في السادس من أيار: قوافل جديدة من الشهداء تتناثر وروداً على صدر الوطن

.

في مثل هذا اليوم وقبل حوالي قرن من الزمان أزهر الياسمين الدمشقي بلون قاني وبزغ فجر المدينة المناضلة على خبر قيام جمال باشا السفاح بإعدام نخبة من بذور الفكر والسياسة والثقافة العرب في دمشق وبيروت في محاولة لإخماد نار الحمية والتحرر في دماء السوريين إلا أن هذا اليوم أضحى عيداً للشهادة والشهداء ويوماً مقدسا في تاريخ سورية المناضل والمقاوم.

ويعود بنا يوم السادس من أيار عام 1916 إلى نضالات شعبنا الأبي ومقاومته رفضاً للظلم وعدم الرضوخ لكل أشكال العبودية أو الاستعمار فالشعب السوري لم يهادن في يوم من الأيام محتلاً أو ظالماً وظلت أرض الشآم على الدوام مأوى المناضلين وروت ترابها أنقى الدماء.

وياتي إحياء عيد الشهداء هذا العام مختلفاً بعد أن استمد بريقاً جديداً أضافته إليه دماء الشهداء الزكية التي روت أرض الوطن في مواجهة المجموعات الإرهابية المسلحة فربيع الشهداء هذه السنة أغنى وفيه تجدد سورية نفسها و تطلق أزهارها لتملأ الأرجاء عطراً وتهدي لشقائق النعمان مزيداً من الإحمرار والروعة معلنة أن دماء الشهداء الطاهرة التي بذلت في سبيل رفعة الوطن وكرامته تبشر بموسم للخير والأمان والاستقرار.

وتطالعنا ذكرى هذا العام لتشمل مزيداً من شهداء الوطن الأبرار الذين ضحوا بدمائهم وحياتهم لينعم أبناء وطنهم وأحفادهم بحياة آمنة وما تزال قوافل الشهداء مستمرة من أجل الحفاظ على كرامة الوطن واستقراره ضد من يحاول النيل من أمنه وهدوئه.

ومن جديد يزهر ربيع الشهداء في سورية، وتزهر معه أرواح أبطال رحلوا تباعاً لتبقى أرض الفخار حية في حكاياتها، شامخة في بذلها، عزيزة في عنفوانها.

اليوم يعود الشهداء إلينا من ظلال الصنوبر والسنديان والزيتون ليكملوا قراءة آياتهم، تلك التي لم يتسع الوقت قبلا لتلاوتها، فننصت مرة آخرى لنسمع هدير التضحيات النفيسة والعطاءات السخية، هدير يخترق أسماع العالم قاطبة ليعلن مرة جديدة عن رفعة هذا التراب المقدس، هنا في سورية أرض الشهادة والولادة والإرادة.

قيامة جديدة تبعث اليوم تتجلى فيها سلسلة لا تنتهي من الأسماء العظيمة، تلك التي قادت كبرى الملاحم البطولية المشرفة دون أن يفوقها في نزال الحق منازل أو يسابقها إلى ارتقاء العلا ساع، هي أسماء تورق اليوم في كل الأمكنة فتنحني دونها الهامات وتجثو أمام عظمتها قلوب السوريين وأفئدتهم لتتحد على جنباتها آمال عصماء وعهود لا تنكث تشهد عليها جهات العالم الأربع وهي ترقب صمود السوريين و عزيمتهم الصلبة للمضي قدما على الدرب التي مهدتها طلائع الشرفاء.

اليوم و بعد ما يقرب قرنا من الزمن على انطلاق أولى قوافل الشهداء إلى سدة الخلود تتوالى شهب الشهادة فإذ بها كواكب أبطال سورية تعيد تشكيل الكون على مقاييس بسالتهم و تفانيهم منذ الزهراوي و شفيق العظم و شكري العسلي مرورا بكل القامات الباسقة التي ذادت عن حياض الوطن وروضه وصولاً إلى درر الشهداء الذين ارتفعت أرواحهم الطاهرة خلال الأشهر الأخيرة وهم يقتلعون براثن الإجرام الدولي المنظم من الجسد السوري الطاهر غير آبهين بكل أراجيح الموت التي علقها الغول الإرهابي لهم على امتداد ساحات الوطن.

وكما يليق بهذه الهالات المشعة تتعانق اليوم أجراس الكنائس وأصوات المآذن تمجيدا لذكرى شهداء الوطن المتلاحقين في زفافهم إلى سدرة المجد و قد زفها كل بيت سوري بعريسه عنوانا متجددا لألق لا يخفت و كبرياء لا يطعن، هكذا كما كان التاريخ يسرد دائما وهو يروي حكاية أرض الرسالات ومهد الحضارات، هكذا منذ أزل البشرية و حتى منتهاها تبقى سورية معقلا للكرامة والتحدي وعرينا للمنعة والتصدي، وتبقى كذلك مقبرة لكل الطامعين والغاصبين ومخرزاً في أعين المتآمرين والحاقدين.

فسيفساء آلهية وعقد نفيس من الأحجار الكريمة، هؤلاء هم السوريون وهكذا هم شهداؤهم، قوس من الضياء الملون تتمازج أطيافه فيتعشق واحدها في طيات الآخر ليبرز إلى العالم بعد سفر من الحضارات، شهيداً كان أو مشروع شهيد، كل يكتنز قلبه ثقافة العالم ودياناته وايدولوجياته قاطبة، كل ينطوي ضميره على قيم الحق والخير والحب والجمال، كل يقدس مفاهيم الحرية والفضيلة والعدالة الإنسانية فإذا بالسوري منارة تنثر الضياء على جنبات الكون المترامي.

اليوم وإذ يكشر الطامعون عن مخالبهم القذرة ترتدي الشهادة مرة أخرى أبهى أثوابها فتتسع الساحات و الميادين لتضم آلافا مؤلفة من شهداء سورية الجدد، قرابينها الذين تمددت أشلاؤهم لتدمي كل قلب في الوطن، روض السخاء الذين انسكبت دماؤهم ورودا على صدر السوريين قاطبة، أولئك الغيارى الذين لم يبصرهم العالم المتعامي وهم يتقاطرون إلى الخلود.

في السادس من أيار كما في كل عام تقف اللغة حائرة في حروفها فكل البلاغة أدنى من تصويركم وكل الكلمات قاصرة أمام ولائكم وتضحياتكم، في السادس من أيار يجدد السوريون ميثاق الشرف الذي وفت به قوافل متتالية من شهداء الواجب، أولئك القاطنون في الضمائر والوجدان.. المتعالون على قيم الحياة الصغرى، الناسكون في معبد الوطن والمتمددون على مذبحه المقدس أشبه بصلاة لا تتوقف تراتيلها، صلاة تجمع السوريين لترصهم صفاً واحداً في وجه كل هجمة شرسة وما كان أكثرها في تاريخ سورية القديم منه والمعاصر.

في هذا اليوم الجليل، يتوجه أبناء الوطن الشرفاء إلى ذويكم، إلى كل من انتظركم فلم تعودوا، إلى كل أم ثكلى وكل ابن عرف اليتم باكرا وكل من حمل معكم هذه الرسالة السامية، إلى كل من جاهد جهاد الحق وصبر على البلوى وتشرف بشهادتكم فكان صنوا لكم في الرفعة والكرامة والبذل السخي حتى لتكاد الكلمات تنهار عاجزة أمام هذا النبل العظيم.

مرة أخرى تنحني الهامات أمام كبريائكم الآسر يا شهداء سورية، تحية لأرواحكم الطاهرة، لآمالكم النبيلة، لوعودكم المشرفة وأنتم خير من أوفى بالوعود.

رنا رفعت

الوكالة السورية للأنباء - سانا