تكتيك...... دعوة لرؤية النور من العتمة

20/تشرين الثاني/2008

من خلال الأسوَد الداكن يدعونا عبد المنعم عمايري لمشاهدة الأبيض وتلمس نصاعته ومعرفة حقيقة براءته ومعاناته... يدعونا لمعرفة أن الحرية مع الفوضى هي ضياع وفلتان ودمار، ومن خلال «تكتيك» يُسَّلمنا عمايري مفتاحاً لإدراك عظمة الحرية الواعية والمنظمة... فعندما لا يعرف رب الأسرة أن يخطط أو «يتكتك» لمشروع أسرته ستكون النتيجة مشروعاً خائباً ينعكس على المجتمع برمته وكأنه يقول لنا إحذروا فمشروع عائلاتكم هو كالكريستال لن تستطيعوا فعل أي شيء إن كُسِّر...
جاء بناء العمل المسرحي «تكتيك»، على فكرة يعيشها الفرد في كل مجتمع وفي كل مكان، مرتبطة بتفكك الأسرة، وكارثية عدم اكتمال مشروع الأسرة، وبالتالي فإن هذا الفشل سيؤدي إلى خلق مجتمع جديد يعيش في الأزقة وفي الخانات والأماكن المظلمة.
لقد جاء عرض تكتيك صادقاً بطرحه واقعياً في معالجته، أخذ مفرداته من الشارع وبدون «رُتوش» وأعادنا إلى مآسي مررنا بها وعايشناها، إلا أن تراكم الأحداث وتعقيدات الحياة أنستنا حقيقة كارثيتها ووحشيتها. فتلك الفتاة الفلسطينية التي بدت وكأنها من قطّاع الطرق أو فتيات المجون أو اللصوص في بادىء الأمر، أعادتنا وبلحظات لمأساة صبرا وشاتيلا عندما بدأت في سرد وتذكر ماضيها والذي أنعش ذاكرتنا «بأدائها الرائع» حتى أنها استطاعت أن تجعلنا نشتم رائحة الموت ونتلمس معاناة أم تبحث عن وليدتها بين ركام الأموات.. إنها أمها التي انخفض صوتها بمجرد ذكرها، أمها التي أنقذتها وماتت.
أما شخصية «القواد» فهو القوي والعاهر والماجن طيلة العمل، وفي لحظة تذكره لماضيه ولطفولته اليتيمة والفقيرة، يعود بنا إلى تعاسته وكيف كان أغلى ما يتمناه في طفولته المعذبة هو تلك «الكازوزة الحمراء» والثمن الباهظ الذي دفعه من طفولته وبراءته ثمنا لتلك الكازوزة. مع أنه لا يحب المشاكل. بأداء رائع استطاع أن يمرر لنا حقيقة عذابه، وفشله بحبه الصادق والوحيد من فتاة روسية لا تتذكره إلاّ وهي في المشفى، لتجعل منه الأيام والشارع والإحباطات ما هو عليه الآن «قواد» وكأنه يخبرنا أنه هو أيضاً ضحية معادلة ما.
أما شخصية الشاب المراهق المتشرد والمتمرد على كل شيء والذي بلحظة ضعف أمام حبيبته، يسترجع معاناته مع والده القاسي الذي كان يضربه ويعذبه ويسجنه مع الحشرات ولا يسمع لاستغاثاته ومعاناته، ليتمرد فيما بعد على كل شيء ويصبح لصيقاً بشوارع المدينة و«بمشهدية مسرحية رائعة» يتمرد حتى على حبيبته التي لا يبقي لها من ذكراه إلا سترته الجلدية.
جميعها شخصيات قلقة، معذبة، يكمن في دواخلها حزن شديد، ومعاناة كبيرة، وبنفس الوقت نستطيع تلمس إدراكها لخسارتها، معرفتها للصح رغم أنها تتصرف عكس ذلك، وكل ذلك نتيجة معادلة «فشل التخطيط» أو بكلمة أخرى «تكتيك فاشل» أو نتيجة لتخطيطٍ أعده أحدٌ ما. قد يكون الجهل، أو القطب الواحد، أو المثاليات، أوبعض القيم الفلسفية أو الأخلاقية أو حتى السياسية التي زالت مع الأيام «كالاتحاد السوفياتي» وبقي الفرد بأفكاره القديمة يتخبط، ويحبط من فلسفة انهارت وضاعت معها بهجة حياته، وحبه الصادق وعفويته وحميميته. وطبعاً مشروع أسرته الذي أنتج فرداً جديداً ضائعاً يبحث عن ذاته بدون وعي أو انتماء. وهذا ما اكتشفه الرجل وزوجته «المتفرنسة» أثناء البحث عن ابنتهم الضائعة أو الهاربة من متاهات حياتية أوجداها فيها، فكانت النتيجة أن ذهبت تبحث عن عائلة جديدة أو حب جديد في الشارع.
«تكتيك» هي صفعة تفتح عيوننا، كي نرى ما يجري عندما نخطط بشكل سيء، سنكون معادلة نتيجتها خسارة كبيرة، وزيادة في مشاكل شارعنا ومجتمعنا... صفعة من الجانب المظلم في شوارعنا ليعود بنا إلى الجانب المضيء «الذي لم يظهر في العمل»، هي ببساطة دعوة إلى العائلة المتماسكة.
لقد جاءت «مسرحية تكتيك» بمشهدية مسرحية مميزة، وبحداثة ولغة مسرحية معاصرة، وبأداء تمثيلي وراقص مدهشين، مع تميز الإضاءة والديكور.
مسرحية تكتيك من تأليف وسينوغرافيا وإخراج عبد المنعم عمايري، وساهم في كتابة النص حكيم مرزوقي، وهي من تمثيل: فايز قزق، قاسم ملحو، رغد مخلوف، أسامة حلال، نسرين فندي، لمى حكيم، راما عيسى، يارا عيد، وبمشاركة فرقة سمة للمسرح الراقص، وديكور زهير العربي، والإضاءة لنصر الله سفر، ومساهمة صبرى العتروس من تونس، وهندسة الصوت لعبود زيادة، والأزياء لظلال الجابي، وماكياج راما شرواني، ولوحة الأفيش للفنان الدكتور أحمد معلا.


أ. سلامة
اكتشف سورية

المشاركة في التعليق

اسمك
بريدك الإلكتروني
الدولة
مشاركتك