عنبر رقم مليون: يوميات الجنون السوري
04 تشرين الثاني 2014
.
بعد إلغاء عرضها في السابق، انطلقت المسرحية التي ألّفها بسام جنيد وأخرجها فرحان الخليل على خشبة المسرح القومي في اللاذقية. نصّ ذكي يحاكي اللحظة الراهنة بكل مأسويّتها.
خمسة أيام فقط عاشتها مسرحية «عنبر رقم مليون» على خشبة المسرح القومي في اللاذقية، بعدما أُلغي عرضها في مرة سابقة، وأثارت أخذاً وردّاً حول الأسباب والدوافع.
المسرحية التي كتب نصّها بسام جنيد، وأخرجها فرحان الخليل، وإنتاج «البيت العربي للموسيقى» بالتعاون مع المقاهي الثقافية في اللاذقية؛ استطاعت أن تأخذ جمهورها في رحلة داخل فصل من فصول جنون المأساة السورية، من دون أن تسقطَ في فخ التكلّف والمباشرة. لبنة النجاح الأولى كانت نصّاً ذكيّاً، عرف كيفَ يؤسس لعلاقة متينة مع المتلقي، مشتغلاً على تفاصيل دقيقة في بناء شخصيتيه الوحيدتين. ينطلق العرض من ذروة درامية باتت ــ رغم افتراضيتها في العرض ــ حاضرة في يوميات الوجدان السوري: عاشور وأبو سونيا على مركبٍ في عرض البحر، يبحثان عن شاطئ لجوء.
تتولى الحوارات عقدَ مقارنات غير مباشرة، بين الحياة التي اختارا الهروب منها، وتلك التي يتطلعان إلى الحصول عليها في الملجأ المأمول كما بينَ بطليه، بشخصيتيهما الذاهبتين إلى أقصى حدود التناقض: عاشور البسيط والمباشر، وأبو سونيا المثقّف والمُدّعي. الهروب من الحرب ليس الرابط المشترك الوحيد بينهما.
ثمة أيضاً الهروب من ماضٍ أقدم، ماضٍ يخصّ كلّاً منهما على حِدة، مليءٌ بالخيبات، والخيانات، والتناقضات. شأنهما في ذلك شأن الشخصية الثالثة «نزار». ذلك الغائب الذي يأخذ حيزاً كبيراً من حوارات الشخصيتين. نكتشف لاحقاً أنه ليس كائناً من لحم ودم، بل هو معادلٌ موضوعي، أشبه بمشجب تُعلق الشخصيتان الأساسيتان عليه فصولاً سوداء من ماضيهما الشخصي.
لا تصل الرحلة نحو اللجوء إلى نهايةٍ ما. يكتشف المشاهدُ أنها رحلة مُتخيلة. إنّها حلقةٌ في سلسلة رحلات يتسلّى بها نزيلا «عنبر رقم مليون» في مصَحّ لا يُحدد له العرض ماهية مكانية، تاركاً باب التأويل مفتوحاً على إجابة وحيدة: المَصح السوري.
ورغم أن حل «اللعبة المسرحية» ليس جديداً، أو مُبتكراً، غير أن صُنّاع العرض نجحوا في توظيفه، فخلق مُبرراً لبعض المقولات الخطابيّة التي كان العرض مُصرّاً على طرحها. وأيّ مبرر منطقي يُمكن أن يكونَ مقبولاً أكثر من لُعبةٍ يؤدّيها مجنونان داخل عنبر؟ مخرج العرض أفلحَ في اعتماد شكل إخراجي بسيطٍ، متخففٍ من كل ما لا لزوم له.
على سبيل المثال، لم يُرهق عرضه في سبيل تقديم مفاتيح تُخبرنا أن بطليه يقبعان داخل مصح عقلي، بل اكتفى بالإحالة التي يأخذنا إليها العنوان المستوحى من «عنبر رقم 6» لأنطون تشيخوف. كما كان الإخراج سلساً، وهادئاً، والديكور بسيطاً وأنيقاً.
كل الأغراض المسرحية سُخّرت لخدمة المُمثلَين، ومنطوقهما. بدورهما، قّدم بسام جنيد «بدور أبو سونيا»، وأحمد عاشور «بدور عاشور» أداءً لافتاً. وبدا جليّاً أنّ كلّاً منهما قد اشتغلَ على ماضٍ مُفترضٍ لشخصيته، فلم يضعانا أمام شخصيتين منبتّتين عن كلّ ما سبق الراهن الدرامي. على العكس من ذلك، خرجت من جعبة كلٍّ منهما حياةٌ كاملة، حضرَت تجلياتها أمام المتفرج على امتداد ساعة وعشر دقائق هي زمن العرض، الذي كانَ من شأن اختزاله قليلاً أن يُبقي الوتر المسرحي مشدوداً ورشيقاً، ويُنقذه من بعض لحظات التراخي التي شابَته وهدّدت إيقاعه بالهبوط.
صهيب عنجريني
جريدة الأخبار اللبنانية