الأغنية الوطنية في الأزمة بين «بياعة الزنبق» و«رش عليه الكيماوي»

.

الأغنية السورية في زمن الأزمة، لم تعد شبيهة بالأغنية التي كنا نسمعها قبلها، وهذه الحالة تنطبق على الأغاني العاطفية كما الأغاني الوطنية، فالكلمات مصدرها الأحداث التي تعيشها سورية رغم بشاعتها.

فهل من المعقول أن الشام التي غنت لها فيروز من كلمات سعيد عقل «شام يا ذا السيف لم يغب يا كلام المجد في الكتب»، وحار نزار قباني ومحمود درويش في اختيار أجمل الكلام لوصف جمالها وصمودها، أن يتم تحذير أعدائها وكل من يتجرأ على أذيتها بهذه الكلمات المبتذلة: «اللي بيدق بسورية غلطان كتير!» و«لازم يعرف سورية ما عندها كبي» ثم ما لبثت أن انتشرت أغنية حماسية منذ ما يزيد على عام، تقول في مطلعها «يا أوباما كيفك فيّا ويا أوباما كيفك فيّا خلصت والله بسورية» ولهلأ ما خلصت!.

هذا الكلام شكل دافعاً لمعرفة الأسباب الحقيقية وراء التغير الكبير الذي حل بالأغنية السورية. هل جفت أقلام الكتاب عن إبداع كلام يليق بالوطن أو تقديم مشاعر صادقة للحبيبة؟!

بعض الإذاعات المحلية لم تهتم بمضمون الأغاني التي تبثها على الإطلاق، فأي شيء قابل للبث بالنسبة إليها، ضاربة عرض الحائط بمعايير الأغنية القابلة للسمع، فكثيراً ما سمعنا مغنين يتحدثون لمحبوباتهم عن عبوة حنين أو سيارة مفخخة بالياسمين، ليتفاجأ المستمع بأغنية أكثر مجاراة للحدث الأهم الذي تعيشه سورية منذ قرابة الشهرين؛ وهو أزمة الكيماوي، ليتحفوا أسماعنا بأغنية فريدة تقول كلماتها «اجرح قلبي ولا تداوي.. رش عليه الكيماوي».

لكن، والحق يقال، إن هناك بعض الأغاني التي أثرت في المستمع كثيراً ولامست همومه؛ والمقصود هنا حسام جنيد الذي قدم «سكة حلب مقطوعة وحبيبي بحلب ساكن.. آهو لعندي مسموعة وما فيي غيّر ساكن»، فقد أبكى الكثيرين من أهالي حلب الذين أصبح الوصول إلى بيوتهم وأهلهم حلماً لا يعرفون متى ينالونه.

وعندما قدّم ملحم زين «بدي غازل سورية بهواها وشمسا وفيّا» بكلمات اقتربت من مشاعر السوريين المتفائلين بأن الأمور ستعود إلى ما كانت عليه، وهم حسب ما يطلق عليهم جماعة «خلصت»، في وقت اعتبرت الفئة الأخرى أن الوقت غير مناسب لإطلاق أغانٍ بهذه الحماسة والأمور تسوء يوماً بعد يوم. لكن نجحت بعض الأغاني في اكتساب شعبية غير متوقعة لدى جميع الأطراف، مثل «بياعة الزنبق» التي كتب كلماتها عدنان العودة ولحنها إياد الريماوي وغنتها بسمة جبر، واستطاعت الأغنية أن تنقل ما تعانيه سورية بأسلوب إبداعي وهذا ما برعت فرقة «نبض» المولودة حديثاً أن تقدمه للسوريين من خلال حفلة أعادتهم إلى زمن التألق الموسيقي، مقدمين أجمل الأغاني الوطنية الخاصة مثل «تحيا سورية» أو أغانٍ خالدة في المكتبة الموسيقية العربية «حلوة يا بلدي» ليصرّوا كما أطلقوا على أمسيتهم «الحياة أقوى».

الشاعرة الغنائية كمالا خير بك تحدثت عن خصوصية الأغنية الوطنية في أوقات الحروب قائلة: «الأغنية الوطنية لا تُعطى حقها كما يجب، فهذه المرحلة تحتاج إلى اهتمام بالأغنية الوطنية، وأنا أقصد الأغنية الوطنية على كافة الصعد، إلا أن الطاغي عليها هو جانب الدفاع عن الوطن والذي يحمل في طياته تهديداً للعدو، ولكن بحكم أن الحرب تعدّ داخلية أكثر منها خارجية، يجب أن يتم الاهتمام بالأغنية الوطنية ذات الطابع العاطفي، تلك التي تحكي عن التفاصيل التي نعيشها يومياً من علاقات اجتماعية وعلاقة الناس بعضهم ببعض والتآخي بين السوريين جميعاً، وهذا لا ينفي ضرورة الأغنية الوطنية الحماسية. إلا أننا اليوم في سورية نحتاج إلى ما يقرّب وجهات النظر أكثر مما يباعدها ويتخذ جانباً واحداً، والمشكلة أن الأغنيات لن يتم إنتاجها دون دعم مادي، والإنتاج هو المشكلة الأكبر».

وعن اللون الشعبي الطاغي على الأغنيات الوطنية، تقول خير بك: «هذا بحكم أنه اللون الموسيقي الأكثر سماعاً في أغلب المحافظات السورية، وفي النهاية لو لم يلقَ قبولاً لما اعتمده أغلب المغنين في اختيارهم للأغنيات، لكن أعود لأؤكد أن النمط الوطني العاطفي هو ما نحتاج إليه أكثر من أي نمط آخر، وتغييب هذا النمط ليس ذنب الجهة المنتجة وإنما اختيار المغنين له، حيث نجد أن المغني يعيد التفكير ألف مرة قبل أن يختار كلاماً لأغنية وطنية غير حماسية وتحكي عن جوانب أخرى من الوطن مختلفة عن الدفاع والهجوم».

وعمّا يميز الأغنية الوطنية عن باقي الأغاني، أشار الملحن السوري راشد الشيخ، أثناء المؤتمر الصحفي الذي عقد بسبب إطلاق المطربة الشابة نور عرقسوسي أغنيتها الأولى، وهي ذات طابع وطني: «هذه الأغاني يجب أن تكون نابعة من الوجدان ونبض الشارع وكلماتها مستقاة من كلام الناس، لأن الأغنية الوطنية تقدم مشاعر الناس».

ويذكر أن الشيخ قد لاقى صعوبة في التعاطي مع نور عرقسوسي وإمكاناتها الصوتية؛ فهناك فرق بين ما لحنه من أغانٍ سابقة وبين اللحن الذي قدمه لها في أغنيتها الأولى «قلب واحد»، حيث صرحت بدورها حول سبب اختيارها أن تكون باكورة أعمالها أغنية وطنية وليست رومانسية، كما يفعل أبناء جيلها «أحببت أن ابدأ مشواري الفني بأغنية لوطني الكبير سورية، لأنه يمر في أزمة صعبة، وأردت أن أعبر من خلالها عن وجع الناس، لتعود المحبة إلى ربوع هذا البلد معبرة عن فخرها بهذه الأغنية، لأنها أول أغنية خاصة بها باللهجة السورية المحكية»، وبالفعل جاءت أغنيتها لتقدم نموذجاً جديداً عن الأغنية الوطنية السورية بكلمات وألحان تدخل القلب وتخاطب العقل.

وربما برع كذلك الفنان الشاب شادي أسود عندما قدم أغنية «سورية موجوعة»، حيث أثّر في السوريين جميعاً، كونه لامس مشاعر كل سوري يؤلمه ما تعانيه بلاده من أوجاع وقد اتكأ شادي في أغنيته على رائعة «سكابا يا دموعي سكابا» لكن دون أن يشوهها، بل استخدمها بما يخدم رسالة أغنيته إنسانياً وفنياً.

واليوم، الأغاني السورية أيضاً، طالها التقسيم والفرز بين أغان مؤيدة وأخرى معارضة، وليس فقط الدراما والفن التشكيلي والمسرح، وبطبيعة الحال لا بد أن يكون الفنان مرآة ولسان حال شعبه، لكن الغريب أن بعض القنوات التي تندرج تحت تصنيف «المعارضة» تقوم بإحداث تغييرات جوهرية على بعض الأغاني التي تربينا عليها فمن يسمع أغنية موطني بعد التعديل يصاب سمعه ببعض الإرباك فالكلمات معدلة لأغراض سياسية والألحان اضطرت إلى مجاراة الكلمة بتعديل طفيف، ظناً منهم أنه يخدم الأغنية والقضية.

وفي الجانب الآخر، يتغنى آخرون بأغانٍ بمنتهى الحماسة الوطنية، لدرجة أن من يحظى بفرصة سماعها على المحطات الإذاعية خلال طريقه إلى العمل، ينسى ولو لدقائق أن القذائف تتساقط يومياً والإنسان السوري مهدد في كل لحظة بخسارة حياته بسبب التفجيرات. ولكن، والحق يقال، إن بعض الأغاني التي أطلقها المعارضون، ورغم إجماع جميع الأطراف على قيمتها الفنية، فإنها لم تكن منصفة وطنياً وإنسانياً لرجال الجيش العربي السوري، بل نقلت صورة مفبركة وتفتقد الموضوعية، والقصد هنا «يا حيف» التي قدمها الفنان «سميح شقير» في بداية الأزمة.

يبقى الجمهور ينتظر أغاني أكثر ملامسة لواقعهم، وبالتالي ستكون أكثر قدرة على أن توثق حالة استثنائية تعيشها سورية، وبالتالي ستحتفظ لنفسها بموقع لائق، وربما سيتمكن الأولاد والأحفاد من سماعها والسؤال عنها، خصوصاً تلك التي ستستند إلى خصوصية الواقع وأصالة التاريخ.

baladnaonline.com