الموسيقى

إن مسألة الشكل والمحتوى في الموسيقى، وهي أكثر الفنون تجريداً وتشكيلاً، لتظهر العديد من الصعوبات. فمحتوى الموسيقى ينتقل بأشكال متعددة، والخط المشترك بين المحتوى وبين الشكل هو من الغموض بحيث أن مقاومة كل تفسير اجتماعي قد كانت دائماً راجحة في هذا الحقل. إن البورجوازية الحديثة لترتعب رعباً عميقاً من كل تطبيق لعلم الاجتماع على الفنون؛ ولكن هذا الرعب، بصدد الموسيقى، يستند على حجج يُظن بأنها صلبة.
وإنني أود هنا، أن أتلو بعض ملاحظات إيغور سترافنسكي حول بيتهوفن وذلك لأنها نموذجية. يقول سترافنسكي:
"لقد كانت الآلة الموسيقية هي التي تلهمه، وتحدد طريقة فكره الموسيقي... ولكن هل صحيحاً أن المؤلفات العديدة التي كرسها الفلاسفة، والأخلاقيون، حتى علماء الاجتماع قد اهتمت بموسيقى بيتهوفن؟ وسواء أكانت السمفونية الثالثة مستوحاة من بونابرت الجمهوري، أو من الإمبراطور نابوليون، فالموسيقى وحدها هي التي يعول عليها... لقد جعل رجال الأدب من تفسير بيتهوفن قضية احتكارية. ويجب أن ينتزع منهج هذا الاحتكار. فهو لا يخصّهم، وإنما يخص أولئك الذين أخذوا أنفسهم في أن لا يسمعوا سوى الموسيقى في الموسيقى... إن نقطة البداية في مؤلفات بيتهوفن المعدة للبيانو، إنما هي البيانو، أما في سمفونياته وفي مقدماته، ومقطوعاته، فإن الأمر يعود إلى التوزيع الموسيقي واعتقد أنني لست بمخدوع حين أقول بأن الإبداعات العظيمة التي بنى عليها شهرته، هي النتيجة المنطقية للطريقة التي يستثمر فيها نغم الآلات".
وبوصفي مجرد "رجل أدب"، فإنني لا أدّعي شرح بيتهوفن. وقد كان سترافنسكي على حق تماماً حين قال بأن آثار بيتهوفن ينبغي ألا تحلل من وجهة نظر اجتماعية صرف، بل يجب أن تفهم بوصفها موسيقى. ولكن، ما هي الموسيقى؟ هل هي مجموعة أنغام، أم هي شيء أكثر من هذا؟ إن نقطة البداية عند بيتهوفن هي الآلة الموسيقية، وليست الثورة الفرنسية. فيا للتضاد المثير! وهل للموسيقي، فقط، معرفة بالبيانو، ولا معرفة له بالثورات؟ وهل الواحدة منهما تنفي الأخرى، سيكون، بلا ريب، ضرب من عبث تفسير بيتهوفن من خلال العطف الذي كان يبديه على اليعقوبيين. (لأن الإنسان بمقدوره أن يكون يعقوبياً جيداً، وموسيقياً فاشلاً). ولكنه سيكون أكثر عبثاً الزعم بأن موسيقى بيتهوفن تجد منبعها فقط، في معرفته بالآلات الموسيقية، لا في أحداث عصره وأفكاره.
إن القول بأن الموسيقى تقوم على أنغام منظمة وفق تباين واسع من الترتيبات، وإن هذا الفن هو تجريدي وشكلي، ليظهر مقبولاً بوجه عام. ولكن، أليست الموسيقى أكثر من ذلك؟ وهل الموسيقى مفرغة من المحتوى لأنها ليست موضوعية؟ إن هيغل في كتابه "فلسفة الموسيقى" يقدّم لنا جواباً بليغاً حين يقول:
"إن هذه الحالة الداخلية التي لا موضوع لها، سواء من جهة المحتوى أو من طريقة التعبير، تكوّن الجهة الشكلية من الموسيقى. فإذا كان لها محتوى، فهو ليس بالمحتوى الذي نسمعه عندما نراجع الفنون التشكيلية، كالشعر مثلاً. أما الذي لا تملكه، فهو النتيجة الموضوعية، سواء كانت بأشكال تمثل ظاهرات خارجية حقيقية، أو بمفاهيم وصور ذهنية، وموضوعية أيضاً".
ويضيف هيغل قائلاً:
"عندما يستخدم العنصر الحسّاس في الأنغام فقط للتعبير عما هو روحي بشكل تام نسبياً، ترتفع الموسيقى إلى مستوى الفن الحقيقي، سواء كان هذا المحتوى معبراً عنه بكلمات، أو كان ينبعث، أقل دقة، من الأنغام، ومن علاقاتها المتناسقة، ومن حيويتها الهرمونية..."
إن التحول المستمر الذي يطرأ على أشكال وطريقة التعبير الموسيقية عبر العصور، وتطور الموسيقى في غضون التاريخ، لا يمكن تفسيرها فقط بظهور آلات جديدة فقط، وبالدقة النامية، وبراعة تكنيك الموسيقيين. وإذا لم نأخذ بعين الاعتبار مجرى التاريخ المتغيّر، فإننا سنصطدم بظاهرة عصيّة على التفسير (فحتى استخدام أو طرح بعض القطع الموسيقية، هو مرتبط بظروف اجتماعية وباعتبارات "أيديولوجية": من مثل، رفض سبارطة استخدام القيثارة الأثينية الأكثر غنى بالأوتار، أو رفض الآلات الشرقية القرع من قبل الكنيسة الإسكندرانية التي لم تقبل سوى الآلات الكلاسيكية الأوتار في القرنين الثالث والرابع). والحقيقة أن بيتهوفن قد "استثمر نغم الآلات" لكي يحصل على تأثيرات موسيقية. ولكن، ما كانت الغاية من ذلك؟ يقول هيغل: "إن من طبيعة الموسيقى إنعاش عاطفة الرنين المستجيبة لبعض العلاقات اللحنية، أو بتعبير آخر، ينبغي للموسيقى أن تتخذ التعبير عن عنصر خلقه الفن لها وحدها". إن هذا العنصر المتحول إلى أنغام منظمة، أي إلى "محتوى" للموسيقى، إنما هو التجربة التي يرغب المؤلف الموسيقي في إيضاحها للآخرين؛ وتجربة الموسيقي ليست تجربة موسيقية صرفة، بل هي أيضاً شخصية واجتماعية، تحددها المرحلة التاريخية التي يعيشها فيها والتي أثرت فيه بعدة أشكال. ولهذا ينبغي عدم الامعان في تبسيط تأثير الوسط التاريخي على الموسيقي، وعلى أثره؛ وعلى العكس، يجب القيام بمحاولة اكتشاف الطرق العديدة التي ينطبق بها محتوى وشكل أثر موسيقي معيّنة على وضع اجتماعي، بطريقة نزيهة ودون ادعاء. أما الاقتصار على "سماع الموسيقى في الموسيقى"، وإبعاد ما حوّله الموسيقي إلى موسيقى على أنه مجرد من الأهمية، فذلك من البلاهة التي تفوق تحليل الأثر الموسيقي بعبارات خاصة بعلم الاجتماع الصرف، ودونما نظر إلى صفته، أو شكله.
فماذا يعني هذا التصريح البلاغي الذي أدلى به سترافنسكي، والذي بموجبه لا فرق بين أن يكون بيتهوفن وهو يؤلف مقطوعته "اوروسييكا" قد استلهم بونابرت الجمهوري، أو استلهم الإمبراطور نابوليون؟ فإذا كان سترافنسكي يريد أن يقول بأن الإمبراطور نابوليون (أو كل ظاهرة أخرى، أو حدث معارض للثورة) قادر على إلهام أي موسيقي عظيم آخر أثراً فنياً عظيماً، فذلك تأكيد لا يحمل أحداً على التفكير بنقضه. إذ ليس ثمة من يزعم بأن الثورة وحدها قادرة على أن تكون مصدر إلهام آثار فنية عظيمة. ولكن واقع كون الثورة الفرنسية، لا الإمبراطورية، أو نظام مترنيخ إذا شئنا، هي التجربة الحاسمة عند بيتهوفن، هو ما يحمل على الاهتمام الأكيد في تفهّم أثر بيتهوفن وشخصيته. ومهما كانت عظمة المحتوى فإنها لن تساعد موسيقياً فاشلاً في تأليف الأثر الموسيقي العظيم. أما ما هو جدير بالتقدير عند بيتهوفن، فليس مقدرته في تكييف الشكل وحسب، بل هو أيضاً أهمية محتوى مطبوع بطابع العصر الثوري.
إن محتوى الموسيقى ليس أيضاً محدداً بوضوح على نحو ما هو محدد محتوى الأدب أو الفنون التشكيلية. ولهذا يُساءُ غالباً استخدام الموسيقى من أجل إضعاف الوعي. غير أن محتوى الموسيقى العظيمة ليس بعصيّ على التحليل، فيما اذا ضربنا صفحاً عن رأي سترافنسكي، حول ما إذا كان هذا المحتوى تحدده الثورة، أو الثورة المضادة. وإننا لنجد مفهوماً مجانساً عند شوبنهور (وهو المفهوم الذي يقول بأن الموسيقى تعبّر فقط عن المشاعر العامة، ودونما تعليل)، فهو يقول:
"إن الموسيقى لا تعبَّر عن هذا الفرح أو ذاك، ولا عن هذا الحزن أو ذاك، ولا عن هذا الاسم أو ذاك، ولا عن الرعب، والبهجة، والمسرة، أو الاطمئنان النفسي. إنها تصور الفرح بذاته، والحزن بذاته، كما تصور بقية هذه العواطف بشكل تجريدي. فهي تعطينا جوهرها، بدون أي تابع، وبالتالي، بدون موضوعاتها".
إذن، قليلة هي أهمية "الفرح" الذي تتضمنه قطعة موسيقية نابعة من ابتهاج مضارب في التجارة ربح مالاً في البورصة، أو من ابتهاج طفل عند رؤيته شجرة الميلاد، أو من الحبور الذي تضفيه على السكّير زجاجة شمبانيا، أو التهلّل الذي يبديه المقاتل في انتصار قضيته. إن الدافع إلى "الفرح" وطبيعته الخاصة سيكونان بدون أهمية؛ فالفرح التجريدي وحده هو الذي يعبّر عن ذاته في الموسيقى: والفرق بين فرح بيتهوفن وبين فرح ليهار فرق كيفي وليس له أي أساس. أما هيغل فهو يحلل الموضوع على نحو آخر، عندما يقول:
"إن مجرد إدراك الروح لذاتها، واللعبة الرنانة لهذا الإدراك، لا تخلق في نهاية المطاف، سوى حالة بسيطة جد مبهمة وتجريدية، وقد يكون من تأثيرها... جعل الموسيقى ذاتها خاوية وتافهة... فعندما تعبّر أغنية مثلاً، عن كآبة نجمت عن خسارة، يصبح لدينا الحق في أن نتساءل فوراً: ما هي هذه الخسارة؟... إن للموسيقى، بالفعل، علاقة لا بالأشياء الداخلية وحسب، بل بالأشياء الداخلية ذات المحتوى المحدد، والمتعلق بعاطفة محددة بحيث يختلف التعبير بين محتوى وآخر".
إن سترافنسكي يريدنا أن نحكم على موسيقى بيتهوفن من خلال شكلها فقط ومن خلال تأثيرها الرنان الإجمالي، وموقف شوبنهور يماثل هذا الموقف، بالرغم من أنه يبدو أكثر منه عمقاً، فهو يقول:
"إذا ما ألقينا الآن نظرة على الموسيقى الآلاتية الصرف، وجدنا بأن سمفونية بيتهوفن تمثل لنا أكبر تشويش، بينما هي بالفعل، قائمة على أكمل درجة من التنظيم، وعلى أعنف قتال يتحول في اللحظة التي تلي إلى أروع تأليف وانسجام...، إننا في هذه السمفونية، نسمع في ذات الوقت، صوت كل العواطف، وكل الأحاسيس الانسانية، من فرح، وحزن، وبهجة، وحقد، وخوف، وأمل الخ... وقد عُبّر عنها جميعاً بدقة متناهية، ولكنها دقة نوع من التجريد ودونما تمييز فيما بينها؛ ذلك هو الشكل وحيداً دونما جوهر، كعالم من أرواح خالصة بدون مادة".
هنا أيضاً، تصبح الأشياء الداخلية ذات المحتوى المحدد تجريداً بارداً ومستهجناً. غير أن هذه الحياة العميقة ليست قضية شكل خالص، أو روح خالص: إنها تصدر عن الطريقة المحددة والخاصة التي تفاعل معها بيتهوفن في عصره؛ وهي خاصة بالعالم الحقيقي الذي لا وجود فيه لفرح أو ألم بصورة مجردة، وإنما هناك آلام معللة، وأفراح معللة أيضاً.
إن اللحن الجنائزي في مقطوعة "اوروسييكا" ليس هو المأتم على وجه التجريد، العاري من كل معنى خاص: إنه لمأتم بطولي، مثقل بالشعور الثوري. فليس على هذا النحو يُذرف الدمع على حبيب؛ ومثل هذه العاطفة لاتساور أبداً إحساس مسيحي يبكي المسيح المصلوب: فالمأتم المعبَّر عنه في سمفونية بيتهوفن، إنما هو ثوري ويعقوبي. والسؤال الذي طرحه هيغل قائلاً: "ما هي هذه الخسارة؟" ليجد جواباً دونما إبهام، في موسيقى بيتهوفن.وكذلك الأمر بالنسبة للسمفونية التاسعة؛ فالفرح الذي يتفجر في حركة الجوقة ليس أي فرح كان، وهو ليس بالفرح المحاط بإطار من تجريد، وإنما هو فرح ولد في غمرة التناقضات الشاسعة، تجاه وضد كل ضعف ويأس: إنه نفي اليأس الذي يتخذ شكلاً بالغ الوعي؛ وهو فرح يتطلب جماهير المدن، ولا علاقة له بالبهجة الريفية، ومواسم الحصاد، والرقصات الفلاحية. ومن ناحية أخرى، إذا ما حللنا "محتوى" المقطوعات الموسيقية الأخيرة لبيتهوفن، ينبغي لنا أن ندرك بأنها تعبر عن وحشة رهيبة؛ وهذه الوحشة ليست أبداً في إطار تجريدي، وهي تختلف جداً عن وحشة الناسك التقي، أو الفلاح المنصرّ في كوخه الجبلي بسبب الثلوج: إنها وحشة المدينة الجديدة كل الجدة وقد ظهرت في الوقت الذي ظهرت فيه الجماهير في العالم البورجوازي الحديث، وقد وجدت أول تعبير موسيقي لها عند بيتهوفن. وبعبارات أخرى، إذا ما أولينا آثار بيتهوفن أكثر من نظرة موجزة، فإننا لن نكتشف كل العواطف والمشاعر الانسانية وحسب، (في التجريد وبدون أي تمييز) بل على العكس، سنكتشف بعض العواطف والمشاعر الخاصة أيضاً، وقد كانت مجهولة، تحت هذا الشكل الخاص من التعبير، في العصور السالفة.
ولنأخذ الآن مثلاً حديثاً: لنتأمل "قصيدة الذكرى الثالثة عشرة لموت لينين" لهانس ايسلر. فالطريقة الجديدة والأصيلة التي عُبّر بها هنا عن المأتم، لتفسّر من جديد، أهمية العناصر المحسوسة والمحددة اجتماعياً في الموسيقى، برغم طابعها التجريدي والشكلي. ولا ريب في أن ايسلر كان يستند إلى نص أساسي، هو نص بريشت الذي يطرح كل أثر تقليدي مما يحرك العواطف. ومع ذلك، فإن مهمة الموسيقى كانت صعبة، إذ: كيف يُبكى لينين؟ فالجواب على هذا السؤال بشكل موسيقي لا يتطلب نبوغاً وحسب، بل يتطلب أيضاً درجة عليا من الوعي السياسي، كما يتطلب تجربة فنية واسعة جداً. فعلى الفنان، قبل كل شيء، أن يرى بوضوح، العثرات التي يجب أن يتجنبها. فمأتم لينين يجب ألا يكون له أي قدر مشترك مع التأثر الديني، إذ يجب ألا يستولي الترتيل الديني ولا التوشيحة المستمدة من فن الباروك. ولكن الشيء المؤثر في مقطوعة "اوروسييكا" وهو الشيء القائم في الثورة الديموقراطية البورجوازية لا يتفق أيضاً مع طبيعة الثورة الاشتراكية البروليتارية ومع شخصية قائدها؛ وكل هوس رومنطيقي أو كل نزعة عاطفية كريهة كانت أيضاً باطلة؛ وقد توجب على الموسيقي أن يجد أسلوباً جديداً كل الجدة: فيه البساطة، والدقة، والنظام، وصرامة النبرة الموسيقية المشيرة إلى المستقبل، لا إلى ما وراء مبهم، بل إلى عالم مادي أكثر إشراقاً، فلا هو "بالموت والتجلي"، ولا هو بالقيامة والصعود، بل هو تأثير لينين الحي في الطبقة العاملة التي كان موجهها. إن مسألة هذا النوع من المحتوى كانت تصبّ في الشكل: إن تفاعل أصوات متواترة في لحن رقص منفرد، وصداها الفخم الذي لا يقاوم، لتندرج في الإطار المحدد لنظام الألحان الاثني عشرية. ولهذا، فإن "أغنية لينين" لجديدة بكليتها في إطار بنائها الشكلي؛ ذلك أن الأمر هنا لا يتعلق بمسألة الشكل من أجل الشكل، بل يتعلق بالشكل الذي يحدده محتوى جديد.
إنني سأحاول شرح مسألة المحتوى والشكل في الموسيقى، ولكنني راغب عن انتقاد صعوباتها. ففي الموسيقى المعدة لكي تكون مصحوبة بكلمات، نجد أن "المحتوى" موجود في النص بشكل أو بآخر، بالرغم من أن موسيقى من هذا النوع، قادرة على الابتعاد عن النص، أو السيطرة عليه، وهي قادرة أيضاً على إحداث تأثير قوي وبشكل خاص، بمعارضتها النص، بدلاً من التشديد عليه. ولكن كيف نفسر "محتوى" الموسيقى الآلاتية؟ إن الميتافيزيقيين ليفسّرونها بأشكال مختلفة نسبياً: فالموسيقى عند شوبنهور "مستقلة تمام الاستقلال عن العالم الظاهراتي"، وهي "نسخة عن الإرادة ذاتها"؛ ولهذا السبب بالذات نجد أن "تأثير الموسيقى أقوى بكثير، وأكثر نفاذاً من سائر الفنون الأخرى؛ فهذه الفنون لا تعبَّر إلا عن الظل، فيما الموسيقى تتحدث عن الكائن". أما هيغل، فهو يعتبر "أن محتوى الموسيقى هو حياة النفس الحرة والذاتية والأكثر عمقاً"، بالرغم من أن هيغل، وهو أستاذ الديالكتيك، عليه أن يقول أكثر مما يقوله شوبنهور في العناصر الموسيقية المحسوسة والخاصة. أما العالم المادي الجدلي، فهو يلاقي صعوبة في تفسير ما هو معتبر بمثابة "محتوى" للموسيقى؛ فهو عاجز عن أن يفسِّره بواسطة صيغة عامة، وهو مجبر أيضاً على تفحّص كل أثر موسيقي من العديد من الطرق المحسوسة، والاهتمام بالتفصيل بالتطور التاريخي للموسيقى، وبالوظائف المتغيرة للموسيقى بمجملها: وبالأشكال الموسيقية الفردية. وهذا عمل يتطلب الانجاز. وأنا لست بنظريٍّ في الموسيقى، ولست أستطيع أن أطرح سوى بعض الاقتراحات. ومرحباً بكل نقد يُوجَّه لي.
لقد كان هدف الموسيقى منذ البدء، إثارة مشاعر جماعية، وأن تكون محرضاً على العمل، والسرور في أعياد الخمر، أو الحرب. وكانت الموسيقى وسيلة إذهال، أو إثارة للحواس، وافتتان أو حث على العمل؛ وقد استخدمت لجعل الكائنات البشرية في حالة مختلفة، لا لعكس ظاهرات العالم الخارجي. فليس بمقدورنا إذن، التساؤل عما كان "محتوى" الموسيقى البدائية. ذلك لأن أسئلة خاطئة تستدعي أجوبة تافهة. ان قرع الطبل، وأصوات الناقوس، ورنين المعدن مجردة جميعاً من المحتوى: فالتأثير الذي تحدثه الأنغام المنظمة على الكائنات البشرية، هو وحده الذي يشكل معنى لها. فلقد كانت وظيفة الموسيقى الاجتماعية، إحداث هذا التأثير، لا تمثيل واقع. وقد أشار هانس ايسلر إلى أن "مشاركات أوتوماتيكية" تنبجس من بعض الأنغام المحددة، ومن بعض ترانيم نغمات متتالية، ومن بعض الاستعارات الرنانة. إن قسماً كبيراً، حتى الآن، من التأثير الذي تحدثه الموسيقى، يعود إلى "مشاركات أوتوماتيكية" من هذا النوع (كالأناشيد العسكرية، والجنائزية، وأنغام الرقص الخ..) الذي يقدم إمكانية للمشاركة المباشرة، حتى بالنسبة لمستمع غير منبّه. إن هذه القدرة الموسيقية في إحداث مشاعر جماعية، وجعل الناس في وقت ما، متساوين في الشعور، قد استخدمت بشكل خاص، من قبل التنظيمات العسكرية والدينية. فالموسيقى، هي من دون سائر الفنون، الأكثر قدرة على إذهال الذكاء، وعلى الإغواء، وخلق انصياع ذهولي، أو حتى القبول بالموت.
إن جميع المؤسسات الدينية، والكنيسة الكاثوليكية بوجه خاص، قد استثمرت هذه القدرة الخاصة في الموسيقى. ففي بداية القرون الوسطى، لم تكن الكنيسة الكاثوليكية تتطلب من الموسيقى أن تكون "جميلة"، بل كانت تتطلب بالتالي عكس ذلك. لقد كانت وظيفة الموسيقى في ذلك العصر إحالة المؤمنين إلى حال من الندم الحقير، والإذلال التام، وسحق كل أثر لشخصيتهم، وتذويبهم في جماعة خاضعة. والحق، أن كل واحد من المؤمنين كان يجد نفسه مدفوعاً لتذكر خطاياه الشخصية، ولكن الموسيقى كانت تسمح له بالغوص ثانية في حمّام خطيئة عامة، وفي رغبة عامة بالخلاص. وكان "محتوى" مثل هذه الموسيقى هو ذاته بشكل دائم: إنك لمخلوق ساقط، وضعيف، يعيش في حالة الخطيئة. فاتحد بآلام المسيح، وستخلص. وقد كتب هيغل في هذا الصدد يقول:
"في المقطوعات الموسيقية الدينية القديمة، وفي مقطوعة الصلب مثلاً، كانت الحوافز العميقة التي يتضمنها عذاب المسيح، وآلامه الإلهية، وموته، ودفنه في القبر الخ.... مكوّنة بشكل لا يعبّر عن الشعور الذاتي، أو العاطفة الذاتية للشفقة أو الرأفة التي تثيرها هذه الأحداث، بل يعبّر عن الشيء ذاته، عن عمق معناه. ولا ريب في أن إيقاعات وانتشار لحن هذا التعبير الأخير، هما معدّان أيضاً لملامسة السامع، والتأثير على عاطفته: فهما لا يحرّضانه على تأمَّل عملية الصلب، والدفن، وتكوين فكرة عامة عنها فقط، بل يهدفان إلى جعله يعيش بشعوره وعواطفه كل عمق الآلام الإلهية، وجعله يعاني من ألم الموت، وجعل هذه الأحداث تبتلع نفسه، فتغرق فيها بكليتها، فيماثل هذه الأحداث، إلى حد أن كل ما هو خارج عنها لا تبقى له أية قيمة عنده".
وبعبارات أخرى، إن هذه الموسيقى الكنسية العظيمة، لا توقظ عاطفة غير محددة تؤذن بمشاركات عديدة ومختلفة في النفس الفردية (كالموسيقى السمفونية الحديثة مثلاً)؛ إنها، على عكس ذلك، تفرض على المستمع ردة فعل محددة لا تحتمل أية ذاتية.
إن "محتوى" هذا النوع من الموسيقى الكنسية، هو، إذن، محدد بالنص الطقسي وبالمشاركات التي يثيرها من مثل: ألم إلهي، وخطيئة بشرية الخ...؛ ولكن ثمة عنصر هام آخر، ألا وهو: المؤمنون أنفسهم، الذين لا يشكلون "جمهوراً" بسيطاً، بل يشكلون متحداً حقيقياً. وقد كانت هذه الموسيقى، كما يقول هيغل، تؤثر على شعور أولئك السامعين، لا لتخلق فيهم عاطفة ذاتية غير محددة، بل لتخلق شعوراً جماعياً موحداً. إن هدف مثل هذه الموسيقى هو خلق حالة نفسية محددة ومقصودة، وإثارة هذه الحالة النفسية بطريقة منطقية؛ وإن وظيفتها هي أقل من أن "تعبّر" عن عاطفة، بدلاً من أن تخلقها. وإننا لنستطيع بالتالي أن نقول بأن "محتوى" قطعة موسيقية ما، ليس قائماً بها، وإنما هو خارجها أيضاً؛ إنه حصيلة التعبير والتأثير، والأنغام المتحركة، والمستمعين المتأثرين. وكذلك الحال بالنسبة للرقصات الدنيوية، وموسيقى الأناشيد. إن موسيقى الرقص هي بذاتها، بدون محتوى؛ ووظيفتها قائمة على حث الرغبة في الرقص، وهي تكتسب المحتوى من حركة الراقصين وحماسهم. كما أن طبيعة الرقص الخاصة، سواء كان الرقص الديني، أو الرقص الثلاثي، أو الفالس النمسوي، أو الروك أند رول، هي محددة اجتماعياً، والغريب في الأمر أن العنصر الاجتماعي يجد تعبيره في الشكل الموسيقي وحده (أو أن "المحتوى" الاجتماعي، بتعبير آخر، يجد تعبيره في الشكل) بينما نرى أن كل محتوى آخر نادر الحضور. وهذا صحيح أيضاً بالنسبة للأناشيد العسكرية ذات الشكل المحدد اجتماعياً، أما "محتواها" فيخلقه الجنود السائرون. وعندما تدخل السمفونية أو "الكونشرتو" أشكال موسيقية من هذا النوع، فإنها تبدو بسبب "مشاركتها الأوتوماتيكية" كأن لها "محتوى" قائماً بذاته، أو كأنها اكتسبت حياة خاصة بها. إننا لندرك، إذن، بأن محتوى الموسيقى، وهي الوحيدة من دون سائر الفنون التي تطرح علينا الكثير من الأسئلة، يتحوّل دائماً إلى شكل، يتحوّل بدوره إلى محتوى. ولهذا فإن المحتوى الاجتماعي قادر على الظهور في البنية الموسيقية الوحيدة أو أن المحتوى الجديد يمكنه أن يستخدم أشكالاً قديمة، بإضفائه عليها وظائف جديدة.
إنه لمن الضروري التمييز بين الموسيقى التي هدفها الوحيد إحداث تأثير منتظم واختياري، ودفع أناس متجمعين إلى شكل من أشكال العمل الجماعي المقصود سلفاً، وبين الموسيقى التي تعبّر بذاتها عن عواطف، وأفكار، ومشاعر أو تجارب، والتي، بعيداً عن أن تصهر الناس في كتلة متجانسة تجاه التفاعلات المماثلة، تسهّل حركة المشاركات الفردية والذاتية. فالموسيقى الدينية في القرون الوسطى الأولى، هي من الصنف الأول، ويمكننا القول بأنه كان لها طابع "موضوعي" بخلاف الطابع "الذاتي" والتعبيري في الموسيقى الدنيوية التي ارتبط مصيرها بمصير البورجوازية. وإذا ما حلّلنا عملية علمنة الموسيقى الطويلة والمتناقضة، وجب علينا القول بأن الموسيقى ظاهرة اجتماعية في غاية الكمال: لقد تألقت من أنغام منظمة، يتعلق تنظيمها بتنظيم المجتمع في عصر معين. إن علمنة الموسيقى التي ابتدأت بالشعراء المتجولين، وبحركات الهرطقة الكبرى (أي مع التناقض الناشئ بين الفرسان وبين البورجوازيين) قد امتدت شيئاً فشيئاً حتى شملت الموسيقى الدينية ذاتها، بحيث تحولت إلى موسيقى اجتماعية بشكل نهائي. لقد كانت الموسيقى الكنسية القديمة مرتبطة بالكنيسة ارتباطاً وثيقاً؛ وكانت تحصل على "محتواها" من الطقوس، وكان هدفها من خلال عظمتها الصارمة واللاشخصية، ليس متعة السامع، بل إخضاعه، وإجباره على الركوع، والاندغام بالغاية الإلهية. ولكن إذا تأملنا مقطوعة "ستابات ماتر" لبرغوليز، فإننا نجد موسيقاها الطلية والاجتماعية أخّاذة، من خلال تناقضها مع الموسيقى الكنسية السابقة؛ إن مثل هذا الأثر الموسيقي لم يبقَ مرتبطاً بالكنيسة؛ ويمكن أن يعزف في أية قاعة كان، بوصفه قد اتخذ طابع الاوبرا. إن "المحتوى" ما برح ناتجاً عن النص الديني، ولكن الموسيقى تبدأ تلعب مع النص، وتنقل معناها إلى ما هو إنساني وذاتي، وتثير مشاركات عديدة ومختلفة. وبعد ذلك أيضاً "أصبحت مقطوعات باخ وهايندل (التي تهاجر صدفة من الكنيسة إلى صالة الموسيقى) العظيمة تمثل أنسنة عظيمة للمحتوى الديني، وبدلاً من أن تحطم النزعة الذاتية لدى السامع، أخذت تقويها وتؤكدها. وهنا حصل الفارق الكبير بين الرقة الاجتماعية في قداس لهايدن، وبين القدرة المتسلطة والمتصلبة في الموسيقى الكنسية القديمة! إن علمنة الموسيقى الدينية لتجد ذروتها في مقطوعة "ميساسولمنيس" لبيتهوفن، التي تضيق بها أية كنيسة. إن عزف هذه المقطوعة في كنيسة، لضرب من عبث، ذلك لأن ذاتيتها المعبّرة تثير الهزء بالإطار الصارم لكل طقس ديني. وليس في هذه المقطوعة أية نفحة من بخور، ولا أي أثر لغمامة ما ورائية؛ من خلال ازدرائها النص الذي تستخدم، فهي لا تتحدث عن الله، ولا عن الخطيئة، والتوبة، والسجود، والخضوع، وإنما تتحدث عن الإنسان الذي انتصب واقفاً، وراح يعلن عن ألمه وفرحه، وعن عظمته وانتصاره. إن "محتوى" هذا القداس ليس الله، وإنما هو الانسان في عصر ثوري.
لقد كانت علمنة الموسيقى التدريجية مؤثرة أيضاً على تطور الأشكال الموسيقية. وبمقدورنا، بشكل عام، أن نحدد الموسيقى المتعددة الأصوات كأنها موسيقى عصر اقطاعي، موسيقى نظام يجد فيه كل صوت مكانه، الواحد إثر الآخر دونما مزاحمة، وعبر طباق وزن دقيق؛ وبالمقابل، فإن تماثل الأصوات هو موسيقى البورجوازية الصاعدة، في عصر تبدل اجتماعي يصبح فيه مبدأ المزاحمة، فيما بعد، نضالاً طبقياً يتطلب من الموسيقى التعبير عن تناقض متزايد بين الموضوعات. وهنا لم تعد الموسيقى مطبوعة بطابع الموضوع الواحد المعالج بواسطة تعدد الأصوات، بل بواسطة نضال بين موضوعات مختلفة، وبتوترات وتناقضات غير معروفة حتى الآن، وبواسطة النزعتين: التعبيرية والحسيّة. إن الموسيقى لم تعد تتوجه إلى مجموعة متجانسة بل إلى "مستمعين" متباينين. وهذا ما لم يتم دفعة واحدة، ولكنه نضج في إطار الموسيقى القديمة ذاته، مثلما نضجت البورجوازية في اطار النظام الاقطاعي القديم. إن مبدأ الانسجام قد تسرَّب إلى عملية تعدد الأصوات التي مازالت قائمة، وهكذا مثلاً وجدنا باخ، وهو يبدو كأنه خاضع لقانون تعدد الأصوات، أول كبار المدافعين، فعلاً، عن مبدأ الانسجام. وبالحقيقة يمكن القول بأنه حيثما ظهر الانسجام والتعبيرية في الموسيقى، كانت البورجوازية تقرع الأبواب، مصعِّدة المزاحمة التجارية في إطار مزاحمة المواضيع الموسيقية.
لقد عبّرت علمنة الموسيقى عن السيطرة البورجوازية، فكانت كما لو أن التاجر حلّ محل الكاهن. وعند ذاك، كفّت الموسيقى عن أن تكون التعبير عن نظام ديني ثابت، وأصبحت تعبّر عن نزاعات عصرية. وقد نجمت السمفونية عن موسيقى "الباروك" الأحادية الموضوع، باعتبارها شكلاً جديداً من أشكال التناقض؛ وذلك لأن وحدة العصور السالفة قد أفسحت المجال للمزاحمة، وللتناقضات. وبهذا دخل الموسيقى عنصر ثوري جديد.
لقد كان هذا العنصر الجديد حاضراً بوضوح في بعض الأعمال الموسيقية، ولكنه ظل مبهماً ومستتراً في أعمال كثيرة أخرى، يعبّر عن ذاته بوصفه موقفاً عاماً، وبصفة كونه أحد اتجاهات العصر، وأشبه بمزاج خفي، اجتماعي تارة، وتارة أخرى فردي (إنسانية مفعمة بالثقة، وتفاؤلية بطولية ووحشة، وكآبة الخ...) أشبه بنزعة ذاتية طوعية أصبحت سيدة للشكل. إن إحدى الخصائص المميزة لهذه الموسيقى العلمانية، هي أنها أصبحت تتوجه أكثر فأكثر، شطر العارفين بالموسيقى، وذلك بعكس الموسيقى الدينية التي لا تستلزم وجود هاوي الموسيقى المثقف، وإنما تستلزم وجود جمع كبير من المؤمنين المتعطشين إلى مباهج دينية، لا جمالية. وقد بدا هذا في بادئ الأمر، متناقضاً مع طبيعة موسيقى مجذرة في عالم الناس الواقعي، ومتشرّبة في الغالب، الرقصات والأغاني الشعبية. وهذا العنصر الشعبي (الذي نجد أنفسنا غالباً ميّالين إلى المبالغة في تقديره) إلى جانب تعدد المشاركات الأوتوماتيكية الفنية التي تساعد المستمع، مثلما يساعده طابع التعبير والحساسية في الموسيقى الجديدة، كانت جميعاً تسمح بممارسة تأثير مباشر على جمهور واسع من المستمعين، حتى بالنسبة لأعمال موسيقية ذات بنية شكلية بالغة التعقيد على أُذنٍ مجتذبة. ولنأخذ على سبيل المثال، الحركة الأخيرة في مقطوعة "اوروسييكا" مع ندائها المباشر إلى جماهير العامة، والتي هي إحدى أصعب مقطوعات بيتهوفن من وجهة شكلية. فالطريقة التي يندمج بها شكل الإيقاع الباروكي البطيء (نسبة إلى فن الباروك) في سمفونية تفجّر أطر التقليد الباروكي، يجب بالضرورة أن تغيب عن فهم مستمعين متوسطي الفهم؛ فالعارف بالموسيقى هو وحده الذي يستطيع تقديرها. وقد كان هيغل أول من لاحظ هذه الخاصة في موسيقى عصره الآلاتية فقال:
"إن أول ما يحبه الرجل العادي في الموسيقى، هو التعبير الصريح عن التطورات والعواطف، والموضوع، والمحتوى، ولهذا فهو يفضل موسيقى المصاحبة. أما العارف بالموسيقى الذي ألِف علاقات الأنغام الموسيقية الآلاتية فهو على العكس، يحب الموسيقى الآلاتية بسبب معرفته خيوط الانسجام والتداخل النغمي، والأشكال المتعاقبة... صحيح أن الموسيقي قادر على اضفاء معنى ما على عمله الموسيقي، وتزويده بمحتوى من التصورات، والعواطف المتتالية عبر نظام ما، والمنسقة وفق بعض المناسبات، إلا أنه من ناحية أخرى، قادر على تركيز كل جهوده على بنية عمله الموسيقي الصرف، دونما اهتمام باستخدام أي محتوى... ولكي يمارس الموسيقي تأثيراً عميقاً إلى حدٍ ما، يجب أن يعير انتباهاً مماثلاً للتعبير عن محتوى محدد نسبياً، ولبنية عمله الموسيقية الصرف، هذا إلى جانب تمتعه بحرية اظهار تفضيلاته سواء بالنسبة للناحية النغمية، أو بالنسبة لعمق وصعوبات الناحية الانسجامية، أو باجراء وساطة بين هذين العنصرين في نهاية الأمر".
إن الطابع التجريدي الشكل لموسيقى لم تعد دينية، ولا مرتبطة بالدين ليتطلب مهارة، وبراعة، وإبداعاً دقيقاً. ولم يكن ذلك ببعيد عن المخاطرة فلقد أصبحت الموسيقى الآلاتية موسيقى خاصة، في الغالب، ومتعلقة بتقدير العارف بها وحده. وعلى أثر ذلك تطور نوعان من الموسيقى: موسيقى "النخبة" الغريبة عن الشعب، والموسيقى الشعبية المسلية والزهيدة بوجه عام. وبرغم كون الوهدة التي تفصل بينهما قد أصبحت قضية جدية في المجتمع البورجوازي الحديث، فإن تطورها يجب ألا يُبالغ في تبسيطه على صعيد علم الاجتماع. ويجب أن لا يسهى عن بالنا أن الكثير من أعمال باخ، وموزارت، وبيتهوفن وبرامس، الهامة، لم تكن آثاراً شعبية، ولا يتذوقها حتى اليوم سوى فئة محدودة من المجتمع. (إن توسيع هذه الفئة أحد أهداف التربية الموسيقية المنتظمة). وإذا ما أردنا الإقرار بحق الخبرة الموسيقية، والاعتراف بضرورتها الفنية، ينبغي لنا أن نأخذ شيئين بعين الاعتبار. فالمؤلف الموسيقي، شأنه شأن أي فنان آخر، يستجيب إلى حاجة اجتماعية في آخر تحليل. ولكن حاجته الشخصية، بوصفه فناناً، للتمتع بما يفعل، لموجودة أيضاً. ولقد كانت هذه المتعة محذوفة في الموسيقى الدينية، أو كان عليها أن تختفي وتتقنّع؛ أما في الموسيقى الدنيوية، فقد تخلص الموسيقي من قيوده، ووجد حقوقه. وعندما يقول هيغل بأن الموسيقي بمقدوره أن يهتم ببنية عمله الموسيقي الصرف، وبروح وأناقة مثل هذه الهندسة بمعزل عن المحتوى، فإنه يعترف بالمتعة الخالصة التي يحس بها كل فنان، عندما يستثمر الإمكانيات العديدة والمعقدة في فنه. (وقد ضربت مثلاً الحركة الأخيرة من مقطوعة "اوروسييكا" التي يهمل فيها بيتهوفن الطابع الثوري المشحون بشكل انفعالي بالسمفونية، لكي يستخدم الإمكانيات الشكلية، ويستسلم إلى متعة ممارسة براعته الفنية السامية).
إن المتعة اللامبالية في الظاهر، التي يجدها الفنان في حل قضايا الشكل الحادة الصعوبة، لتنطوي على عنصر خلقي جد رصين وينبغي علينا أخذه بعين الاعتبار عندما نتحدث عن طبيعة الفن وعن جوهره. ففي حقل الرياضيات، يمكن حل مسألة، ورفض الحل، وبالتالي، باعتباره قليل الإرضاء، إذا كان إعداده غير موفق. فعلماء الرياضة يتحدثون عن حلول وصيغ "أنيقة": أنيقة لا بصفة كونها صحيحة، بل بصفتها مرضية جمالياً من خلال إتقانها الشكلي. وكذلك الأمر بالنسبة للفن في أعلى درجاته: فالحل "الأنيق" للصعوبات الشكلية هو بحد ذاته صفة رئيسية. إن شكل الأثر الفني لأكبر من الوسيلة الموافقة لمحتواه: وهذا هو الحل الأصيل "الأنيق" للصعوبات التي لا يخلقها المحتوى وحسب، بل المتعة الخالصة التي يحس بها الفنان أثناء تجاوزها أيضاً. فالشكل هو دائماً ضرب من ضروب الانتصار، لأنه يشكل حلاً لقضية. إن صفة جمالية قد تحولت على هذا النحو إلى صفة خلقية: فالموسيقي لا يستطيع أن يعمل من أجل الرجل العادي فقط، لأن ذلك يفضي به إلى الفقر والركود، وخاصة في حقل الموسيقى الآلاتية. ولذلك، عليه أن يتصدى دائماً لقضايا شكلية، لا يتذوّق حلها سوى المستمعون المثقفون، الذين عليهم أن يعيروا المحتوى من الاهتمام مقدار اهتمامهم ببنية الموسيقى الشكلية، لكي يستخلصوا منه أقصى درجة من المتعة وإن كانت صعبة المنال. إن رهافة بعض الاكتشافات والحلول الشكلية قد تفوت الانسان العادي؛ وقد تبدو له أيضاً غريبة وبشعة؛ ولكنها مع ذلك ضرورة لإغناء الأثر الموسيقي، ولتطور الموسيقى (كما هي الحال بالنسبة لأي فن آخر). وهذا الإبداع الشكلي، هذا "اللعب" الرصين جداً بوسائل التعبير، هو بالضبط القادر على أن يشكل أحياناً صفة الأثر الفني. وقد ألمح ماياكوفسكي في دراسته عن فن الشعر، إلى "أغنية شارع مقفّاة" نظمها لجنود الجيش الأحمر الذين كانوا يدافعون عن بتروغراد، وقد لاحظ قائلاً، بأن: الجدة التي تبرر نظم هذه الأغنية كامنة في القافية... وهذه الجدة تجعل مجمل الأغنية ضرورياً، وشعرياً، ونموذجياً".
إننا نستطيع الافتراض بأن جنود الجيش الأحمر لم يأبهوا لهذا التجديد الشكلي، ومع ذلك، فإن شاعر الثورة البروليتارية العظيم يقول لنا بأن هذا التجديد هو الذي جعل من هذه الأغنية أثراً شعرياً، وأضفى عليها صفتها الخاصة. وهذا صحيح تماماً بالنسبة للموسيقى، حيث الشكل والمحتوى يتداخلان بعدة طرق، بحيث يتعذر فصلهما.
وبما أن للعنصر الشكلي مثل هذه الأهمية في الموسيقى، فإن "النزعة الشكلية" ممكنة بشكل دائم. ولكن، بما أن الموسيقى هي أكثر الفنون تشكيلاً وتجريداً. فينبغي لنا الاحتراز من اطراح بعض الآثار، أو بعض الاتجاهات "الشكلية" دونما سبب كافٍ: لأننا بهذه الطريقة نوشك أن نبرز آثاراً للنزعة الشكلية في موسيقى الباروك المتعددة الأصوات، وفي مقطوعات باخ المعدة للبيانو، وحتى في بعض مؤلفات موزارت، وبيتهوفن، وبرامس. وإليكم، ما هو برأيي وبكل وجدان، التحليل الذي أستطيع أن أعطيه للنزعة الشكلية:
أولاً، إنها المهارة الميسّرة التي تنوجد من أجل ذاتها، أي التي لا تهتم بحل قضايا بنائية في الموسيقى، بل ترمي إلى الاهتمام بالتكنيك الموسيقي الفاتن وبالشجاعة، والتأثير على المستمعين. إن المهارة الشكلية التي من هذا النوع، والبعيدة عن أن تأخذ مسافاتها تجاه المستمع، هي بالفعل، متصلة بانتباهه؛ وبمقدورنا، اذن، أن نتهمها، لا بالأنفه الفنية، بل بالغرور المستجدي التصفيق.
ثانياً، إنها تقليد بليد، وترديد خسيس للقوانين الموسيقية القديمة، وهي انسجام ورِقّة كريهين في عالم من التنافر، والأنغام الرعوية الوهمية المعدة لإخفات ضجيج المدمرات النفاثة. إن هذا النوع من الموسيقى "الحديثة" يعيش طفيلياً على رأسمال التقليد الموسيقي الأوروبي. وإن نزعته الشكلية لشكلية الأكاذيب: إنه أشبه بمأدبة مفلسين، تفتتح بنشيد المارسيلياز (وقد عزف لا بوصفه تحريفاً لأحد أعمال أوفنباخ، بل بوصفه معداً لجعل الشرهين ينهضون لكي يمجّدوا ماضياً بشعاً ومعيباً). إن هذا النوع من الموسيقى ليغتذي من محتوى منسي، ومن أشكال فقدت كل قوة، وكل معنى، ومن مغلّف فارغ، كان فيما مضى مليئاً بالحياة والعنفوان. وهو يستمر في تقديم ألحانه، كأنه لم يحصل أي شيء هام في المئة سنة الأخيرة، وكأن وظيفة الموسيقى في القرن العشرين، هي مضغ الموسيقى الكلاسيكية والرومنطيقية البورجوازية. هذه الموسيقى كانت فيما مضى عظيمة: أما مجاراتها، فيما الظروف قد تبدلت، بدلاً من البحث عن دروس في ذهن خلاَّق، فذلك ضرب من أفضل وأبأس ضروب النزعة الشكلية.
ثالثاً، إنها الرفض التعسّفي لكل حرارة وكل عاطفة. فلا جرم أنه كان من الضروري، عقب مرحلة من التدفّق الموسيقي الهستيري، اللجوء إلى اتخاذ حمّام بارد، للتخلّص من شحوم الموسيقى واستعادة عزّة وانضباط مفقودين؛ إلا أننا لا نستطيع القبول مبدئياً، بأن ليس للموسيقى أي قدر مشترك مع التعبير عن العواطف، وانها تمثل تجسيداً للشكل الخالص فقط. ولو أننا افترضنا أن بالإمكان الحصول على الموسيقى الكونية، وعلى لغة النجوم، والبلوريات، والذرات، والإلكترونات، باستبعادنا كل عاطفة، فإن مثل هذا المبدأ لن يكون، مع ذلك، مقنعاً. ولهذا يجب أن لا نطرح احتمال ما يمكن أن تعبّر عنه قوانين المادة اللاعضوية بشكل موسيقي؛ كما أنه يجب ألا نرفض التجارب التي حصلت في هذا الصدد. ولكن، يجب أن لا نستعد للتخلي عن الطابع الإنساني للموسيقى بوصفه تعبيراً عن العواطف، والمشاعر، والأفكار. فالموسيقى الدينية، التي كانت ترفض كل نزعة ذاتية، وتنزع إلى "موضوعية" اجتماعية محددة، كانت موسيقى رائعة؛ ولكن النزعة المنتحلة الصفة الدينية الباردة، والمتعقلنة، في موسيقى حديثة ما، وعودتها المصطنعة والمعدة بمشقة إلى عنصر "ديني" يتعارض تماماً مع محتوى عصرنا، لا يمكن تقديمها إلا بوصفها ظاهرة مرضية من ظاهرات التغرّب المفرط. وهذا ما يشكل نزعة شكلية واعية وصريحة، ترمي، عبثاً، إلى خداعنا بمحتواها "الكوني" الخفي.
إنني، وأنا أحاول شرح قضية الشكل والمحتوى في الموسيقى بإيجاز كلي، لمدرك تماماً ما يعتري محاولتي من نقص، ذلك لأن تبسيط الموضوع لعلى درجة من الخطورة. إن محتوى الموسيقى لمتعدد الوجوه، وهو خلافاً لسائر الفنون، جد صعب على الفهم. وبما أن هذا المحتوى كذلك، فإن تطور الموسيقى في المستقبل ستحدده قدرته على التعبير عن وضع جديد، وعن معنى للحياة جديد، وعن إدراك جديد، وروح جماعي، هي جميعاً، وضع ومعنى حياة وذكاء وعقل الطبقة العاملة الجماعي.


إرنست فيشر

ضرورة الفن|

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق

olfa:

merciiiiiiiiiiii beaucoup

tunis

عمارأديب عباس:

ممتاز ممتاز -بارك الله فيكم

سورية الأسد

اميمة :

اعجبني الموضوع كثيرا ششششششششششششكككككككككككككككككككررررررررررررررررراااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا

المغرب

محمد يونس الأحمد:

نص ولا أروع شكرا لكم

سوريا

رحيمة:

waw nass raw3a merciiiiiiiiiiiiiii beaucoup

المغرب