مع نهاية حفل الافتتاح بحضور رسمي وإعلامي كثيف شارك به السيد وزير الإعلام الدكتور محسن بلال وسفراء تركيا والسعودية والنرويج وحشد من الباحثين والإعلاميين انطلقت أعمال الندوة العلمية التي تناولت حياة العالم والمفكر التركي كاتب جلبي في إطار دراسة العلاقات المشتركة بين العالمين التركي والعربي في ظل الدولة العثمانية، وترأس الندوة كل من الباحثين الدكتور أمر الله أوشلار – مستشار رئيس الوزراء التركي – والدكتور بكر قارلغا الباحث العلمي في مركز الدراسات التاريخية بجامعة باغجه شهر، وقد تناوب على إلقاء المحاضرات كل من: الدكتور عمار السُمر -خبير الوثائق في مركز الوثائق التاريخية بدمشق-، والدكتور بكر قارلغا، والدكتور مصطفى كاتشار، والباحث الدكتور برهان كيرأوغلو.
الدكتور عمار السُمر: الآخر في دمشق خلال الحكم العثماني
افتتحت المحاضرات بمحاضرة قيمة للدكتور عمار السمر تحت عنوان «الآخر في دمشق خلال الحكم العثماني» تناول فيها بعضاً من الجوانب الاجتماعية والثقافية والقانونية التي كانت تنظم العلاقات وأنماط الحياة إبان العهد العثماني وخصوصاً في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلادي. وتحدث الدكتور السمر بعد شكره للجهات المنظمة للندوة عن أن الحياة الاجتماعية تحتاج في تطورها إلى سنوات عديدة، إلا أن أفضل ما يمكن أن يرصد هذه الحياة هو الوثائق التي تبقى شاهداً على تفاصيل هذه العلاقات الاجتماعية الاقتصادية القانونية.
وأكمل الدكتور عمار: «تطلعنا الوثائق مثلاً على جالية مغربية كبيرة كانت مقسمة إلى 7 طوائف كبيرة (جزائرية – تونسية – مراكشية ...الخ)، وقد شكلت هذه الطوائف مع بعضها مجتمعاً متماسكاً. وكذلك نجد طائفة المصريين التي أشارت وثائق إلى وجودهم في دمشق عام 1730م ولعبوا دوراً بارزاً في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، كما نجد عائلات سودانية وحجازية وتركمانية وتتارية بالإضافة إلى جاليات كردية كبيرة».
ثم تناول الدكتور السمر مسألة التنوع الديني في تلك الفترة قائلاً: «لقد عاش الجميع مع بعضهم بسلام وانسجام، وتعكس السجلات بوضوح هذا التناغم، كما تظهر اعتراف السلطة العثمانية بهذه الطوائف والتعامل معهم باحترام. فقد سمح لليهود والمسيحيين باستئجار الأوقاف الإسلامية عام 1726، واشتركوا في الأعمال التجارية، وتوفرت بينهم وبين جيرانهم المسلمين عادات وتقاليد مشتركة، ورغم وجود أحياء خاصة ببعض الطوائف (يهود – نصارى)، فنجد مثلاً في الوثائق أن بيت شخص مسلم يحده بيتان لجارين أحدهما يهودي والآخر نصراني. وفي وثيقة أخرى نجد دعوى قدمها ثلاثة من اليهود وثلاثة من المسلمين إلى القاضي يطلبون فيها إخراج أحد الأشراف المسلمين من المحلة بسبب سوء سلوكه وسيرته. وبالعودة إلى سجلات المحاكم، نجد أنها تعكس التعايش بين السكان وتظهر ثقة غير المسلمين بالمحاكم الشرعية. ويلاحظ الدارسون في سجلات هذه المحاكم أن غير المسلمين قد لجؤوا إليها بنسبة تزيد بكثير عن نسبتهم العددية. وفي عام 1734 صدر مثلاً حكم قضائي لصالح متولي الوقف الأرمني ضد متولي وقف المسجد العمري، مما يثبت حياد هذه المحاكم أمام المتقاضين. وقد اعتمد القضاة عند حلف اليمين على أن يحلف كل على كتابه المقدس. ويظهر هذا الانسجام والتعايش أيضاً في جانب آخر هو الطوائف الحرفية (ما يعادل النقابات في زمننا هذا). ونجد سفير هولندا يحدثنا في مطلع القرن التاسع عشر أن الصلوات التي كانت تتلى عند شد المعلم الجديد في الحرفة، كانت تتلى بحسب دين وشريعة هذا المعلم الجديد دون تمييز».
وختم الدكتور عمار السمر محاضرته بالخلاصة التالية: «وهكذا نرى كيف عاش الجميع في دمشق في ظل تناغم يدل على سماحة الدين الإسلامي تحت حكم الإمبراطورية العثمانية، وكان هذا يتطلب حكمة استمدت أساساً من سماحة الشرع الإسلامي، حيث كان الحاكم يستند في أي حكم له إلى أصول شرعية موجودة في أحكام الشريعة الإسلامية».
كاتب جلبي عالم تركي من القرن السابع عشر:
ثم تناوب العلماء الأتراك في محاضراتهم على تقديم معلومات قيمة عن العالم التركي حجي خليفة (كاتب جلبي) الذي عاش في القرن السابع عشر وأسهم في تطور العلم والمعرفة في بلاده، وأغنى بمراجعه وكتبه الثقافة الإسلامية وأسهم في تطورها.
وتلا الندوة حوار بين عدد من السادة الحضور والسادة المحاضرين ناقشوا فيها عدداً من المسائل التي عرضت في الندوة.
الدكتور عمار السمر: مركز الوثائق التاريخية مفتوح أمام الباحثين
في نهاية الندوة التقى «اكتشف سورية» الدكتور عمار السمر وكان لنا معه هذا الحوار السريع على أمل لقاء مطول نتناول فيه بشكل مفصل بعضاً من المواضيع الهامة التي تناولها.
ولدى سؤالنا عن توفر هذا الكم من الإرث الوثائقي أمام جمهور الباحثين والعلماء والمهتمين، أكد الدكتور عمار السمر أن مركز الوثائق التاريخية في دمشق مفتوح أمام الباحثين والأكاديميين والجامعيين لإتمام أبحاثهم العلمية، ومؤخراً تمت رقمنة كامل الوثائق في المركز، وهي متاحة لهم، والمركز بصدد أتمتة استرجاع هذا الأرشيف. من ناحية أخرى، فقد تمَّ بالفعل إصدار المئات من الكتب والمؤلفات والأبحاث القيمة التي استندت من الناحية التوثيقية على موجودات مركز الوثائق التاريخية كمصدر معتمد موثوق للحصول على معلومات دقيقة عن سورية وتاريخها.
وختاماً تحدث الدكتور السمر عن محاضرته في ندوة «نظرة عثمانية على العالم في القرن السابع عشر» والتي تناول بها جانب التنوع العميق الذي حظيت وتحظى به مدينة دمشق كمدينة مفتوحة للآخرين على الدوام، حيث أكد أن الكثير من القاطنين في دمشق قديماً وحديثاً هم وافدون عليها كونها تتمتع بصفات المدينة العالمية التي تشكل محوراً للاقتصاد والثقافة عبر العصور. وأشار الدكتور السمر إلى مظاهر التنوع الحضاري والثقافي والقومي التي تميزت به المدينة القديمة في العصر العثماني والذي تثبته الوثائق المتوفرة بكثرة، وإلى الطابع المتسامح والمتعاون والمتآخي الذي تعاملت به تلك المكونات مع بعضها البعض في تلك الأزمنة، بما قد لا نجده اليوم في عصرنا الحديث هذا.
محمد رفيق خضور
تصوير: عبد الله رضا
اكتشف سورية