وليد الآغا في حوار مع اكتشف سورية

25 10

عجائن اللون والحرف والتراب

الحديث عن لوحة وليد الآغا لا ينفصل عن طعم ورائحة التراب وكل إشراقات الشمس التي انسكبت فيه، فالتراب صلصال الحرف وكساء البيوت الأول وهو آنية الكلام كرقم، ومكان لأسرجة الضوء، منه وفيه كان القمح وولادات الإنسان وصولاً حتى الغناء على بيدر اللوحة التي تعيد بلونها وشغفها سقاية الجذور لتورق رؤى مكتنزة ليس بالمبصورات وحدها بل بشفيف الأرواح التي تتطاير دندنات مخمورات بهذا الكثير، من سورية قصائد الجمال كرحم وأم ليس لنا وحسب بل للإنسانية أيضاً، ثمة رهبة وأنت تدخل من تحت أقواس اللوحة لأنك لو أطلقت روحك بها ستكون جسر حب لكل المحبة، لوحة قد لا تجيد عيناك احتضان أبعادها، لكنها ستجيد بالتأكيد احتضان عينيك، وبقدر ما تفتح قلبك لها سيمتلئ عطراً!

«اكتشف سورية» التقى الفنان وليد الآغا على هامش معرضه في صالة تجليات وكان هذا الحوار:

تمثل لوحتك دعوة للتنقيب في ذاكرة المكان والإنسان، وإذا افترضت أن هذا صحيح، فعن ماذا تنقب، وكيف للمتلقي أن يتعرف على هذه اللقى؟
أنا ابن هذه الأرض، ومن الصعب أن أقول أني أنقب عن ذاكرة لأني ابن هذه الذاكرة وامتداد لها، أنا لا أقوم بأرشفة هذا التاريخ أو وصفه، بل أحاول تصعيد ما هو متوارث فيّ لأسقطه في اللوحة، ودون أن يكون قصدي السرد البصري أو التاريخي، عملي هو محاولة لتأصيل الذاكرة عبر سياق تشكيلي متضمن لهذا الموروث الذي أعيشه وتقديمه بلغة فنية معاصرة، الموروث السوري البصري من رموز وأعمال فنية لا يزال موجوداً في الأوابد وهو يحمل صفات تشكيلية وغرافيكية تحرض المتلقي لها على الدوام بحيث يمكنه إعادة بنائها وتوظيفها في إطار لوحة معاصرة مانحاً هذا الموروث الذاتي والشخصي الخاص، وما أريد أن أوصله متعلق بالزمان والمكان والجغرافيا وهذا ما أعمل عليه مستفيداً من معرفتي عن وسط وجنوب وشمال سورية، كل هذه الرقعة من بلاد الشام تمثل منطلقاً لي في محاولات تقصي مفردات لوحتي كتشكيل وفكر وجمال. أما كيف أحرض المتلقي على التعرف على اللقى في لوحاتي فهو ما يحدث في كل معارضي فأنا أتلقى على الدوام هذا النوع من الأسئلة حول لوحتي وما في لوحتي، أنا أسلط الضوء على ثراء المنطقة، فمثلاً الكل يعرف شيئاً عن الأبجدية، أنا ارسمها، وهذا لا يعني أني أسجلها فقط، أنا أفعّلها في إطار امتزاجها مع هذا التراب والإنسان، الكل يسمع بالرقم الطينية، إلا أني أصنع منها رقماً تخصني وتخص المتلقي اليوم، فالمتلقي ليس باحثاً تاريخياً ولا أنا، لكننا نلتقي حول مدى ارتباطنا روحياً بهذا التاريخ وتلك المفردات، وإذا عدنا إلى الإنسان الريفي البسيط في بلاد الشام سنجده لا يزال يستخدم بشكل فطري وعفوي هذه المفردات والأشكال والرموز من خلال ما توارثه من ذاكرة بصرية، ومن خلال ما يزين به منزله من رسوم، وإن كان لا يعرف ما تحمله هذه الرموز من مضامين حياتية ووجدانية ودينية ربما للسوريين الأوائل، فعلى سبيل المثال: عندما يرسم حول باب البيت شجرة أو شجرة مع سمكة أو مثلثات متكررة أو بعض الزخارف، فإنه يستقي هذه الأشكال من وجدان المنطقة البصري، وما أفعله أنا هو أنني أعيد هذه الأشياء إلى فضاء الذاكرة لإعادة قراءتها أو تذكرها، لوحتي تؤكد على هذا التواصل.

حرارة اللون في لوحاتك كيف تشبه ذاك الزمن الذي تتحدث عنه؟
سورية هذه تمتلك أطياف اللون الكوني، لامتلاكها البحر والجبل والسهل والصحراء، وهذا فيه كل الغنى اللوني، مما يعد أكثر بكثير مما يمكن لأي كان أن يعبر عنه في لوحاته، فانا ابن هذه الجغرافيا وترابي يمتلك الكثير من الألوان، الدفق اللوني في كل مكان، فكيف إذا أضيف إليه ألوان عشرة آلاف عام من الحضارة! هذا على صعيد المكان، أما على صعيد الإنسان السوري ومستلزماته فنراه يمتلك الكثير من الغنى اللوني سواء في ألبسته أو أوانيه ومستلزمات بيته، فثمة الكثير من المفاجآت اللونية في كل الأمكنة، هنا اللون مفردة يومية تمتلك الكثير من الحيوية والحرارة التي تعود إلى الجذور، فهل ينسى أحد أن الأرجوان جاء من هنا، اللون لدينا يحمل ذاكرة خصبة وما أحاول أن أقوله في لوحتي هو تسجيل لهذا الانتماء اللوني الوجداني والذاكري، وبحكم أني أنتمي لهذه الذاكرة وذاك الزمن فستكون لوحتي تتمة لهذا الامتداد.

الخط في لوحتك مقروء كإشارة وعبق، كيف نفهم أن لوحتك ليست حروفية؟
أنا لست خطاطاً لأني لا أتعامل مع الحرف من خلال قواعده ومعاييره ونسبه، وإنما أستعيره استعارة لأترجم روح الحرف كشكل وعلاقات بصرية غرافيكية تميزه عن سائر الحروف في العالم من خلال تراكيبه وأشكاله وأنواعه، بالنسبة لي لا آخذ دور الخطاط بقدر ما آخذ دور الباحث الجمالي في هذه المفردة وإعادة الحوار معها بنائياً في إطار عمارة اللوحة، ولكن دون الغوص كلاسيكياً في معمار اللوحة القائمة أساساً على الحرف، الحرف بالنسبة لي مضمون روحي وجمالي وانتمائي.

كيف أفهم منك هذه المصطلحات(مجازاً): اللوحة الحروفية، اللوحة الخطية، اللوحة الحروفية التشكيلية؟
اللوحة الخطية: هي التي تعتمد على رسم الحرف ضمن معايير وقواعد الحرف العربي، وتفرد الفنان يكون ضمن هذه المعايير، فلا يمكن أن نقول أن تراكيب الخطاط الكبير بدوي الديراني مثل تراكيب هاشم البغدادي مع أنهما يعملان على نفس القواعد، لكن تجويد كل منهما له سمته الخاصة، فالخطاط لا بد وأن يمنح من روحه للخط ومن هنا يأتي تميز الخط العربي وعدم جموده.
اللوحة الحروفية: هي التي تستند على الحرف ولكن بهامش حرية أكبر في التعامل مع القواعد.
اللوحة الحروفية التشكيلية: هي قريبة من الحروفية باستعارتها إيقاعات الحرف، ولكن ليس بالضرورة الحرف الكلاسيكي، وربما تكون الكتابة اليومية مفردات تشكيلها البصري.

ثمة الكثير من الأشكال والإشارات والرموز في لوحتك، هل نتحدث عنها؟
يمكن اعتبار أساس بناء اللوحة لدي هو الرمز، لكن هذا الرمز غير بعيد عن الحرف العربي أو المسماري أو النبطي أو أبجدية جبيل، وإذا ما بحثنا في هذه الخطوط نجد أنها مجموعة من الرموز والإشارات والأشكال، وأنا أحللها كأشكال ومفردات غرافيكية لتكون ضمن تشكيل اللوحة كنواة وإطار تستند إليه مجمل تجربتي الفنية، مثل شجرة الحياة التي تعني فيما تعنيه علاقة الإنسان بالمادي والمعنوي، المثلثات هي أيضاً ضمن الرموز التي أستخدمها وقد تأخذ نمط الإشارة أو نمط التشكيل الزخرفي والشكلي كما في العمارة السورية القديمة، إضافة إلى الأسماء وأنواع الأشكال الهندسية والخطوط، إلا أن النقطة تعد أساس الرمز، ومن هذا الكل أضيف تأليفي الخاص لأشكال جديدة.


وليد الآغا يتحدث عن لوحته في حوار مع اكتشف سورية

التشكيل الطباعي جزء أساس في لوحتك، لماذا يلجأ الفنان وليد الآغا إلى الحفر على كليشات لتطبعها لاحقاً على اللوحة، لماذا لا ترسمها؟
أنا لا أطبع بمفهوم الطباعة وإنما أجسد من خلال قراءاتي للأختام السورية التقنية التي كانت عليها هذه الأختام، ومفهوم الطباعة لدي وتوظيفها يكون على محورين:

1- ما يخص الطباعة على القماش والتي تعود في روحيتها إلى آلاف السنوات من عمر سورية، فالتشكيلات النسيجية الباقية كإرث تؤكد نوعية هذا الفن ومدى تأصله وعراقته، وهذا يرتبط فنياً وموروثياً بالمنطقة، وكيف أستطيع أن أوظف هذه التقنية هو ما يشغلني لإقامة جسر من التواصل من ذات الإحساس بين الماضي والآن.

2- اللوحة غير القماشية (الورقية): وتعتمد على نفس الأختام المصنوعة يدوياً ولكن خامة الورق تعطي حساسيات جديدة ولغة بصرية غنية بالملمس وعابقة بفضاءاتها الزمنية وصولاً إلى التاريخ البعيد.

وأنا لست عاجزاً عن رسمها لكني كغرافيكي أتعامل مع اللوحة من منطلق طباعي وهذا روح الغرافيك بأن تصنع كليشة أو ختماً ليكون محور اللوحة لاحقاً، وهنا تكمن أهمية الفنان باستخدامه لتقنيته من أجل تقديم خطاب تشكيلي بصري جديد يحمل خصوصيته في كل عمل بشكل مختلف وبعيداً عن التكرار، إلا أني لا أقع أسير التقنية على حساب القول التشكيلي، شكل التقنية التي أستخدمها مرهون بنوع العمل وربما أستغني عنها عندما لا يكون ثمة ضرورة لها.

لا أراك متقيداً بحدود اللوحة المربعة أو المستطيلة، كيف نفهم منك هذا الخروج عن شكل اللوحة التقليدي؟
لم أكن في يوم أسير الأسلوبية أو الشكل، فتجربتي مفتوحة على كل الاحتمالات، والفنان بطبيعته يرفض الخضوع والوقوع في الأسر – أي أسر - سواء لجهة الشكل أو نمطية التعاطي مع لغة التشكيل، فأنا لا يحكمني الشكل وأستطيع أن أعطي ما أريد من تعبير في إطار أي شكل دون التزام بأي إطار أو كادر، فالتعبير الفني هو فعل عفوي، وإن كان محسوباً، وهذا لا يعني أن العفوية افتعالية، المسألة هنا انطلاق حر في التعبير دون التقيد بشكل اللوحة، فعندما أبدأ الرسم لا يشغلني هذا الأمر.

تميل لوحتك لأن تكون ثنائية الأبعاد، لكنها في أمكنة أخرى ثلاثية الأبعاد، رغم بقاءك بنفس الموضوع كيف نفهم منك هذا؟
عندما أبدأ الرسم على اللوحة أتعامل معها معاملة الند للند، لأنه لا يكون لدي تصور مسبق عما ستخرج به، فحواري مع اللوحة حين تبدأ اشتعالاتها هو ما يقود إلى هذا النافر أو الغائر، ثنائي الأبعاد أو ثلاثيها، هذه مفردات وليدة، نتيجة متطلبات حسية، فمن الممكن أن يبدأ العمل ثلاثي الأبعاد وينتهي ببعدين فقط والعكس صحيح، قد تكون هذه التقنية عاملاً في إغناء اللوحة وأنا أريد للتعبير في لوحتي أن يكون بكامل إشراقه.

في تشكيل وتكوين لوحتك عمارة من نوع ما، أي عمارة هذه ومن أين تأتي؟
العمارة في اللوحة هي عمارة روحية أو لها هذا الإيقاع، وإن كانت تأتي في الغالب من العمارة الريفية السورية القديمة والتي لا يزال بعض شواهدها في أكثر من مكان في سورية، فهذه العمارة تتمتع بمخزون بصري عابق بالموروث القديم، لناحية الشكل وحميميته وإنسانيته وتطلعه لأن يكون أكثر رقة وانتماءً لهذه الأرض، ولناحية المضمون فهذا الشكل من العمارة يمتلك أغنى المفاهيم الأخلاقية والروحية والجمالية، فالعمارة في لوحتي ليست تسجيلاً لعناصر الطبيعة المباشرة، وإن كانت تستمد منها، لكنها هذه العمارة التي تعود لتنبعث من الحلم.

أتمثل لوحتك ختماً من نوع ما؟
ختمي أنا واضح المعالم، وصادق جداً، لأنني لا أستعيره من أحد، إنه جزء من تاريخ أرض ووجدان إنسان يشهد له العالم، وأنا امتداد لهذا، وهذا يعني أني في شفرة هذا الختم الكبير، ومن الطبيعي أن تكون لوحتي امتداداً لهذا الختم، أو ختماً آخر، وبلغة أخرى، هذه الأختام كانت تختزن الحياة الاجتماعية والسياسية والدينية، بكل تلك الرموز التي كانت تلك الرقم والأختام الأسطوانية الطينية والحجرية تصورها أو مصورة فيها، إنه طقس سري فيه الكثير من الزمن والإنسان والحضارة، واللوحة لدي هي انعكاس لكل تلك الأختام ولكن برؤية فنية خاصة، اللوحة هي هذا الإبحار اللوني في ذاك الإشراق وإعادة توليده وصياغته فنياً.

الفنان وليد الآغا في حوار مع اكتشف سورية

للون عتمة وضياء ولوحتك تفتح هذه البوابة، أي سر تحاول ولوجه؟
قبل أن أرسم أكون قد تحضرت كفاية لإقامة هذه العلاقة مع اللون وتلك الصلة مع اللوحة، المسألة ليست قراراً في أن ترسم، لذا فأنا أتحضر لأتخلص من ضغط المحيط كي أدخل عالم اللوحة هذا، ولكن غير المسبوق التصور، بل أنا أبدأ الحوار مع اللوحة وهذا يقود في النهاية إلى تشكيلها محملة بكل الإسقاطات المستندة إلى الكثير من المرجعيات المتراكمة فيّ معرفياً وروحياً، اللون بالنسبة إلي هو مرآة لما بداخلي، وهذا لا يعني أني إذا استخدمت الأزرق فأنا أكثر توازناً وأكثر سمواً فكرياً كفعل قصدي لمدلولات اللون، أو أن الأسود له ذات مرجعيته وأثره الاجتماعي المباشر، اللون بالنسبة إلي يعكس عمق الحالة الوجدانية التي أعيشها، وقد يكون عكسها تماماً، ومن هنا فاللون في لوحتي مدخل إلى ذاتي، واللوحة لدي شواهد علي أولاً، فاللون هو فضاء كوني يمكنه أن يتلون بكل تواتر انفعالاتك، وهو يحرضني في لحظة لأكونه، فأكون هذه الإضاءات في عتمة السواد، أو أتلمس من خلاله نافذتي إلى الضوء أو أصنعها لأدخل من خلالها كي أكتشف شيئاً فيّ أو بالأشياء، المادية منها أو المعنوية، وكلما تقدمت خطوة اندفعت إلى أخرى، والحالة التي لم تجسدها لوحة ستنتقل إلى لوحة أخرى، فليس الرمز وحده هو الذي يجعلني أتحاور بل اللون أيضاً، فاللون يجعلك تتخطى ذاتك، هو أكثر من مجرد لون، إنه أكثر ذكاء وقيمة، إنه يغنيك ويفرحك ويقهرك، واللوحة ليست رمزاً ولوناً وخطاً وتاريخاً فقط، هي عجينة يختلط فيها الكثير ليكون اللون فضاءً تسبح فيه مفردات لوحتي، فالشجرة لها لون والتربة كذلك، وهكذا كل الأشياء، وهذا يقودك إلى أبعاد أخرى من خلال العلاقات اللونية، وهذا يأخذني إلى ما أبحث عنه.

لوحتك عجائن من اللون تتمازج فيها الحروف من العربية إلى المسمارية إلى غيرها، نتيجة لهذا المزج ماذا يحدث؟
أنا لا أتقصد المزج بين الأحرف لأشكل لوحتي وحسب، هذا المزج هو حقيقي، هو تراكم روحي في نماء الحرف، المزج هنا ليقول إن هناك علاقة بالشكل الغرافيكي للأحرف، وهو تحريض سري يتشكل على سطح اللوحة غابات من التعبير، فالشكل المسماري للحرف يمتلك خصوصيته، إلا انه يختلف عن خصوصية الحرف العربي بصرياً، لكن التمازج هنا يكون على مستوى الوعي لمنشأ الحرفين روحياً.

كيف نفهم تكرار وجود المثلثات في لوحتك ومن أي مرجعية يأتي؟
المثلث يعنيني لشكله أولاً، فهو يساعدني على تلقي أجوبتي عن الكون والطاقة، فالمثلث يشدني ويخلق حالة حوار بصري لأوظفه على صعيد الشكل أو العمارة، هو موروث متعدد المعاني لكنه يعنيني أكثر في حدود الأشكال.

لا أراك تنحاز إلى لون معين في تشكيلك، لماذا؟
أي لون يعني لي تجسيداً لحالة آنية أثناء تنفيذ العمل، وهذا مرهون بنوع الحالة التي أعيشها، كما يؤكد أن اللون بتدرجاته يستطيع أن يرصد ويعكس الحالة الداخلية، أنا لا أميل لمجموعة لونية بعينها، لأن الفنان الحقيقي وتاريخ الفن يشهد بعدم انحياز الفنان للون بعينه، فالسلم اللوني هو ملك الفنان وقد يمر بمراحل لونية معينة وقد يكون هذا انعكاساً لمرحلة قد تطول أو تقصر من عمر تجربة الفنان.

في الكثير من اللوحات أراك تسطير على فجائية اللون كحدث أو انفعال على سطح اللوحة، أحب أن أسألك، متى يجرفك اللون؟
اللون في لوحتي هو فعلاً حدث فجائي وقد يكون نتيجة لانفعال عارض كأثر الموسيقى التي استمع إليها أو تأثر عاطفي، والأشياء التي تحدث هذا الأثر كثيرة وهي تؤثر حسب شدتها في حراك اللون وتتسبب بحدث اللون الفجائي في أكثر من لوحة، وقد يقوم تشكيل اللوحة على هذا الحدث أو ربما يكون محوراً أو متمماً لحراك لوني آخر، لكن في حالات كثيرة أبلغ أشد درجات الانفعال وأنا أتعامل مع اللون، عندها يجرفني اللون وهذا ما أسميه حالة من الوجد، لكن هذا الانجراف لا يكون تحت السيطرة ولا أعرف متى يحدث إلا أن حدوثه يعني أن لوحتي بلغت ذروتها التعبيرية.

حدثني عن الصدفة في تشكيلك؟
الصدفة عندي هي أساس العمل الفني، ولأكون أكثر دقة فأنا عندما أبدأ برسم اللوحة لا أكون قد وضعت تصوراً مسبقاً أو كروكي، ما أفعله هو أني أضع ألواني مباشرة فوق بياض اللوحة، وهذا يخلق حالة من التوتر الشديد والصدمة في بعض الأحيان، إذ أكون أمام السؤال؟ كيف أدخل من هذا اللون البراق والجارف إلى اللوحة، كيف أدخل إلى عالم موجود، لكن علي اكتشافه من جديد لأحمله كل هواجسي ورؤاي، وهذا يقلقني فعلاً ثم أبدأ بعملية الإلغاء والاختصار والإضافة وقد ألغي كل الألوان وأحتفظ بأثرها فقط، نعم الصدفة تلعب دوراً لكنها تجيب عن أسئلة أنا أطرحها وتفتح لي عالماً من الاكتشاف، ففي النهاية تصبح طريقة للبحث عن الثمين.

في عجائن اللون لديك الكثير من الأغاني، ماذا تقول ألوانها؟
تميز لوحة الفنان الشرقي عموماً عجائنها اللونية المخمورة بحرارة الشمس، لكني أقدم هنا خاصية سورية لجهة خصوبات اللون والضوء، فاللون جزء هام من التركيبة الذهنية للفنان السوري، إذ تأتي ألوانه من خصوبة الجغرافيا التي ينتمي إليها، بالنسبة لي اللون هو مخزن وإطار لما يقال في لوحتي.

ألا تعتقد أن إشغال لوحتك بالكثير من العناصر والتشكيلات يضعف من بؤر التركيز، ما ينعكس سلباً على تلقيها من المشاهد، وهنا أقصد بعض اللوحات؟
في بعض الأحيان أشعر أن اللوحة مثقلة بحمولاتها تحت تأثير العامل النفسي أو الروحي والرغبة في التعبير، وهي حالات خاصة حتى تمتلئ اللوحة بالتعبير إلى هذا الحد، بحيث تصبح اللوحة كلها بؤرة واحدة على عكس بقية الأعمال التي تتنوع فيها بؤر التركيز والتعبير.

نرى الأحمر لديك مشعاً متدرجاً في أكثر من اتجاه، أيأخذك أم تأخذه إلى اللوحة؟
الأحمر هو لوني أنا، ويكاد يكون أنا! فذاكرتي مغمورة بهذا الأحمر وحتى الآن، عندما لا أضع الأحمر أشعر أن ثمة ما ينقص اللوحة، أحيانا لا تعرف لماذا تنجذب إلى الأشياء!

الفنان وليد الآغا يتحدث في مرسمه

لوحتك هل تضيء وعلى ماذا؟
إذا كانت لوحتي تضيء، فهي تضيء على تراب يختبئ فيه وتحته الكثير، وتحدث هذه العلاقة الجدلية ما بين الأرض والإنسان، هواجسي تكمن هنا ولوحتي تضاء بهذا الانعكاس ليصل وهج الأرض هذا إلى المتلقي وهذه غايتي.

أثمة طقس سري في لوحتك، سواء أكان لجهة التعبير أو التشكيل، إن كان هذا فعلاً، فهلاّ تخبرنا عنه؟
الجانب التعبيري يتشكل من مرجعيات القراءات التي تناولها الفنان ومن مجموع الثقافات والخبرات التي يمتلكها، وأغلب قراءاتي على سبيل المثل عن الحكمة الصينية والتاو والأساطير السورية القديمة، وما يتعلق بالمخزونات البصرية والفنية السورية، ومجموع ما تقرؤه سيكون له حضور في اللوحة، أما من ناحية التحضير للعمل في اللوحة، فثمة الكثير من الأدوات التي لا بد وأن تكون جاهزة قبل بداية العمل الفني، ومنها تحضير الأختام التي سأعمل عليها والعجائن اللونية، في مرسمي كل ما أحتاجه للعمل الفني، وكما ترى فلا شيء مخفي، وهذا يعني أني لا أمتلك سراً إلا هذه اللوحة التي عندما أعرضها أكون والمشاهد بمواجهتها، ويمكنك أن تخبر الجميع بكل تقنياتك وألوانك ورؤاك، لكن أحداً لا يمكنه أن يرسم بروحك.

في لوحتك ثمة حياة تنبعث، من أين تأتي هذه الدفقة؟
الحياة مفهوم ومعنى وحالة وعندما ينبث نبضاً في الأشياء أو الألوان فهذا يعني أن ثمة حياة تتحرك، الحياة موجودة في كل الأشياء من حولنا شرط أن نعرف كيف نلتقط إشاراتها، فالفنان هو الذي يعرف كيف يتواصل معها ثم يحول هذه الإشارات ويبثها من جديد، الحياة حرية وهي أكثر ما يحتاج إليه العمل الفني والفنان، وهذا أهم جزء أراه في أعمالي التشكيلية، فأنا غير خاضع لأدلجة بعينها، بحيث تعيقني أو تكبحني في التفكير أو التشكيل أثناء عملي الفني، وما ينتج عن هذا العمل هو خلاصة الدفقة التي تحدثت عنها.

ألا تعتقد أن مساحة التراث من إشارات وأشكال ورموز ومرجعيات ضيقة لاستمرار الفنان في العمل عليها؟
الفنان بشكل عام يبحث عن ذاته، وأنا من الأشخاص الذين بحثوا عن ذواتهم ووجدتها في التراث، التراث كلمة كبيرة ولا تنضب، وبالتالي وليكن هذا توضيحاً: إذا أخذت التراث من زاوية الأرشفة أو التسجيل فحتماً ستقف عند نقطة ما، لكن الفنان بمقدوره أن يجعل أي نزر قليل من التراث مشروع حياته الكامل، وذلك من خلال هذا التفاعل والدينامية التي يرى بها الأشياء ثم يعيد صياغتها بعد ذلك بتلك الخصوصية التي يمتلكها، هذا التراث المشهود للعالم لا ينتهي فنحن جزء من استمراره.

اللوحة لديك تخرج عن مفهومها، فهل يمكن القول أنها تدخل مفهوم الحالة؟
اللوحة هي انعكاس للحالة التي أعيشها وكل عناصرها ومفرداتها جزء من وامتداد لهذه الحالة، والحالة التعبيرية نفسياً ليست ثباتاً، فاللوحة لا تخضع للثبات، وثمة الكثير من الرعشات التي لا بد وأن تظهر في اللوحة وتختلف بنبرتها وشدتها من لوحة إلى أخرى، تبعاً لعناصر تحفيزها وصدق التعبير بالحالة التي يكون التشكيل منصباً عليها، أما اللون والأدوات التشكيلية الأخرى فهي الوعاء الذي تخرج به تلك الحالة، إذا شئت فكل لوحاتي تصور الحالة التي أعبر عنها، وإذا قصدت معنى الحالة كتفرد فأنا لا أعرفه، وهذا متروك للمتلقي.

ألا تخشى أن تبقى لوحتك في حيزها السوري لكون مفرداتها مستقاة من هذه الحضارة فقط؟
إذا كان لديك هذا النبع من الجمال والمعنى الذي يعطيك على مدار الساعة إبداعاً لا ينضب، لا يمكن أن تفكر بنبع آخر! أنا مرتبط وجدانياً بهذا الإرث كحال بقية السوريين، ولا أكون مبالغاً بهذا الحب عندما تكون كل روحي منتشية برائحة هذا التراب، بكل ما تحته وما فوقه، كيف يسكنني كل هذا وأستطيع النظر إلى مكان آخر!؟ أنا لا يخفيني أن تبقى لوحتي مرتبطة بهذا المكان، فما أطمح إليه أن تكون لوحتي سورية، فنحن نتعرض إلى أزمة هوية، والهوية هي أنا عندما يكون فني من ترابي ولترابي ولإنساني وضميري، ما يهمني حقاً أن تكون لوحتي مرآتي وللعالم حرية أن ينظر إليها بالطريقة التي يريد، بالنسبة إلي أنا اكتفي بهذه السماء الزرقاء وبهذا الألق.

من يفرح ويعشق هذه الجذور لا بد وأن ينتابه الخوف عليها، كيف يظهر هذا الخوف في لوحتك؟
لا أخاف على هذا الإرث فهو سيبقى موجوداً بل على الإنسان الذي لا يحرص عليه، وعدم معرفته هو شيء من عدم الحرص، ما يجب أن نتعلمه من الصغر هو التعرف على هذا التراث، وهذه نقطة ضعف لدينا، عندما نتعرف سنعرف كم هو عظيم، فمن خلال المعارض التي قمنا بها في الخارج وجدت الناس في الغرب يعرفون الكثير عن تراثنا، فعندما لا نعرف تراثنا لن نعرف قيمتنا، وهذا خطير، وهنا يكمن الخوف، لوحتي وقف على هذا الإرث، وإذا كنت بفني وتعبيري لا أفكر إلا بهذا، ومحاولاً في الوقت ذاته إظهار كم به من غنى وجمال، عندها ستعرف كم أخاف.

لوحتك لا تغري العين وحسب بل وتدفع بالرغبة إلى شمها، هل هذا غريب بالنسبة إلى تلقي لوحتك؟
إذا كانت لوحتي تصل إلى هذا المستوى من التواصل مع المتلقي، وهذا حدث بالفعل أكثر من مرة، فهذا يعني أن لوحتي تمتلك أكثر من رؤيتها، أعتبر هذا المستوى من التواصل متقدماً جداً لكنه ليس مقصوداً بل إنه نتاج تلك الحالة التي حدثتك عنها، هذا ما أعتقده.

لا زلت أراك باحثاً في لوحتك وعنها إذا جاز التعبير، هل وصلت إلى لوحتك؟
أعتبر أن الموضوع له علاقة بشخصي كإنسان وباحث في اللوحة، وهذا هاجس يومي بالنسبة لي، والبحث هنا ليس مجرد بحث تشكيلي بل فكري وروحي أيضاً، المسرح الأساس هو هذه الأرض وفي المرتبة الثانية هي اللوحة، بين هنا وهناك أتجدد كل يوم في مزيد من البحث، وكل يوم ثمة جديد في هذه الأرض وكذلك في اللوحة فالمسألة لا تتوقف، وأنا لا أفكر في التوقف، فعندما تتوقف تنتهي اللوحة وأنا لوحتي لا تنتهي.

أرقعة أم رق أم رقيم في لوحتك؟
لا زلت أمزج بين إحساس الرق والرقيم لتكون لوحتي معلقة بصرية، وهذا متروك للمتلقي.

ابن عربي يتسلل ضوءاً خافتاً إلى لوحتك، هل سيتوهج أكثر وكيف؟
قراءاتي لابن عربي لا تزال تحمل إلى الكثير من المفاجأة، لجهة الحرف والفكر والإبحار في عوالم فلسفية روحانية غير متناهية، ولا أستطيع إلا أن أرتشف من هذا الضوء وأضيفه إلى لوحتي.

هل نختم بأن تعرفنا عليك الآن وغداً؟
وليد الآغا إنسان يتنفس الحرية على مدار يومه وهكذا لوحته، والحرية هنا هي حرية التعبير والسلوك في إطار مصالحة حقيقية مع الذات والآخر، وهذا يفتح المجال لأكون حاضراً للغد بهذه الحرية، كي أبقى وليد الآغا.


عمار حسن

اكتشف سورية

Share/Bookmark

صور الخبر

الفنان وليد الآغا في مرسمه

الفنان وليد الآغا وبيده إحدى لوحاته

الفنان وليد الآغا في مرسمه

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق

هيام مصطفى قبلان:

حوار ماتع بين محاور لبق ومبدع نادر الوجود والفكر ،الفنان وليد الآغا والذي أطلق عليه الآن بعد قراءتي هذا الحوار ( مخرز في الذاكرة) ذاكرة الوطن ، والأرض بما في هذا التمازج الروحي من لون وأشكال ، ورائحة المكان ، هنا يخرج المبدع الآغا عن الشكل التقليدي في الفن ليمارس حرية الابداع ككلمة ومساحة ورائحة ولون بلا حدود لجغرافية وتحديد الاطار للوحاته ، وما أدهشني تلقائيته في توظيف الرمز ليخترق ما تحت التراب ، يخرجه ليضيىءوهج الأرض وهذه هي العلاقة التي يتحدث عنها داخل لوحاته ، العلاقةةبين الأرض والانسان بتوظيف أشكال تنبض ، يبث فيها روح الابداع لتنطلق ..!
الصديق الصحفي عمار حسن ، أحييك على حوارك الممتع وكما أحيي المبدع ابن الحرية والذاكرة وليد الآغا والى الأمام
هيام مصطفى قبلان
شاعرة ، روائية وناقدة
فلسطين

فلسطين

حسن احمد قطرميز:

احييك تحية خاصه كزميل زمان بكلية الفنون الجميلة-وفنان مبدع.اعمالك جميلةصميمية العلاقةوعميقة الجذور بين الانسان ومحيطه. تحياتي

السعودية

السعودية

جيان:

بعشقك وليد

سوريا