مسيرة من التحولات... ألوان غارقة في ماء الذهب
23 شباط 2016
.
أمس، انطفأ التشكيلي السوري المرهف، فالتحق بفاتح المدرّس، ولؤي كيالي، ونصير شورى، وآخرين ممن أسسوا بقوة للوحة المحليّة، بعد جيل الرواد. كانت أعماله إشارة دالّة على هوية خاصة للمكان الدمشقي، في مناخات حلمية شديدة الثراء والغواية
فقد المحترف التشكيلي السوري أمس، نذير نبعة (1938- 2016)، أحد أبرز مصوّريه الكبار، ليلتحق بفاتح المدرّس، ولؤي كيالي، ونصير شورى، وآخرين... هؤلاء الذين أسسوا بقوة القماشة الثانية للوحة المحليّة، بعد جيل الرواد.
بغياب هذا التشكيلي المرهف، ستفتقد دمشق من رسم صورتها كنسخة من الجنّة، هو الذي تنشّق هواء بساتين المزّة في طفولته الأولى، فعلقت رائحة ترابها بألوانه حتى شهقته الأخيرة. دمشق في لوحاته امرأة ساحرة، وإذا بها تشكّل أحد أكثر منعطفاته اللونية ثراءً.
هكذا سيفتح الباب على مصراعيه للحلم الشرقي بألوانه المبهجة وفتنته الطاغية، مفصحاً عن قيم الجمال الدمشقي، عبر تطويع العلاقة بين المرأة والمدينة في قراءة أسطورية تزاوج جماليات النماذج التراثية والشعبية، فنتلمّس أسطورة عشتار في حوارية المرئي والافتراضي، بالإفصاح عن رموز تتكيف مع “ألف ليلة وليلة” والمخزون الحكائي الشرقي، في منمنمات مرسومة بدقة واقعية. نساء بكامل زينتهن، مسربلات بحزن دفين، هن الصورة الأخرى لدمشق بتاريخها الآسر والمتحوّل والمنهوب. كانت أعماله التي حملت اسم “الدمشقيات” إشارة دالّة على هوية خاصة للمكان الدمشقي، في مناخات حلمية شديدة الثراء والغواية.
وإذا بشهرزاد تتسلّل إلى سطح اللوحة، لتعيد صوغ منامات جديدة، تتشابك خطوطها وألوانها بحسّ غرافيكي صارم، و”روح مدرَّبة على التقاط مكامن الجمال الموجع”، بالإضافة إلى جرأة إيروسية من دون مقاصد برّانية للوحة. العري في أعماله هو جزء حميمي من عناصر أخرى، تشكّل خطوط اللوحة وأبعادها التعبيرية والرمزية. كما أنّ البعد التزييني في حضوره الشاعري، لم يطغَ وحده على الوحدات السردية في طبقات اللوحة وتوليفاتها الواقعية والأسطورية. هناك إذاً مسافة واضحة بين ما أنجزه نبعة بدأب ودراية وصمت والبعد الإعلاني والإعلامي لتجارب سواه. لم يتوقف نذير نبعة في محطة تشكيلية واحدة. لطالما خضعت تجربته لتحولات كبرى، منذ أن درس الفنون الجميلة في قاهرة الستينيات إلى آخر تجاربه التجريدية في اختبار ألوان التراب. لكن ذاكرته الأولى ستبقى عالقة في بساتين المزة التي يصفها بأنّها “مهرجان ألوان”، كما كانت لوالدته وحكاياتها الشعبية حصّة في هذا الشغف اللوني، إذ قال مرة: “كنت أرافق والدتي إلى سوق الحرير في دمشق، فاكتشفت عالماً لونياً باهراً في الأقمشة الشعبية التي كانت تبتاعها أمي من هذا السوق، ثم صرت رسّاماً لأقمشة النساء، ومناديل الغرام، المناديل التي كانت شائعة في أربعينيات القرن المنصرم، إذ كنا نكتب عليها أبياتاً شعرية في الغزل، وكانت تُهدى إلى المحبين”. أما معلمه الأول، فكان محمود جلال الذي قاده إلى فضاء أرحب.
فقد اكتشف في مرسمه معنى الظل والنور في اللوحة، والألوان الزيتية. ويعترف بأن ناظم الجعفري كان معلّمه الحقيقي، إذ كانت لحظة دخوله مرسمه، في شارع بغداد، تشبه الانخطاف. في فترة الوحدة السورية المصرية، سيذهب في بعثة لدراسة الفنون الجميلة، وسيعيش أزهى أيام حياته، حين “كانت القاهرة تعيش عصرها الذهبي، ونهضتها الثقافية الشاملة، بوجود فنانين وأدباء كبار مثل عبد الهادي الجزّار، وحامد ندى، وحسين بيكار، ونجيب محفوظ، وعبد الرحمن الأبنودي، وسيد حجاب، وأحمد فؤاد نجم”. هؤلاء تركوا بصمة واضحة في تفكيره. هكذا اهتدى إلى لوحة تضع الهوية المحليّة في صلب اهتمامه، ولم يكن مستغرباً أن يختار “مقالع الحجارة” عنواناً لمشروع تخرّجه من “كلية الفنون الجميلة”. إثر عودته من القاهرة بصحبة رفيقة دربه شلبية إبراهيم، صُدم بقرار تعيينه مدرساً لمادة الرسم في مدينة دير الزور. هذه الصدمة ستتحول لاحقاً إلى مفاجأة مدهشة. في هذه المدينة البدوية التي تقع على ضفاف الفرات، وبالقرب من مدينة ماري الأثرية، وجد الهوية المحليّة التي يفتش عنها، واكتشف ألواناً مشرقة. هناك، رسم مجموعته الأولى بتأثير الأساطير المحلية والفن التدمري، والملاحم الفراتية، ثم جداريات ما بين النهرين، والنحت السومري، ورسوم الفخار والخزف، ما سيفتح لوحته على مسالك جديدة، تنبش من البيئة المحلية أبعادها السردية ونبرتها التجريدية وألوانها الصحراوية. وإذا بالوجوه الصارمة بنظراتها الحائرة والمنهوبة، تضع اللوحة في مقام آخر، مكتفية بالبنّي المحروق الذي يشبه مفازة صحراوية، لا أمل للنجاة من هبوب رمالها. كما تقترب اللوحة في عمارتها من خطوط ومنحنيات الوجوه في التماثيل التدمرية. في المفترق الحاسم لتجربته، ستكتسح نكسة الـ 67 الآمال والتطلعات، لتحل مكانها “صاعقة هائلة هزّت القناعات الجديدة، وخيبة كاملة”. لم ييأس نذير نبعة، فانخرط في موضوعات فلسطينية مستوحاة من قصائد شعراء الأرض المحتلة، ثم أتته فرصة الذهاب إلى باريس للخروج من تلك الفترة الكابية للهزيمة: “باريس مطلع السبعينيات ساعدتني على أن ألتقط أنفاسي وأستعيد توازني، كما أتاحت أمامي الاطلاع على تجارب التشكيليين الكبار” يقول. المحطة الأخيرة التي خاضها التشكيلي الجريء، تحمل عنوان “تجليات”، وهي مغامرة حقيقية فعلاً. فجأة، أدار نبعة ظهره إلى منجزه في مراحله السابقة، وذهب إلى أقصى حالات التجريد، بما يشبه انقلاباً على مختبره القديم. وإذا بسطح اللوحة أقرب إلى أشكال الصخور والجدران والكهوف وتضاريس الطبيعة. سطوح ناتئة وزهد لوني واضح، تتشرّبه اللوحة على مهل عبر ضربات شاقولية وأفقية كثيفة، تنطوي على إشارات تجريدية تشبه إشارات المتصوفة. كأنه يلوذ بعبارة النفّري المشهورة “كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة”. مهلاً، سنجد في خلفيات أعماله القديمة ما يشبه سطوح لوحاته اليوم، لتصير هذه المرة متناً بالرمادي والأسود، أو بالأسود والأصفر، أو الأخضر النوراني، تبعاً لموسيقاه الداخلية وابتهالاته الصوفية، وإشراقاته الآسرة. كان يقول باطمئنان “معركتي أن يكون لديّ ألوان، فهي جمهوريتي المستقلة، ولن أفرّط بها”. رحل نذير نبعة وستبقى ألوانه غارقة في ماء الذهب. ربما ما قاله يوسف عبد لكي عنه يختزل عمق تجربته “لا أحد يعرف كيف يكون الفن مختبئاً تحت الأصابع، ما إن تحكّه حتى يفوح عطره القاتل”.
خليل صويلح
al-akhbar.com