الذي يتأمل في حياة الموسيقي "خضر جنيد" والصعوبات التي اعترضت طريقه لا يستطيع سوى الإعجاب بهذا الفنان الذي استطاع الانتصار بدأبه وجهده وعمله على قسوة الحياة التي جابهته، والتي لم تزده إلا إصراراً على تحقيق هدفه في أن يغدو ذات يوم واحداً من الموسيقيين الذين يخدمون فنهم بإخلاص.
ولد "محمد خضر جنيد" في حي سوق ساروجة في دمشق في التاسع والعشرين من نيسان عام 1922، أبوه محمد حسنين جنيد، ويعود نسبه إلى "الجنيد الدمشقي" الكبير. مال إلى الموسيقا والاستماع إلى الموشحات والأدوار القديمة مذ كان طفلاً يحبو. وفي السادسة من عمره، بدأت ميوله تتفتح، وأنامله تعابث العود الوحيد في البيت وكان يجد صعوبة في الوصول إلى "الحاكي" "جرامافون" ليستمع إلى الاسطوانات التي كان يقتنيها الأب المولع بدوره في الموسيقا، فيستعين بوالدته التي ما كانت تمنع عنه شيئاً ما تقدر عليه. وعن طريق "الحاكي" استمع وحفظ جل البشارف والسماعيات واللونغا والأدوار التي كانت شائعة آنذاك..
دفعته قسوة الحياة إلى العمل مبكراً، ولكن حبه للموسيقا والغناء ظل مسيطراً على حواسه ومشاعره، فانتسب في العام 1938 إلى معهد الآداب والفنون الذي كان قد اتخذ له مقراً في "جادة التكريتي" قرب "الجسر الأبيض"، ولكن المعهد رفض قبوله بادىء ذي بدء لأنه لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره، ولكن الفنان الراحل مصطفى هلال، والفنان فريد صبري قررا قبوله عندما استمعا إلى عزفه على العود، وضماه فوراً إلى فرقة المعهد.
و"خضر جنيد" كأغلب الفنانين السوريين تعلم العزف لوحده على العود دون معلم حتى برع فيه، ولعل براعته وحدها هي التي دفعت فرقة المعهد إلى اصطحابه معها لتقديم الحفلات الموسيقية والغنائية بمرافقة المطرب مصطفى هلال من راديو الشرق في بيروت.
في العام 1941 انسحب مع الفنان فريد صبري من معهد الآداب والفنون ليؤسسا مع الأخوين نصوح ومطيع الكيلاني وعازف القانون المعروف عثمان قطرية واسماعيل حقي معهد الفارابي. وبعد ثلاث سنوات انضم إلى معهد أصدقاء الفنون ليصبح خلال فترة قصيرة مديراً للقسم الفني فيه، وظل يعمل في هذا المعهد إلى أن توقف نشاطه تماماً في العام 1954.
يقول الفنان خضر جنيد، إنه توجه بعد أن درس تماماً فنون الموسيقا الشرقية إلى دراسة آلتي البيانو والكمان الغربيتين منذ العام 1940، وانه استعان بالمناهج الخاصة المتوفرة آنذاك في دراسته، وانه طبق ما درسه على المؤلفات الغربية المتوفرة بكثرة ليتمكن من تحقيق اطلاعه على امكانات تينك الآلتين، وكان البارون "بللينغ" مرشده ومعلمه في ذلك. وإبان فترة نشاط "معهد أصدقاء الفنون" وبخاصة الفترة التي كان يقدم فيها حفلاته في مطعم "الجامعة" في الصالحية وفي إذاعة دمشق الفرنسية الضعيفة، قدمت فرقة المعهد من مؤلفاته الموسيقية مقطوعات "أوراق الخريف" الجميلة، و"غادة" و"انتصار دمشق" ولحن للمطرب "عدنان راضي" المعروف باسم "المتكتم" قصائد لمحمود حسن اسماعيل، وعلي محمود طه وأحمد شوقي، من بينها قصيدة "مضناك جفاه مرقده" التي لحنها قبل أن يلحنها ويغنيها محمد عبد الوهاب، وقصيدة "الفن" للشاعر "سليم الزركلي.
تقدم في العام 1948 إلى مسابقة انتقاء المدرسين التي أجرتها وزارة المعارف ـ التربية اليوم ـ لاختيار مدرسين لمادة التربية الموسيقية، فنجح بتفوق، وعين مدرساً في ثانويات حلب، ومن ثم ثانويات ودور المعلمين والمعلمات في دمشق. كذلك اختاره المعهد الموسيقي الشرقي التابع لوزارة المعارف للتدريس فيه، وظل يعمل فيه إلى أن صدر مرسوم بإلغائه بعد افتتاح المعهد الموسيقي العربي التابع لوزارة الثقافة.
قدم خلال عمله في دار المعلمين والمعلمات عدداً من الأعمال الموسيقية من أهمها مسرحية شعرية للأستاذ سليم الزركلي بعنوان "إله الشعر آلة موسيقية" وهي مستوحاة من الأدب الاغريقي.
شغل في العام 1949 بالاضافة إلى عمله في التدريس منصب مساعد لرئيس القسم الموسيقي في إذاعة دمشق مع الأستاذ يوسف بتروني الذي كان يتولى رئاسة هذا القسم، ومكث في عمله هذا لغاية العام 1950.
أوفدته وزارة المعارف في العام 1954 إلى فرنسا للاختصاص في المعهد العالي للمعلمين لمدة سبع سنوات عاد بعدها إلى دمشق يحمل إجازة في الموسيقا.
ظل خضر جنيد يمارس التدريس في مختلف ثانويات دمشق ودور المعلمين ومعهد إعداد المدرسين والصف الخاص لغاية عام 1974، وهو العام الذي أحيل فيه على التقاعد.
والفنان خضر جنيد الذي سمي عضواً في لجنة المعهد العربي للموسيقا كممثل لوزارة التربية منذ العام 1961، ومازال يدرس في هذا المعهد، مادة الغناء الصولفائي والتاريخ الموسيقي والنظريات، وقد ساعد إدارة المعهد بتدريس آلة الكمان مدة سبع سنوات عندما طلبت منه ذلك.
كذلك سمي عضواً ممثلاً للقطر العربي السوري في المجمع العربي للموسيقا التابع لجامعة الدول العربية، وشارك في المؤتمر الموسيقي الذي عقد في "بيانغ يونغ" في كوريا الديموقراطية وبعد ثلاث سنوات على هذا المؤتمر شارك في مؤتمر موسيقا حوض البحر الأبيض المتوسط الذي عقد في مدينة "أنطاليا" في تركيا عام 1986، ثم شارك بدعوة خاصة، في مؤتمر للموسيقا الشرقية عقد في تشرين الأول عام 1988 في مدينة "أثينا" في اليونان. وفي كل هذه المؤتمرات قدم أبحاثاً ودراسات عن المقامات في الموسيقا الشرقية نشرت كلها في كتب صدرت عن تك المؤتمرات. آخر المؤتمرات الموسيقية التي حضرها والخاصة بالموسيقا العربية كانت في باريز في شباط في عام 1989.
أعماله الموسيقية والغنائية:
وضع خضر جنيد عدداً كبيراً من الأناشيد والأوبريت لإذاعة دمشق، منها أناشيد "المطر، الطيران، الوطن، الأم" وأوبريت "الأجراس" من نظم عيسى أيوب، وأوبريت "الصديقتان" وأوبريت "جبلة بن الأيهم" وهما من نظم الشاعر الكبير سليمان العيسى.
كذلك وضع أعمالاً موسيقية لجأ في كتابتها إلى الأسلوب الغربي من أهمها "رباعية للأوتار" ورباعية بعنوان "بلادي". وأهدى لجمهورية كوريا الديموقراطية متتالية للأوركسترا الكبيرة كتبها من وحي إقامته في ربوع تلك البلاد، بالإضافة إلى أعمال أخرى وقد قامت فرقة كوريا السيمفونية الرسمية بتسجيلها.
والفنان خضر جنيد الذي مازال في أوج نشاطه على الرغم من تجاوزه السادسة والستين من عمره، يعمل حالياً في المعهد العربي للموسيقا، ويقوم باعطاء دروس خاصة على البيانو وللراغبين، ويكتب المقالات المختلفة للعديد من الصحف والمجلات، ويضع كراسات خاصة للمسرح المدرسي، والدورات التعليمية لوزارة التربية ومنظمة الاتحاد النسائي. وهو متزوج وعنده ثلاثة أولاد يعتبرون من النوابغ في المواسيقا هم رنا وماهر ومازن. ورنا هي اليوم مدرسة للبيانو في المعهد العربي للموسيقا في دمشق.
صميم الشريف
الموسيقى في سورية|