وأندروميدا، وأراد أن يعتقد أن الأميرة التعسة موجودة داخل اللوحة، فقال:

"جلست الأميرة عارية ودثار منشور عليها، وكاحلها ومعصمها الأيمن مربوطان، وقد رفعت يدها اليسرى في حركة رقيقة شاكية، ومعصمها الأيمن مربوط بشريط رمادي تطير نهايتاه في الهواء، وفمها مفتوح قليلاً، ونظرتها الثابتة تظهر الخوف الذي يشيعه في نفسها الوحش الذي يراقبها".

لكن الحقيقة هي ما قاله جان ش. بالتي أن أندروميدا ليست موجودة في اللوحة، وما وُصف على أنه أربطة ما هو سوى أساور تشبه ما ترتديه الشابات، أما لفائف "الوحش الذي يراقبها" فهي لأحد التريتونات المسالمة وتعبير "الخوف في عينيها" تعبير شائع على كل وجوه الشخصيات الموجودة في لوحة "صيد السنتورات" و"أخيل في سكيروس".

إن أندروميدا تدمر ليست سوى إحدى النيريدات الكثيرة التي تركب تريتوناً في مشهد بحري يحيط بشخصية كاسيوبيا الواقفة في بؤرة اللوحة والمعرفة بالكتابة تحتها و"كاسيوبيا"، في هذه اللوحة، تعرض جمال جسدها على النيريدات المدهوشات، وهي تبدو بشكل واضح تماماً في وضع المنتصر على بنات نيري أور، أما كاسيوبيا الإغريقية الرومانية فهي أبعد ما تكون عن النصر وقد دفعت غالياً ثمن غرورها الأحمق وجرأتها، وهي الفانية، على مقارنة نفسها بالخالدات، ومثلما عوقبت نيوبي لإغضابها ليتو عوقبت كاسيوبيا في شخض ابنتها، حيث يبين رسم على إناء من النصف الثاني للقرن الرابع قبل بدء التاريخ كاسيوبيا متوسلة عند أقدام أندروميدا طالبة منها الصفح، وكما يبدو لا تملك كاسيوبيا تدمر الكثير من الصفات المشتركة مع بطلة الأسطورة الكلاسيكية.

لا أستطيع هنا أن أشرح بالتفصيل الفكرة التي عرضها جان ش. بالتي، ولكني سألخص النقاط الرئيسة التي أوردها:

تعود كاسيوبيا في أصولها إلى الإله السامي القديم بعل ولذلك كانت وجهاً محلياً سورياً، مثّل انتصارها على النيريدات تفوق جيل ثانٍ من الآلهة الشبان على القوى الإلهية القديمة، أو بمعنى آخر مثل انتصار النظام الكوني على الفوضى المائية رمز العماء البدئي، ونجد في الفسيفساء التدمرية أدلة كثيرة على هذه الفرضية، فخلفية اللوحة تمثل دائرة البروج الفلكية والرسوم النصفية للفصول تدل على التجدد الدائم للسنة، كما أن صورة الإله في الحلبة الدائرية المركزية التي تطل على صورة كاسيوبيا وتحددان معاً محور المشهد يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار لارتباط الإله الشديد بكاسيوبيا، فكأنه انتقال إلى الألوهية المحلية، ونجد، في هيئة بوزيدون الهيلينيستي، الإله السامي "خالق الأرض"، أو ربما بعل سيد الكواكب والسماء ذات النجوم والظواهر العلوية، ذاك الذي "يضم البحر داخل أملاكه وينسق الكون بنظام ملائم لحياة الإنسان"، كما يعرف في نصوص أوغاريت، كما أن الشخصية حاملة المجداف، تحت أقدام الإله، ليست سوى تالاسا/تيش.

إذاً، يمثل التشكيل الإله السامي، حاكم البحر وسيد البروج، وهو يقرر مصير العالم، وهذا ما يرمز له الطفل المجنح المتجه نحو الإله و"كأنه يطلب رضاه"، كما وصفه هـ. ستيرن، والممسك بعروة جرة تحوي أوراق القدر.

لقد استعار مصمم هذا النموذج الفني مجموعة من العناصر من التراث الأسطوري الشرقي ليخلق عملاً ذا شكل كلاسيكي، تظهر كاسيوبيا فيه كإلهة محلية بمظهر أفروديت أناديوم الهيلينيستية ويظهر الإله الكبير الشرقي سيد البحر والقدر بطراز ليزيبي.


3ـ التأويل الأفلاطوني المحدث:
لابد من التساؤل هنا من أين نشأت فكرة تمثيل انتصار كاسيوبيا على لوحة، ونقل هذه الأسطورة الشرقية في النصف الثاني من القرن الثالث بعد الميلاد، ونعرف الجواب إذا علمنا بوجود لوحتين أخريين من الفسيفساء تعودان للقرن الرابع، اكتشفت إحداهما في كاتدرائية أفاميا بين مجموعة من اللوحات الأرضية التي عثر عليها هناك وهي تنتمي بشكل مؤكد إلى المدرسة الأفلاطونية المحدثة (أوليس وبنيلوب، سقراط، كالوس)، أما الثانية، التي اكتشفها و.أ. داسوسكي في نيابافوس فكانت جزءاً من مجموعة من لوحات الفسيفساء، ذات الموضوع الفلسفي.

ترتبط اللوحات الثلاث بمجموعة من الصفات المشتركة، فشخصية الإله الشرقي الكبير، الحكم في المسابقة (بين كاسيوبيا والنيريدات)، تظهر في لوحة أفاميا بشخصية بوزيدون الكلاسيكية، لكنه في الحقيقة ليس سوى إله بيروت، وما وجود الحورية أميمون / بيرويه شفيعة المدينة إلى جانبه إلا دلالة على شخصيته الحقيقية. أما في نيابافوس، فقد تحول بوزيدون ـ ذو الشخصية الغامضة في سورية ـ إلى إيون، مما يتناسب مع الألوهية الشرقية، كما وضعت جرة القدر في مقدمة اللوحة، وظهر شخص صغير، شبيه بالشخصية الموازية في لوحة تدمر، في نفس المكان، وهو يسحب ورقة القدر ويعرضها باتجاه كاسيوبيا وعندها يمكن قراءة الكتابة الخاصة بها (وهي مجزأة حالياً)، وعلى الرغم من الاختلاف الشكلي للوحات الثلاث إلا أنها جميعاً تحمل المعنى نفسه، فطبقاً لجميع المراجع الأدبية، يرمز العنصر البحري عند الأفلاطونيين المحدثين للعالم الذي يغير طبيعته وهو ما تمثله كاسيوبيا في انتصارها على النيريدات، أو بمعنى آخر، انتصار الروح على المادة وتجسد هذه الروح بالجمال الحقيقي، وبذلك يمكن تفسير تعريف سودا المختصر بخصوص كاسيوبيا: كاسيوبيا هي الجمال.

لقد أوضحنا حتى الآن الجانب المهم من المذهب الأفلاطوني المحدث، وهو اللجوء إلى الأسطورة السورية القديمة، أسطورة مسابقة الجمال، ونستطيع أن نؤكد أن مثل هذا الإسقاط ما كان ليتم لولا الملكة زنوبيا، التي عملت على إحاطة نفسها بالعلماء على غرار أميرات حمص ولاسيما جوليا دومنا، وفي عام 267ـ268، استدعت إلى جانبها الفيلسوف لونجين أحد العارفين الكبار بأعمال أفلاطون، وأستاذ بورفير في أثينا (قبل ذهابه إلى روما لتلقي الدروس عند أفلاطون). كان لونجين، الذي تربطه أواصر قربى بسورية، ولاسيما حمص، مديراً لأكاديمية أثينا منذ بضعة سنوات، فترك عمله وحضر إلى تدمر ليعلم الملكة أصول اللغة الإغريقية وآدابها وليكون لها مستشاراً سياسياً تجاوز إلى حد كبير مهامه كمعلم، وبوجود لونجين في تدمر ووجود الجو الشرقي المتعلم الذي حفظ التراث الأسطوري المحلي، اجتمعت كل الظروف الملائمة لخلق لوحة انتصار كاسيوبيا التي تمثل النظرية الأفلاطونية المحدثة بتوحد الروح الإنسانية مع الجمال.

يغلب الظن أن مشاغل الفسيفساء لم توجد في تدمر نفسها بدليل قلة المكتشفات فيها من هذا النوع على رغم توسع التنقيبات الكبير والمنتظم، وعلى فرض وجود قلة منها في تدمر، فإنها ولاشك، كانت تابعة إلى مشاغل حمص، لذا كان من المنطقي إحضار الورشات من حمص نفسها، ومن هناك ولاشك (وليس من أنطاكية)، أحضر فيليب العربي الفنانين والصناع عندما زين مدينته شهبا، وهذا ما يفسر التشابه الذي لاحظه هـ. ستيرن، بين عناصر فسيفساء شهبا وتدمر: كثافة العناصر والميل إلى الحركة والتعبير الخيالي والتضارب بين مساحات الظل والنور. وبالاستفادة من العناصر الشكلية الكلاسيكية ـ حيث تمت استعارة بعضها من نماذج التمثال الكبير لبوزيدون وكاسيوبيا ـ ظهرت اللوحة التدمرية كنتاج أصيل للمذهب الأفلاطوني المحدث في تدمر. وهكذا تطابق التأريخ، الذي سبق واستنتجناه من تحليل أشكال اللوحات الأرضية والعائد إلى القرن الثالث، مع تاريخ إقامة لونجين في تدمر التي بدأت عام 267 ـ 268 وانتهت عام 273 بسقوط المدينة بيد أورليان.

إذاً وعلى الرغم من قلة لوحات الفسيفساء التدمرية إلا أن أهميتها عظيمة، لأنها الشاهد على الانصهار التام بين عناصر الحضارة الكلاسيكية والحضارة الشرقية، الحاصل بالتقاء العلماء السوريين والإغريق، تحت إشراف زنوبيا، ووجود الفنانين والصناع المهرة القادرين على تحويل الفكر الفلسفي إلى فن وذلك في القرن الثالث بعد الميلاد.

 

هذه المقالة موجودة في التصنيفات التالية:
- فنون ومهارات
- مدن ومواقع أثرية


جانين بالتي

وزارة الثقافة
دمشق
المجلد الاثنان والأربعون
1996

ضيف اكتشف سورية
ضيف اكتشف سورية
دمشق القديمة
 



هذا الموقع برعاية:
MTN Syria

بعض الحقوق محفوظة © اكتشف سورية 2008
جميع الأعمال التقنية تمت في الأوس للنشر

:Powered By
الأوس للنشر