عين دارة
07 شباط 2015
.
عين دارة هو اسم لقرية صغيرة على بعد نحو2كم من التل الأثري الذي يقع على الضفة الشرقية لنهر عفرين، نحو 7كم جنوبي مدينة عفرين و45كم شمال غربي حلب.
يتألف الموقع من قسمين: قسم مرتفع «الاكروبول»، وهو المدينة العليا، ويرتفع عن حوض عفرين نحو 40م. طوله 125م وعرضه 60م، وقسم منخفض وهو كبير واسع المساحة ويسمى المدينة السفلى, طوله 270م وعرضه 170م وارتفاعه 30م، ويحيط بالموقع سور مرتفع تتخلله عدة بوابات، فيما يرتفع الموقع نحو 240م عن سطح البحر.
اهتمت المديرية العامة للآثار والمتاحف بتل عين دارة حالما اكتشف أحد الرعاة تمثالاً لأسدٍ بازلتي عام 1954، حيث زاره فيصل الصيرفي «من مديرية آثار حلب»، والخبير الفرنسي لدى مديرية الآثار «موريس دونان»، وتم إجراء موسم تنقيب أول عام 1956، وموسم آخر عام 1962 ثم موسم ثالث عام 1964، شارك فيها أيضاً، أغوب كريشيان، ونوبار بارطميان. وبعد انقطاع دام حتى عام 1976 بدأت بعثة جديدة بإدارة الدكتور علي أبو عسا ف ومشاركة محمد وحيد خياطة، التنقيب في الموقع، حيث تمكنت من الكشف عن كامل المعبد وأنهت أعمالها سنة 1986، توقفت بعدها أعمال التنقيب حتى تاريخه، في حين أجرت بعثة يابانية، من متحف الشرق القديم في طوكيو، موسمي ترميم سنتي 1994- 1995 بمشاركة حميدو حمادة.
التنقيبات:
تم التعرف من خلال أعمال التنقيب على ست طبقات أثرية، مع العلم أن التنقيبات لم تصل إلى الأرض البكر، كما تم الكشف عن بعض اللقى التي تعود لفترات أقدم من الطبقات الأثرية التي ظهرت فيها، ومنها أختام وكسر فخارية يعود تاريخها إلى العصر البرونزي الوسيط، وقد أكدت التحريات الأثرية أن المدينة السفلى قد أنشئت في العصر الآرامي، بينما أنشئت المدينة العليا قبل وبعد هذه العصر:
ـ الطبقة الأولى، ويعود تاريخها إلى العصر العربي، عثر فيها على بعض المنشآت البسيطة لها جدران عادية، من بينها جدار حجري طوله 47م وعرضه 1م، وعثر فيها على عدد من المسارج والأواني الفخارية المزججة باللون الأخضر اللماع، وعلى بعض القطع النقدية.
ـ الطبقة الثانية، ويعود تاريخها إلى القرنين العاشر والحادي عشر الميلادي وتضم مجموعة من الأبنية الكثيفة، يحيط بها سور حجري «عرضه 125سم» تدل طريقة بنائه على أنه أقدم عهداً من هذه الطبقة، وكشف عن منزل مستطيل الشكل مؤلف من ثلاث حجرات، أضيفت له لاحقا ثلاث حجرات أخرى. كما عثر على عدد من الصلبان البيزنطية والأواني الفخارية التي تميزت بعروتها المسطحة المزينة في قسمها العلوي بعناصر زخرفية نفذت بطريقة اللصق. وتوجد بعض العرى المزدوجة في بعض الأواني ومنها القدور، كما عثر على عشرين قطعة نقدية ذهبية كبيرة الحجم منها 17قطعة متشابهة تحمل صورة الإمبراطور ميشيل السابع دوكاس «1071- 1078م»، وواحدة تحمل صورة الإمبراطور قسطنطين الثامن بورفير جينيت «1025- 1028م»، وأخرى تحمل صورة الإمبراطور رومان الرابع وزوجته وصهريه «1067- 1071م».
وعثر على أوان فخارية من بينها صحون ودنان ومدامع ورؤوس مغازل حجرية وأثقال أنوال وخرزات وفناجين برونزية. وقد وضع حريق حداً للحياة في المدينة خلال هذه الفترة كما يبدو من بقايا الرماد الظاهر في هذه الطبقة.
ـ الطبقة الثالثة، وتعود إلى العهود العربية البيزنطية «636- 969م»، وقد اختلطت منشآتها بشكل كبير، وأهم ما فيها سور يحيط بالموقع يتراوح عرضه بين 170-200سم، وله أبراج مربعة الشكل طول ضلعها 550سم، كشفت أجزاء منه في الجهات: الجنوبية الغربية، والغربية، والجنوبية الشرقية من التل.
كما عثر على عدد من اللقى الفخارية تتضمن جراراً فخارية كبيرة ومسارج مستديرة ذات الطراز العربي, وأغطية الجرار المستديرة ذات العروة الواحدة وعليها خطوط دائرية في وسطها.
وثمة دنان وأوان صغيرة ورؤوس مغازل، ومشربيات مطلية باللون البني اللماع وهي ذات بطن منتفخ ورقبة قصيرة وفوهة مضغوطة في وسطها لتشكل مثعباً لصب الماء، وعثر على أوان مزودة بعروة أو بعروتين. كما اكتشف في هذه الطبقة شمعدان وهاون نحاسيان، وأساور وفناجين وصلبان نحاسية، وعشرات القطع النقدية البرونزية «بعضها يعود إلى العصر الروماني»، ونبال برونزية وأدوات أخرى متفرقة ومنها نرد من حجر المرمر يحمل على وجوهه الستة الأرقام من 1-6، علاوة على ختم من الحجر الرمادي السوداوي له ثقب في وسطه للتعليق، ويحمل نقشاً يتضمن خطوطاً تنتهي بالتفاف حلزوني، يرجع تاريخه للألف الثاني ق.م.
مسرج هلنستي
ـ الطبقة الرابعة، ويعود تاريخها إلى العصر الهلنستي، وقد احتوت على بعض الجدران والأرضيات المرصوفة بالحجارة، وكشف عن عدد كبير من قطع القرميد التي كانت تستعمل في سقوف الأبنية والمنازل، وقد كان للمدينة سور يحيط بها في هذا العصر.
وعثر فيها على كسر حديدية وبرونزية وعظمية وسقالات النسيج المصنوعة من الطين، علاوة على دنان وجرار وأوان صغيرة من الفخار، وعدد من المسارج الفخارية وبعض الأواني الفخارية المستوردة من النوع المسمى البيرغاميني، وكذلك الأتيكي والمطلي بالأسود، وبعض الأكواب الميغارية ذات الرسوم البارزة.
كما عثر في هذه الطبقة على جرة صغيرة تحتوي على 102 نقد فضي يعود تاريخها إلى القرنين الثاني والأول قبل الميلاد، ضربت في أنطاكية والسويدية وغيرها أيام الملوك السوريين: ديميتريوس الثاني نيكاتور«129- 125ق.م»، وأنطيوخوس الثاني «121- 96ق.م»، وأنطيوخوس التاسع «116- 95ق.م»، وفيليب الأول فيلادلفوس «92_83ق.م».
ـ الطبقة الخامسة، وتعود إلى العصر الإخميني عثر فيها على أساسات جدران مخربة، وقناة تصريف مياه وتنور، وبعض اللقى مثل الدمى الفخارية لحيوانات ودمى الخيال الفارسي، ودمى وأجزاء من دمى طينية بشرية بعضها يمثل جزع امرأة تضع يديها على ثدييها وطوقاً حول عنقها تمثل الربة عشتار وتعود إلى القرنين السادس والخامس ق.م.
ثمة تمثال من الفخار الأحمر ارتفاعه 10.5 سم يمثل ربة سورية على هودج وهي تمتطي جواداً مزدوجاً.
كما عثر على ختم من الحجر البلوري الأبيض، وله ثقب للتعليق يحمل نقشاً يتضمن قرص الشمس المجنح على الطريقة الفارسية، يمتطيه في أعلاه شخصان، وكأنه قارب يسبح في الهواء وأسفله حزمة من أوراق اللوتس المعقودة وفوقها نحو اليمين نجمة مشعة ترمز للآلهة عشتار.
ومن الفخار عثر على جرار لها قعر مدبب مزودة بعروتين تعلوها فوهة ذات عنق قصير، وثمة أوان ذات قعر منبسط له جوانب واسعة، وعثر على إناء مستورد زين برسوم ملونة بالأسود فوق أرضية حمراء عليها رسوم تمثل الربة أثينا، وعلى جانب آخر مصارعين يتقاتلان، كما عثر على دن فخاري زين بخطوط حمراء يعود تاريخه للقرن السابع ق.م وهو محلي الصناعة.
ـ الطبقة السادسة، وتعود إلى العصر الحديدي، وهي على عمق حوالي ستة أمتار من سطح التل, وتم فيها الكشف عن معبد عين دارة الشهير الذي يعتقد أن احتراقه وتهدمه قد تم على يد الملك الآشوري تيجلات بلاصر الثالث أثناء حصاره لمدينة أرفاد «عاصمة بيت أجوشي» بين عامي 742-740ق.م، وإلى الجنوب من المعبد عثر على بعض جدران المنشآت المبنية من الحجارة الكلسية والبازلتية، وأحياناً من اللبن، ووجد فيها أسد ضخم ملقى على جانبه ليربط بين غرفتين.
كما عثر تحت أرضيات إحدى الغرف على لوح حجري نقشت عليه صورة أسد صغير، وفيها كسر فخارية من صحن يحمل رسوماً نباتية تمثل زهرة وزنبقة باللون الأبيض.
كما عثر على حافة صحن لونه أحمر له قبضة مؤلفة من ثلاث ندبات وهي تشبه فخار الآرشايك القبرصي الذي يعود تاريخه إلى القرن السابع ق.م. كما عثر على لقى أخرى منها كسرة وعاء من الفخار الخشن السميك لونه بيج، عليها رسم قناع لوجه انسان، وهناك مغازل ومدامع، علاوة على ختم أسطواني من حجر الديوريت غير مكتمل بداخله قضيب برونزي للتعليق، يحمل مشهداً يتضمن صورة هلال وشمس مجنحة ونجم عشتار وسبع حفر صغيرة تمثل الآلهة سبتو، وهو من العصر الأشوري الحديث القرن السابع ق.م. وعثر على مشابك برونزية وأدوات نسيج مصنوعة من العظم ورؤوس مغازل ورؤوس رماح، ودمى عشتار ودمى فرسان ودمى بشرية متنوعة.
المعبد:
اكتشفه الصيرفي في موسم 1964 واستكمل الكشف عنه علي أبو عساف بين سنتي 1976 و1986. والمعبد من الأوابد الفريدة في بلاد الشام التي جددت أو أعيد بناؤها أكثر من مرة.
وهو يتوضع فوق الطرف الشمالي الغربي من المدينة العليا «الأكربول». ورغم تهدمه فلا يزال يزهو بمنحوتاته التي تدل على روعته وإتقان بنائه وقد بقيت منه المصطبة مع منحوتاتها البازلتية ومقدمات الأسود الرابضة التي تشكل جدران واجهته الرئيسية وواجهة المصلى إضافة إلى العتبات والأرضية وأجزاء من جدران المدخل والقاعة الأمامية وأجزاء من الرواق.
وقد لوحظ عند اكتشاف المعبد تهشم في ألواحه البازلتية المنحوتة وهو ناجم عن حريق تعرض له المبنى عند احتلال تيجلات بلاصر له، كما زادت حالة المبنى سوءاً بعد اكتشافه، نتيجة الإهمال الذي تعرض له الموقع وغياب الاهتمام به.
يرتفع المعبد فوق الأرض المجاورة مما يشير إلى أنه شيد فوق مصطبة متدرجة الارتفاع من الأمام إلى الخلف «ارتفاعها 130سم». كسيت الواجهة الأمامية للمصطبة بلوحات بازلتية مزخرفة بأشكال تشبه الضفائر.
بني المعبد فوق طبقات أقدم لا يعرف عددها وترتفع لحوالي العشرين متراً فوق الأرض المجاورة. يتجه المعبد نحو الجنوب الشرقي وهو مستطيل الشكل أبعاده 32×38م وتمتد أمامه ساحة مبلطة بالألواح المنحوتة، الكلسية البيضاء والبازلتية السوداء، وفيها حوض ماء كبير من الحجر الكلسي وبجانبه البئر. يربط درج ضخم عريض بين ساحة المعبد ومدخله الذي يتألف من ممر على جانبيه شرفتان وعمودان يحملان ساكف المدخل.
ويحتوي على عتبتين ضخمتين نقشت في وسط الأولى صورتا قدمين بشريتين ضخمتين أما في وسط الثانية فقد حفرت صورة القدم اليسرى لإنسان عملاق وحينما نصل عتبة الحرم نشاهد في وسطها أيضاً صورة القدم اليمنى لإنسان أيضاً ,أبعاد القدم 97×36سم. وربما يكون الغرض من صورة هذه الأقدام هو إرشاد المتعبد الذي عليه أن يقف خاشعاً على العتبة الأولى حيث القدمان متجاورتان ثم يخطو بالقدم اليسرى نحو القاعة الأمامية ويدخل المصلى باليمنى.
القاعة الأمامية مستطيلة الشكل وتتقدم الحرم وتنخفض أرضيتها عن عتبته مقدار 70سم وللصعود إليه شيد درج يتألف من ثلاث درجات بازلتية منحوتة. والحرم مربع الشكل تقريباً 16.80× 16.70م، قُسِّمَ إلى نصفين الخلفي وهو المنصة التي وضعت عليها التماثيل وحوت واجهتها على محراب زينت جوانبه بمنحوتات لرب الجبل وأشكال أخرى, والأمامي الذي كان على الأغلب للمصلين. أصاب المنصة الخراب بفعل النشاط العمراني الذي حدث بعد حريق المعبد.
يحيط بالمعبد من جهاته الثلاث رواق اصطفت على جانبيه دعامات مزخرفة بأشكال متعددة وتزين مصطبته لوحات بازلتية عديدة ذات قيمة فنية عالية. نصبت هذه اللوحات بأشكال الأسود وأبي الهول فوق قاعدة من الحجارة البازلتية المنحوتة.
المنحوتات:
تشكل المنحوتات الموجودة على واجهات ودعائم معبد عين دارة، جزءاً لا يتجزأ من بنيته, وهي التي تضفي عليه المزيد من الروعة والجمال، لأنها العنصر الأهم في جدرانه، وتعكس عظمة وغنى الدولة.
تحمل هذه المنحوتات الكثير من المشاهد البشرية والحيوانية والنباتية، ومن أهم هذه المشاهد، الأسود المجنحة برؤوس آدمية، متقابلة أو متدابرة بحسب مكانها، وقد برزت هذه الرؤوس بشكل كبير تعلوها ضفيرة مزينة بوردة في وسطها، ومنتهية بقرنين كبيرين وتتدلى فوق الجبهة جديلتا شعر طويلتان.
أنصاب رب الجبل
وفي داخل المعبد عثر على قواعد أنصاب رب الجبل، وعلى ستة أنصاب تمثل موضوعاً واحداً وهو إله في الوسط يحيط به تابعان، وقد رسم الإله ملتحياً ويلبس قبعة مخروطية تنبت منها قرون إلهية يتراوح عددها بين ثلاثة وسبعة أزواج من كل جانب، الأمر الذي يجعلها في منزلة عليا بين الآلهة، ويرتدي لباساً تصل حافة أكمامه إلى المعصم، تحته ثوب يضيق عند الخصر ويعرض في الأسفل، وقد زين بأربعة أو خمسة صفوف من زخارف صغيرة نصف دائرية، تظهر من تحته رجلا الإله.
أما الإله نفسه فقد ظهر بشكل أمامي رافعا ذراعيه إلى الأعلى بصورة متوازية لتصل أطراف أصابع يده إلى الحافة العلوية من النصب بينما تنبت من جانبيه قطعتان إضافيتان على شكل قرون عريضة. وأما التابعان المحيطان بالإله فإنهما يرفعان ذراعيهما أيضاً إلى الأعلى كما يفعل الإله، وبذلك تتتابع هذه الأذرع المرفوعة مؤلفة مجموعة هندسية طريفة، كما تظهر مشاهد أخرى من بينها صور الثيران والوعول وشجرة النخيل ونباتات أخرى. ومن المنحوتات ثمة كسرتان من نصب عثر عليهما في غير مكانهما الأصلي، وربما كانتا من منحوتات المعبد الأول، فبعد تدميره وتجديده ، رميت خارجه، ذلك لأن الكسرتين لا تشتركان مع منحوتات المعبد التي لا تزال في مكانها، بأية سمات سوى جودة العمل وإتقانه.
والنصب يشبه مثيلاً له في موقع ياتسيليكايا في آسيا الصغرى، حيث وجد هناك منحوتات دينية حثية، لأرباب وأشخاص تعود إلى عصر ازدهار الإمبراطورية الحثية في القرن الثالث عشر ق.م .إن ثنية المئزر القصير بين الفخذين، وانعطافها الحاد هي واحدة في نصب عين دارة وفي أشكال ياتسيلكايا، مع اختلاف بسيط في شدة الانعطاف، والأثلام التي تحدد حواف المئزر والحزام فهي في نصب عين دارة أشد وأوضح، وجاءت هيئة الشخص المصور في عين دارة مطابقة لطابع المنحوتات الحثية ، ويتبدى ذلك على الأخص في تكوين مقبض السيف بين المرفق والخصر، الذي يوجد مثيلاً له في الكثير من المنحوتات الحثية .
ويظهر من هيئة الشخص ووضعية السيف أنه شكل إله أو ملك أو بطل، أما الخطوط المستقيمة الشاقولية والمتوازية ، أمام اليد الممدودة إلى الأمام، فقد تكون من حزمة أشعة البرق، أو الصواعق التي يقبض عليها، في العادة رب الطقس، علماً أن حزمة البرق أو الصواعق نادراً ما تمتد أشعتها فوق وتحت يد إله الطقس في فنون الشرق القديم. ويمكن أن تكون الخطوط الثلاثة في نصب عين دارة، أجزاء من صورة الحرف الهيروغليفي الحثي/ اللوفي.
ولهذا كله يعتقد أبو عساف، أن الخطوط الثلاثة هي من حزمة البرق وأن الشكل المنحوت هو إله الجبل، الذي كان الرب الأوحد تقريباً في شمالي بلاد الشام، خلال القرون الأخيرة من الألف الثانية ق.م كما أصبح كذلك عند الآراميين. أما وظيفة هذه المنحوتات فتبقى في أطار المعتقدات السائدة، وهي حماية أصحابها من التأثيرات والقوى الشريرة.
فالأسود النصفية التي أقيمت في القسم العلوي من الواجهة الأمامية كان القصد منها حماية البناء والمدخل، أما المواضيع الأخرى المنقوشة على سائر الدعائم فإنها تتعلق ببعض الطقوس الدينية. فالشجرة المقدسة ترمز للقدرة الإنباتية الكائنة في الحرارة الشمسية, والإنسان الجالس على كرسي يمثل إلهاً يستعد للاستقبال أو لقبول القرابين والهبات. أما صورة العملاق الذي يروض ثوراً فهي تذكر بأسطورة جلجامش وهو يذبح الثور السماوي، وتذكر بقصة بعض الأبطال الذين يروضون الثيران أو يخطفونها.
النقوش الكتابية:
عثر في المعبد سنة 1981 على بعض الكتابات المنقوشة على ألواح من الحجارة البازلتية، وتتوزع الكتابات على فئتين مختلفتين: تمثل الأولى كتابة تصويرية بارزة على نصب وحيد مشوه، والثانية وتتضمن ثمان مجموعات من الكتابات التصويرية غير المتقنة، وموزعة على سطوح عدد من الأحجار المنحوتة على شكل متوازي المستطيلات، وهي إشارات اعتمدها البناؤون للتفاهم فيما بينهم. كما عثر على جزء من مسلة في غابة مدينة عفرين, التي تبعد نحو 8كم عن تل عين دارة، أبعادها 56×34×67سم، وهي تحمل نقشاً بالكتابة الهيروغليفية الحثية، ورغم أن الكتابة غير واضحة ونقشت بشكل غير أنيق، كتلك المكتشفة في المعبد، فمن الممكن أن يكون مصدرها تل عين دارة أيضاً.
يتضمن أحد النقوش بعض الحروف، التي قد تشير لإله الطقس الحثي «شاروم»، وقد أثارت قرأته الكثير من التساؤلات من حيث: علاقته بالمعبد، والعصر الذي يعود له، «ومن المترض أنه يعود إلى القرن الثالث عشر ق.م»، وكذلك من حيث اسم الإله الذي كان المعبد مكرساَ له قبل أن يكرس لعبادة إله الطقس والربة عشتار لاحقاً في الألف الأول ق.م. ومن المعروف أن منطقة حلب ازدهرت خلال عصر السيطرة الحثية، وعمد ملوكها الحثيون إلى إقامة أنصاب النصر، والأنصاب النذرية للأرباب في المعابد، ولكبريات المدن، وقد يكون نصب عين دارة نتيجة لهذه الرغبة. وبناء على ذلك يرى علي أبو عساف أن تاريخ المنحوتات الحثية في عين دارة يرجع إلى الفترة 1300- 1000ق.م، وبالتالي يمكن إرجاع المرحلة الأولى من بناء المعبد إلى هذا العصر، ومن المرجح أنه كان مكرساً لعبادة إله الطقس.
الأختام:
عثر على عدد من الأختام: أحدها أسطواني الشكل من الحجر الصابوني الأسود، صنع بدقة وإتقان وصقل سطحه صقلاً جيداً، ويحمل مشهداً تقليدياً، وهو الصراع بين كائنين حيين: رجل يصارع كائنين حيين غريبين، ربما كان الرجل جنياً بلا أجنحة، وهو يمسك بيده اليمنى بتلابيب أحدهم، وباليسرى بكرعوب الآخر، ويصعب التعرف على الكائن الحي الغريب الأيسر، لأن سطح الختم مشوه، أما الكائن الحي الآخر فهو على الأرجح العنقاء.
وهناك ختم آخر هرمي الشكل سطحه مستطيل زواياه منحنية أو مدورة، وموضوعه مميز وهو لإله جالس على العرش وبيده اليمنى عصا يقترب منه متعبد يحيي بيده اليمنى. وهذا المشهد يذكر بمشهد ختم من زنجرلي «شمأل»، ومشهد ختم آخر في نمرود شمالي العراق. وعثر على ختم ثالث وهو جُعل، «القرن السادس ق.م» ويحمل نقشاً يتضمن مشهداً لإله واقف له أجنحة، ربما كان مصدر الختم من قبرص، ولكن أصل موضوعه هو من سورية.
النتيجة:
لا شك أن تاريخ عين دارة يرجع لفترة أقدم مما كشفته التنقيبات حتى الآن، والدليل على ذلك هو العثور على الكثير من اللقى التي يرجع تاريخها على الأقل إلى العصر البرونزي الوسيط مع العلم أن هناك عشرات الأمتار من التوضعات الأثرية المتراكمة فوق بعضها والتي لم تجر فيها تحريات أو أسبار أثرية لمعرفة تاريخها.
ومن الواضح أن عين دارة خضعت للحثيين في النصف الثاني من الألف الثاني وبداية الألف الأول ق.م، مثل جميع مدن ومناطق بلاد الشام الشمالية، وتركوا فيها بعضاً من آثارهم. وقد حكم في مدينة حلب المدينة الأقرب إلى عين دارة خلال هذه العهود، الأمراء الحثيون تلبينو، وتلبي شاروما، وحلبازيتي، ولا يعرف إلا النذر اليسير عن نشاطهم العمراني، وجل ما يعرف أن الأمير تلمي شاروما قد بنى معبداً للربة خيبا شاغروما، التي كانت مقدسة في حلب.
في بداية الألف الأول قبل الميلاد أصبحت عين دارة مركزاً آرامياً مميزاً ومهماً جداً في شمالي سورية، وربما كانت مدينة كونولوا Kunulwa عاصمة مملكة أونقي Unqi التي قامت في وادي عفرين والضفاف الشرقية لبحيرة العمق، والتي جاء ذكرها في النصوص الأشورية هي نفسها تل عين دارة، وهذا ما يعتقده الباحث الفرنسي دوسو R. Dussaud في كتابه Topographie historique de la Syrie.
وربما تبعت منطقة عين دارة لنفوذ مملكة بيت أجوشي التي سيطرت على مناطق واسعة في شمال سورية التي امتدت من الفرات شرقاً إلى سهل العمق غرباً. ويعتقد علي أبو عساف أن عين دارة هي نفسها أرفاد عاصمة بيت أجوشي، وحجته في ذلك أن موقع أرفاد المعروف على أنه يقوم بتل رفعت «قرب اعزاز- جنوب شرق عين دارة بحوالي 35كم» لا يستند على معطيات كافية ومقنعة, وإن التنقيبات التي جرت في تل رفعت لم تثبت صحة هذا التحديد. ولهذا فإن عاصمة بيت أجوشي, أرفاد، يجب أن تكون مزدانة بالمباني المهمة والرائع الجمال، كغيرها من عواصم الإمارات الآرامية والحثية المعاصرة. ومثل هذه المباني نجدها في عين دارة وليس في تل رفعت.
أخيراً، تعود أهمية معبد عين دارة إلى ندرة المعابد المكتشفة في بلاد الشام خلال العصر الآرامي، بعكس القصور، التي كشف العديد منها، في تل حلف، وتل أحمر، وزنجرلي «شمأل», وتل طعينات وحماه...إلخ. بينما لم يكشف إلا عن عدد قليل من المعابد وهي من طراز مختلف عن معبد عين دارة. إلا أن المقارنة بين معبد عين دارة والمعابد التي عرفتها الكثير من المواقع السورية، لاسيما في الألف الثاني قبل الميلاد، يدل أنه نموذج متطور عنها.
د.محمود حمود
dgam.gov.sy