ندوة علمية عن كاتب جلبي ونظرة العثمانيين للعالم في القرن السابع عشر
20 03
الدكتور عمار السمر: دمشق مدينة مفتوحة على الآخرين
مع نهاية حفل الافتتاح بحضور رسمي وإعلامي كثيف شارك به السيد وزير الإعلام الدكتور محسن بلال وسفراء تركيا والسعودية والنرويج وحشد من الباحثين والإعلاميين انطلقت أعمال الندوة العلمية التي تناولت حياة العالم والمفكر التركي كاتب جلبي في إطار دراسة العلاقات المشتركة بين العالمين التركي والعربي في ظل الدولة العثمانية، وترأس الندوة كل من الباحثين الدكتور أمر الله أوشلار – مستشار رئيس الوزراء التركي – والدكتور بكر قارلغا الباحث العلمي في مركز الدراسات التاريخية بجامعة باغجه شهر، وقد تناوب على إلقاء المحاضرات كل من: الدكتور عمار السُمر -خبير الوثائق في مركز الوثائق التاريخية بدمشق-، والدكتور بكر قارلغا، والدكتور مصطفى كاتشار، والباحث الدكتور برهان كيرأوغلو.
الدكتور عمار السُمر: الآخر في دمشق خلال الحكم العثماني
افتتحت المحاضرات بمحاضرة قيمة للدكتور عمار السمر تحت عنوان «الآخر في دمشق خلال الحكم العثماني» تناول فيها بعضاً من الجوانب الاجتماعية والثقافية والقانونية التي كانت تنظم العلاقات وأنماط الحياة إبان العهد العثماني وخصوصاً في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلادي. وتحدث الدكتور السمر بعد شكره للجهات المنظمة للندوة عن أن الحياة الاجتماعية تحتاج في تطورها إلى سنوات عديدة، إلا أن أفضل ما يمكن أن يرصد هذه الحياة هو الوثائق التي تبقى شاهداً على تفاصيل هذه العلاقات الاجتماعية الاقتصادية القانونية.
وتابع الدكتور عمار بالقول: «إن الآخر في تلك الفترة يمكن أن يكون آخرَ من الناحية القومية أو الدينية، فمدينة دمشق صاحبة تاريخ طويل في تقبل الآخر حتى يمكن دعوتها مدينة للآخرين، وعلى سبيل المثال تدل إحصاءات الفترة العثمانية أن 66% من القاطنين خارج سور دمشق ليسوا دمشقيي الأصل، أما داخل السور فإن 34% من السكان ليسوا من أصل دمشقي. لقد كانت مدينة دمشق في تلك الفترة مدينة عثمانية بامتياز، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الدولة العثمانية حكمت حكماً إمبراطورياً، وعاشت تحت حكمها شعوب وأعراق مختلفة وأديان وعقائد متنوعة. لقد كانت دمشق مركزاً دينياً وثقافياً وتجارياً في عهد الإمبراطورية العثمانية وتميزت بكل ما يمكن أن تتميز به مدينة من هذا النوع آنذاك».
وأكمل الدكتور عمار: «تطلعنا الوثائق مثلاً على جالية مغربية كبيرة كانت مقسمة إلى 7 طوائف كبيرة (جزائرية – تونسية – مراكشية ...الخ)، وقد شكلت هذه الطوائف مع بعضها مجتمعاً متماسكاً. وكذلك نجد طائفة المصريين التي أشارت وثائق إلى وجودهم في دمشق عام 1730م ولعبوا دوراً بارزاً في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، كما نجد عائلات سودانية وحجازية وتركمانية وتتارية بالإضافة إلى جاليات كردية كبيرة».
ثم تناول الدكتور السمر مسألة التنوع الديني في تلك الفترة قائلاً: «لقد عاش الجميع مع بعضهم بسلام وانسجام، وتعكس السجلات بوضوح هذا التناغم، كما تظهر اعتراف السلطة العثمانية بهذه الطوائف والتعامل معهم باحترام. فقد سمح لليهود والمسيحيين باستئجار الأوقاف الإسلامية عام 1726، واشتركوا في الأعمال التجارية، وتوفرت بينهم وبين جيرانهم المسلمين عادات وتقاليد مشتركة، ورغم وجود أحياء خاصة ببعض الطوائف (يهود – نصارى)، فنجد مثلاً في الوثائق أن بيت شخص مسلم يحده بيتان لجارين أحدهما يهودي والآخر نصراني. وفي وثيقة أخرى نجد دعوى قدمها ثلاثة من اليهود وثلاثة من المسلمين إلى القاضي يطلبون فيها إخراج أحد الأشراف المسلمين من المحلة بسبب سوء سلوكه وسيرته. وبالعودة إلى سجلات المحاكم، نجد أنها تعكس التعايش بين السكان وتظهر ثقة غير المسلمين بالمحاكم الشرعية. ويلاحظ الدارسون في سجلات هذه المحاكم أن غير المسلمين قد لجؤوا إليها بنسبة تزيد بكثير عن نسبتهم العددية. وفي عام 1734 صدر مثلاً حكم قضائي لصالح متولي الوقف الأرمني ضد متولي وقف المسجد العمري، مما يثبت حياد هذه المحاكم أمام المتقاضين. وقد اعتمد القضاة عند حلف اليمين على أن يحلف كل على كتابه المقدس. ويظهر هذا الانسجام والتعايش أيضاً في جانب آخر هو الطوائف الحرفية (ما يعادل النقابات في زمننا هذا). ونجد سفير هولندا يحدثنا في مطلع القرن التاسع عشر أن الصلوات التي كانت تتلى عند شد المعلم الجديد في الحرفة، كانت تتلى بحسب دين وشريعة هذا المعلم الجديد دون تمييز».
وختم الدكتور عمار السمر محاضرته بالخلاصة التالية: «وهكذا نرى كيف عاش الجميع في دمشق في ظل تناغم يدل على سماحة الدين الإسلامي تحت حكم الإمبراطورية العثمانية، وكان هذا يتطلب حكمة استمدت أساساً من سماحة الشرع الإسلامي، حيث كان الحاكم يستند في أي حكم له إلى أصول شرعية موجودة في أحكام الشريعة الإسلامية».
كاتب جلبي عالم تركي من القرن السابع عشر:
ثم تناوب العلماء الأتراك في محاضراتهم على تقديم معلومات قيمة عن العالم التركي حجي خليفة (كاتب جلبي) الذي عاش في القرن السابع عشر وأسهم في تطور العلم والمعرفة في بلاده، وأغنى بمراجعه وكتبه الثقافة الإسلامية وأسهم في تطورها.
فتحدث الدكتور بكر قارلغا عن حياة كاتب جلبي الذي ولد في اسطنبول في ذي الحجة من عام 1017 هـ الموافق لشهر شباط 1609م، واسمه الحقيقي مصطفى بن عبد الله، واشتهر باسم كاتب جلبي لأنه بدأ دراسته في ديوان للكتابة. وقد تلقى دروسه على يد كبار العلماء في اسطنبول وانضم للديوان السلطاني وعمره 14 عاماً. ثم تنقل بعد ذلك في البلاد إبان خدمته العسكرية فذهب مع الجيش إلى أرضروم وشارك في حملة العراق 1626، وشارك في غزوة همدان، وشد الرحال لمكة والمدينة لأداء فريضة الحج، ثم مكث في شام شريف, وأنهى أعماله الحربية بغزوة جزيرة كريت، قبل أن ينذر نفسه للأعمال العلمية التي قال عنها أنها عودة من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. وقد كتب حجي خليفة كتابه «كشف الظنون في أسامي الكتب والفنون» في محل لبيع الكتب القديمة في حلب. ويعرف عنه أنه خصص ثلث ثروته – وكان ثرياً جداً – لشراء الكتب ويقدر أنه صرف أكثر من 300 ألف دينار على العلم في ذلك الزمان. كان عالماً متبحراً له العديد من الكتب القيمة أشهرها كتاب «كشف الظنون» وفيه نظرة نقدية لمنهجية العلم الإسلامي، وكتاب «جهان نما» أي «دليل العالم»، وهو موسوعة جغرافية تحتوي على قدر كبير من الخرائط القيمة التي تشكل فارقة في تطور الفكر العلمي لدى المسلمين. وقد توفي كاتب جلبي عن عمر 48 عاماً ترك فيها أكثر من 20 مؤلفاً في مختلف مجالات العلوم وخصوصاً التاريخ والجغرافيا والفلسفة.
ثم تحدث الدكتور مصطفى كاتشار عن تسلسل المعارض التي تناولت كاتب جلبي ونظرة العثمانيين إلى العالم. وخاصة بعد أن قامت منظمة اليونسكو العالمية باعتبار عام 2009 عام كاتب جلبي بمناسبة مرور 400 عام على ولادته. حيث تم أولاً تنظيم المعرض في اسطنبول (8-17 حزيران 2009)، ثم في متحف الرسم والنحت الوطني في أنقرة (19-29 حزيران 2009)، ثم في مدينة ماردين (2-12 تشرين الأول 2009). وبدأت بعد ذلك المشاركات الخارجية حيث جرى العرض الخارجي الأول في جامعة كاليفورنيا ومتحف الأنثربولوجيا والعلوم في سان برنادينو (9-31 تشرين الأول 2009)، ثم في قصر اليونسكو في باريس (7-17 كانون الأول 2009). ويعد العرض الذي يقدم في دمشق الظهور الخارجي الثالث لهذا المعرض القيم. وعن ذلك قال الدكتور كاتشار: «بالنسبة لنا هذا المعرض يحمل مضامين كبيرة، لأنه ينظم اليوم في دمشق بين 18-25 آذار، وهي مقصد الكثير من الناس، فهي مدينة أرض كنعان المقدسة وقدماء فلاسفة اليونان، ديار الصحابة وبلاد الأنبياء، وأستشهد ببعض ما قاله كاتب جلبي: الخير مؤلف من عشرة أقسام، تسعة منها في أرض دمشق، والقسم الباقي في العالم».
ثم تحدث الدكتور برهان كيرأوغلو عن «مفهوم العلم ومنهجيته وتصنيف العلوم بالنسبة لكاتب جلبي» حيث تحدث كيف استفاد العالم التركي من التصانيف القديمة في العالم الإسلامي ومن التطورات العلمية الحديثة في الغرب لتقديم منهج علمي بحثاً عن الإصلاح في الدولة العثمانية والعالم الإسلامي. وبين الدكتور كيرأوغلو بأن كاتب جلبي بحث عن أسباب التراجع في الدولة العثمانية التي أحالها إلى أسباب فكرية وعلمية، وحاول إعادة تقييم التقاليد العلمية السائدة آنذاك من خلال كتاب «كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون»، حيث تعرض للمنهجيات العلمية وأهمية التوفيق بين النقل والعقل والبرهان، وأشار إلى أن العالم في العلوم الشرعية لن ينجح بدون معرفة في العلوم الفلسفية. وقد اعتمد كاتب جلبي على آراء ابن خلدون في العلوم الطبيعية وأكد على العلاقة بين العلم والتحضر، ويمكن القول أنه امتلك هوية تنويرية تعتبر العلوم الفلسفية أمراً ضرورياً ولا تتعارض مع الفكر الصوفي والتعاليم الدينية.
وتلا الندوة حوار بين عدد من السادة الحضور والسادة المحاضرين ناقشوا فيها عدداً من المسائل التي عرضت في الندوة.
الدكتور عمار السمر: مركز الوثائق التاريخية مفتوح أمام الباحثين
في نهاية الندوة التقى «اكتشف سورية» الدكتور عمار السمر وكان لنا معه هذا الحوار السريع على أمل لقاء مطول نتناول فيه بشكل مفصل بعضاً من المواضيع الهامة التي تناولها.
وبداية سألنا الدكتور عمار السمر عما إذا كان مركز الوثائق التاريخية يحتوي أياً من متعلقات حجي خليفة الذي دارت حوله الندوة، فأجاب بالقول أنه لا يوجد ما يتعلق بحجي خليفة ذاته، ولكن المركز يحتوي آلاف المصنفات التي تضم ملايين الوثائق التي وصلت إلينا من الحقبة العثمانية، وأوضح الدكتور عمار أنه حين يتكلم عن وثائق فإن ذلك يشمل كل المعاملات والقرارات الإدارية والأوراق الرسمية التي كانت تصدر في عهد الدولة العثمانية من معاملات زواج وطلاق وبيع وشراء وأحكام محاكم وأحكام شرعية وتوثيق الممتلكات وغير ذلك مما يمارسه الناس في حياتهم اليومية، أو القرارات والتعليمات التي كانت تصدرها الدولة العثمانية. وبين الدكتور عمار أن هذا ترك تراثاً غنياً للباحثين والدارسين في تحديد ملامح الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية التي كانت سائدة في ذلك العصر. واستطرد الدكتور عمار السمر أن مركز الوثائق التاريخية لا يقتصر في محتوياته على وثائق الفترة العثمانية، بل يضم وثائق من عصور وأزمنة مختلفة تناوبت على سورية إلا أن أكثرها توثيقاً هي المرحلة العثمانية وفترة الانتداب الفرنسي وما تلاهما.
ولدى سؤالنا عن توفر هذا الكم من الإرث الوثائقي أمام جمهور الباحثين والعلماء والمهتمين، أكد الدكتور عمار السمر أن مركز الوثائق التاريخية في دمشق مفتوح أمام الباحثين والأكاديميين والجامعيين لإتمام أبحاثهم العلمية، ومؤخراً تمت رقمنة كامل الوثائق في المركز، وهي متاحة لهم، والمركز بصدد أتمتة استرجاع هذا الأرشيف. من ناحية أخرى، فقد تمَّ بالفعل إصدار المئات من الكتب والمؤلفات والأبحاث القيمة التي استندت من الناحية التوثيقية على موجودات مركز الوثائق التاريخية كمصدر معتمد موثوق للحصول على معلومات دقيقة عن سورية وتاريخها.
وختاماً تحدث الدكتور السمر عن محاضرته في ندوة «نظرة عثمانية على العالم في القرن السابع عشر» والتي تناول بها جانب التنوع العميق الذي حظيت وتحظى به مدينة دمشق كمدينة مفتوحة للآخرين على الدوام، حيث أكد أن الكثير من القاطنين في دمشق قديماً وحديثاً هم وافدون عليها كونها تتمتع بصفات المدينة العالمية التي تشكل محوراً للاقتصاد والثقافة عبر العصور. وأشار الدكتور السمر إلى مظاهر التنوع الحضاري والثقافي والقومي التي تميزت به المدينة القديمة في العصر العثماني والذي تثبته الوثائق المتوفرة بكثرة، وإلى الطابع المتسامح والمتعاون والمتآخي الذي تعاملت به تلك المكونات مع بعضها البعض في تلك الأزمنة، بما قد لا نجده اليوم في عصرنا الحديث هذا.
محمد رفيق خضور
تصوير: عبد الله رضا
اكتشف سورية
الدكتور عمار السمر يتابع أعمال الندوة |
متابعة وكتابة |
نقاشات وحوارات شيقة مع الباحثين والمفكرين في نهاية الندوة |