القصر المنسوب لتراجان في بصرى
مدينة بصرى من المدن الأثرية المهمة وذات شهرة عالمية، بدأت شهرتها وأهميتها منذ القرن الأول الميلادي حين كانت عاصمة للأنباط، واستمرت هذه الأهمية كذلك في العصر الروماني[1] لا سيما وأنها أصبحت عاصمة الولاية العربية عام 106م، ومع بدء ظهور المسيحية غدت مركزاً للكرسي الأسقفي بعد انتشار المسيحية وتبنيها رسمياً في الإمبراطورية الرومانية الشرقية، ومن ثم ارتبطت شهرتها فيما بعد بقصة الراهب بحيرة، وخلال العصور الإسلامية ازدادت مكانتها خصوصاً بعد أن أصبحت محطة لطريق قوافل الحجاج.
الشكل1: إعادة تخيل للشكل الكلاسيكي لمدينة بصرى الأثرية
أهميتها من الناحية الأثرية لا تقل عن المدن الكلاسيكية القديمة الأخرى في الأردن و
سورية، مثل البتراء وجرش و
تدمر، وتعد إلى جانب مدينة تدمر أروع المدن القديمة في سورية. وهي مصنفة ومسجلة دولياً في منظمة اليونيسكو ضمن قائمة التراث العالمي، ومن أهم معالمها خلال العصور الكلاسيكية مسرح بصرى، الكاتدرائية البيزنطية، سرير بنت الملك، قوس النصر، الباب النبطي، معبد حوريات الماء، وقصر الإمبراطور تراجان
[2] (الشكل1). أما في العصور الإسلامية فهناك القلعة، بركة الحاج، الجامع العمري، مسجد الخضر، مسجد المبرك، مسجد فاطمة، وحمام منجك
[3] (الشكل2). وهذه الأبنية التي ذكرناها أعلاه لا تزال بقاياها ظاهرة حتى الوقت الحاضر وبحالة حفظ جيدة، وسنتناول من بينها البناء الذي يعرف باسم قصر تراجان في ضوء أخر المكتشفات الأثرية.
الشكل2: مخطط مدينة بصرى القديمة
الموقع وبداية الأعمال:
يقع ضمن الحي الشرقي من المدينة على بعد 50 متراً تقريباً من الكنيسة الكبيرة بالقرب من القوس النبطي، ويحده من الجنوب الشرقي البحيرة أو الخزان الكبير، وتبلغ المساحة التي يشغلها القصر 1850 متراً مربعاً. وبدأت الأعمال الأثرية ضمن القصر خلال وجود البعثة الأثرية لبولتير «bulter» عام 1919م، حيث قام بأول أعمال الرفع الهندسي للبقايا المعمارية
[4] وتابع الأعمال فيما بعد دنتزر «dentzer» أثناء تنقيبات البعثة للقوس النبطي والكنيسة
[5]. وكان الموقع عام 1980م مشغولاً من قبل عدة عائلات، وقد تغيرت فيه الكثير من المعالم بسبب الإشغالات الحديثة، ولم يكن الأمر يقتصر على هذا البناء فقط، فقد كانت القرية بكاملها تقطنها عائلات بصرى، وقسم منها كان قد تحول إلى حظائر للحيوانات، وهذا الأمر أدى إلى حدوث كثير من الإضافات على الأبنية القديمة والتي لا يزال قسم كبير منها موجوداً حتى الوقت الحاضر (الشكل3).
الشكل3: صورة جوية لمدينة بصرى عام 1925
وصف القصر:
يشغل القصر كما ذكرنا مساحة تبلغ 1850 متراً مربعاً، له مخطط مستطيل الشكل ويتألف البناء من طابقين: يحتوي الطابق الأرضي على قسمين شمالي وجنوبي، وبينهما ساحة مربعة تحتوي على خزان ماء وتحيط بها ثلاثة أروقة بأعمدة من ثلاث جهات وتبلغ مساحتها 681 متراً مربعاً. أما الطابق الأول فيتم الوصول إليه من خلال درجين أحدهما يتوضع في الجهة الشمالية الغربية والثاني في الجهة الجنوبية الغربية.
يتكون الطابق الأرضي من حجرتين كبيرتين في القسم الجنوبي يمكن الوصول إليهما من خلال الساحة ومنهما يتم الوصول إلى حجرات أصغر، وفي المنتصف تتوضع حجرة جدارها الشرقي والغربي على شكل نصف دائري تشكل أساساً للحجرة التي توجد في الطابق الأول، وفي الجهة الغربية من هذا القسم تم الكشف عن حجرة تحتوي على بقايا فحم وقنوات ماء إضافة إلى العثور على أحواض للماء، وقد ثبت وجود حمام خاص صغير وهو يعود لفترة لاحقة لبناء القصر. أما القسم الشمالي فهو مشابه للقسم الجنوبي من حيث وجود حجرة كبيرة مركزية وحجرة أصغر بشكل طولي من كل جانب.
الشكل4: مخطط الطابق الأرضي من القصر المنسوب لتراجان
الجانب الشرقي للقصر مشغول بعدة حجرات صغيرة تطل على الرواق ذي الأعمدة، وقد تبين وجود بقايا قديمة في هذا المكان سابقة لبناء القصر، في حين أن الجانب الغربي مخرب بالكامل ومشابه على الأرجح للجانب الشرقي. ويبدو أن أغلب الحجرات المؤلفة للطابق الأرضي كانت مخصصة للخدمات التي يحتاجها القصر ( الشكل4).
الشكل5: بقايا الطابقين الأرضي والأول في القصر المنسوب لتراجان
يتم الوصول إلى الطابق الأول من خلال درج يتوضع في الزاوية الشمالية الغربية، فقد تم العثور على جزء منه، ومخطط هذا الطابق مشابه لمخطط الطابق الأرضي مع العلم أن بقاياه مخربة لدرجة يصعب تمييز حجراته من خلالها (الشكل5)، إلا أنه قد تبين وجود قاعة كبيرة في القسم الشمالي وهي كانت مخصصة على الأغلب للاستقبال، في حين يرجح أن القاعة ذات الجدران نصف الدائرية والتي تظهر أساساتها في الطابق الأرضي كانت ذات استخدامات دينية، وكان يتم التنقل ضمن هذا الطابق من خلال أروقة تحملها أعمدة الطابق الأرضي التي تحيط بالساحة التي ذكرناها أعلاه، أما باقي الحجرات ضمن هذا الطابق فكانت مخصصة للإقامة والمعيشة (الشكل6).
الشكل6: مخطط الطابق الأول من القصر المنسوب لتراجان
وفيما يخص الأسقف، نجدها تتبع نفس النظام المتبع في المنطقة الجنوبية، أي نظام الأسقف الحجرية، ولم يتم العثور ضمن البناء على أية بقايا خشبية تدل على استخدامها، بل كان الحجر البازلتي المادة الأساسية
[6].
أظهرت أعمال الدراسة والتحليل للبقايا المعمارية ومقارنتها إضافة إلى أعمال التنقيب الأثري أن مخطط البناء مماثل للتنظيمات القديمة والعناصر المعمارية المميزة للشرق القديم، وأن المقارنة مع أمثلة أخرى معمارية سكنية في الإمبراطورية سمحت لنا بفهم وتأريخ العناصر المكونة له كما أمكن إعادة تخيل افتراضي لشكل البناء كما كان عليه سابقاً (الشكل7).
الشكل7: تصور افتراضي للقصر المنسوب لتراجان في مدينة بصرى الأثرية
وظيفة البناء:
إن الإشكالية التي تتعلق بهذا البناء تتمثل بالتسمية ووظيفته، حيث أن الكثيرين نسبوه إلى تراجان دون وجود أية دلائل على ذلك، خصوصاً أن البقايا الأثرية الظاهرة في الوقت الحاضر مؤرخة على العصر البيزنطي، وقد تعددت الآراء حول ماهية هذا البناء، نذكر منها تلك التي اقترحها موريس
[7] سارتر «Sartre» أن البناء كان قد استقر فوق بناء ملكي نبطي بدليل أن الحي الشرقي من المدينة ضم الأبنية الملكية أو الرسمية. لا شك وأن البناء مهم وله مكانة صرحية نادرة ويمكن القول بأنه كان مقر إقامة حاكم المدينة خلال العصر الروماني، وخلال العام 490م تم هجر بعض أبنية المدينة، وبالتالي أعيد استخدام مقر الحاكم القديم وتغيرت وظيفته. وعموماً يظهر هذا البناء خاصية مميزة من خلال أبعاده ومخططه وتجهيزاته، وربما كان مقراً لحاكم المنطقة لاسيما وأن وجوده يقع في مكان تتوضع فيه الأبنية المهمة للمدينة.
وقد أظهرت التنقيبات الأثرية وجود أربع مراحل تاريخية لهذا البناء، أولها يبدأ مع بداية القرن الثاني الميلادي، وآخرها كان في القرنين الخامس والسادس الميلادي. وفي جميع الأحوال فإن صفات هذا البناء تؤكد أهميته، فربما كان مقراً للحاكم وربما قصراً، وحتى الوقت الحاضر فإن وظيفته ما تزال مجهولة، ولكي تكون النتيجة مؤكدة بخصوصه لا بد من القيام بأعمال تنقيب حول كافة الجدران وخصوصاً ضمن الساحة الداخلية التي من شأنها أن تلقي الضوء على الغموض الذي يكتنف هذا الصرح.
الحواشي:
[1] بخصوص العصر الروماني والبيزنطي يمكن مراجعة
SARTRE M; 2007, Bosra, period romaine, IFPO, Beyrouth, p. 25.
SARTRE M; 2007, Bosra, period Byzantine, IFPO, Beyrouth, p. 57.
2]
تراجانوس «Trajanus»: إمبراطور روماني ولد في إسبانيا سنة 53م وتوفي في سيليسي سنة 117م. أصبح إمبراطوراً في عام 98م خلفاً للإمبراطور نيرفا، توفي بصورة مفاجئة إثر عودته من حملاته على الشرق، خلفه على العرش هادريانوس ( الموسوعة المصرية: 1978، ص 525).
[3] المقداد، رياض: 1990، بصرى الإسلامية، معهد الآثار الألماني، دمشق.
[4] BULTER H C; 1919, Publication of the Princeton university archaeological expedition to Syria, II A, Leiden, pp. 256-260.
[5] DENTZER J M; 1986, Décor architectural et développement du Hauran du I s avant J.C au VII S après J C, HAURAN I, Paris, pp. 261-310.
[6
بخصوص الوصف المعماري للقصر يمكن مراجعة
PIRAUD- FOURNET P; 2003, Le palais dit de Trajan, SYRIA, 80, Paris, pp. 5-40:
2007, Le palais dit de Trajan, IFPO, Beyrouth, pp. 147- 154.
[7] SARTRE M; 1985, Bostra des origines a l Islam, Paris, p. 58.
إعداد: همّام سعد
اكتشف سورية