مروان قصاب باشي في حوار مع اكتشف سورية
20 12
ربما لم تكن الأيام الثلاثة التي قضيتها بالقرب من الفنان مروان قصاب باشي كافية للتعرف إليه، فرحلة فنية متفردة تجاوز عمرها الخمسون عاماً لا يمكن الإحاطة بها بأيام. لا أقول أني استطعت فك شيفرة لوحة مروان ولا أعترف أني فشلت، وبقيت معلقاً ما بين اللون والصوت، وربما بهذا أختصر رحلة الاقتراب من مروان ولوحته، ولن أكون الوحيد الذي أطلق على تجربته عنوان التفرد.
«اكتشف سورية» التقى التشكيلي مروان قصاب باشي وكان هذا الحوار.
هل يمكن الحديث عن هدف واحد في لوحتك، هو الوصول إلى الذروة والشهقة الانفعالية كنتاج لعلاقة حب في اللوحة، أم يمكن الحديث عن أن اللوحة تصبح لديك سلماً للارتقاء والاتحاد؟
أعقد الأشياء أبسطها، فالغاية الأولى والأخيرة هي الصورة، وكيف تكون الصورة، الشاعر يكون هدفه القصيدة، أما المصور فيكون هدفه كيف يأتي بالصورة.
.. لكن للصورة عدة أبعاد ومستويات فمثلاً: هناك الصورة الحسية المادية المباشرة، والصورة الحسية غير المباشرة أو فوق الحسية، أو الصور العقلية والروحية، عن أي صورة تتحدث؟
لا يوجد إلا صورة واحدة، ولكل رسام صورة ولا يوجد صورة مطلقة أو غير هذا، يمكن القول أن هناك طرقاً للتعبير عند الرسام من زاوية معينة فبعض الرسامين يعبرون بالتجريد أو بطرق أخرى، وهذه الطرقات بالتعبير ليست متسعة كثيراً، وتختلف هذه الصورة من رسام إلى آخر بفروقات طفيفة، أعتقد أن كل شيء قد قيل، والاختلافات الآن بهذا الهامش الضئيل من المساحات الباقية، وهذا من سنين طويلة، وهذا الطريق المتمثل بهذا الفارق لن تجده إلا بالعمل الطويل وبالخبرة والطويلة وعبر الزمن لتشكل من خلاله هذا التميز، وطبعاً يتدخل بهذا ما لديه من ميول ثقافية وحسية وإنسانية وهذا يوثق لشكل الصورة وهي الهوية الشخصية، الآن يستعمل الأدب أكثر من اللزوم في الصورة، أو للتعبير عنها، هذه مغالاة، وهناك مغالاة أيضاً في ترجمة الصورة عبر الكتابات التشكيلية، إنهم يغالون في التعبير عن الصورة أو أنهم لا يعبرون عنها، ألهذه الدرجة فقدت الكلمة شرفها!؟ فاللون شرف وللّوحة شرف، وللكلمة شرف، وهذا الشرف لم يعد موجوداً.
..أستطيع تفهم وجهة نظرك، لكن يمكن توضيح أن البحث والقراءة في لوحتك ليس عملية سهلة، فهذا الهامش من الخصوصية الذي تقدمه يأخذنا في الكثير من الاتجاهات وهذا يربك متلقي لوحتك سواء كان محترفاً أو عادياً.
المتلقي مثل الفنان وهي موهبة، فاللوحة ليست سبيل ماء يشرب منه الجميع، مثلاً هناك من يرى أن المتنبي هو الشاعر الأول والأخير، لكن هناك آخرين يعجبهم الشعر الحديث، في الصورة الأمر أصعب، فإذا لم يكن للمتلقي الموهبة الداخلية لدخول عالم اللوحة فإنه لن يستطيع التواصل معها، وهذا لا يتم بالتعلم لأن هناك شيئاً ليس موجوداً، وهذا حسب تجربتي الشخصية، فيمكن أن يتلقى لوحتي المعقدة إنسان بسيط، ويتلقاها بصدق وجدانه، أكثر بمئة مرة من إنسان مثقف ويعرف بتاريخ الفن، هي هبة إلهية، فاللوحة لا يتم التواصل معها بأمر من أحد، وسيكون جيداً لو استطاع واحد من بين الكثيرين التواصل وجدانياً مع اللوحة. التقيت بكتاب مشهورين عن تاريخ الفن وعندما يتكلمون عن اللوحة فهم يتكلمون عن اللوحة عن بعد، دون أن يستطيعوا في أحيان كثيرة الدخول إلى عالمها الوجداني.
.. كما أفهم منك فإن الصورة في لوحتك، أو لوحتك الصورة هي انعكاس وجداني لك، وعلى المتلقي ليستطيع التواصل مع لوحتك أن ينفتح وجدانياً على وجدانياتك في اللوحة حتى يستطيع بطريقته التواصل معها، وبعيداً عن أي توصيف، لأن أي توصيف سيكون انطباعياً وذاتياً، وربما سيكون بعيداً عن لوحتك، هنا سنقع من جديد في عدم القدرة على التواصل الحقيقي مع لوحتك أو معك، ما الحل؟
مثل أي وردة لوحتي، ربما ينجذب إليها شخص، ويجثو قربها ليضمها ويشمها ويتنفس خلاصات عطرها، وربما يمر بها شخص آخر دون أن يلتفت إليها، وأنت لا تستطيع أن تطلب أو تعلم هذا الآخر كيف يهتم أو يتواصل مع الوردة لأن هذه موهبة من الله. الفنان يعمل بالدرجة الأولى لنفسه وهو عندما يعمل لنفسه يكون يعمل للآخرين، أما الفنان الذي يعمل للآخرين فيكون لا يعمل لنفسه ولا للآخرين.
.. في هذا الإطار أنا أحترم ما تفضلت به، وخصوصاً عندما تعرفت البارحة على إحدى لوحاتك التي تعود إلى عام 1956 والتي فيها بذور توجهك وأسلوبك الحالي.
عذراً لمقاطعتي، في هذه المرحلة كنت قد بدأت مرحلة البحث عن الأنا وقد اقتضاني الكثير من البحث والمحاولات بعيداً عن التأثيرات الانطباعية قبل هذا والتي لم تكن لترضيني، فقد كنت أبحث عن الأكثر، أما في ألمانيا فماذا كنت سأرسم؟ المنظر الطبيعي الذي لا يشدني إليه فالطبيعة الألمانية لم تكن طبيعتي، كي أرتبط وجدانياً مع هذا المنظر أو الغابة، فبدت رؤيتي الشخصية الداخلية الوجدانية التصويرية للكون والعالم تتبلور في هذه المرحلة (1956-1959) كلوحة «بنت آمنه» أو «الشمس السوداء»، وطبعاً لوحة بنت آمنه (الكسيحة) كان لها جذور في الواقع، هذه الرؤية أثرت فيّ إنسانياً ووجدانياً، وقد عالجت الأمر تشكيلياً من خلال هذا الحوار بيني وبينها كصورة وكيف قمت ببناء هذا الشكل، وكيف قمت بعد ذلك بالتواصل معه إنسانياً، وكيف صهر الموضوع في بوتقة همي الإنساني والبنّاء في صياغة ومعالجة اللوحة. أو مثلاً لوحة «اللاجئين» أو «المستحمة» والتي جاءت من فيضان داخلي بعد دخولي لإحدى الحمامات لا سيما واللوحة نفذت بمرحلة المراهقة، وقد شاهدت هذا المثلث على جدران الحمام، والمثلث رمز جنسي معروف، وعندما قمت برسم هذا العاري كان الجسد أصفراً تنسدل عليه تلك الضفيرة السوداء التي تشق الجسد إلى نصفين وتنتهي عند هذا المثلث التي صار أسوداً، وكل الإضافات التصويرية التزيينية حذفتها لأركز على هذا المشهد الذي أريد قوله، هذا الشيء الذي صار«حدا» فأنا أبحث على الدوام عن هذا الحدا أو الشيء. كل الصور التي تدخل إلى وجدانك الفني المعلم تصير في دائرة واحدة، الحسية والحلم والوجدان والبنائية من أجل صياغة اللوحة.
.. العناصر الحسية من تكنيك ومعالجات ورؤى تصويرية على سطح اللوحة لا تكون لذاتها الحسية، بل كل هذا هو بمثابة اللغة لديك، كيف لنا أن نفك شيفرتها؟
هناك شيء خارجي موجود يجب أن يدخل قنواتك الإبداعية والتصويرية والخيالية والفكرية والتأملية، لتعالجه بطريقتك الخاصة، ليكون شيئاً إبداعياً آخر، الخيال هو التصور الذي يأتي من العالم غير الملموس إلى العالم الملموس، وهناك مثل ألماني يقول: إن الإنسان لا يخرج من جلده، هناك مثل وحش في داخلك أو دودة تتحرك باستمرار وتنخر وتريد الخروج إلى اللوحة، وهذا أسميه قلق وتوتر الإبداع.
هل نتفق على أن لوحتك كانت على الدوام ترصد الحالة السلبية (تعبيرياً) للوجوه، آخذاً بالاعتبار معنى كلمة تعبيرية، السؤال هنا أين الصورة الإيجابية المقابلة لهذه السلبية إن جاز التعبير، علماً أنك من الفنانين الذي يؤمنون بالثنائيات؟
كل لوحة مهما كانت ظروفها هي تعبير، أما بالنسبة للتعبيرية الألمانية فقد جاءت بظرف معين قبل الحرب العالمية الأولى، وكان هناك فنانون شباب (1905) وكانوا متطرفين في كل شيء وثائرين على كل شيء ونزقين حسياً واجتماعياً وجنسياً، والتعبيرية لديهم كانت تحتوي على المغالاة، وقد ارتبطت بفترة زمنية تاريخية معينة. لا يوجد لوحة جيدة أو لوحة لا بأس بها، إما يوجد لوحة أو لا يوجد لوحة. أما من يقولون عن لوحتي وأنها تنتمي إلى التعبيرية الألمانية فأقول: إن لوحتي قطعاً لا تنتمي إلى التعبيرية الألمانية ولا في أي مرحلة من مراحل تجربتي ولا حتى في النظر أو الشكل في لوحتي. من الخطأ القول عن اللوحة تعبيرية وهذا خطأ شائع جداً، العمل الفني دائماً تعبيري، اللوحة ككل شيء واحد وأنت لا تقول عن هذه التفاحة: تفاحة، التفاحة تفاحة سواء كانت حمراء أو صفراء أو خضراء.
.. السؤال لم يكن عن التعبيرية وما قلته أعتبره فائدة لنا، كان السؤال عن التوازن والثنائيات بفكرك وعملك، وهذا ما يقوله النقاد الألمان عن تجربتك في أنها تحتوي هذا الألم والمعاناة وقد يكون هذا الوجه السلبي في وجوهك. سؤالي أين الوجه الايجابي في وجوهك، الطرف المقابل للمعاناة أو الألم؟
كلمة تعبير سلبي خطأ خطير مئة في المئة، الموجود هو الحزن الخفيف وهذه اللمحات غير المحددة من التساؤل، لكني لم أحددها بقواميس، لأنه إذا حددت ماذا سترسم ستكون فاشلاً، وإنما تحدد على أساس انك بنّاء (بناء شكل)، وإضافة لهذا لديك شخصية معينة، كأن تكون مرحاً أو عبثياً، لكن عندما تقول عن اللوحة أنها سلبية فيجب أن ترميها، صحيح أن لوحتي تحتوي طابع الحزن لكن فيها منتهى القوة وفيها إحساس الصخرة والعمود، وإن كان فيها طابع التساؤل وهذا عظيم، كما أن فيها ثنائية الموت والحياة، وهي تحمل باستمرار هذا التساؤل عن فجيعة الحياة، وإذا اعتبرناها رحمة وهدية إلهية، لكن هذا التضاد بين الحياة والموت تشعر به وأنت ترسم، لكن الآخر المتلقي ليس لديه هذا الهاجس وهذا ليس مشكلته، لكن يمكنك أن تأخذ هذه الأقطاب، كفان كوخ، مونيه، غويا، بيكون، هؤلاء يقدمون شبق الحياة والتحدي الكبير المتلخص بهذه الصفة المتعلقة بالحياة والموت، بالحزن المضمر والجرح، أنا لا أرسم الحياة والموت، هناك صفة موجودة في اللوحة نتيجة السيرة الذاتية الحياتية التي يعيشها الفرد بكل الخبرات والتأثيرات المختلفة والخاضعة أيضاً للجغرافيا، وعندما ترى التعبيرية الألمانية والوحشية الفرنسية ترى الفارق الجغرافي، الوحشية الفرنسية ناعمة ولطيفة، بينما الألمانية تراها راديكالية ومتطرفة وشرسة.
.. بالحديث عن المسألة الجغرافية أريد أن أفهمك أكثر وأستعرض هنا ما قاله عنك إبيرهارد روترز: «لقد وجد مروان دمشقه الفنية في باريس» ماذا كان يقصد روترز؟
المقصود فيها أن الهوية الخاصة لدي كتجربة فنية ومنذ الولادة الأولى (وهنا يقصد الولادة الفنية) وقد رسمت أشياء كثيرة منها ماهو عن السهوب والبداوة والحور والطير والسحجة (رقصة بدوية)، وهي بمثابة الدينامو الإبداعي وطاقتي هذه هي الصرة أو البقجة الخاصة بي، أنا فتحتها ولا زلت حتى اليوم أرسم منها.
..إذاً ما قاله روترز صحيح، أي أنك تنتمي بإبداعك إلى دمشق؟
إنسانياً وإبداعياً أي أن النبعة هي دمشقية.
تقول في كتاباتك: «إن الفنان هو أيضاً صانع، أي ليس مجرد حالم فقط»، بدون حلم وخيال ماذا يبقى في اللوحة؟
هناك تصور شعبي يرى أن الفنان يبقى شارداً ويحلم، وطائراً في عوالم أخرى، لكن الحقيقة أن الرسام مثل الحداد أو النجار ولكن عن طريق الفكر والثقافة والفن، وعندما يدخل الفنان محترفه يدخل إليه ولديه التصور والصراع، واللوحة لا تأتي كفكرة وتنفذ على الفور بتوزيع المساحات اللونية والأشكال، اللوحة عمل شاق وصعب كما الدخول إلى مصنع وتتطلب الكثير من العمل والعذاب.
عملت في مصنع صباغة وتقطيع جلود، وبعد خمس سنوات من العمل الشاق والصعب كان أول معرض لك، وكان يمكن أن تترك العمل للتفرغ للفن، إلا أنك بقيت بعد هذا المعرض لأكثر من سنتين، السؤال هنا، إلى أي حد ترك عملك في هذا المصنع تأثيراته وظلاله على اللوحة؟
عملت في المصنع من أجل أن أكسب ثمن رغيف الخبز وفنجان القهوة، عدا ذلك لم يكن للمصنع تأثير آخر، لقد كان هناك فصل تام بين العمل والرسم، وغالبا ما كنت أحلم بما سأرسم وأنا أقطع الجلود في المصنع، وعندما أعود إلى المنزل، كنت أضع هذه التخطيطات وأقوم بهذا الحوار حول كيف سيكون الشكل وأجزاء الشكل على الورق، وفي عام 1967 تم اكتشافي بواسطة هافتمان (الذي كان مدير المتحف الوطني للفن المعاصر) وهذا الشخص كان بمثابة الضمير الفني وله رؤيته الخاصة والعميقة دون مجاملة وبعد أن رأى أعمالي أبدى الكثير من الإعجاب بها، تلك السنوات كانت بمثابة امتحان.
.. لقد كان هافتمان صديقاً مقرباً من بيكون وسوتين، وكان معجباً بالاثنين، وتجربتك هي قريبة من الاثنين ولكن لا تشبههما..
لأختصر عليك، النقاد الألمان لم يستطيعوا أن يضعوني في مدرسة، لذا قالوا عني أنني رسام فردي.
بما أننا مررنا على بيكون وسوتين، هل يمكن اعتبار تجربتهما كتعبير تحمل هذه الشحنات السلبية أو الإيجابية؟
هذا خطأ، لا يوجد سلبي أو إيجابي، سوتين مصور حسي هائل، يمتلك هذه الرؤية الشبقة للعالم، هو قادم من التصوير، والتحوير على الصورة وإعادة بناء الرؤية في الصورة. أما بيكون، فهو من الرسامين الكبار وقد أخذ مأساة العصر الحديث كالتمزق والفجيعة والانتحار والتي تعود إلى تجارب شخصية ومعاصرة من الحرب العالمية الثانية، وهو مصور جيد أخذ قضايا الإنسان والتعبير عنها بطريقته.
لقد عملت لفترات طويلة على مواضيع الفدائي واللاجئين والقضية الفلسطينية، والقدس، كيف لا زلت تنظر إلى هذه القضية اليوم؟
هي سكين وجرح في القلب على مدار اليوم وأكثر من ذلك، مأساة فظيعة تعكس الحقد العنصري الصهيوني والحقد العرقي الصليبي، والعرب يجب أن يعلموا في المدارس أنه هناك فرق بين اليهودي والصهيوني والإسرائيلي لأن هناك عدداً كبيراً من اليهود في العالم مع العرب والفلسطينيين أكثر من بعض العرب، وهناك الكثير من الإسرائيليين ضد الإسرائيليين العنصريين (الصهيونيين) أما الصهيوني فهو عرقي فاشستي.
إما لوحة جيدة أو لا يوجد لوحة، هذا ما تقوله، فهل من الممكن أن نتعرف كيف تنظر إلى اللوحة الجيدة التي يجب أن توجد لتستحق هذه التسمية؟
اللوحة الجيدة؟! لتنظر إلى لوحة مونيه أو سيزان، فان كوخ أو إلى عمل تخطيطي لجوكوموتي أو موراندي، فهذه الأعمال فيها الكثير من الفرادة، ويمكن لهذه الأعمال أن تهز مشاعرك ووجدانك وتعطيك المواساة والفرح في الحياة، أما الباقي فمرتبط بموضة أو بالحداثة، بالصنعة والتسويق، لا يوجد اليوم لوحة تحدث فعل جرح السكين أو الصرخة الخارجة من الكبد، هناك لوحة لمالفيتش (المربع الأسود) فيها هذه الصرخة.
.. هل تعتبر أن لوحة مالفيتش (مربع أسود) عمل جيد؟
هو عمل عظيم وتاريخي ومطلق وشق التاريخ شقاً، اللوحة إما موجودة كلوحة أو غير موجودة، بغض النظر عن المزايا أو الحديث الذي تقدمه.
.. بما أننا تحدثنا عن مالفيتش، لنقترب من التجريد، فأنت لم تقدم لوحة تجريدية مباشرة لكن لوحتك تحتوي هذا التجريد، بالعموم كيف ينظر الفنان مروان إلى الفن التجريدي؟
هناك سوء فهم فيما يقال بأن اللوحة التي لا تفهم هي لوحة تجريدية، وأنا أرى أن هذا خطأ، وأرى أن سيزان من أعظم الفنانين التجريديين، وبالنسبة إلى فان كوخ فهو تجريدي، بحيث لم يعد عنده قراءة عقلية ذهنية للوحة، وإنما فصل من الطبيعة، طبيعة أخرى وقوانين جديدة، الأمر يتلخص بقوانين جديدة أنشئت عن الطبيعة بعد أن أدخلت في القناة التصويرية والذهنية والإبداعية الشخصية.
.. بالتوازي مع طرحك يمكن أن نرى عملك تجريداً أي أنك تنزع من الشكل الطبيعي، وتحول الشكل الذي يمر من قنواتك الفكرية والإبداعية ليتحول إلى شكل آخر له قوانينه الخاصة؟
طبعاً، طبعاً، الرؤية التي تحتويها اللوحة فيها هذا، لتنظر إلى القوانين البنّائية في اللوحة سواء على الرأس أو الدمية ولو كان هنا الآن جهاز إسقاط لوضحت عملية البَنّاء والعمارة والقوانين الخاصة التي أنتهجها في عملي، أي أني لست ملتهباً عاطفياً لأعمل وأعمل فقط، لا فمع هذا الوهج العاطفي هناك قانون حسابي بنائي ومعماري في نفس اللحظة.
.. إذاً أفهم منك أن التجريد كفن لا تعترض عليه؟
لا.. لا، الفن العظيم دائما مجرد.
بعد أن اتخذت الوجوه ثم (الرؤوس) لديك شكلها العامودي مشبعة بخلاصات بحثك التشكيلي والوجداني، نراها تتصاعد لكنها لا تزال محتفظة بذات الثقل من حيث الخامة اللونية والمعمارية كما كانت في حالتها الأفقية السابقة، كنت أفترض أن هذا التصاعد سيخلصها من بعض ثقلها، لنشعر بالاختلاف بين المرحلة الأفقية والعامودية؟
المرحلة الأفقية من تجربتي أسميها الأم مجازاً، الأرض، التراب، سورية، دمشق، الميدان، كل هذا هو الأم. في عام 1983 كان هناك فاصل في تجربتي وهي مرحلة الدمية، بعد هذه المرحلة بدأ في داخلي شيء، حلمي يتحرك بما يشبه نهوض الجذع، أعتقد أن المسألة لها علاقة بالعمر، فبعد أن كان عملي يتخذ شكله الأفقي، تحول العمل لدي ليأخذ شكل الصعود والهرم واختراق الجذر للتربة، كما الشجرة التي تتصاعد وتتآكل بقوة وروعة، هذا التصاعد كان يتحرك فيّ، وله علاقة بالصعود والبناء والشجرة والحياة. بالنسبة لحجم اللوحات هو ليس قراراً أني أريد أن أرسم لوحة بقياس معين بل أعيش الحالة جسدياً وفكرياً، وأحياناً تكون بقياس 195- 130 سم، وبحس البنّاء فإنني لو شعرت أن اللوحة كان يجب أن تكون أعرض بثلاثة سنتيمترات فإنني لا استطيع إكمال اللوحة وتفشل، لأن الحيوية الموجودة في اللوحة والتحدي ينبغي أن يعبر عنه الشكل من ناحية البناء، وإذا كان هناك قصور أشعر بـأن اللوحة ستفشل، الحجم ضرورة جسدية في بناء اللوحة، وما أراه هنا أو في أوروبا أن الكثير من الفنانين الجدد يريد لوحة من مترين أو ثلاثة أو أربعة أمتار.
..هل هذا الهاجس الداخلي بالنسبة لحجم اللوحة تفرضه معطيات العمل بعد الشروع بتنفيذه ثم تكتشف أنك بحاجة لمساحة إضافية، أم أن العمل يخضع لحسابات نسبية معينة قبل البدء في العمل؟
لا، أنا لدي مقياس معترف عليه قائم على المثلث الذهبي، فمثلاً أعمالي الصغيرة لها نفس الحضور بالمقارنة مع اللوحات الكبيرة، لأنني أختار الحجوم والحضور في وقت واحد وبشكل متناسب.
..اسمح لي أن أعود إلى السؤال، بعد انتقالك من المرحلة الأفقية للوجوه إلى المرحلة العامودية التي تركز بها على الرأس والتي تعني الفكر والصعود والعمر والتسامي والاتحاد، لا زالت اللوحة رغم ذلك تحتفظ بذات السماكات اللونية، أنا أفترض روحياً ومادياً، أنه في المرحلة العامودية كان يجب أن تتخلص من بعض كثافاتها، أم أن هذا ليس له علاقة؟
لا ليس له علاقة، ومن الممكن أن تقول أن هذه اللوحات العامودية لم تكن عامودية كلها بل هناك لوحات أفقية هامة جداً، الكثير من الترسبات والتكاثفات المادية في الثمانينيات والتسعينيات كانت تتراكم فوق اللوحة طبقات وعمراً وخبرات وألوان، حتى إنني كتبت كلمة أتحدث فيها عن هذا بعنوان التراكم والترسب.
.. هل تقصد بالتراكم والترسب على سطح اللوحة أم بداخلها؟
لا، على سطح اللوحة لكن نتيجة الحس الداخلي.
..لا زلت لم أتلق الإجابة على السؤال، عندما انتقلت إلى المرحلة العامودية بقيت اللوحة تحتفظ بنفس السماكات اللونية، هذا لم أفهمه؟
هذا ليس له علاقة فكل لوحة تقرر نفسها، وكل لوحة لها قصتها الببلوغرافية الخاصة بها، ليس هناك تصور مسبق، هناك بعض الخدع يقوم بها البعض بأن يضعوا بعض المواد ليشكلوا منها سماكات تحت الألوان، ليعطوا تضاريس للوحة، وليشعروا الآخر أن فيها طبقات لونية هامة، لكنها هي غير ذلك، لأنه ليس فيها هذا الترسب، وهي نتيجة صنعة، هي طريقة ووجهة نظر، أما بالنسبة لي، فاللوحة تصور كيف يتراكم عبر اللون كل من الأرض والمطر والسيول التي تنحدر إلى الوديان، فيها مصير الإنسان وفيها الزمن.
عمار حسن
اكتشف سورية