حمامات دمشق وريفها في الفترة العثمانية

من محاضرات ختام ندوة بالانيا تيرم وحمامات

لعبت الحمامات الدمشقية دوراً مميزاً في ثقافة وفلسفة المجتمع السوري عموماً والدمشقي خصوصاً طوال عقود، فتمازجت في المدينة العريقة تقنيات وأساليب معمارية وتقاليد وعادات اجتماعية وصحية تعود في قدمها إلى عمق التاريخ، فمن الأساليب القديمة في التعامل مع المياه وحفظها ومعالجتها مع الأموريين والآراميين الأوائل وصولاً إلى الحمامات الشرقية ذات الهيئة الهلنستية والرومانية وما تبع التمازج الحضاري من تطور لأدوات الاستحمام التي انتقلت بدورها لتصبح تقاليد راسخة حتى في قلب عاصمة الإمبراطورية الرومانية. واستمر تطور الحمام مفهوماً وعمارة في العصرين البيزنطي والإسلامي وصولاً إلى زمن المماليك والفترة العثمانية حيث اكتسب دوره الأساسي في شبكة العلاقات الاجتماعية والمدنية.

وقد تناولت ندوة «بالانيا تيرم وحمامات: 25 قرناً من الحمامات العامة في الشرق الأدنى وشبه الجزيرة العربية» في يومها الأخير، الخميس 5 تشرين الثاني 2009، الحمامات في الإمبراطورية العثمانية في دمشق وريفها ضمن محور خاص قبل أن تنتقل إلى دراسة الحمامات في الإمبراطورية العثمانية خارج سورية، ويظهر هذا ما للحمام الدمشقي من حضور مميز ترك أثره على حمامات الإمبراطورية حتى في اسطنبول وغيرها من حواضر السلطنة العثمانية الممتدة على مساحة الوطن العربي.

واختتم المؤتمر أعماله بدراسات لدور الحمام ضمن البنية الثقافية اللغوية للمجتمع، مع نظرة استشرافية لمستقبل الحمامات الجماعية المشتركة كمنتجعات صحية ومنتديات اجتماعية وتطبيقاتها المتعددة، بناء على أمثلة من اليمن وسورية.

الحمامات الدمشقية في العصر العثماني:
في هذا السياق قدمت الباحثة الفرنسية ب. مارينو محاضرة هامة حول الحمامات الدمشقية في القرنين السادس عشر والسابع عشر مبينة أهم الحمامات التي تم بناؤها تلك الفترة وخصوصاً في عهد الحكام من عائلة العظم، ومن أهم الحمامات التي بقيت إلى الآن في دمشق القديمة نجد حمام لالا مصطفى باشا وحمام سنان باشا، وهما موجودان داخل المدينة القديمة، وحمام وقف درويش باشا وحمام مراد باشا.

وعن ذلك تقول مارينو: «إن دراسة السجلات القانونية المتوفرة من الفترة العثمانية تسمح لنا بالتعرف على الحمامات القديمة وأعمال الترميم التي طرأت على حمامات تعود إلى فترة أقدم».

وأشارت الباحثة إلى إلى اختلاف عقود الإيجار لهذه الحمامات وفقاً للمدارس الفقهية التي تبعها القضاة في المحاكم، وأن عقود الإيجار كانت تسجل لمدد زمنية طويلة تتراوح بين 3 إلى 30 سنة، وفي بعض الأحيان كان يتم تأخير الحمامات لفترات زمنية متتالية.

وتظهر دراسة لعقد إيجار أبرم لحمام مراد باشا أنه قد تم تأجيره لمدة 8 أعوام، و10% من حالات التأجير كانت عقوداً تستخدم في إبرامها الأموال غير المنقولة. وبينت الباحثة أن هناك حمامات بنيت في العهد المملوكي ووضعت تحت سلطة الأوقاف في عهد سنان باشا.

وفي وثيقة أخرى هي وثيقة إيجار سجلت بشكل واضح، نجد أن التفويض بإدارة الحمام هي لشخص موجود في اسطنبول، مقيم بشكل دائم أو مؤقت، كما ترميم الحمامات كان أمراً يقوم به الوقف ولكن بعد استيفاء الأجور من المستأجر.

وذكرت الباحثة أن سجلات المحاكم في عهد سنان باشا ودرويش باشا تظهر أن كل مستأجر كان يتعهد للحاكم بتزويده بـ 500 سلة رماد لاستعمالها في استخدامات أخرى كالبناء والترميم.

ثم استطردت الباحثة في الحديث عن حقبة عائلة العظم في ولاية سورية قائلة: «إن أول حاكم في عائلة العظم في دمشق كان إسماعيل باشا (في القرن الثامن عشر)، وقد بنى حمامين أحدهما في سوق الخياطين، واستمر البناء من شباط عام 1727م إلى أيلول من نفس العام، وبذلك يكون قد انتهى من بنائه خلال بضعة أشهر حسب المؤرخ ابن كنان. كما تظهر السجلات القانونية أن إسماعيل باشا اشترى قطعة أرض جنوب الخان وقام ببناء حمام في سوق الخراب أيضاً، بالإضافة إلى أعمال إنشائية في المدينة وخارج الأسوار». وتابعت الباحثة: «لا نملك وثائق عن أعمال حمام الخياطين ماعدا بعض الفواتير التي نرى فيها آجارات وأعمال صيانة وقيمة الرماد الذي كان يزود به الحاكم، ويذكر أن حمامي إسماعيل باشا أدرجا نهاية في وقفه».

وختمت الباحثة محاضرتها عن حمامات سليمان باشا وأسعد باشا العظم قائلة: «افتتح سليمان باشا العظم حمامين في باب الجابية وفي سوق الخراب، وبحسب المؤرخين افتتح الحمام بعد عامين من استلام سليمان باشا الحكم، وهو موجود في وقف المدرسة التي بناها سليمان باشا عام 1737. ويعتبر هذا الحمام أجمل حمامات دمشق بحسب مؤرخي القرن التاسع عشر في باب الجابية، وقد هدم عام 1930. أما أسعد باشا فقد أتى مباشرة بعد وفاة عمه سليمان باشا، وقد زود قصره بحمام خاص، وبنى حماماً خاصاً في قرية قريبة من دمشق، وجدير بالذكر أن تحولاً حدث في طريقة التصرف بإيرادات الحمام في عهد عائلة العظم فقد كانت في القرنين السادس عشر والسابع عشر تعود للوقف وتصرف في المناحي العامة، لكنها في القرن الثامن عشر أصبحت وقفاً لعائلة العظم وتعود بالنفع على العائلة الحاكمة».

حمامات دمشق في القرن السادس عشر الميلادي:
وتناولت الباحثة ماريان بوكفيس في دراستها المنشآت التي بناها السلاطين العثمانيون في القرن السادس عشر بعد أن رسخوا حكمهم في منطقة الشرق العربي، وأدى توحد السلطة في بلاد الشام والجزيرة العربية ومصر إلى ازدهار في حركة النشاط التجاري والعمراني في مكة ومصر وبلاد الشام مما دفع الولاة العثمانيين إلى بناء ما يعرف بـ «كلييس» وهي تجمعات عمرانية مميزة للعصر العثماني توزعت على الطرق الرئيسية للإمبراطورية واستخدمت لراحة المسافرين والقوافل كما لعبت دوراً مهماً في عمليات السيطرة وإدارة الحكم.

وطبعاً كانت الحمامات جزءاً من هذه المنشآت التي وجدت على الطرقات الرئيسية في بلاد الشام، وكمثال على ذلك قدمت الباحثة حمامين هما حمام لالا باشا في القنيطرة، وحمام سنان باشا في القطيفة.

بالنسبة لحمام لالا باشا فقد تطورت طريقة البحث فيه عن طريقة المقارنة بين المعلومات المكتوبة والأجزاء المعمارية المتبقية، حيث أثبتت عقود الوقف الموجودة في أنقرة وجود هذا الحمام. وقد اختفى الحمام الآن وإن بقيت أجزاء من الخان والمسجد، ووفقاً للوصف الوارد في سجل الوقف فإن الحمام وجد في خارج الجدار الغربي لهذا التجمع، وهناك مؤشرات على وجود مقاعد وقبة كانت تغطي التجمع، حيث يتم الولوج إليه عبر بوابة وساحة، ويظهر وجود مقصورات لتغيير الملابس، وغرفة للماء الحار مسقوفة بنوافذ زجاجية، أما في الجزء الجنوبي فهناك قناطر وأقواس، ويبدو أن الماء كان يجر من بئر قريب.

أما حمام سنان باشا في القطيفة، فقد تمكنت الباحثة من دراسته بمساعدة خريطة العالم الفرنسي سان سوفاجيه، حيث يظهر الحمام تنظيماً يشبه حمام لالا باشا في القنيطرة. ويقع الحمام في الجزء الجنوبي الشرقي من المسجد ولديه مدخل من السوق، وهناك طبعاً غرفة لتغيير الملابس، ومصطبة وهناك غرفة مستطيلة الشكل مقببة بثلاث قبب ربما كانت تشكل الجواني، والحمام بشكل عام مشابه للحمامات المملوكية في سورية.

وتساءلت الباحثة في خلاصتها عمن كان يستخدم الحمامات؟ والظاهر أنها كانت تستخدم من قبل المسافرين والحجاج وحتى السكان من الأحياء والبلدات المجاورة، ويبدو أن حمام القطيفة كان مستخدماً بشكل كبير في وقته، لتخلص الباحثة في النهاية إلى أن الحمام في العهد العثماني كان مزيجاً في أسلوب بنائه بين الطراز المعماري المحلي والطراز العثماني.

حمامات الريف في دمشق العثمانية:
وفي محاضرة مميزة للباحثة أ. ميير، تناولت موضوع الحمامات المنتشرة في الريف الدمشقي إبان العهد العثماني، منطلقة من مذكرات العلامة محمد كرد علي الذي تحدث في مذكراته عن حمام القيشاني والطقوس الاجتماعية التي كانت تصاحب الرحلة لذلك الحمام.

ومما جاء في محاضرتها: «أود في مداخلتي أن أبين أن الحياة الريفية كان فيها دلائل على وجود حمامات في محيط دمشق عند وصول العثمانيين، ووفقاً لمحمد كرد علي فإنه كان يذكر في كتاباته الحمام ثم الجامع في بلدات ريف دمشق مما يناقض نظرية ابن خلدون عن عدم وجود حمامات في الأرياف، بوصفها واحدة من معالم الحياة الحضرية المدنية. فقد كانت هناك حمامات خاصة تبنى من قبل ملاك الأراضي للاستخدامات الخاصة والعامة، وكانت أحياناً تستثمر بشكل تجاري، ويمكن أن نجد العديد من هذه الحمامات في ريف دمشق، حيث كانت هناك وثائق مكتوبة كثيرة تدل على ذلك، كما أن بعض الحمامات لا يزال موجوداً وصالحاً للعمل حتى وقتنا الحاضر، وهناك مشاريع بحثية تدرس هذه الحمامات».


ملصق يتحدث عن حمام الناصري بدمشق

وتابعت الباحثة: «إن مؤرخين مثل ابن الشلبي والنابلسي ذكروا وجود حمامات في المناطق الريفية، وقد استدللنا على وجود حمامات في أكثر من 30 قرية في ريف دمشق، وتدل على ذلك أيضاً سجلات القرن الثامن عشر العثمانية، وأدب المؤرخين في القرن السادس عشر، بالإضافة إلى وجود حمامات دمرت في زلزال عام 1759 وذكرت إبان تلك الحوادث. وغالباً ما كانت الحمامات تتواجد في أماكن تتوفر فيها المياه بسهولة مثل مساقط المياه المتأتية من جبال القلمون، ولكنها تندر في الغوطة المحيطة بدمشق لأن المياه كانت تستخدم حصراً للزراعة».

وأظهرت الباحثة مخططات تشير إلى تواجد الحمامات في الكثير من قرى ريف دمشق مثل: الربوة، المزة، برزة، عفتريس، داريا، حمورية، التل، زملكا، معربا، وغيرها.

وتحدثت الباحثة عن المزايا المعمارية لهذه الحمامات واكتشاف وثائق مكتوبة تصف الأجزاء الوظيفية لها: السخانات – المراجل – غرف الانتقال – غرف التسخين – غرف الغسيل – الأجران – وأحياناً المغاطس.

وعن أهم الأمثلة قالت الباحثة: «هناك حمامان لهما أهمية خاصة: الأول حمام قرية حلبون في ريف دمشق، حيث بني الحمام بجوار الجامع وله أربع قناطر وأقواس ومصاطب وهناك غرفة الوسطاني ومشلح وديوانيات وغرفة لقضاء الحاجة، ومقصورتان حراريتان للاستحمام. أما الثاني فهو الحمام الجديد في مسجد القدم وبني عام 1745 ويتألف من جزأين خارجي وهو عبارة عن ساحة مسقوفة وجواني يتألف من 3 غرف للمياه الساخنة»، وأشارت الباحثة إلى أن هذه الحمامات تختلف عن النموذج العثماني، ولكن حمام مسجد القدم يتميز أيضاً بمساحته الصغيرة حيث يحتوي على سخان واحد.

وتحدثت الباحثة عن ملكية هذه الحمامات وكيف أنها كانت بمعظمها تبدأ كوقف ثم يتم تأجيرها بعقود إيجار طويلة الأمد، وتشير عمليات ترميمها المتكررة إلى أهميتها الاقتصادية. وضربت الباحثة أمثلة مثل الحمام الموجود في قرية دوما والتابع لوقف المسجد. وكذلك حمام كفر سوسة الذي بدأ كوقف لمسجد صلاح الدين، والذي انتهى به الأمر كملكية خاصة لأربعين مالكاً.

أما حمام قرية حلبون فقد كان ملكاً لأحمد أفندي ابن آغا قبل أن تعود ملكيته لأحد القرويين ثم إلى أحد ملاك ساروجة قبل أن يصبح أخيراً ملكاً لأحد القادة العسكريين. ولاحظت الباحثة أن آل العظم في عهد أسعد باشا العظم اشتروا بناء الحمام في الزبداني من أموال خزينة الدولة ولكنه أصبح وقفاً خاصاً لهم، ثم حصلوا على ملكية حمام القدم وضموه لوقف المدينة.

خلاصة وتعليق:
لا بد في النهاية من الإشارة إلى الأهمية الكبيرة التي تمتعت بها ندوة «بالانيا تيرم وحمامات» الذي بحثت على مدى أربعة أياماً أحد أكثر المواضيع تشويقاً، ألا وهو علاقة الإنسان الشرقي بالنظافة والتطهر عن طريق ما تركه من منشآت معمارية كانت تستخدم لهذا الغرض، وكيف ألقى بظلال مفاهيمه الصحية والتطهرية، ومفاهيم المتعة والراحة على مساحة الفكر الغربي، عبر واحدة من أظرف قصص التفاعل الحضاري بين الشعوب. ناهيك عن الأهمية العلمية الكبيرة للدراسات الآثارية والأنثروبولوجية والتاريخية التي يمكن أن تتمخض عن تناول هذه الزاوية.

ولهذا كان لا بد من شكر كل من قام على هذا العمل الكبير، الذي جرى بتنسيق وتنظيم جيد، على أمل أن تصبح مثل هذه المؤتمرات والندوات تقليداً دائماً في حياتنا الثقافية والعلمية.

محمد رفيق خضور

اكتشف سورية