ممدوح عدوان

المحتويات

.

مقدمة


كلنا على اختلاف مشاربنا وأفكارنا، نخوض في تجربة واحدة إن صح التعبير، ألا وهي تجربة «الألم» في المحيط الكوني الذي تعوم عليه جزيرة صغيرة، تُدْعَى الأرض. وفي هذه الأرض، وطن صغير، متنوع في مشاربه وطوائفه، إلا أنه يندغم في تاريخ مشترك في هذا المحيط الكوني، وكلنا نتعمد فيه بالألم، ومن ثمّ، نولد من جديد. ولكن هذا وقفٌ على خصوصية كل شخص، فإما أن يولد متذمّراً، شاكياً، رافضاً، متمرّداً، متشائماً، ساخراً؛ أو أن يولد عصابياً، خائفاً، موسوساً، أو أن يولَد بطلاً، يحاور الموت كصديق، ويرقص على إيقاعه، وفي رقصه يقفز إلى أكوان بكر ويختبر عوالم من الصدق الذي يفضي إلى وقفات تذكّرنا بالنفّري المتصوف في مواقفه.

من أرشيف ممدوح عدوان

نعم، إنه أديبنا الراحل ممدوح عدوان، نراه بطلاً، راقصاً، واقفاً في إشكاليات لا تنتهي يلوح في آفاقها الرفض والتمرد والسخرية. ولكن تجربته الكبرى كانت ولا شك «الألم»!!

سيرة حياته


ولادته[1]


وُلِدَ في قرية قيرون (مصياف) عام 1941، من أبوين هما صبري ووضحة.

طفولته


عاش في بيئة ريفية (قيرون ودير ماما، منطقة مصياف، ريف حماة. فكانت تنشئته ريفية الطابع، أما المرحلة الأولى من الطفولة فقد أمضاها في بلدة (مصياف).

يقول عدوان عن هذه المرحلة : «حين تعيش في هذا الجو وتكبَر فيه، ومهما بلغت درجة رفضك له أو لبعض ما فيه، ستكتشف لاحقاً أن التاريخ (تاريخ صدر الإسلام وبدايات الخلافة الأموية) كان يعيش معك، أو أنك كنت تعيش فيه. إن التاريخ لا يعود هنا معلومات في كتب، بل هو حياة. التاريخ حي وموجود».

العلم


«وعلى المستوى الشخصي فقد رأيت من هم أكبر مني وهم "يتعالمون" وكان المقصود بهذه الكلمة التباري بالعلم. وكان العلم يتضمن "ثقافة" خاصة من هذا التاريخ الحي، مضافاً إليها الشعر المحفوظ من الجاهلية، أو من التراث إجمالاً. وكان فيه بشكل خاص "تعجيزات" إعرابية ولغوية يلتقطها هذا أو ذاك من كتب الشروح والتفاسير. وفي كل بيت من بيوت هؤلاء، كان هناك كتاب حول اللغة والقواعد والإعراب، والكتاب للشرتوني.

والتعجيزات الأخرى كانت في تحدّي الطرف الآخر أن "يثلّث" بيتاً من العتابا. كانت تحديات من هذا النوع تستغرق السهرة كلها. وفي أغلب الأحيان لا يقال شيء إلا غناءً. وكثيراً ما يكون التحدي موجهاً إلى الموجودين كلهم، مما يجبرك على أن تحرك ذهنك في الموضوع».

ممدوح عدوان في مرحلة الشباب

القراءة


«أضيف مسألة شخصية أخرى هي أنني كنت أتقن القراءة السليمة. ومنذ الصف الأول الابتدائي كان يشار إليّ في مصياف: هذا الولد الذي يعرف قراءة الجريدة. وإذا أضفنا الصوت الجهوري واللفظ السليم فإن تميزاً خاصاً تعلق بي. وكان يتجلى في دعوتي من قِبَل من هم أكبر سناً، ومعظمهم لا يتقن القراءة السليمة، لكي أقرأ عليهم بصوت مرتفع كتباً يعطونني إياها. وكانت في معظمها من التاريخ والتراث والقواعد. ثم أضيف إليها في ما بعد كتب السير الشعبية.

وبعد أن كبرت، اكتشفت أن ذاكرتي ما تزال تحتفظ بالكثير من تلك الآيات والأحاديث والمعلومات والأشعار والشواهد والقصص».

الحياة الاجتماعية


«بالإضافة إلى الفقر الذي كان يلف الريف كله، كانت هناك مسألتان تستوقفان الولد "الذي يعرف كيف يقرأ الجريدة"، الأولى هي الظلم الفظيع اللاحق بالمرأة، ولهذا أيضاً جانبه الديني. والمسألة الثانية هي التميز الاجتماعي (الذي ينجم عنه تميز اقتصادي يؤدي إلى تميز في فرص التعليم والوظائف) لرجال الدين وأبنائهم.

ولكن مع شيوع الجانب الديني في الريف إلا أن التعصب أو التزمت لم يكن يغلف الحياة. بل كان هناك تعامل ميسور مع الدين. ولعل حضور التاريخ في الحياة اليومية قد أدى إلى شيء من رفع الكلفة مع الرموز الدينية.

ممدوح عدوان مع بعض من أصدقائه

كذلك فالضحك (والكلام) بصوت مرتفع كان سمة من سمات تلك الحياة. وهي سمة لازمتني حتى اليوم».

نسبه


«يكفي أن أشير إلى أن اسم عدوان في كنيتي جاء من سيرة شعبية كانت متداولة واسمها "حكاية الأمير نمر العدوان ومحبوبته وضحة ست النسوان".

فعدوان هم اسم جدي (والد والدي) وليس اسم عشيرة. ولدي عم اسمه نمر (وبالتالي فهو نمر العدوان). كما أن أمي (وهي قريبة أعمامي قبل الزواج) اسمها وضحة. وزوجة أحد أعمامي، وهي من قريباتنا أيضاً اسمها هي الأخرى وضحة (تبين لي فيما بعد أن العدوان عشيرة كبيرة في فلسطين وشمالي الأردن وجنوب سورية. ولعل الأمير نمر العدوان منها. ولكن أنا لست منها مع الأسف).

العوام هم أبناء عامة الناس، الذين أهلهم ليسوا مشايخ. وأنا من العوام ولا أعرف كيف أن جدي عدوان قد استطاع أن يعلّم أبي (صبري) حتى أخذ الابتدائية (السرتفيكا). لقد كان عدوان من وجهاء ذلك المجتمع القروي الصغير والفقير (دون مرتبة دينية أو ملكيات زراعية كبيرة، وهذا نادر). وبهذه الشهادة توظف أبي بعد الاستقلال في الإنتاج الزراعي. وقد أعطته الوظيفة امتياز ابن الحكومة، وامتياز الدخل الثابت المضمون. وبسبب الوظيفة كان ينتقل – ضمن المنطقة ذاتها – إلى بلدات وقرى متعددة. وكنت معه لأنني الأكبر (الثاني في الترتيب بعد الأخت الكبرى). ثم وجد أنه من الأفضل أن يستأجر غرفة في مصياف – مركز المنطقة – كي تسكن الأسرة الصغيرة فيها، بينما يذهب هو إلى وظيفته في القرى المجاورة ويعود إلى البيت. وكان هذا يعني أن أدخل المدرسة في مصياف».

المدرسة


كان حزب البعث قد فتح عدداً من المدارس في الأرياف لتدريس أبناء الفلاحين مجاناً، أو بأقساط رمزية. ويدرّس فيها متطوعون – بأكلهم أحياناً – من طَلَبة الجامعة الحزبيين. وفي مصياف كانت إعدادية أبي ذر الغفاري. وكان يدرس فيها أبناء القرى المجاورة ممن انقطعوا عن التعليم بسبب الوضع المادي ثم استأنفوه بعد إتاحة هذه الفرصة. ولذلك كان معظم الطلاب كباراً في السن بالنسبة للمرحلة التعليمية النظامية. وقد تعلمت المرحلة الإعدادية في هذه المدرسة، وأنهيت دراستي فيها وأنا من أصغر الطلاب سناً.

بداياته الشعرية


«مرة أخرى فرض الشعر نفسه. فالأساتذة البعثيون المتطوعون كانوا يشتعلون حماساً. وكانوا يجعلوننا نخرج في مظاهرات سياسية (ضد أديب الشيشكلي أو في ذكرى سلخ اللواء أو ذكرى تقسيم فلسطين) لا نعيها تماماً. ولكنهم كانوا يلقون علينا قصائد حماسية تكون في أغلبها من نظمهم هم.

ممدوح عدوان في إحدى محاضراته

بالنسبة لي في هذه المرحلة، ومع أنني تعلقت منذ صغري بقصيدة أحمد شوقي (سلام من صبا بردى أرق)، وخصوصاً أنه لم يسهر أهلي عند أحد، ولم يسهر أحد عندنا، إلا وطلب مني أن أقرأ القصيدة أمام الآخرين. وكنت أقف فوراً وأطلِق عقيرتي بها. إذن، في المرحلة الدراسية اكتشفت أن الشعر يمكن أن يكون مادة سياسية. ومع تأليبنا ضد الظلم والاضطهاد والإقطاعيين والزعماء (الذين كان معظمهم مشايخ) توجه اهتمامي إلى أنني يجب أن أكتب شعراً للتنديد بالظلم الاجتماعي. وكنت من الشعراء الشبان القلائل الذين لم يبدؤوا بكتابة الغزل، بل الهجاء الاجتماعي للرجال الذين يضطهدون النساء، ولرجال الدين الذين يستغلون الدين مالياً، ثم سياسياً ليصبحوا نواباً أو زعماء يدعمون النواب. ولكن أول قصيدة نشرتها كانت تسخر من زعيم سابق.

وفيما بعد اكتشفت أن الحماس وحده غير كافٍ، والتحدي لا يكفي. والوظيفة الجديدة التي تحول الشعر إلى سلاح لا تكفي. إذا شئت أن تستخدم هذا السلاح يجب أن تتقنه وتبرع في استخدامه.

ولذا لم تعد قراءاتي النهِمَة لكي أتسلى أو لكي أحفظ ما سألقيه باستعراضية، بل صرت أنتبه إلى كيف تُكْتَب القصيدة».

متابعة الدراسة


«بعد الإعدادية، لم تكن هناك ثانوية في مصياف، فأكملت المرحلة الثانوية في حماة وحمص. وبعد الثانوية انقطعت عن الدراسة لكي أعمل معلماً وكيلاً، بعد أن سجلت في الجامعة في كلية الآداب – قسم اللغة الإنكليزية التي تخرّجت منها حاملاً دبلوماً في اللغة الإنكليزية.

ممدوح عدوان في الجامعة

حتى ذلك الحين كنت متفوقاً في اللغة الإنكليزية والرياضيات (حتى اليوم مازلت أساعد أولادي في الرياضيات حتى يتجاوزوا المرحلة الإعدادية).

وبعد أن منعني أبي من الالتحاق ببعثة لدراسة التمثيل في مصر أيام الوحدة، درّست سنة واحدة في إحدى القرى. وكانت قراءاتي كلها في الشعر المهجري. وحين ذهبت في العام التالي إلى دمشق لكي أدرس في الجامعة كطالب نظامي كانت معرفتي بالشعر المعاصر لا تتعدى الشعر المهجري إلا بشعر بدوي الجبل ونزار قباني. ولم أكن قد عرفت بمعركة الشعر الحديث، وكان ذلك في مطلع الستينات.

في الجامعة كان يسيطر علي الإحساس بالتقصير والغياب. كنت غائباً عما يجري في دنيا الثقافة والشعر. كنت غائباً عن العصر كله».

واستمر ذلك، إلى أن وقعت يده على مجلتي «الآداب» و«شعر» حيث اطلع عدوان على النزاعات المتعلقة بالحداثة والكلاسيكية. وتعلم على يد علي كنعان الذي كان زميله في صف واحد، وحدة التفعيلة بدلاً من وحدة البيت.

قصته مع التمثيل


يروي ممدوح عدوان عن رغبته في تعلم التمثيل، فيقول: «وقد أكلت "قتلة مرتّبة" من أبي بعد الثانوية لأنني كنت أريد أن أدرس التمثيل. بينما عقدة المنطقة كلها توجه الأولاد "النابغين" لأن يكونوا محامين أو أطباء (دكاترة)».

ومع هذا فإن ممدوح عدوان يذكر أن التمثيل كان أول نشاط مارسه في حياته، خارج نشاط المدرسة. وأنه منذ عام 1958 قام بدراسة التمثيل بالمراسلة. وفي أعوام 59–60 كان يقدم مسرحياته في مصياف، في أعياد الوحدة. وكان يكتب نصوصاً مسرحية ويقدمها بنفسه.

ممدوح عدوان في رحلة إلى تدمر

تجربته في المدينة


كان على ممدوح عدوان أن ينزل إلى المدينة لإتمام الدراسة الجامعية، وهي دمشق العاصمة. وعبر عن تجربته هذه في روايته «أعدائي». ومن جهة أخرى فهو يقول: «الغربة التي اعتاد الشعراء أن يكتبوا عنها (مثل غربة حجازي في "مدينة بلا قلب") لم أكن أحس بها بهذا المعنى. كنت أشعر أنني على هامش المدينة بسبب الوضع الاقتصادي. وليس لأن "هذا الزحام لا أحد". بل هو أحد. وأريد أن أندمج فيه وأن أتعايش معه، وأن أنال اعترافه. وكنت أرى أن المدينة ترفضني لأنني متخلف. والحل هو أن أتقدم. ولم يكن أمامي إلا الثقافة».

أول قصيدة له تنشرها "الآداب"


في فترة الحرمان والفقر والغربة وسط المدينة نشرت مجلة «الآداب» أول قصيدة له بعنوان «لقيطان» وكانت مهداة إلى علي كنعان، رفيق المعاناة والبؤس. ويذكر عدوان أن «محي الدين صبحي كتب عنها في العدد التالي يقول أنها تمس شغاف القلب، رغم أنه مسح بها الأرض دفاعاً عن دمشق التي اعتقد أنني أهجوها، وهو يجب أن يدافع عنها بوصفه دمشقياً».

رأيه في دمشق


يقول ممدوح عدوان: «بالنسبة للأيام الحالية فلا أشعر أن هناك ما تغير في دمشق إلا أنها صارت أكثر ازدحاماً وأقل خضرة وشتاء. وهذا الازدحام وسط الغابات الإسمنتية يشعرك أن الألفة قد اضمحلت. على أيامنا كانت دمشق خضراء كبيرة وجميلة».

زواجه


تزوج فيما بعد من حبيبته إلهام التي أنجب منها ولديه: زياد، ويحمل شهادة الدكتوراه في المسرح من بريطانيا، ومروان المتخصص في مجال المعلوماتية.

نجاحه


أول نجاح له كان في عام 1969 حين ألقى شعراً في بغداد، وكان قبله الجواهري وبعده نزار قباني، حينها لم يفشل، واستطاع التواصل مع الجمهور فاختبر ما هو النجاح.

أما أول عمل مسرحي كتبه فقد كان عملاً مسرحياً شعرياً باسم «المخاض» عام 1965.

أما ديوانه الشعري الأول فكان «الظل الأخضر» عام 1967.

وتمت ترجمة العديد من أعماله الشعرية إلى لغات أخرى.

ويعتبر ممدوح عدوان أول من كتب المونودراما في سورية، وأول نص كتبه من هذا النوع كان بعنوان «حال الدنيا» وتبعه بـ «القيامة» ثم «الزبال». وذلك في النصف الثاني من الثمانينات. وهي نصوص يعالج فيها الكاتب جملة من القضايا الاجتماعية الراهنة، مثل الفقر والفساد. وكان الممثل زيناتي قدسية قد قام تباعاً بإخراج وتمثيل هذه النصوص الثلاثة.

كما كتب عدداً من النصوص التلفزيونية الأخرى منها: «الزير سالم» وهي دراما تاريخية، و«دائرة النار» وهي دراما اجتماعية، و«جريمة في الذاكرة» و«المتنبي» و«ليل العبيد» و«الخدامة».

عمل ممدوح عدوان أيضاً في الصحافة الأدبية والتلفزيونية كما كتب كثيراً من المقالات في الدوريات السورية والعربية، كما قام بعمل جبار في حقل الترجمة.

وباختصار تنوعت تجربة ممدوح عدوان الإبداعية بين الشعر والمسرح والتلفزيون والرواية والمقالة والترجمة. فلديه ما يزيد على 80 مؤلفاً منها: 17 مجموعة شعرية، 36 مسرحية، 16 مسلسلاً وروايتان، إضافة إلى ترجمات هائلة عن اللغات العالمية.

ونال عدداً من الجوائز الثقافية والأدبية تقديراً لعطاءاته الكبيرة للثقافة العربية.

صراعه مع المرض ووفاته


كتب عمر شبانة (الأردن/الإمارات): «دخل الشاعر في صراع مرير ودام وتراجيدي مع الموت، من جهة القلب أولاً، ثم من جانب السرطان الملعون، وظل في مواجهته يتحدى بصلابة وقوة، وبجهود مكثفة ومتنوعة، وبقهقهة تسخر من العدم، فقد عرف كيف يحول مأساته الشخصية إبداعاً خالداً يدفع عنه شبح الفناء. يدفعه بالشعر وبالرواية وبالترجمة وسواها، ويتمنى لو كانت لديه أدوات أخرى للتعبير عما لديه. "هناك مناطق لا يعبر عنها الشعر، ولابد من وسائل أخرى. أتمنى لو كنت أستطيع أن أرقص وأغني وأعزف" كان ممدوح يقول. وحين كان يُسْأل عن مرضه كان يقول: "أنا لا أشعر أنني مريض، شعرت فقط في الشهرين الأولين ببعض التعب، ومن ثم استأنفت نشاطي، خلال العلاج شعرت بفقدان ذاكرة جزئي، ولكنني خلال الفترة التي تلت أصدرت كتابين هما "حيونة الإنسان والآخر" و"الجنون مرة أخرى"، والذي يعتبر جزءاً ثانياً لكتابي "دفاعاً عن الجنون"».

ممدوح عدوان مع الطبيعة

وأخيراً رقص ممدوح عدوان رقصته الأخيرة مع الموت محلقاً إلى عوالم الما وراء، وانطفأت شعلة ألهبت والتهبت في 20/12/2004 عن عمر ناهز الثالثة والستين. وكتبت السفير عن ذلك: «شيّعت سورية جثمان الكاتب السوري ممدوح عدوان بمشاركة رسمية لافتة، وبوجود كثيف للأدباء والفنانين وسط اهتمام شعبي، رافق الموكب الذي انطلق من مشفى الأسد الجامعي بدمشق في اتجاه مسقط رأسه في قرية دير ماما بمحافظة حماة حيث ووري الثرى. وشارك في التشييع من الجانب الرسمي وزير الإعلام مهدي دخل الله ووزير الثقافة محمود السيد وعدد من معاوني الوزراء ومديري المؤسسات الإعلامية وعدد من أعضاء مجلس الشعب وأساتذة جامعة دمشق».

فكره


دور المثقف عند عدوان[2]


«أنا أرى أن على المثقف أن يستمر بمعالجة كل الموضوعات التي يرى أنه مؤهل لمعالجتها، أو يرى أن هناك ضرورة لمعالجتها، حتى لو بدا أن صوته في فراغ. ليس هناك صوت في فراغ، دائماً هناك من يقرأ، وهناك من يتابع، ولكن قد لا نحس به مباشرة. على أن لا نتوهم أننا بديل عن الشعب، وأننا بديل عن الثورة، وأننا بديل عن الجماهير. الكاتب ليس بديلاً عن أحد، ليس بديلاً إلا عن نفسه، حتى أنه ليس بديلاً عن كاتب آخر، فكيف يكون بديلاً عن الشعب؟ يجب أن لا نتوهم أننا نمتلك الحقيقة الكاملة. يجب أن نتعلم أن ما نفعله هو فتح أبواب للحوار. نحن لا نلقي بالحكمة، القائد السياسي، فقط، هو من يعتقد أنه يلقي بالحكمة الخالدة للجماهير. المثقف والمبدع، يقول لا. أنا أحاول فتح باب لأتحاور عبره مع الناس: ما رأيكم بكذا؟ وليس: "إن"، المثقف لا يستخدم إن، وما إليها من عبارات حاسمة.. (يضحك).

هناك، لاشك مثقفون متوهمون، لكن هؤلاء هم من يموت، وبسرعة. ويموت نتاجهم وتموت فعاليتهم. أما المثقفون الذين يعتقدون أنهم يقيمون حواراً مع الآخر، مع الشعب، وليس قصدهم تعليم الناس بقدر ما هدفهم إثارة أذهانهم، تجد أن كتاباتهم للتفكير لا للتلقين».

ممدوح عدوان بين رقابة السلطة ورقابة المعارضة


«بمقدار ما كنا نعاني من الرقيب الثالث، أو الرقيب المزدوج (رقابة السلطة، ورقابة المعارضة). المعارض اليساري كان بيده أسلحة قمعية أكثر من السلطة. فقد وضع هؤلاء معايير نقدية لا تصلح إلا للمسلخ، وسلخوا تاريخاً من الحياة الثقافية. ولذلك كانت معركتنا معهم أكثر ضراوة. لأن المعارِض يعتقد بأنه يمتلك الحقيقة الكاملة، بمقدار ما يملكها رجل السلطة، بفارق أن رجل السلطة – ولأنه يفعل فعلاً يومياً على الأرض – يرى أن هناك مبرراً للحوار معه ولنقده. ولو نقداً خفيفاً. أما الأول – ولأنه لا يفعل شيئاً إلا التنظير – فإنه يعتقد أن الحقيقة لديه كاملة ولذلك تأتي أحكامه أكثر صرامة واشد قسوة».

ممدوح عدوان

ممدوح عدوان والتجربة الصوفية[3]


يشير نديم الوزة إلى مجموعته الشعرية «طيران نحو الجنون» فيقول: «أراك قد تفوقت حتى على الشعر الصوفي العربي نفسه، بل إنك استطعت أن تجسد الرؤية الصوفية أعمق بكثير من الرواد».

يجيب عدوان: «أريد أن أتحدث قليلاً عن هذه التجربة. ترجمت كتاباً عظيماً لكازانتزاكي (تقرير إلى غريكو) يذكر فيه حواراً بين كاهن مسيحي ودرويش مسلم، الحوار افتراضي كما تبين لي فيما بعد فالدرويش المسلم هو جلال الدين الرومي، يسأله الكاهن: كيف تخاطب الله، وتكون متيقناً من أنه يسمعك، فأجاب أخاطبه: رقصاً، وأضاف أن الملائكة حول العرش يسبّحون وهذا يعني لي يرقصون.

ممدوح عدوان

تتصل هذه العبارة بالطريقة التي يرقص بها زوربا ولكن حين قرأت جلال الدين الرومي وقرأت عنه تبين لي أنني مثله أخاطب الحياة والله رقصاً. وبنظرة أوسع قليلاً وحتى باستعارة النظرة العلمية، فإن الكون كله يرقص، حركة الكواكب رقص، وحركة الدم في الجسم رقصة، ولكن حين ندخل في حالة الرقص يجب أن نتخلى عن شيء فينا يعيقنا عن الرقص وعن الحياة وعن الشعر وهو العقل، وعبارة الرومي "كل عقل يطير إلى حيث الجنون" تلتقي مع العبارة العامية "فلان طار عقله، أو هذا شيء يطيّر العقل".

هذه المفاتيح أدخلتني إلى تجربة جلال الدين الرومي ليس من باب الصوفية بل من باب الرقص، ولذلك لم تكن الصوفية عندي هجراناً للحياة بل اقتحاماً لها. ولم تكن قهراً للجسد بل إحياءً له ورجوعاً إليه».

ممدوح عدوان ورؤيته لمركب النقص[4]


«أنا أظن أن مركب النقص يترك في نفس المصاب به، خوفاً من الآخرين أن يكشفوا حقيقته، مثل واحد يخاف أن يراه الناس عند ذهابه إلى المرحاض (مع أن كل الناس تفعل هذا) لكي لا يكتشفوا أنه "إنسان عادي"، هذا المركب عنده يتركه في خوف دائم من الآخر، فيلغي كل من قبله، لكي يكون منفرداًَ في عصره، ويلغي الحاجة لمن بعده. لأنه هو "الشرط اللازم والكافي" للتاريخ.

هذا الرجل المصاب بمركب النقص، يداري نفسه بقناع مركب عظمة – وهذا الأخير تجلٍّ مقرون بمركب النقص عادة. وكلما ازداد مركب النقص لديه ازداد تأليهاً لنفسه. مثل شخص خجول جداً، يدفعه خجله البالغ لأن يتصرف بوقاحة.

ممدوح عدوان

آخر كتاب قرأته عن سلفادور دالي – الذي يُعْتَبَر أكبر استعراضي في هذا القرن – يظهر أنه خجول جداً. وكان يخاف من أن يقيم تجارب عاطفية مع النساء لئلا يكتشفن أنه ليس فحلاً كبيراً!».

ممدوح عدوان بين الريف والمدينة


«هناك إحساس بأن الريف يحكم سياسياً، وبالتالي فإن المعارضة لهذا الريف الحاكم هي التشبث بالمدينة. لكن نظرة دقيقة للواقع تكشف أنه لم يعد هناك من قرية على الإطلاق: الكهرباء، الطرق المعبدة، التلفزيون، البراد، وما إليه من أدوات المدينة، موجودة في الريف. هذا أولاً. ثانياًً: في كل العصور وبخاصة بعد الثورة الصناعية، هناك هجرة من الأرياف إلى المدن – بحثاً عن العمل – تنشأ عنها ظاهرة اجتماعية خطيرة، تتشكل من حزام فقر هائل حول المدينة، في قاع اجتماعي ممزق القيم، لأنه ترك قيَمَه في الريف، ونزل إلى المدينة. وهذه الظاهرة كتب عنها الأدباء الطبيعيون أمثال إميل زولا، ديكنز، وسواهما. حول هذا البؤس الهائل الذي عاشه الريفيون المهاجرون إلى المدينة. ثم إن هؤلاء الذين عاشوا في المدينة جاء التعبير الثقافي عنهم بواسطة مذاهب فنية، هي الواقعية والطبيعية، لكن هم، عندما عبروا عن أنفسهم، عبروا بالرومانسية – أي بالحنين إلى الريف! (من هذا التلوث، من هذا الكد اليومي المهين للإنسان، والتسليع لقيمته، إلى الحنين للريف)، من هنا وُلِدَت الرومانسية، ما هي الرومانسية؟ حنين للريف، حنين للطبيعة، حنين للبساطة، حنين لمجموعة مسائل بدأ الإنسان يفقدها.

ممدوح عدوان أمام مكتبته

فإذن الهجرة من الريف للمدينة موجودة لدى كل الشعوب. ولا يحتج عليها إلا من جانب إنساني، بمعنى أن هؤلاء المهاجرين يعيشون بؤساً في المدينة، أو من جانب سياسي بمعنى أنهم يغيرون هوية المدينة».

ترجمته للإلياذة


يَعْتَبِر عدوان أن ترجمته هي الترجمة الكاملة (العربية)، فهي تُرْجِمَت سابقاً من قِبَل البستاني شعراً وأمين سلامة ترجمها عن اليونانية مباشرة لكن بلغة عربية غير جيدة، مع الاعتراف بأنها الترجمة الأفضل للإلياذة سابقاً، بعد سلامة ظهرت ترجمتان مختصرتان وهكذا. أما هو فقد أحضر الترجمات السابقة لها إلى جانب سبع ترجمات إنكليزية والكتب التي تشرح هذه الترجمات أيضاً، وقارن كل هذه الترجمات مع بعضها بهدف الوصول إلى الصيغة الأكثر دقة وإقناعاً، كما قدم في ترجمته هذه مجموعة من الشروحات حول طريقة الإلياذة وطبيعة الشعر الشفوي والمشكلة "الهوميرية" إلى جانب مجموعة من الهوامش التفسيرية التي ظن أن القارئ العربي يحتاج إليها.

ووضع مقدمة هي عبارة عن مقالين مترجمين عن الحياة في اليونان أيام الإلياذة وفن الحرب الذي قدمه هوميروس، وفعل ذلك كله في سبيل تقديم خدمة ثقافية متكاملة للقارئ، وهنا تجدر الإشارة أيضاً إلى إفادته من ترجمة سلامة فيما يتعلق بالأسماء اليونانية فهو ترجمها مباشرة عن اليونانية وبالتالي كانت الأدق.

من مؤلفات ممدوح عدوان

أعماله


في الشعر


1) الظل الأخضر، وزارة الثقافة، 1967.
2) أقبل الزمن المستحيل، اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، 1974.
3) لابد من التفاصيل، دار العودة، 1982.
4) الدماء تدق النوافذ، دار العودة، 1982.
5) الخوف كل الزمان، دار العودة، 1982.
6) يألفونك فانفر، دار العودة، 1982.
7) الأعمال الشعرية الكاملة، دار العودة، 1982.
8) وهذا أنا أيضاً، اتحاد الكتاب العرب، 1984.
9) والليل الذي يسكنني، الأهالي للطباعة والنشر، 1987.
10) أبداً إلى المنافي، دار الملتقى، 1992.
11) لا دروب إلى روما، دار ممدوح عدوان للنشر، 1990.
12) أمي تطارد قاتلها، دار العودة، 1982.
13) تلويحة الأيدي المتعبة، دار العودة، 1982.
14) للريح ذاكرة ولي، بيروت، 1997.
15) طيران نحو الجنون، رياض الريس للكتب، 1998.
16) وعليك تتكئ الحياة، دار كنعان، 2000.
17) كتابة الموت، دار هيا، 2000.
18) مختارات شعرية، وكالة الصحافة العربية، 2000.

ظواهر أسلوبية في شعر ممدوح عدوان
من تأليف: محمد سليمان

في المسرح


1) القيامة والزبال: مسرحيتان، مونودراما، دار ابن هانئ، 1978.
2) هملت يستيقظ متأخراً، دار ابن رشد، 1980.
3) الوحوش لا تغني، المؤسسة العربية للناشرين المتحدين، 1986.
4) حال الدنيا، الخدامة: مسرحيتان، اتحاد الكتاب العرب، 1986.
5) الميراث، 1988.
6) محاكمة الرجل الذي لم يحارب، دار ابن رشد.
7) حكايات الملوك، اتحاد الكتاب العرب، 1989.
8) حكي القرايا وحكي السرايا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993.
9) سفر برلك: أيام الجوع، 1994.
10) مونودراما: أربعة نصوص، حال الدنيا، القيامة، الزبال، أكلة لحوم البشر، دار الجندي، 1994.
11) الأعمال المسرحية، دار ممدوح عدوان، 2006.

من مؤلفات ممدوح عدوان

أعمال أخرى


1) المخاض، 1965.
2) لو كنت فلسطينياً، دار ابن رشد، 1981.
3) الأبتر، دار الحوار، 1984.
4) زيارة الملكة، مكتبة السائح، 1984.
5) ليل العبيد، دار الزاوية، 1989.
6) الفارسة والشاعر، رياض الريس.

في الرواية


1) أعدائي.

في المقالة


1) دفاعاً عن الجنون: مقدمات، دار النديم – الوعي، 1985.
2) نحن دون كيشوت: بحث وقصيدة، قدمس، 2002.
3) الزير سالم: البطل بين السيرة والتاريخ والبناء الدرامي، قدمس، 2002.
4) تهويد المعرفة: دراسة، دار المسبار للدراسات والتوثيق، 2002.
5) حيونة الإنسان والآخر، قدمس، 2003.
6) جنون آخر، دار الجندي، 2003.

في الترجمة


1) الشاعر في المسرح، تأليف: رونالد بيكوك، وزارة الثقافة، 1978.
2) الرحلة إلى الشرق، تأليف: هرمان هسه، دار ابن رشد، 1981.
3) التعذيب عبر العصور، تأليف: بيرنهاردت ج.هروود، دار الحوار، 1984.
4) الشيخ والوسام، تأليف: فردينانر أوبونو، دار منارات، 1985.
5) سدهارتا، تأليف: هرمان هسه، دار المنارات، 1986.
6) مذكرات كازانتزاكي (مجلدان)، تأليف: نيكوس كازانتزاكي، مؤسسة الجندي، 1986.
7) حول الإخراج المسرحي، تأليف: هارولد كليرمان، دار دمشق، 1988.
8) دميان: قصة شباب إميل سنكلير، تأليف: هرمان هسه، دار منارات، 1989.
9) زوربا البرازيلي، تأليف: جورج أمادو، دار العودة، 1990.
10) عودة البحار، تأليف: جورج أمادو، دار العودة، 1990.
11) الكوميديا الايطالية، تأليف: بيير لوي دو شارتر، ترجمه عن الإنكليزية، بالتعاون مع علي كنعان، وزارة الثقافة، 1991.
12) عاصفة: مسرحية، تأليف: إيميه سيزار، وزارة الثقافة، 1992.
13) صلاح الدين وعصره، تأليف: ب. هـ. نيوباي، تقديم: سامي الجندي، دار الجندي، 1993.
14) تاريخ الشيطان، تأليف: وليم وودز، دار الجندي، 1996.
15) المهابهاراتا: عن الملحمة الهندية القديمة، ترجمها إلى الإنكليزية: بيتر بروك، ترجمها إلى العربية: ممدوح عدوان، وزارة الثقافة، 1996.
16) الرقص في دمشق، تأليف: ليند سفرين، دار المدى للثقافة، 1997.
17) الممثلون والتمثيل: تاريخ التمثيل، إعداد: توبي كول، هيلين كريش شينوي، وزارة الثقافة، 1997.
18) عودة أوليس: أوديسة، ديريك والكوت، دار المدى، 1998.
19) الشعر ونهايات القرن: الصوت الآخر، تأليف: أوكتافيو باث، دار المدى، 1998.
20) تلفيق إسرائيل التوراتية: طمس التاريخ الفلسطيني، تأليف: كيث وايتلام، مراجعة: زياد منى، قدمس، 2000.
21) الإلياذة، تأليف: هوميروس، ترجمة وتعليق: ممدوح عدوان، المجمع الثقافي، 2000.
22) ساعي البريد (الصبر المحترق)، تأليف: أنطونيو سكارمينا، دار كنعان للدراسات، 2001.
23) جورج أورويل: سيرة حياة، تأليف: برنارد كريك، المركز الثقافي العربي، 2003.
24) زجاج مكسور: مسرحية عالمية، تأليف: آرثر ميلر، ترجمة وتقديم: ممدوح عدوان، وزارة الثقافة، 2003.
25) عصي وعظام، تأليف: ديفيد ريب، دار المرساة، 2005.

من مؤلفات ممدوح عدوان

شعره


ظواهر أسلوبية في شعر ممدوح عدوان[5]


يركز الباحث (محمد سليمان) على أربع ظواهر أسلوبية حققت وجوداً في دواوين عدوان. وقد قصرها الباحث على أربع: الانزياح، والتوازي، والتناص، والمفارقة. ويقصد بالانزياح عند ياكبسون «الانتظار الخائب» أي أن يخرج التركيب عن توقع المتلقي. مثل: الليل الحاقد. فإن لفظة «الحاقد» لا تتلاءم مع لفظة الليل، وثمة بدائل متوقعة مثل: الليل المظلم (الدامس، الحالك). أما أن يكون «حاقداً» فيعدّ هذا خروجاً عن قاعدة المعنى في النظرة الأولى للمتلقي. ثم يصبح مثل هذا الانزياح مفتقاً لمعانٍ جديدة. ويرى بعضهم أن الانزياح «استعمال المبدع للغة – مفردات وتراكيب وصوراً – استعمالاً يخرج بها عما هو معتاد ومألوف بحيث يحقق المبدع ما ينبغي له أن يتصف به من تفرد وإبداع وقوة جذب». وقد شكل هذه الظاهرة ثلاثة أنماط: الانزياح الإسنادي، والانزياح الدلالي، والانزياح التركيبي. أما التناص فقد عبرت عنه جوليا كريستيفا بقولها إنه «النقل لتعبيرات سابقة أو متزامنة، وهو "اقتطاع" أو "تحويل"، وهو عينة تركيبية تجمع لتنظيم نص معطى التعبير المتضمن فيها أو الذي يحيل إليه». وقد مثل هذه الظاهرة ثلاثة أنواع: التناص الديني، والتاريخي، والأدبي. فيما حُدِّدَت ظاهرة التوازي بالتوازي الصوتي، والصرفي، والنحوي، وعلاقة التوازي بالقافية. وقد عدها جيرار مانلي هوبكس (1844–1889) بأنها أي جانب زخرفي في الشعر. أما من حيث المفارقة فيرى سي ميويك أنها «طريقة في الكتابة تريد أن تترك السؤال قائماً عن المعنى الحرفي المقصود»، وهي – أيضاً – «قول شيء بطريقة تستثير لا تفسيراً واحداً بل سلسلة لا تنتهي من التفسيرات المتغيِّرة». ويعرض الباحث خلالها لأنماط منها تشكل الظاهرة في شعر عدوان.

ممدوح عدوان محاضراً

أولاً – الانزياح


1-الانزياح الإسنادي:
ولما كانت الجملة العربية في الدرس النحوي تنقسم إلى قسمين: الجملة الاسمية، والجملة الفعلية، يقوم الباحث بدراسة هذا النوع من الانزياح مقسماً إياه إلى الإسناد الاسمي (المبتدأ والخبر)، والإسناد الفعلي (الفعل والفاعل وتوابعهما). ففي الإسناد الاسمي نجد:

المبتدأ والخبر:
شاع في شعر عدوان استخدام المبتدأ والخبر. وقد تماشى هذا مع شعره، وحقق اكتمالاً في صورته خلال ديوانه «تلويحة الأيدي المتعبة» ثاني دواوين الشاعر، ثم أخذ في الاتساع ليشكل ظاهرة. وقد استخلص كوهن قانوناً عاماً يتعلق بتأليف الكلمات في جمل «يقتضي أن يكون المسند ملائماً للمسند إليه في كل جملة إسنادية». وحدَّد هذا الأسلوب بـ«الملاءمة»، ويتم بذلك تشكيل الجمل من خلال إلحاق الدلالة بالتركيب. ومن الأمثلة التي أوردها كوهن: «الإنسان ذئب لأخيه الإنسان».

ويتضح عدم ملاءمة المسند للمسند إليه إذا أُخِذَ بمعناه الحرفي، أي الحيوان. ويتبدى هذا الانزياح بالوصول إلى المعنى الثاني بأن الإنسان شرير. وتعكس هذه «اللا ملاءمة الاسمية» قدرة عند المتلقي في تأويل النصوص، ذلك أن «الكتابة الفنية تتطلب من الكاتب أن يفاجئ قارئه من حين إلى حين بعبارة تثير انتباهه حتى لا تفتر حماسته لمتابعة القراءة، أو يفوته معنى يحرص الكاتب على إبلاغه إياه». ويستشهد الباحث بعدة أمثلة منها المثال الذي يشمل على انزياح إسنادي اسمي مأخوذ من قصيدة «زائر الليل» حيث نرى دخول «كان» على مسند ومسند إليه.

«فتحتُ الباب
كان الليل يغفو هادئاً
كان الظلام على فراش البرد ممدوداً».

«كان الظلام يغفو هادئاً» يكشف عن انزياح وقع قبل دخول «كان» على المسند والمسند إليه. «الليل يغفو هادئاً» ولذلك لا يرى الباحث تصاحباً معجمياًَ بين المسند والمسند إليه، فلفظة الليل لا تتلاءم مع «يغفو هادئاً»، فقد تتصاحب لفظة الليل مع «يظلم» (يعتم، يستر الهموم..الخ)، أما الفعل يغفو فقد يتصاحب معجمياً مع الإنسان (ومنه: الرجل، المرأة، الطفل، الأخ، الصديق، السائق... يغفو هادئاً). ومن هنا فإن كوهن يقرر بأن معرفة معنى كلمة ما هو إلا معرفة للاحتمالية التي تكوّن من خلالها جملاً، ولعل هذا ينطلق على الجمل البسيطة، مثل المركب الثنائي الاسم، والفعل، والاسم – النعت...الخ، وكذلك الحال في السطر الذي يليه (كان الظلام على فراش البرد ممدوداً)، فإن الجملة الاسمية مكونة من مسند ومسند إليه هما «الظلام ممدود»، ولفظة «الظلام» في هذا السطر لا تنسجم معجمياً مع «ممدود» فقد يكون الظلام: دامساً..الخ، ولذا فإن الانزياح يشكل ضرورة قائمة كونه يرتبط وثيقاً باللغة الشعرية. فهو بالتالي يحمل قيمة جمالية، وعبقرية الشاعر تتجلى في الإبداع اللغوي لأن اللغة هي الوحيدة التي تخضع لعملية التحليل المتقصي.

أما الإسناد الفعلي، فيدرسه الباحث من خلال:

2-الانزياح الدلالي:
في نفس السياق، نستطيع أن نفهم الانزياح الدلالي من خلال العلاقة الإسنادية (بين المسند والمسند إليه) الذي يتناول صورة تسمى مجازاً.

وكنموذج عنه يستقي الباحث من قصيدة «الحرب تزهر أطفالاً»، حيث يقول عدوان:

«نحن والحرب عشيقان
افترقنا
منذ أن مزّقَنا الخوفُ
وأدمنّا الفرار
ولَبدْنا نرضعُ الشوق من الأحلامِ
نستجدي من العري إزار
سامنا العسفُ
وأهوى فوقنا الغازي
الذي خفنا صراعه».

«إن رضاعة الإنسان أمر فطري مألوف، ولكن الأمر يكون غير عادي عندما تكون هذه الرضاعة رضاعة شوق وليس رضاعة لبن. وتزداد شدة الانزياح حينما تكون الرضاعة من الأحلام، وليس من ثدي الأم. ولعل هذا يبرهن على تحكم الغازي بهذه الأمة، وفقدانها لهويتها وأصالتها».

3-الانزياح التركيبي:
ويستعرض الباحث لبعض الأنماط التي تشكل الانزياح التركيبي. وهي: التقديم والتأخير، والحذف، والالتفات، والتحول الأسلوبي. واستخدام عدوان لهذه الظواهر الأسلوبية ساعده في إنتاج نصوص تقوم على قدرة عالية من الشعرية.

ولسوف نستشهد هنا بالتحول الأسلوبي حيث يقول الباحث عنه أنه «برزت تحولات أسلوبية في شعر عدوان، وأخذت تتماشى مع تطوره الشعري. وقد شاع منها: التحول من الإنشاء إلى الخبر، ومن الخبر إلى الإنشاء. والتحول من شعر التفعيلة إلى الشعر العمودي أو إلى اللهجة الدارجة. وقد ساهمت هذه الأنماط في بناء النصوص، وزيادة شعريتها». ومن صور التحول من الإنشاء إلى الخبر قول عدوان في ديوان «أقبل الزمن المستحيل»:

«من أحرق السفن
قبل مجيء طارق؟
وقبل أن تجيئنا البنادق
من أوصل النار إلى المدن؟
الملايين كانت لديها الأماني
رقصت ذات يوم بغير هموم
بكت اليومَ إذ فاجأتها الهزيمهْ».

ممدوح عدوان

«يفتتح الشاعر المقطوعة السابقة بالسؤال عمن أحرق السفن قبل مجيء طارق، ليأخذ بذلك تناصاً تاريخياً منحرفاً عن دلالته الأصلية. حيث إن طارق بن زياد هو الذي أحرق السفن عند فتحه الأندلس، فكيف للسفن أن تُحرَق من قبل غيره؟ ولكنه أراد أن يعبر عن مشهد يمثل الخيانة التي تعيشها الأوطان، فقد تأخر بسببهم النصر والاستقلال. ويتساءل – ثانية – عن الذي أوصل النار (القهر) إلى مدن الوطن، وبعد هذا كله يترك الشاعر أسلوب الإنشاء – الذي جاء بواسطة الاستفهام – إلى أسلوب الخبر ليصور لهفة الشعوب لتحقيق النصر، فبعد الرقص وتهيؤ النفس لاستقبال بصيص الأمل تفاجأ الأمة بالهزيمة».

ثانياًً – التوازي والتكرار


وكما رأينا أن التوازي له عدة مظاهر كالتوازي الصوتي، والصرفي، والنحوي، وهنا سوف نستشهد بدراسة الباحث حول علاقة التوازي بالقافية.

القافية والتوازي:
يقول الشاعر في ديوان «تلويحة الأيدي المتعبة»:

«إلى اللقاء، قالها ثم مضى
ولم يمدّ كفه مودعا
بل مدَّ رأس بندقيتهْ
دقَّ بها البنادق الأخرى كأنها كؤوسْ
شرَّع رأسهُ، تحدَّى الخصم والقضا
وغاب لم نعرف له استراحة أو مضجعا
خاض البلاد مصرعاً فمصرعا
حتى أتوا به
وكان محمولاً على الرؤوس»

يقول الباحث في هذا السياق: «لقد تضمن النص السابق أربع قوافٍ بدأت بـ"مضى" والتي توازيها "القضا". و"مودعا" التي توازيها "مضجعا" و"مصرعا". أما الثالثة "كؤوس" والتي توازيها "الرؤوس"، والقافية الأخيرة الوحيدة "بندقيته". وقد جاءت القافية في غالبها – ألفاً مطلقة لتبرز طول الزمن الذي سيقطعه المقاتل أو المدافع عن وطنه، فهو – دائماً – ماضٍ في سبيل التحرير، وقد اختلف وداعه عن وداع الآخرين، حيث كان وداعه هو دق رؤوس البنادق، وإن استشهد بعد هذا الوداع فإنه سينتظر يوم حسابه. وتُحدِث "مصرعا" دلالة قوية، وكأني به ينظر إلى تراب وطنه أثناء كفاحه ذرة ذرة. ويتحقق ذلك من خلال الألفاظ الواردة: مضى، مودعا، القضا، مضجعا، فمصرعا.

أما قافية السين في "كؤوس" و"الرؤوس" فقد سبقت بواو مسكنة أضافت درجة من الإيقاع على حرف السين الساكن (القافية)، وقد وردت الكلمات في أول النص وفي آخره، فانسجمت في الأولى مع الصوت الخارج من ضرب السلاح بعضه ببعض، وانسجمت في الثانية مع لحظة الصمت التي تواكب الجنائز. ولعل هذا التسكين يدفعنا إلى التوقف القسري، مما يحيل الكلمة إلى قافية بارزة في النص. فقد اكتملت الدلالة في السطور الأربعة الأولى، حيث ودع أهله وأصحابه بالكلام، لا بلمس اليد، ثم ودع أقرانه على عادتهم في التوديع أو الاستعداد، وذلك بدق رؤوس البنادق. وقد شكل حرف السين (المهموس المرقق) وقعاً موسيقياً هادئاً في النص، زاد السكون الظاهر عليه درجة الهدوء، والصمت الذي ينسجم مع جلال الموقف بحمله على الرؤوس. وجاءت قافية الهاء مرة واحدة في "بندقيته"، وجاءت أيضاً ساكنة لتقف عند الدلالة المعطاة»، والتي نوه الباحث بها سابقاً.

أما المثال الآخر الذي يسوقه الباحث في سياق ظاهرة القافية والتوازي، فهو يمثل دور القوافي الداخلية في تجسيد التوازي في النص الشعري. فمن ديوان «تلويحة الأيدي المتعبة» نجده يقول:

«عبثاً ركضت وراءهم
عبثاً ركضت على صهيل جيادهمْ
وحدي على خبب الحوافِر،
فارتميت بهوَّة العتمهْ
وأضعتهم، لما عرفت مرارة الكلمهْ».

«تمثلت القوافي الداخلية في الأبيات السابقة في ضمير الرفع المتحرك المتصل بالفعل الماضي دون اتصاله بغيره من الضمائر، حيث وردت أربع مرات: ركضتُ، ركضتُ، فارتميت، عرفتُ. ويظهر أن الشاعر قد ركز في المقطوعة السابقة على تفعيلة "مُتَفاعلن" وهي تفعيلة البحر الكامل، وبدت تامة في الألفاظ الأربعة، ويتضح أن ضمير الرفع المتصل برز في بداية هذه التفعيلات، كما هو مشار سابقاً، ولعل السبب في هذا هو حب الشاعر في كشف زيف المستبدين، فقد ركض وراءهم، وعلى صهيل جيادهم، ولكن لاشك في معرفته لأساليبهم في المكر، ومن هنا فقد احتل ضمير الرفع المتصل وزناً شعرياً تناغم مع ما قدم الشاعر من معانٍ كشفناها سابقاً».

ممدوح عدوان في مكتبه

ثالثاً- التناص


وسوف نكتفي هنا بتعريف كريستيفا للتناص بشكل عام على أنه «النقل لتعبيرات سابقة ومتزامنة» وهذه التعبيرات نجدها في الموروث الديني أو التاريخي أو الأدبي. وهنا سنكتفي بدراسة الباحث للتناص الديني.

التناص الديني:
منها مثلاً قصيدة «يوسف» من ديوان «للريح ذاكرةٌ ولي».

ومنها ما يقول بعدما فعل إخوة يوسف به حسداً وبهتاناً حسب الموروث الديني، حيث نسمعه يقول:

«ويعود يوسف
متنكباً زوادة القهر المعاتب:
كان يبحث عن أخٍ
حبّ يقيم الأود
تحنان يحيل الماء،
عند الضيق، نبع دمٍ
ذبالة عمره لم تكفهِ
كي تصبح الأعذارُ موتْ
فيعيش يوسف،
كي يموت».

«إن استحضار هذا المشهد من قصة يوسف - عليه السلام – يمثل عتاباً لإخوته على ما فعلوه به وبأخيه، ويولد مزيداً من التفاعل بين النص والقارئ، حيث إن إخوته ألقوه بالجب، ثم اتهموه بالسرقة عندما وجد صواع الملك في رحيل أخيه: "قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له، من قبلُ فأسرَّها يوسف في نفسه، ولم يبدِها لهم قال أنتم شرٌّ مكاناً والله أعلمُ بما تصفون" سورة يوسف:77. وقد كان حينها يبحث عن أخيه، فوجد فيهم شراً، فزاد خوفه عليه، وكذلك الإنسان العربي لا يزال يبحث عن مخلصٍ يشدُّ عضده، ويقوي من عزيمته كي يتخلص من القهر والانهزام.

وعندما يذكر الشاعر في نهاية المقطع السابق "كي يموت"، يذكرنا بالآية الرابعة في سورة يوسف: "إذ قال يوسف لأبيه يا أبتِ إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين"، فنصحه أبوه يعقوب – عليه السلام – بأن لا يقص رؤياه على أخوته، وكذلك الشاعر فقد قص حدثاً يجري في المجتمعات، لكن السامع نهاه عن الخوض في مثل هذه المشاهد، وذلك لما سيلاقي من عناءٍ وقوة مواجهة قد تودي به إلى الموت».

رابعاً- المفارقة


وأنماطها هي: 1) المفارقة اللفظية، 2) مفارقة السخرية، 3) مفارقة الإنكار، 4) مفارقة التحول، 5) مفارقة الأدوار، 6) مفارقة الفجاءة، 7) المفارقة التصويرية.

وهنالك أيضاً المفارقة والنص الشعري: 1) مفارقة العنوان، 2) القصيدة المفارقة.

ويشير الباحث إلى تعريف د.عبد الواحد لؤلؤة للمفارقة على أنها «من المحسنات البلاغية، عبارة يبدو ظاهرها على أنه يناقض باطنها، ولكنها صحيحة، لأنها تقوم على أساس صحيح يجمع بين النقيضات».

يشير الباحث إلى أن هذه الظاهرة قد برزت بصورة واضحة في شعر عدوان منذ البدايات الأولى، لكنها كانت قليلة الانتشار والوقع، ثم أخذت تتسع شيئاً فشيئاً حتى وصلت إلى مرحلة جاء فيها النص معتمداً على المفارقة، ونستطيع أن نقسِّم هذه المرحلة إلى ثلاث محطات: الأولى تمثلت في ديوان «تلويحة الأيدي المتعبة»، والثانية تمثلت في ديوان «الليل الذي يسكنني»، والمحطة الأخيرة تمثلت في الدواوين الأخيرة مجتمعة.

وعلى هذا، فسوف نركز على أكثر أنماط المفارقة ظهوراً في شعر عدوان ألا وهي مفارقة الإنكار ومفارقة السخرية.

أ- مفارقة السخرية:
ويُقصَد بها أن يأتي موقف «يناقض ما ينتظر فعله تماماً، إذ يأتي الفعل مغايراً تماماً للوجهة التي يجدر بالإنسان أن يقوم بها».

وقد اكتملت هذه المفارقة بحيث أصبحت بناءً يقوم عليه النص، نرى ذلك في ديوان «الليل الذي يسكنني» وما تلاه من دواوين.

ويأخذ الباحث نموذجاً من ديوان «لا بد من التفاصيل»، في قصيدة يقول فيها:

«وقلتُ لمولاي:
لا تستمحني
ولا تستبحني
فلا وقت للماء
ها قد كبرنا
على حلمٍ طفلٍ
تطاول كي يأكل القمر
استعذب الطيران بأحلامه
وتودّد يطلب حب العفاريت
واستعذب الأغنيات لأجل فلسطين».

«تُظْهِر المقطوعة السابقة سخرية من موقف المتخاذل في نصرة أمته المقهورة، حيث يقدم الشاعر موقفاً متناقضاً مع ما يجب أن يفعل، فاستنهاض الهمم المطالبة بحق الأمة في فلسطين، حلم طفولة، يجب أن نتعالى عليه كما نتعالى على حب أحاديث العفاريت، واستعذاب الخيال من قبل الأطفال، ولعل الذي دفع الشاعر لهذه السخرية هو الخنوع واستعذاب الذل من قِبَل أبناء الأمة».

ثم بتابع الشاعر هذه السخرية التي تعكس واقعاً:

«ها قد كبرنا
فلا وقت للخوف والحلم
لا وقت للماء
لا وقت للأغنيات أو الأمنيات
ولا: موطني، موطني
ثم لا وقت للشهداء
كبرنا على الكلمات البسيطة».

«ومما يزيد السخرية عمقاً في المقطوعة السابقة هي حروف النفي، فبدأ الشاعر بتدرج في سخريته حتى وصل إلى قمة سخريته بقوله: ثم لا وقت للشهادة، وكأني بالشاعر ينفي – ساخراً – الذل الذي تعيشه الأمة فما دور الجهاد والشهادة، والقصائد والأغاني الوطنية في وطن ينعم باستقلال».

ب- مفارقة الإنكار:
يرى بعض النقاد الإنكار كمنحى يفيض بالسخرية، لكنه يتوسل بالسؤال لإظهار السخرية والإنكار لما يتحقق، والفرق بين مفارقة السخرية ومفارقة الإنكار أن النمط الأول يعتمد اللغة الخبرية، في حين أن النمط الثاني يستخدم لغة الإنشاء.

وكنموذج يستقي الباحث قصيدة من ديوان «الدماء تدق النوافذ» يقول فيها:

«إنني أعرف الشجر الموسمي يبدّل أوراقه
كيف يقوى التراب على خلع أشجاره؟
إنني أعرف المومسات يبدّلن روادهن
فكيف تبدّل أم بنيها؟
وكيف يبدّل أبناؤها دمهم؟
كيف تنسى العيون الحزينة طعم الدموع؟».

ممدوح عدوان

«تتضمن السطور السابقة موقفين يحملان تحولاً، وموقفين آخرين يمثلان مبدأ ثابتاً. فالشجر الموسمي يبدل أوراقه، والمومس كذلك تبدل روادها. وهذا معهود لدى الناس، ولكن الإنكار ينبع من تساؤل الشاعر عن خلع التراب للأشجار التي يحتضنها، وتبديل الأم لأبنائها، وتبديل الأبناء لدمهم، ويأتي هذا في صورة معاكسة للمعهود حيث إن التراب لا يخلع شجراً، والأم لا تبدل ابناً، ولا أحد يبدل دمه. ويبدو أن مواقف أبناء الأمة لم تعد كما كانت، فقد تناسى بعضهم الأوطان، وأخذوا يتعلمون أقوال الغزاة، ولذا أنكر عليهم الشاعر هذا السلوك».

خاتمة


«شهدت تجربة عدوان الشعرية نجاحاً ملحوظاً كلما تقدمت به السن، ولكن ثمة دواوين شهدت تكثيفاً في القدرات الإبداعية، وأخص من هذه الدواوين: «تلويحة الأيدي المتعبة» و«الليل الذي يسكنني» و«أبداً إلى المنافي». ولعل هذا يعود إلى الأحداث التي ارتبطت بسنوات صدورها، فقد جاء ديوان «تلويحة الأيدي المتعبة» بعد هزيمة حزيران 1967. فيما ارتبط الديوانان «الليل الذي يسكنني» و«أبداً إلى المنافي» بما نتج عن هذه الهزيمة من تراجع في مجالات الحياة المتنوعة.

ونمّت هذه الظواهر القدرة الشعرية لدى عدوان، فقد أكسب الانزياح شعره معجماً شعرياً خاصاً به، فأضفى شفافية على القصائد لا تحتاج إلى وقوف طويل، ذلك أنه يرمي إلى فكرة تنطلق من القصيدة المستقلة إلى الديوان إلى شعره كله، تتلخص في استرداد الأمة لهيبتها، ولذا، فلابد من تخليص النفس العربية من حب الذات والقمع. كما زاد من قوة تأثير هذه المعاني التوازي الذي مس اللفظة والتركيب، والقوافي، مما أظهر قرعاً موسيقياً ينتظم مع المعاني المقدمة.

وقد تشبث عدوان – لذلك – بالتراث العربي، فأظهره تناصاً دينياً وتاريخياً وأدبياً، ولم يحفل بالتراث الناتج عن كثير من الأمم. ويعدُّ هذا نجاحاً، لأنه واءم بين الفكرة التي ينشدها، والتجربة الشعرية الحاضرة لديه.

وإن كان الشاعر قد أوصل الفكرة التي يريدها خلال هذا النتاج الكبير، فإنه أظهر وجهات نظر خلال المفارقات، قدم فيها أسلوباً مميزاً في الاعتراض، وإثارة المتلقي لتقديم شيء جديد.

وكان لطول القصيدة عنده دور في الإبداع الشعري، حيث يجد المتلقي مجموعة من الظواهر تتمثل في معظم القصائد. ولكن هذا النوع من القصائد يحتاج إلى نفس طويل في القراءة، وإلا يدخل على النفس الملل، ولعل هذا يتنافى مع السرعة التي يشهدها العالم، وضيق الوقت الذي تشكو منه البشرية، وماديات الحياة التي طغت على حياة الإنسان العربي».

في إحدى اللقاءات الشعرية

مختارات من شعره


من «طيران نحو الجنون»

«كل ذرة تحتسي الخمرة في الأعالي
وترقص
إنما ترى شمس الأزل
وترقص من عشق الله»

«ولأن الجسد يرفرف منتشياً من ذكراك،
نظفتُ القلب
وأخليتُ بأعماقي الأفلاك،
أفرغت الروح وعطّلت حواسي،
ليليق القلب بسكناك،
أنا صرت الناي، لأني ضقت بذكراك،
فتعال اعزفني
وانفخ روحك،
كي تسكب فيّ أريج حنانك
وتروِّب كل حناني لجنانك
سأغني، أو أترنم
أو أترنح كي لا يفهم أحدٌ
حجم هواني بهواك
وكَوْني طوع بنانك
فأعنّي إذ ينحفر بقلبي مسراك..
تعالَ اسكنّي..
كلّمني لأراك
أطلق ما حبست دنياي
من كلمات تعترض لساني كالأشواك
في القلب كلام عنك..
ومنه العطر يفوح
وكلام فيه دمي المسفوح
وكلام غرغر في حلق مذبوح
هو ذا بحرك يتلاطم فيه النور
وأنا أسري في لجته
ملتحفاً بالديجور
يتفجر بركان الليل
وتبدأ حمم العتم تدفقها
من كل حواف الأفق المكمور
هذا جسدي يرفعني
من حمأ الصحو
لكي يعلن أن الدنيا سجني
فلتطلقني:
روحي صدفه
فاكشف لؤلؤ سري
كي يبصره من عرفه
والجسد الزنزانه..
حرّرني
ذكراك هي الجرح المفتوح
فضمدني
أطلقني نغمة نجوى لا تحتاج شفه
إنا نختنق،
ونحن وراء حجاب
فلعل بنا رائحة تكشفها النار
ولم يعرفها الحطاب
ولعل بصيرتنا إذ تتفتح بالصرعه
ستقود خطانا نحو النبعه
فنغافل يقظة ممسوسين وحجّاب
نحظى بالطلعه
طيرُ الروح الحرُّ تأبّى
لا يرضى أن يضحي المرغوب
سجيناً في الرغبهْ
لم يألف أقفاص الجسد الرحبه
بل راح يحوّم في آفاق الغربه
كي يتفادى ما يتغرغر في غرقِه
أدرك أن الريش المبهر في الطاووس
قد خبأ معناه
وأغرى الصيادين بزهو الأشباه
فتاه
بحسنٍ فتّان عن طرقِه
ضلّ فلم يدرك سربه
صار النورَ المتخفي في ألقِه».

ممدوح عدوان في منزله

«يكفينا عبارات
وتوريات واستعارات
نريد احتراقاً،
احتراقاً،
احتراقاً».

«طالت هذي الرقصه
والروح تطالب بالغفوه
طالت رقصتنا دون مجيء النشوه
وملذات العمر تصير إلى رغوه
أوَ لم تُخلَق لسواي النار
يا ألله
عضو من أعضائي ينده:
حَيْ
يا حَيْ!
أوقف هذا الإيقاعْ
أوقف نقرات المطر على الأبوابْ
أوقف هز الريح لكل رتاج
أوقف هذا الغنج بأعطاف الأشجار
أوقف هذا الرقص بألسنة النار
أوقف إيقاع الومض بكل الأنجم
أوقف رعشات الخوف بعتم الغاب
أوقف خفقات الأمواج
أوقف رعشات اللهب النافق في كل سراج
أوقف ضربات القلب
ورجفات الأعصاب
أوقف هذا الحال
أوقف في روحي رقصة هذا المثقال
أوقف دوران الذرات بكل الأوصال
أوقف إيقاعاً يصخب ويصمّ الآذان
يتسرب مثل دخان من عتم الأكوان
أوقف ما يصفق هذي الأبواب
أوقف نقرات النحاسين على الصاج
أوقفني
كي لا تطلق أسراراً راكدة فيّ
تعبت أعضاي
وكما كنت تضيق بنقلاتك من أبد لأبدْ
وتحاصرك الأسماء
في أي جسد
أسماؤك تخنقني وتحاصرني
تجعل نوم الصبّ رمدْ
وحصارك يجعل هذا البال
على ألسنة الريح بددْ
إني أدخل مذعوراً هذا الحال
أصرخ من أعماق اليأس:
مدد!
فمصائبنا دون عدد
ولكم نادينا من ينجدنا
لم يسمعنا في الضر أحد
ليمد إلينا يد
فبقينا لنجابه دنيانا دون سند
لم يبق لدينا غير جسد
لم يبق من الجسد سوى هذا الخفقِ النازف
هذا النزعِ الراجف
هذا الغبن إذا نفثا
فبدا رقصاً منبعثا
من جسد حنثا
هذا ما ظل من القلب الحيْ
يا حيْ
الله هو الحيُّ الباقي
في أعماقي
وهو يحرض عطشي
يوقظ أشواقي
هات وأنجدنا يا ساقي
حتى نفهم ما حدثا
حتى تنبض فينا النشوة إيقاعاً
يوقظ ما ظل لدينا حيْ
قد يتسرب من ألق الروح نغمْ
فنعبئ بالإيقاع الحيْ
إذ ندرك أن لن يسلم منا حيْ!
حيْ!!
يا..
حيْ!!!!».

المراجع


1) طيران نحو الجنون: قصيدة، تأليف: ممدوح عدوان، رياض الريس للكتب، 1998.
2) أطياف ممدوح عدوان: شهادة الحياة وشهادة الإبداع: حوارات منتخبة، تحرير: محمد صابر عبيد، دار ممدوح عدوان، 2008.
3) ظواهر أسلوبية في شعر ممدوح عدوان، تأليف: محمد سليمان، دار اليازوري.
4) مواقع إلكترونية.

نبيل سلامة

اكتشف سورية