الشيخ علي الدرويش

1884 - 1952

يعود نسب الشيخ علي الدرويش إلى "المنوفية" في مصر، فجده الجندي "علي إبراهيم" قدم إلى سورية كجندي محارب في جيش إبراهيم باشا إبان حملة محمد علي باشا على سورية عام 1831، وبعد خروج هذا الجيش من سورية عام 1839 آثر الجندي "علي إبراهيم" الاستيطان في حلب، فتزوج ورزق بابنه إبراهيم والد الشيخ علي الدرويش الذي ولد في العام 1884 في مدينة حلب، وتقول روايات أخرى أنه ولد في العام 1872.

لقب علي الدرويش بالشيخ، لدراسته في مدرسة دينية، وبالدرويش لانتسابه إلى الطريقة المولوية الصوفية. كانت بدايات "علي الدرويش" الموسيقية، على يدي الأستاذ التركي "عثمان بك" ثم تابع العلوم التي تلقاها بالدراسة على يد الموسيقي اليوناني "مهران السلانيكي"، وعندما زار حلب الموسيقار التركي وعازف الناي الشهير "شرف الدين بك" أخذ عنه "علي الدرويش" أصول العزف على الناي حتى برع فيه. ثم مال إلى فن الغناء، فاتصل بأئمة أهل الطرب آنذاك من أمثال الشيخ "أحمد عقيل وصالح الجذبة، ومحمد جنيد" وغيرهم وظل يلازمهم حتى أتقن فن الغناء والإيقاع.

عمل الشيخ علي الدرويش بعد تخرجه من المدرسة العثمانية المتوسطة لعلوم الفقه الإسلامي، في التكية المولوية، كرئيس لجماعة الموسيقيين والمنشدين الذين كانوا يحيون حفلات الطريقة المولوية الصوفية في القاعات الخاصة بالتكايا المولوية.

وخلال عمله هذا تابع البحث والدراسة في أصول الموسيقا الشرقية ودقائقها، فجمع وصنف كل المؤلفات التركية والعربية التي وصلت إليه آنذاك وقام بدراستها حتى غدا مرجعاً وحجة في علمه. وفي تلك الأثناء، وكان صيته قد تجاوز حلب إلى الأقطار العربية والإسلامية، جاءته دعوة خاصة من الشيخ خزعل، المحب للموسيقا، وطلب إليه تأسيس فرقة موسيقية خاصة به. وعند ذاك عمل مع الفنان الشيخ عمر البطش الذي كان في عداد فرقته على تأسيس فرقة الأمير الخاصة وخلال هذه الفترة، انتهز الشيخ علي الفرصة، فزار طهران ثم بومباي في الهند، واطلع أثناء زيارته لهاتين المدينتين على الموسيقتين الفارسية والهندية وعلى إيقاعاتهما الفنية، كذلك زار البصرة وبغداد، ثم قفل عائداً إلى حلب في العام 1914.

رحلته إلى تركيا
لم يمكث علي الدرويش طويلاً في حلب، ومال إلى الاستقرار في حياته، فتقدم إلى مسابقة انتقاء المدرسين التي أجرتها وزارة المعارف التركية، فنجح وعين مباشرة في مركز ولاية "قسطموني" القريبة من شواطيء البحر الأسود في تركيا، فالتحق بعمله، وهناك انتهز الفرصة فانتسب إلى معهد "دار الألحان" في استمبول، المعروف اليوم باسم "معهد الموسيقا التركية والتراث" ليزيد من علومه الموسيقية على أيدي المعلمين الكبار من أمثال المؤلف التركي الشهير "اسماعيل حقي بك" و"رؤوف أتابك" الذي شارك في مؤتمر الموسيقا العربية في القاهرة عام 1932، و"علي صلاحي" وغيرهم من الأساتذة الأتراك المشهود لهم بالعلم والمعرفة، موفقاً بين عمله ودراسته إلى أن نال إجازة المعهد العالية في الموسيقا.

مكث علي الدرويش في عمله في "قسطموني" تسع سنوات، تزوج خلالها من سيدة فاضلة، أنجبت له خمسة أولاد ذكور، منهم الأستاذ إبراهيم الدرويش والأستاذ القدير نديم الدرويش، وأثناء إقامته في "قسطموني" وقيامه بالتدريس في ثانويات ودور معلمي قسطموني، قام بنشاط موسيقي كبير تجلى في الفرقة الموسيقية التي أسسها من آلات النفخ الخشبية والنحاسية، وكان عماد هذه الفرقة طلاب الميتم الإسلامي ودار المعلمين في "قسطموني".

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، تغيرت الأحوال كثيراً عن ذي قبل، وباتت الحياة في تركيا بعد انقلاب مصطفى كمال باشا، والحرب الأهلية والحرب مع اليونان وبلغاريا صعبة وقاسية، وكانت سورية قد وقعت تحت نير الاستعمار الفرنسي بعد تقاسم التركة العثمانية بين الحلفاء، والحنين إلى الأهل والوطن أخذ يلح على الشيخ المعلم بعنف، إلى أن قرر فجأة الاستقالة من عمله والعودة بأسرته إلى الوطن.

وفي صيف عام 1923 كان الشيخ علي يعانق حلب ووالديه وذويه، وتخضل لحيته بدموع فرح العودة.. وفي حلب وجد كل شيء متاحاً له، وانهالت عليه الطلبات، ولكنه كرجل عالم فاضل، آثر أن يخص بعلمه ونشاطه "نادي الصنائع النفيسة" فعمل مع أعضائه على النهضة بالموسيقا بتعليمها لراغبيها. ولم يكتف بذلك، إذ انصرف إلى تأليف فرقة موسيقية "تخت شرقي" برئاسته. وكان من أبرز العازفين في هذا التخت الفنانون "نوري الملاح" على العود، "أنطون حجار" "سامي صندوق" على القانون، "عزيز حجار" "أنطون حكيم" على الكمان "محمد طيفور" و"عبده عبود" إيقاع، كذلك ضمت الفرقة فرقة من "الرديدة "المذهبجية، وبعض المطربين والمطربات، من بينهم "صالحة المصرية" التي كانت تملك صوتاً جميلاً.

عملت هذه الفرقة طويلاً على مسارح حلب، وتنقلت في مختلف أنحاء القطر وقدمت العديد من الحفلات في دمشق واللاذقية. ثم سافرت بناء على دعوة وجهت إلى الشيخ علي إلى اسطمبول، فأحيت فيها عدداً كبيراً من الحفلات الناجحة والممتعة. وانتهز الشيخ علي الدرويش فرصة وجوده في اسطمبول، فزار أساتذته الذين استقبلوه بالترحاب والإعجاب، وأثنوا عليه، وطلبوا منه البقاء في اسطمبول للاستفادة من علمه وموهبته. وفي أثناء زيارته لأصدقائه ومعارفه، تعرف على الموسيقار التركي الشهير "جميل بك الطنبور" فقاما معاً بإحياء حفلات خاصة وصفت بالإعجاز.

مكث الشيخ علي الدرويش مع فرقته في تركيا قرابة ستة شهور، ثم قفل عائداً إلى حلب وفي جعبته مجموعة كبيرة من الكتب والمؤلفات الموسيقية باللغة التركية التي كان يجيدها إجادته للعربية. وكانت الثورة السورية الكبرى قد وضعت أوزارها في العام 1927 عندما تلقى دعوة رسمية من "معهد الموسيقا الشرقية" في القاهرة الذي يشرف عليه "د. محمود الحفني" وقد عرف هذا المعهد فيما بعد باسم "معهد فؤاد الأول للموسيقا العربية" ثم "المعهد العالي للموسيقا العربية".

كانت رحلته إلى القاهرة غنية جداً، واستقبل فيها استقبال العلماء، واتفق معه على شراء كتابه القيم الخاص بتدريس الموسيقا للسنوات الثلاث الأولى، بعد أن أقرته لجنة من الموسيقيين الأعلام من أمثال: محمد القصبجي، ود. الحفني، ومصطفى بك رضا وغيرهم، ثم تعاقد المعهد معه على تدريس آلة الناي وفق المنهج الذي وضعه بنفسه، والمساهمة في حفلات ونشاطات المعهد. وقد مارس الشيخ علي الدرويش التدريس في المعهد لغاية العام 1931 بما عرف عنه من إخلاص الأستاذ العالم لمهنته، وكان من بين تلامذته: رياض السنباطي، محمد عبد الوهاب، وعازف الناي الشهير والموزع عزيز صادق، كما اتصلت به أم كلثوم ودرست على يديه ما يهمها في الإلقاء الغنائي. وفي العام نفسه 1931 وهو العام الذي رفض فيه أن يجدد عقده، تعرف على البارون الانكليزي "رودولف ديرلينجيه"، وكان هذا البارون محباً للموسيقتين العربية والشرقية، ومتتبعاً لهما بهدف دراستهما ووضع أبحاث عنهما. فأقام من أجل ذلك علاقات وطيدة مع الموسيقيين الباحثين للاستفادة من خبراتهم ودراساتهم في أبحاثه، فأعجب بالشيخ علي وبمقدرته وعلومه في الموسيقا الشرقية، فدعاه للعمل معه في مقر إقامته في بلدة "سيدي بوسعيد" القريبة من العاصمة تونس، ولما كان العقد مع "معهد الموسيقا الشرقية" لم تنته مدته بعد فقد استغل البارون نفوذه، واستصدر أذناً ملكياً خاصاً يسمح بموجبه للشيخ علي الدرويش بالسفر إلى تونس للقيام بأبحاث ودراسات موسيقية مع البارون "ديرلينجيه".

وفي أواخر شهر تشرين الأول ـ أكتوبر ـ عام 1931، سافر إلى تونس، وأقام في ضيافة البارون عدة شهور، انصرف أثناءها إلى العمل في مكتبة البارون الحافلة بالمخطوطات الموسيقية العربية والشرقية التي كان قد جمعها من مختلف أنحاء العالم، وجل هذه المخطوطات مصورة فوتوغرافياً. وقد استفاد البارون من دراسة الشيخ علي في أبحاثه القيمة عن الموسيقا العربية والأخرى الشرقية. وفي أثناء إقامته عند البارون، ولم يكن قد أنهى البحوث المطلوبة منه، تلقى دعوة رسمية موقعة من ديوان الملك فؤاد الأول للمشاركة في مؤتمر الموسيقا العربية الأول في القاهرة، بصفته الشخصية كأحد علماء الموسيقا العربية والشرقية، وقد التقى في المؤتمر الذي عقد في السادس من شهر آذار ـ مارس ـ 1932 بأعضاء الوفد السوري المشاركين فيه "أحمد الأوبري، توفيق الصباغ، شفيق شبيب، وصالح المحبك".

كلف الشيخ علي الدرويش بالعمل في لجنتي المقامات والإيقاعات الموسيقية المستخدمة في سورية ومدينة حلب خاصة، والتي لها صلة أو جذور بالموسيقا الشرقية والتركية خاصة. وكلف "أحمد الأوبري"، بالعمل في لجنة أخرى عن علاقة أوزان الشعر العربي وعروضه بأوزان وضروب الموسيقا العربية، والتأثير المتبادل بينهما على الغناء والموسيقا. بعد انتهاء المؤتمر عاد الشيخ علي من جديد مع البارون "ديرلينجيه" إلى تونس لمتابعة الأبحاث التي لم ينهها، وعندما علمت وزارة المعارف التونسية بوجوده، سارعت إلى التعاقد معه، لتدريس النظريات الموسيقية والقراءة الصولفائية وآلة الناي في "المعهد الرشيدي"، ولتدريب الفرق الموسيقية والغنائية على الأعمال التراثية.

مكث الشيخ علي في تونس حوالي السبع سنوات، وعمل مع أعلام الموسيقا فيها، من أمثال "خميس الترنان" و"محمد التريكي". وكان أبرز تلامذته  الفنان الكبير "صالح المهدي" الحائز على شهادة دكتوراه في الموسيقا من فرنسا. كذلك تابع مع البارون "ديرلينجيه" الذي أنفق أموالاً طائلة من أجل البحث عن الأعمال الموسيقية والغنائية التراثية، في التنقيب عن هذه الأعمال في مختلف أنحاء القطر التونسي وتدوين المحفوظ منها في صدور الناس الذين حفظوها أباً عن جد مذ نزح عرب الأندلس إلى تونس والجزائر والمغرب بعد سقوطها. وقد وفق الشيخ علي الدرويش في عمله، فجمع ودون قرابة أربع عشرة نوبة أندلسية، وعشرين ملحقاً لهذه النوبات ومجموعة من الموشحات احتفظ الشيخ علي بنسخة منها، أهداها فيما بعد إلى مكتبة حلب الوطنية. وقد لجأ في عمله إلى الطريقتين المتبعتين في التسجيل آنذاك وهما: التسجيل على اسطوانات، ثم التدوين الموسيقي. كانت مكتبة البارون تحتوي على أنفس المخطوطات، وهذا ما أهاب بالشيخ العالم على نسخ أهمها بخط يده، وأهم صور هذه المخطوطات "الموسيقا الكبير" للفارابي، و"الشرفية والشفاء" لابن سينا، والأدوار لصفي الدين عبد المؤمن الأرموي. وقد نقل الشيخ علي منها "الموسيقا الكبير" للفارابي. توفي البارون "ديرلينجيه" في تونس في العام 1938 تاركاً وراءه آثاراً وأعمالاً جليلة في الموسيقا العربية، لم يسبقه إليها حتى علماء الموسيقا العرب. وقد تحدث الشيخ علي الدرويش في حفل تأبينه فأسهب في تعداد مناقب الراحل، وفضله على الموسيقا العربية.

قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية بأشهر، زار إيطاليا وفرنسا وألمانيا واطلع عن كثب على الموسيقا السيمفونية وأعجب بها، وبعد عودته إلى تونس منحه "باي" تونس وسام الافتخار تقديراً له على جهوده وخدماته في رفعة الموسيقا العربية في الدولة التونسية وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية في أيلول ـ سبتمبر ـ عام 1939 عاد إلى حلب حاملاً معه مكتبة ضخمة من المؤلفات الموسيقية القيمة التي حصل عليها أثناء تجواله وبحوثه في مصر وتونس وأوروبا.

لم يطل مكوث الشيخ علي الدرويش في حلب سوى بضع سنوات، ساهم خلالها مع مجدي العقيلي وممدوح الجابري وغيرهم في تأسيس "نادي حلب الموسيقي" وشارك في الأحداث الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي، ودرَّس الموسيقا أثناء وجوده في حلب على فترات متباعدة، للنخبة من الموهوبين من أمثال "فؤاد محفوظ" و"محمد عبدو" و"محمد البوشي" ووضع العديد من الأناشيد الوطنية بناء على طلب الزعيم الراحل إبراهيم هنانو في أعقاب ثورة عام 1927، كان من أبرزها "نشيد هنانو" وهو غير النشيد الذي لحنه "صالح المحبك". وفي العام 1942 عين عميداً ومدرساً للقسم الشرقي في المعهد الموسيقي بدمشق، وكان الموسيقي الروسي الكبير البارون "بللينغ" يشغل وظيفة عميد ومدرس للقسم الغربي في المعهد.

وظل علي الدرويش يعمل في هذا المعهد حتى أوائل العام 1943 عندما صدر أمر بإغلاقه لأسباب مالية. في العام 1944 وقبل أن تضع الحرب العالمية أوزارها لبى دعوة وجهت إليه من إذاعة القدس لتسجيل الأعمال التراثية من الموشحات الأندلسية، فشد رحاله إليها مع الفنان والمطرب الحلبي "أحمد الفقش" الذي وجهت إليه دعوة مماثلة. وفي القدس التقى بمدير برامجها الأستاذ "عجاج نويهض"، وتعرف على الأستاذ القدير "يوسف بتروني"، قائد الفرقة الموسيقية الحديثة، وعلى الأستاذ "يحيى السعودي" مدير القسم الموسيقي العربي في الإذاعة، وعلى الملحن والمطرب "روحي الخماش". بعد أشهر على عودة الشيخ علي الدرويش إلى حلب، تم جلاء المستعمر الفرنسي عن سورية بعد نضال دام ثمانية وعشرين عاماً، وشارك في احتفالات القطر بالحفلات والمقطوعات التي قدمها بهذه المناسبة. وفي تلك الفترة من حياته، تلقى دعوة من العراق للتدريس في معهد الفنون الجميلة في بغداد، فحزم حقائبه ورحل إلى العراق ليمكث فيها زهاء ست سنوات، عمل خلالها في معهد الفنون الجميلة في بغداد الذي كان يشرف عليه ويديره الفنان القدير الشريف محي الدين حيدر.

وتتلمذ على يديه عازفا العود الشهيران، الأخوان منير وجميل بشير. عاد إلى حلب بعد مرض ألم به، ليعمل مع الدكتور فؤاد رجائي في معهد حلب الموسيقي الذي سبق له وساهم في تأسيسه وكان المعهد يضم آنذاك نخبة من الأساتذة المشهود لهم من أمثال "عمر البطش" وولدي الشيخ علي "إبراهيم الدرويش" و"نديم الدرويش" و"أرنست شوحا" و"ميشيل بورزنكو". لم يستمر الشيخ علي طويلاً في المعهد، إذ دهمه المرض ثانية بعد عام واحد على عودته، ليلقى وجه ربه ظهر يوم الخميس في السادس والعشرين من تشرين الثاني ـ نوفمبر ـ عام 1952 عن عمر يناهز الثامنة والستين.

إذا أحصينا عدد السنوات التي أمضاها الشيخ علي الدرويش خارج وطنه لوجدناها تزيد على الثلاثين عاماً، ولوجدنا أيضاً أنه أفنى حياته خلالها في الدراسة والتدريس والبحث العلمي، وأبلى بلاء طيباً في تأسيس الفرق الغنائية والموسيقية في البلاد التي دعته للعمل في معاهدها، وعمل بدأب وتصميم على دعم وتقدم الموسيقا العربية وبخاصة التراثية منها في الأقطار العربية وتركيا. تدين له الموسيقا العربية والغناء العربي في إحياء التراث الأندلسي المخبوء في صدور حَفَظَتِه الذين توارثوه أباً عن جد. ويدين له الوطن الذي لم يقدم له شيئاً بالحب والإعجاب والتقدير والاحترام. لقد غاب علي الدرويش عن وطنه ثلاثين عاماً على فترات متباعدة، ولم يغب الوطن عن قلبه وعينيه.. كان كسامر الحي الذي لا يجيد التطريب إلا بعيداً عن أهله وعشيرته، لأن أهله وعشيرته لم يحاولوا فهمه.. كانوا بعيدين عنه في كل شيء، وكان قريباً منهم في كل شيء. وضع عدداً كبيراً من المؤلفات الموسيقية والمؤلفات الغنائية (موشحات ونوبات وأناشيد وأغاني متفرقة) لا يعرف منها سوى القليل من الذي أتيح له تسجيله لإذاعتي حلب ودمشق قبل وفاته.

مخطوطاته القيمة محفوظة لدى أولاده، وعلى المسؤولين أن يتعاونوا معهم على تصنيفها وطباعتها وبخاصة الأبحاث التي أسفرت عنها دراسته لمكتبة البارون "ديرلينجيه" ليستفيد منها الباحثون في تراث الموسيقا الشرقية والغربية. كذلك الأمر بالنسبة لمؤلفاته الموسيقية والغنائية التي يجب إعادة الاعتبار إليها وإخراجها وتسجيلها كاملة بإشراف أولاده كمؤلفات كلاسيكية تراثية تتحدث بلغة العصر الذي عاشه هؤلاء. الشيخ علي الدرويش الذي لم نقدم له شيئاً كغيره من العباقرة الذين أسهموا في رفع اسم الوطن عالياً، علينا أن نعمل على تكريمه، وتكريم غيره من المبدعين الذين مضوا بصمت، وأسهم المسؤولون في القطر على مر الزمن في تكريس هذا الصمت حتى كاد الناس أن ينسوهم..

لقد آن بعد مضي عشرات السنين على رحيلهم أن نفعل شيئاً يشعر بتقديرنا لأولئك العباقرة كي نفيهم بعض حقهم علينا. قام الشيخ علي الدرويش أثناء وجوده في القاهرة بين عامي 1927 و1931 بتسجيل نخبة من ألحانه الغنائية والموسيقية على اسطوانات لحساب شركتي "جرامافون وبيضافون" وقد صاحبه في العزف على القانون في معظم التسجيلات "مصطفى بيك رضا" مدير المعهد الموسيقي الشرقي، وعبد الحميد القضاني، وعلى الكمان "سامي الشوا" وعلى العود "شحادة سعادة". كذلك سجل خلال تواجده في بيروت لحساب شركة بيضافون عدداً من السماعيات والبشارف وألحان "عبده الحامولي" و"محمد عثمان" و"داود حسني" وجلها من الموشحات القديمة والأدوار المصرية بعد أن قام بتدوينها موسيقياً بنفسه، وبذلك حفظها من الضياع، وقد شاركه في عزفها "توفيق الصباغ" على الكمان، و"نوبار" على القانون، و"نوري الملاح" على العود وقام هو بالذات بالعزف على الناي. وفي تونس قدم بعض إنتاجه للإذاعة التونسية، وسجلت تلك الأعمال لحساب الإذاعة التونسية عام 1938 على اسطوانات وعلى أشرطة معدنية. يعتبر تدوين الشيخ علي الدرويش للنوبة الأندلسية من أهم الأعمال التي قام بها في حياته الموسيقية، فما هي النوبة الأندلسية؟

صميم الشريف

الموسيقا في سورية